حقيقة الخلاف بين الصحابة
(الجزء الأول)
الكاتب: د./ علي محمد الصلابي
قال تعالى:" وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [الحجرات: 9، 10].
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قيل للنبي: لو أتيت عبد الله بن أبى؟ قال: فانطلق إليه، وركب حمارًا، وانطلق المسلمون، وهي أرض سبخة, فلما أتاه النبي قال: إليك عنى، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، قال: فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله أطيب ريحًا منك، قال: فغضب لعبد الله رجل من قومه. قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد وبالأيدي وبالنعال. قال: فبلغنا أنها نزلت فيهم: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا".
وعن الحسن عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس، قوله:" وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ" فإن الله سبحانه أمر النبي والمؤمنين إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله، وينصف بعضهم من بعض، فإن أجابوا حكم فيهم بكتاب الله، حتى ينصف المظلوم من الظالم، فمن أبى منهم أن يجتنب فهو باغ، فحق على إمام المؤمنين أن يجاهدهم ويقاتلهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله، ويقروا بحكم الله.
وفي قوله تعالى: "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا"، أي إذا تقاتل فريقان من المسلمين، فيجب على ولاة الأمور الإصلاح بالنصح والدعوة إلى حكم الله، والإرشاد، وإزالة الشبهة، وأسباب الخلاف، والتعبير بـ«إن» للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يقع القتال بين المسلمين، وأنه إن وقع فإنه نادر قليل، والخطاب في الآية لولاة الأمور، والأمر فيها للجوب، وقد استدل البخاري وغيره بهذا على أن المعصية -وإن عظمت- لا تُخرج من الإيمان، خلاقًا للخوارج القائلين بأن مرتكب الكبيرة كافر، وهو في النار، وثبت في صحيح البخاري عن أبى بكرة- رضي الله عنه- قال: إن رسول الله خطب يومًا، ومعه على المنبر الحسن بن على - رضي الله عنهما-، فجعل ينظر إليه مرة، وإلى الناس أخرى، ويقول: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، فكان كما قال، وقد أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب التي وقعت بينهما.
وفي قوله تعالى: "فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ"، أي فإن اعتدت وتجاوزت الحد إحدى الفئتين على الأخرى، ولم تذعن لحكم الله وللنصيحة، فعلى المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى حكم الله، وما أمر به من عدم البغي، والقتال يكون بالسلاح وبغيره، ويفعل الوسيط ما يحقق المصلحة، وهي الفيئة، فإن تحقق المطلوب بما دون السلاح كان ذلك، وإن تعين السلاح وسيلة فعل حتى الفيئة.
وفي قوله تعالى: "فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"، أي رجعت الفئة الباغية في بغيها، بعد القتال، ورضيت بأمر الله وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم، وتؤدى ما يجب عليها للأخرى، حتى لا يتجدد القتال بينهما مرة أخرى، واعدلوا أيها الوسطاء في الحكم بينهما. إن الله يحب العادلين، ويجازيهم أحسن الجزاء، وهذا أمر بالعدل في كل الأمور. قال النبى -صلى الله عليه وسلم-: "إن المقسطين عند الله، على منابر من نور، عن يمين الرحمن -عز وجل-، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا".
ثم أمر الله تعالى بالإصلاح في غير حال القتال، ولو في أدنى اختلاف فقال: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ"، فهذه الآية أصل من الأصول التي تنظم علاقة المسلم بأخيه المسلم. إن الله تعالى لم ينف صفة الإيمان عن إحدى الطائفتين أو كلتيهما مع وقوع القتال بينهما، وإن أولى الناس بالدخول تحت معنى هذه الآية هم سادات المؤمنين الصحابة الكرام، سواء ما وقع في معركة الجمل أو صفين، وقد قام أمير المؤمنين علىّ -رضي الله عنه - بتطبيق هذه الآية من حرصه على الإصلاح. وقد استجاب طلحة والزبير لذلك، إلا أن أتباع عبد الله بن سبأ أنشبوا الحرب بين الطرفين، وسيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله، وحرص أمير المؤمنين على الإصلاح مع أهل الشام، وبذل ما في وسعه، من طرق سلمية، وجرّد سيفه بعد فشل كل المحاولات الإصلاحية لكي يفىء معاوية -رضي الله عنه- إلى السمع والطاعة، ووحدة الخلافة الإسلامية، إلا أن معاوية اشترط تسليم قتلة عثمان - رضي الله عنه -، فاجتهد وأخطأ، وكان الحق مع أمير المؤمنين علىّ ووقع القتال.
