خطبة الجمعة
الخطبة 1124 : خ1 - مشروعية الصيام ، خ 2 - نعمة الله .
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2009-09-18
بسم الله الرحمن الرحيم
الخــطــبـة الأولــى :
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وآل بيته الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
توديع شهر رمضان شهر القرآن و الصبر و الغفران :
أيها الأخوة الكرام، مضى شهر رمضان فوداعاً يا رمضان، وداعاً يا شهر الصبر والغفران، وداعاً يا شهر القرآن.
انقضى شهر رمضان، فوداعاً يا رمضان، وداعاً يا شهر الصبر والغفران، وداعاً يا شهر القرآن، وداعاً يا شهر الصيام والقيام، وداعاً يا شهر الرحمات والقربات، وداعاً يا شهر الجود والإحسان، وداعاً يا شهر التوبة والعتق من النار، وداعاً يا شهر الاعتكاف والخلوات، وداعاً يا شهر الانتصارات والغزوات الفاصلات.
أيها الأخوة، انقضى رمضان، وانصرمت أيامه ولياليه، ولقد ربح الرابحون، وخسر الخاسرون، فهنيئاً لمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً، ويا خيبة من ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وليس له من قيامه إلا السهر والتعب، هنيئاً للمقبولين، وجبر الله كسر المحرومين، وخفف مصاب المغبونين، كان سيدنا علي رضي الله عنه يقول:
" يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنئه ومن هذا المحروم فنعزيه ؟"
سيدنا عمر بن عبد العزيز خطب يوم الفطر فقال: "أيها الناس، إنكم صمتم لله ثلاثين يوماً، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم ".
الحكمة من تشريع الصيام :
لقد شرع الصيام لتقوية إرادة الإنسان على طاعة ربه الواحد الديان، ولتنمية الإخلاص في قلبه، ولتمتين الصلة بخالقه، ولترسيخ معاني العبودية له، ولو أديت العبادات على النحو الذي أراد الله عز وجل لجعلت من هذا المؤمن نير الذهن والقلب معاً، حاد البصر والبصيرة جميعاً، تتعانق فكرته وعاطفته فلا تدري أيهما أسبق ؟ صدق أدبه أم حسن معرفته، لا تدري أيهما أروع ؟ خصوبة نفسه الجياشة، أم فطانة عقله اللماح ؟ لو أديت العبادات على النحو الذي أراده الله، لجعلت المؤمن ذا أفق واسع، ونظر حديد، ومحاكمة سليمة، لجعلته في سعادة لا تقوى متع الأرض الحسية أن تصرفه عنها، ولجعلته ذا أخلاق أصيلة، لا تستطيع سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلادين اللاذعة أن تقوضها.
المؤمن الحق، كما أراده الله أن يكون عقب رمضان كالجبل رسوخاً، كالصخر صلابةً، كالشمس ضياءً، كالبركان تدفقاً، كالبحر عمقاً، كالسماء صفاءً، كالربيع نضارة، كالماء عذوبة، كالعذراء حياءً، كالطفل وداعةً.
لقد كان الصيام من أجل انتصار الإنسان على نفسه، كي يقودها نحو سعادة الدنيا والآخرة.
بطولة الإنسان أن يحافظ على انضباطه في رمضان و بعد انتهاء رمضان :
أخوتنا الكرام، هذا الذي سأقوله أتمنى من أعماق أعماق قلبي أن يكون واضحاً لديكم، ليس البطولة في رمضان أن ننتصر على النفس، ثم ننخذل أمامها بقية العام، ليس هذا الصيام الذي أراده الله، أن تنضبط شهراً ثم أن تسترخي أحد عشر شهراً، ليس البطولة في رمضان أن ننتصر على النفس، ثم ننخذل أمامها بقية العام، ولكن البطولة أن نحافظ على هذا النصر على طول الدوران، وتقلبات الزمان والمكان، ليست البطولة أن نضبط ألسنتنا في رمضان فننزهها عن الغيبة، والنميمة، وقول الزور، ثم نطلقها بعد رمضان حيث ما تريد، ليست البطولة في رمضان أن تصلح قلوبنا، وبعدها نعود إلى ما كنا عليه، ليست البطولة في رمضان أن نغض أبصارنا عن محـارم الله، وأن نضبط شهواتنا غير المشروعة في رمضان، ثم نعود إلى ما كنا عليه بعد رمضان، إنا إذاً كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، ولكن البطولة أن تصوم جوارحنا عن كل معصية في رمضان وبعد رمضان، حتى تلقى الواحد الديان.