وقال تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ". فأثبتت الأخوة الإيمانية لجميع المقاتلين من المسلمين، ومن باب أولى ما وقع بين على وطلحة والزبير -رضي الله عنهم- في الجمل، وما وقع مع معاوية في صفين، ومن هنا يظهر لنا أن المقاتلين في الجمل وفي صفين مؤمنون، ولا مجال للطعن في الصحابة بسبب هذه الحوادث التاريخية، أو محاولة نزع الإيمان عنهم، أو نشر العبارات المنحرفة في حقهم، ويكفى في الرد على تلك المقولات الباطلة أن هذه الآيات أثبتت لهم أخوة الإيمان، وسيأتي بيان ما وقع بينهم -بإذن الله تعالى- بالتفصيل.
فقد ذكر تعالى أن المؤمنين إخوة في الدين، ويجمعهم أصل واحد، وهو الإيمان، فيجب الإصلاح بين كل أخوين متنازعين، وزيادة في أمر العناية بالإصلاح بين الأخوين أمر الله تعالى بالتقوى، والمعنى: فأصلحوا بينها، وليكن رائدكم في هذا الإصلاح وفي كل أموركم تقوى الله، وخشيته، والخوف منه، بأن تلتزموا الحق والعدل، ولا تحيفوا ولا تميلوا لأحد الأخوين، فإنهم إخوانكم، والإسلام سوّى بين الجميع، فلا تفاضل بينهم ولا فوارق، ولعلكم ترحمون بسبب التقوى، وهي التزام الأوامر واجتناب النواهي.
وقد جعلت الآية الكريمة الإصلاح بين الإخوة وتقوى الله سبب نزول رحمة الله؛ تعظيمًا لأمر الإصلاح بين المسلمين. ويلاحظ أنه قال: اتقوا الله عند تخاصم رجلين، ولم يقل ذلك عند إصلاح الطائفتين؛ لأنه في حالة تخاصم الرجلين يخشى اتساع الخصومة، وأما في حال تخاصم الطائفتين، فإن أثر الفتنة أو المفسدة عام شامل الكل, وكلمة (إنما) للحصر تفيد أنه لا أخوة إلا بين المؤمنين، ولا أخوة بين المؤمن والكافر؛ لأن الإسلام هو الرباط الجامع بين أتباعه، وتفيد أيضًا أن أمر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الأخوة في الإسلام، لا بين الكفار، فإن كان الكافر ذميًا أو مستأمنًا، وجبت إعانته وحمايته ورفع الظلم عنه، كما تجب إعانة المسلم ونصرته مطلقًا إن كان خصمه حربيًا.
وقد قال ابن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عوّل الصحابة، وإياها عنى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تقتل عمارًا الفئة الباغية" (أي عمار بن ياسر) أي أن بقتال البغاة فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولذلك تخلف قوم من الصحابة - رضي الله عنهم - عن هذا الأمر، كسعد بن أبى وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة وغيرهم، اعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منهم أمير المؤمنين علىٌّ. وهناك كثير من الأحكام سوف نراها من خلال سرد الوقائع التي حدثت بين الصحابة - بإذن الله تعالى- .
ويُعد نظام التحكيم وقتال الفئة الباغية حتى تفئ إلى أمر الله نظامًا له السبق من حيث الزمن على محاولات البشرية في هذا الطريق، وله الكمال والبراءة من العيب والنقص الواضحين في كل محاولات البشرية البائسة القاصرة التي حاولتها في كل تجاربها الكسيحة، وله بعد هذا وذاك صفة النظافة والأمانة والعدل والمطلق؛ لأن الاحتكام فيه إلى أمر الله الذي لا يشوبه غرض ولا هوى، ولا يتعلق به نقص أو قصور. ولم تنته محاولات الإصلاح منذ اندلاع القتال حتى توج بالصلح العظيم الذي خطط له أمير المؤمنين الحسن بن على -رضي الله عنهما- .
الأحداث التي سبقت معركة الجمل
كانت فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - سببًا في حدوث كثير من الفتن الأخرى، وألقت بظلالها على أحداث الفتن التي تلتها، وقد ساهمت أسباب عديدة في فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه -، منها: الرخاء وأثره في المجتمع، طبيعة التحول الاجتماعي في عهده، مجيء عثمان بعد عمر، خروج كبار الصحابة من المدينة، العصبية الجاهلية، توقف الفتوحات، الورع الجاهل، طموح الطامحين، تآمر الحاقدين، التدبير المحكم لإثارة المآخذ ضد عثمان، استخدام الأساليب والوسائل المهيجة للناس، دور عبد الله بن سبأ في الفتنة، وقد تم تفصيل تلك الأسباب في كتابي "تيسير الكريم المنّان في سيرة عثمان بن عفان".
عثمان -رضي الله عنه- كان الناس يحبونه حبًا عظيمًا؛ لحسن سياسته ولمكانته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحاديثه في الثناء عليه، وزواجه من ابنتيه حتى سمي بذي النورين، فهو من الصحابة الكبار الذين بشروا بالجنة، ولقد تعرض للظلم في حياته من بعض الغوغاء، وكان في استطاعته أن يقضى عليهم، ولكنه امتنع خوفًا من أن يكون أول من يسفك الدماء في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد كانت سياسته في التعامل مع الفتنة قائمة على الحلم والتأني والعدل، وقد منع الصحابة من قتال الغوغاء، وأحب أن يقي المسلمين بنفسه، ولذلك كان مقتله سببًا لحدوث كثير من الفتن الأخرى، وألقت بظلالها على الأحداث المتتالية من الفتن، ولقد كان مقتله عظيمًا على المسلمين، ولذلك تصدع المجتمع الإسلامي لهذا الحادث الجلل، وانقسم الناس، ومما يزيد من مكانته وبراءته مما نسب إليه مواقف الصحابة من قتله، فقد أجمع الجميع على براءته، واتفقوا على الأخذ بدمه، إلا أن المواقف اختلفت في الكيفية، وهذا ما سيأتي بيانه بإذن الله. ونحب أن نسلط الأضواء على دور عبد الله بن سبأ في الفتنة عمومًا:
أولاً: أثر السبئية في إحداث الفتنة:
حقيقة عبد الله بن سبأ:
أجمع القدماء على وجوده بلا استثناء، وخالف في ذلك قلة من المعاصرين أكثرهم من الشيعة، وحجة من أنكره أنه من إبداع مخيلة سيف بن عمر التميمي؛ وذلك لانتقاد بعض علماء الرجال له في مجال رواية الحديث أن العلماء يعدونه حجة في الأخبار، علمًا بأنه وردت روايات كثيرة عند ابن عساكر تذكر عبد الله بن سبأ ليس من بين رواتها سيف بن عمر، وقد حكم الألباني على بعضها بأنها صحيحة من حيث السند. هذا غير الروايات الكثيرة عن ابن سبأ في كتب الشيعة سواء في كتب الفرق أو الرجال أو الحديث عندهم، وليس فيها عمر هذا، لا من قريب ولا من بعيد، وقد ابتدأ التشكيك في شخصية عبد الله بن سبأ ووجوده؛ في محاولة منهم لنفي دور العنصر اليهودي الحاقد في زرع الفتنة بين المسلمين من جهة، ومن جهة أخرى يوجه الاتهام للصحابة بأنهم سبب الفتنة؛ بغرض هدم النموذج السامي والصور المشرقة لهم عند المسلمين، وتابعهم على نفي وجود عبد الله بن سبأ بعض المعاصرين كلهم من الشيعة الرافضة لغاية في نفوسهم، وهي محاولتهم الفاشلة لتبرئة أصل مذهبهم من مؤسسه الحقيقي، كما أجمع القدماء جميعهم بمن فيهم الشيعة.
وتجدر الإشارة أن من أنكر عبد الله بن سبأ من المحسوبين على أهل السنة هم ممن تأثروا وتتلمذوا على أيدي المستشرقين، فأين بلغ هؤلاء من قلة الحياء والجهل؟ وقد ملأت ترجمته كتب التاريخ والفرق، وتناقلت أفعاله الرواة وطبقت أخباره الآفاق. لقد اتفق المؤرخون والمحدثون وأصحاب كتب الفرق والملل والنحل والطبقات والأدب والأنساب الذين تعرضوا للسبئية على وجود شخصية عبد الله بن سبأ الذي ظهر في أخبار الفتنة، ودور ابن سبأ فيها لم يكن قصرًا على تاريخ الإمام الطبري، واستنادًا على روايات سيف بن عمر التميمي فيه، إنما هي أخبار منتشرة في روايات المتقدمين، وفي ثنايا الكتب التي رصدت أحداث التاريخ الإسلامي وآراء الفرق والنحل في تلك الفترة، إلا أن ميزة تاريخ الإمام الطبري على غيره أنه أغزرها مادة، وأكثر تفصيلاً لا أكثر، ولهذا فإن التشكيك في هذه الأحداث بلا سند وبلا دليل بحجة عدم ذكر عبد الله بن سبأ إلا من طريق سيف بن عمر حتى بعد ثبوت ذكره من روايات صحيحة ليس فيها سيف ابن عمر كما أسلفنا، إنما يعنى الهدم لكل تلك الأخبار، والتسفيه بأولئك المخبرين والعلماء وتزييف الحقائق التاريخية، فمتى كانت المنهجية ضربًا من ضروب الاستنتاج العقلي المحض في مقابل النصوص والروايات المتضافرة؟ وهل تكون المنهجية في الضرب صفحًا والإعراض عن المصادر الكثيرة المتقدمة والمتأخرة التي أثبتت لابن سبأ شخصية واقعية؟
وقد جاء ذكر ابن سبأ في كتب أهل السنة كثيرًا منها:
أولاً: جاء ذكر السبئية على لسان أعشى همدان المتوفى عام 83هـ، وقد هجا المختار بن أبى عبيد الثقفي وأنصاره من أهل الكوفة بعدما فرّ مع أشراف قبائل الكوفة إلى البصرة بقوله:
شهدت عليكم أنكم سبئية وأني بكم يا شرطة الكفر عارف
ثانيًا: وهناك رواية عن الشعبي المتوفى عام103هـ تفيد كذب عبد الله بن سبأ. وتحدث ابن حبيب المتوفى 245هـ عن ابن سبأ حينما اعتبره أحد أبناء الجبشيات. كما روى أبو عاصم خُشيش بن أصرم المتوفى سنة 253هـ، خبر إحراق على - رضي الله عنه- لجماعة من أصحاب ابن سبأ في كتابه الاستقامة. ويعتبر الجاحظ المتوفى 255هـ من أوئل من أشار إلى عبد الله بن سبأ, ولكن روايته ليست أقدم رواية عن ابن سبأ كما يروى الدكتور جواد على, وخبر إحراق على بن أبى طالب -رضي الله عنه- لطائفة من الزنادقة تكشف عنه الروايات الصحيحة في كتب الصحاح والسنن والمسانيد, ولفظ الزندقة ليس غريبًا عن عبد الله بن سبأ وطائفته.