ليست البطولة أن نتحرى الحلال في رمضان خوفاً أن يردّ علينا صيامنا، ثم نتهاون في تحريه بعد رمضان، على أنه عادة من عوائدنا، ونمط شائع في سلوكنا، ولكن البطولة أن يكون الورع مبدأً ثابتاً، وسلوكاً مستمراً في رمضان وبعد رمضان، ليست البطولــة أن تبتعد عن المجالس التي لا ترضي الله إكراماً لشهر رمضان، ثم نعود إليها، وكأن الله عز وجل ليس لنا بالمرصاد في بقية الشهور والأعوام.
ليست البطولة أن نراقب الله في أداء واجباتنا وأعمالنا ما دمنا صائمين، فإذا ودعنا شهر الصيام آثرنا حظوظ أنفسنا على أمانة أعمالنا وواجباتنا.
التوبة ليست مقصورة على رمضان وليست محصورة فيه :
والله الذي لا إله إلا هو لو أن الإنسان يضبط نفسه في رمضان، ويعود إلى ما كان عليه بعد رمضان لما شرع الصيام إطلاقاً، شرع الصيام ليكون هذا الشهر نقلة نوعية تستمر، يأتي رمضان ثان نقلة نوعية ثانية تستمر، يأتي رمضان ثالث نقلة نوعية، أما إذا انتقلنا نقلة نوعية وعدنا إلى ما كنا عليه هذا الشهر عندئذ لا معنى له إطلاقاً، ولا معنى لشهر الصيام.
مثل هذا الإنسان الذي يعود إلى ما كان عليه قبل الصيام، كلام دقيق، مثل هذا الإنسان الذي يعود إلى ما كان عليه قبل الصيام لم يفقه حقيقة الصيام، ولا جوهر الإسلام، إنه كالناقة عقلها أهلها، ثم أطلقوها، فلا تدري لِمَ عقلت، ولا لمَ أطلقت، وهو لا يدري لِمَ صام، ولا لِمَ أفطر.
أيها الأخوة، هذا كلام أسوقه لإنسان لم يفلح في رمضان ومع أن شهر الصيام، شهر رمضان شهر التوبة والغفران، ومع أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "رغم أنف عبد أدرك رمضان، ولم يغفر له، إن لم يغفر له فمتى ؟"
ومع كل ذلك التوبة ليست مقصورة على رمضان وليست محصورة فيه، بل إن أبواب التوبة مفتحة على مصارعها في كل أشهر العام، هذه الكلمة لمن قصر في رمضان، أبواب التوبة مفتحة على مصارعها في كل أشهر العام، كيف لا والله سبحانه يقول:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾
( سورة الزمر الآية: 53 )
أي في رمضان وبعد رمضان، إنه هو الغفور الرحيم، إنه جلّ وعلا يدعو المسرفين إلى التوبة فكيف بالمقتصدين ؟ كيف لا، والله عز وجل يقول فوق الزمان والمكان:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا (
﴾
( سورة التحريم )
في رمضان، وفي شوال، وبعد رمضان، وفي كل أشهر العام، أسوق هذا الكلام لمن لم يعجبه صيامه في رمضان، أسوق هذا الكلام لمن شعر بالإحباط في أثناء الصيام، كل أشهر العام رمضان، والواحد الديان معك وهو يستمع إليك، التوبة النصوح كما قال بعض العلماء: "الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب ".
وقد جاء في الحديث القدسي قال:
(( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لــــك على ما كان منك، ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة ))
[الترمذي عن أنس بن مالك]
التوبة مخرج النجاة :
أيها الأخوة الكرام، التوبة مخرج النجاة، حينما تحيط بالإنسان خطيئاته وهي صمام الأمان، حينما تضغط عليه سيئاته وهي تصحيح المسار، حينما تضله أهواؤه وشهواته، وهي حبل الله المتين، حينما تغرقه زلاته، فمن أكبر رحمة الله عز وجل أنه فتح لنا باب التوبة بل قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾
( سورة البقرة )
في رمضان، وبعد رمضان، وفي أي شهر من أشهر العام.
الغنى والفقر بعد العرض على الله :
أيها الأخوة الكرام، هذا عن التوبة في رمضان، وأما عن العمل الصالح والقربات هذا لا يعني أن فرص العمل الصالح في رمضان وحده، مستحيل، فرص العمل الصالح متوافرة في كل أشهر العام، وإن الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، في كل يوم من أيام العام بإمكانك أن تتصدق، بإمكانك أن تواسي الفقير، بإمكانك أن ترعى اليتيم، بإمكانك أن تنفق المال، بإمكانك أن تعبد الواحد الديان، رمضان دورة مكثفة، دورة استثنائية مكثفة، من أجل نقلة نوعية تستمر إلى ما بعد رمضان.
أيها الأخوة، العمل الصالح قوام الحياة، كما أن الطعام والشراب قوام حياة الجسد والفقر في حقيقته، أقسم لكم بالله قد يملك الواحد مئة مليار من أي عملة تشاؤونها وهو عند الله أفقر الفقراء، وقد لا يملك الإنسان قوت يومه وهو عند الله من أغنى الأغنياء، لأن الغنى والفقر بعد العرض على الله، لأن الغنى غنى العمل الصالح ولأن الفقر فقر العمل الصالح.
الغنى غنى العمل الصالح والفقر فقر العمل الصالح :
أيها الأخوة، سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، حينما سقى لابنتي سيدنا شعيب ماذا قال ؟
﴿ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾
( سورة القصص )
استنبط العلماء من هذه الآية: أن الفقر الحقيقي فقر العمل الصالح، نأكل، ونشرب، ونسهر، ونسمر، ونسافر، ونستمتع، وكل هذه الحركات، والسكنات، والنشاطات، والأعمال من أجل متعنا، من أجل مصالحنا، فإذا جاء ملك الموت تبحث عن عمل صالح فلا تجده، فأنت أفقر الفقراء، الغنى والفقر هو غنى العمل الصالح، والفقر فقر العمل الصالح، وما كل عمل صالح يحتاج إلى مال.
(( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم ))
[أخرجه أبو يعلى عن أبي هريرة ]
(( وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ ))
[ متفق عليه عن أبي هريرة]
صلة الرحم عمل صالح، الدعوة إلى الله عمل صالح، الإنصاف عمل صالح، لو عددت الأعمال الصالحة مئات بل ألوف الأعمال الصالحة لا تحتاج إلى مال، فقد يكون الفقير أغنى الأغنياء عند الله، وقد يكون الغني أفقر الفقراء.
التوبة إزالة العقبات والعمل الصالح التحرك إلى القربات :
أيها الأخوة الكرام، إن صحّ أن التوبة ركزت على موضوعين، كانا في رمضان، وينبغي أن يستمرا بعد رمضان، التوبة والعمل الصالح، بشكل مختصر طريق إلى الله، كل معصية هي عقبة كؤود على هذا الطريق، فالذي يتوب يزيل هذه العقبات واحدة واحدة، والذي لا يتوب تبقى هذه العقبات كأداء تحول بينه وبين السير على الله.
إذاً هناك مرحلتان لا بد منهما، مرحلة التوبة، أن تزيل كل العقبات عن الطريق إلى الله لا يكفي، العقبات أزيلت، ما الذي يدفعك في الطريق إلى الله العمل الصالح ؟
﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (10) ﴾
(سورة فاطر)
التوبة امتناع عن كل معصية، عن كل مال حرام، التوبة إزالة العقبات والعمل الصالح التحرك إلى القربات، وجنات اللقاء مع الله عز وجل، لذلك الآية الكريمة:
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) ﴾
( سورة الكهف )
العمل الصالح مظهر للإيمان :
أيها الأخوة الكرام، العمل الصالح مظهر للإيمان، بل ما إن تستقر حقيقة الإيمان في نفس المؤمن إلا و تعبر عن نفسها بحركة، لا يوجد إيمان سكوني، لا يوجد إيمان أساسه الإعجاب السلبي، إعجاب بالإسلام أو لا يتحرك، لا يقدم لا يؤخر، لا يلتزم، لا ينصح، لا يدفع من ماله شيئاً، لا يسعى إلى الدعوة إلى الله، ليس هناك إيمان سكوني، الإيمان حركي، ما إن تستقر حقيقة الإيمان في نفس المؤمن حتى تعبر عن نفسها بحركة نحو الخلق، لذلك الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، قال تعالى:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا(132) ﴾
( سورة الأنعام)
من شروط العمل الصالح الإخلاص و الصواب :
أيها الأخوة الكرام، الآن متى يكون العمل الصالح عملاً صالحاً ؟ لا يكون العمل الصالح عملاً صالحاً إلا بشرطين، إلا إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله وصواباً ما وافق السنة، احرص على أن يكون عملك فيه إخلاص وفق السنة، ما كل عمل صالح يقبله الله، وفي هذا العصر ابتدع الناس أعمالاً صالحة لن تقبل عند الله، حفلة غنائية ساهرة يرصد ريعها للأيتام، العمل الصالح لا يقبل إلا إذا كان صواباً وفق السنة، وكان خالصاً، إخلاص قلب يبتغي وجه الله عز وجل، لذلك الدرهم الذي تنفقه في إخلاص خير من ألف درهم ينفق في رياء، والنبي عليه الصلاة والسلام يروي عن ربه هذا الحديث القدسي:
(( أنا أغْنى الشُّركاء عن الشِّركِ، مَنْ عَمِل عَمَلا أشرك فيه مَعي غيري تركتهُ وشِرْكَهُ ))
[ رواه مسلم عن أبي هريرة ]
من لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله :
شيء آخر لا يكون العمل الصالح عملاً صالحاً إلا إذا سلم من التخليط، أن تخلط معه عملاً سيئاً، لذلك:
(( ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط ))
[ الجامع الصغير عن أنس ]
حال المسلمين اليوم أنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، لذلك:
(( ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط ))
[ الجامع الصغير عن أنس ]
شيء آخر، من لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله.
(( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ))
[ ابن ماجه عن ثوبان ]
إذاً العمل الصالح لا يقبل معه عملاً سيئاً بل إن العمل الصالح مقدم على العبادة النافلة، قال ابن عمر:" لأن أعين أخي المؤمن على حاجته أحب إليّ من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا ". لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:
((اصنع المعروف إلى من هو أهله، وإلى غير أهله، فإن أصبت أهله، أصبت أهله، وإن لم تصب أهله، كنت أنت أهله))
[مالك عن ابن عمر ابن النجار عن علي]
أيها الأخوة، هذا اليوم قبل الأخير في رمضان تصلح هذه الموضوعات، أن تتابع السير إلى الله، أن تتابع التوبة إلى الله، أن تتابع العمل الصالح إلى الله، أن تتابع صلاة الفجر في المسجد، أن تتابع صلاة العشاء في المسجد:
(( من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي، ومن صلى العشاء في جماعة فهو في ذمة الله حتى يصبح ))
[أحمد]
من علامات قبول الصيام والقيام :
1ـ أن يكون حال العبد بعد الصيام أفضل من حاله قبل رمضان:
أيها الأخوة الكرام، الآن أضع بين أيديكم حقيقة دقيقة، من علامات قبول الصيام والقيام، ألا تسأل يا ترى هل قُبل صيامي أو عملي ؟ هل قبل قيامي في رمضان ؟ ألا ينبغي أن تسأل ما علامة القبول ؟ من علامات قبول الصيام والقيام أن يكون حال العبد بعد الصيام أفضل من حاله قبل رمضان. إذا في تبدل بعباداتك، بمعاملاتك، باستقامتك، بعد رمضان عنه قبل رمضان فاعلم علم اليقين أن الله قبل صيامك، وإذا عدت إلى ما كنت عليه فاعلم علم اليقين أن الله لن يقبل صيامك.
2 ـ التوبة النصوح من جميع الآثام و الذنوب:
التوبة النصوح ينبغي أن نرعاها بعد رمضان من جميع الذنوب والآثام.
العزم على أن يكون حالنا بعد رمضان أفضل من حالنا قبله، فقد خاب وخسر من عرف ربه في رمضان، وجهله في بقية شهورالعام.
3 ـ أن يغلب على المرء خوفه من الله من عدم قبول العمل:
شيء آخر من علامات القبول أن يغلب على المرء خوفه من الله من عدم القبول، قال سيدنا علي رضي الله عنه: " كان أصحاب النبي لقبول العمل أشد اهتماماً منهم بالعمل"، العبرة أن يقبله الله، إذا عندك قلق مقدس حول قبول عملك فأنت ممن فاز برمضان، العبرة القبول لذلك قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) ﴾
( سورة المائدة)
4 ـ شكر الله أن وفقنا على الصيام و القيام:
أيها الأخوة الكرام، شيء أخير ينبغي أن نشكر الله أن صمنا رمضان، وقمنا رمضان، ووفقنا على الصيام والقيام، فقد حرم من هذا العمل العظيم خلق كثير من المسلمين.
أيها الأخوة، الطاعة تنقضي متاعبها، ويبقى ثوابها، بينما المعصية تنقضي لذتها، ويبقى إثمها، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبلغنا رمضان القادم، وما بعده، ونحن في أحسن حال مع الله ومع خلقه.
من صام رمضان وأتبعها بست من شوال فكأنما صام الدهر كله :
الآن أيها الأخوة الكرام، من صام رمضان، وأتبعها بست من شوال فكأنما صام الدهر كله، هذا حديث فيه ملمح اجتماعي، وملمح عبادي، وملمح صحي، الملمح الصحي الانتقال فجأة من صيام بلا أكل وشرب من دون قاعدة هذه مشكلة، فهناك انتقال تدريجي من صيام ثلاثين يوماً إلى صيام ستة أيام قد تكون متتابعة، أو غير متتابعة، وهناك ملمح اجتماعي لعل الزوجة أفطرت بعض أيام رمضان لعذر شرعي، فإذا صمت معها أيها الزوج أدت ما عليها من دين، فكان الصيام رحمة لك ولها، لذلك الملمح العبادي:
(( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ))
[ البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
وستة من شوال من النوافل،
(( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطينه، وإن استعاذ بي أعذته، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ))
[ البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]
كلمة الإمام علي رضي الله عنه :
أيها الأخوة الكرام، كلمة أسوقها لكم للإمام علي رضي الله عنه: " ليس شيء شر من الشر إلا العقاب ـ العقاب شر من الشر ـ وليس شيء خير من الخير إلا الثواب، وكل شيء في الدنيا سماعه خير من عيانه، وكل شيء في الآخرة عيانه أعظم من سماعه فليكفكم من العيان السماع ومن الغيب الخبر، واعلموا أن ما نقص من الدنيا، وزاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا، فكم من منقوص رابح، وكم من مزيد خاسر، واعلموا أن الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه، وما أحل لكم أكثر مما حُرم عليكم، ذروا ما قلّ لما كثر، وما ضاق لما اتسع، وقد تُكُفِّل لكم بالرزق، وأمرتم بالعمل، فلا يكن المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم، بادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل ".
[نهج البلاغة] .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وصحبه أجمعين.
أسعد الناس من عرف نعمة الله عز وجل عليه :
أيها الأخوة الكرام، أناس كثيرون يتمتعون بنعم لا تعد ولا تحصى وهم لا يرونها، أسوق لكم هذه الكلمات، إذا كان لديك بيت يؤويك، أي بيت، مرتفع، منخفض، واسع، ضيق، معك مفتاح بيت، إذا كان لديك بيت يؤويك، و مكان تنام فيه، وطعام في بيتك، ولباس على جسمك، فأنت أغنى من خمسٍ وسبعين بالمئة من سكان الأرض.
الذي عنده بيت ملك أو أجرة بطابق منحدر، أو طابق مرتفع، واسع أو ضيق، بمركز المدينة أو بالريف، الذي معه مفتاح بيت هو أغنى من خمسٍ وسبعين بالمئة من سكان العالم، لو ذهبتم إلى بعض البلاد في آسيا البيت الرصيف، يتزوج وينجب على الرصيف أو في قارب، من أجل أن تعرف نعمة الله عليك.
إذا كان لديك مال في جيبك، واستطعت أن توفر منه شيئاً لوقت الشدة، أي شيء فأنت واحد من ثمانٍ بالمئة من سكان العالم، إذا معك مال تنفق منه ومعك فائض قليل، لن أحدده فأنت واحد من ثمان بالمائة من سكان العالم.
إذا كنت قد أصبحت في عـافية فـأنت في نعمة عظيمة، فـهناك مليون إنسان في العالم لن يستطيعوا العيش أكثر من أسبوع واحد بسبب مرضهم.
إذا لم تتجرع خطر الحروب، ولم تذق طعم وحدة السجن، ولم تتعرض لروعة التعذيب فأنت أفضل من خمسمئة مليون إنسان على سطح الأرض.
إذا كنت تصلي في المسجد دون خوف من تعذيب، أو تنكيل، أو اعتقال، أو موت، فأنت في نعمة لا يعرفها ثلاثة مليارات إنسان في العالم، تأتي إلى المسجد تستمع إلى خطبة، تحضر درساً، تصلي، هذه نعمة لا يعرفها إلا من فقدها، وهي من فضل الله علينا متوافرة في هذا البلد الطيب.
إذا كان والداك وكذلك أمك على قيد الحياة ويعيشان معاً غير مطلقين فأنت نادر في هذا الوجود.
إذا كنت تبتسم وتشكر المولى عز وجل فأنت في نعمة، كثيرون لا يستطيعون ذلك أن تبتسم، هموم تسحقهم، إذا وصلت لك هذه الرسالة الآن شفهياً وقد ترسل كتابياً وقرأتها فأنت أفضل من مليارين من البشر لا يقرؤون، الذي يقرأ أفضل من مليارين من البشر لا يقرؤون.
أيها الأخوة الكرام، يمكن أن تكون أسعد ما أنت فيه ولو عرفت النعم التي معك، لكن الإنسان أحياناً يسأل عما يفتقده فقط، ولا يسأل عن الإيجابيات التي معه.
أيها الأخوة الكرام، إني داع فأمنوا:
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، انصر المسلمين في كل مكان، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين.
والحمد لله رب العالمين