ويقول ابن تيمية: إن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ.
ويقول الذهبي: عبد الله من غلاة الزنادقة، ضال مضل.
ويقول ابن حجر: عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة.. وله أتباع يقال لهم السبئية، معتقدون الإلهية في على بن أبى طالب، وقد أحرقهم علىّ بالنار في خلافته.
ثالثًا: يوجد لابن سبأ ذكر في كتب الجرح والتعديل، يقول ابن حبان المتوفى 354هـ: وكان الكلبي -محمد بن السائب الإخباري- سبئيًا، من أصحاب عبد الله بن سبأ، من أولئك الذين يقولون: إن عليًا لم يمت، وإنه راجع إلى الدنيا قبل الساعة.. وإن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها.
كما أن كتب الأنساب هي الأخرى تؤكد نسبة السبئية إلى عبد الله بن سبأ، وهم الغلاة من الرافضة، وابن سبأ أصله من اليمن، كان يهوديًا وأظهر الإسلام, ولم يكن سيف بن عمر هو المصدر الوحيد لأخبار عبد الله بن سبأ، إذ أورد ابن عساكر في تاريخه روايات لم يكن سيف فيها، وهي تثبت ابن سبأ وتؤكد أخباره, ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى 728هـ أن أصل الرفض من المنافقين الزنادقة، فإنه ابتداع ابن سبأ الزنديق، وأظهر الغلو في على، وادعى الإمامة والنص عليه، وادعى العصمة له.
ويشير الشاطبى المتوفى 790هـ إلى أن بدعة السبئية من البدع الاعتقادية المتعلقة بوجود إله مع الله - تعالى- وهي بدعة تختلف عن غيرها من المقالات. وفي خطط المقريزى المتوفى 845هـ، أن عبد الله بن سبأ قام من زمن على مُحدثًا القوم بالوصية والرجعة والتناسخ. وأما المصادر الشيعية التي ذكرت ابن سبأ، فقد روى الكشى عن محمد بن قولوية، قال: حدثني سعد بن عبد الله قال: حدثني يعقوب بن يزيد، ومحمد بن عيسى، عن على بن مهزيار، عن فضالة بن أيوب الأزدى، عن أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله يقول: لعن الله عبد الله بن سبأ، إنه ادّعى الربوبية في أمير المؤمنين وكان والله أمير المؤمنين عبدًا طائعًا، الويل لمن كذب علينا، وإن قومًا يقولون فينا ما لا نقول في أنفسنا نبرأ إلى الله منهم، والرواية عند الشيعة من حيث السند صحيحة.
وفي كتاب الخصال أورد القمى الخبر نفسه، ولكن موصولاً بسند آخر، وأما صاحب روضات الجنات فقد ذكر ابن سبأ على لسان الصادق المصدوق الذي لعن ابن سبأ لاتهامه بالكذب والتزوير وإذاعة الأسرار والتأويل. وقد ذكر الدكتور سليمان العودة في كتابه مجموعة من النصوص التي تزخر بها كتب الشيعة ومروياتهم عن عبد الله بن سبأ، فهي أشبه ما تكون وثائق مسجلة تدين من حاول من متأخري الشيعة إنكار عبد الله بن سبأ، أو التشكيك في أخباره، بحجة قلة، أو ضعف المصادر التي حكت أخباره.
إن شخصية ابن سبأ حقيقة تاريخية لا لبس فيها في المصادر السنية والشيعية المتقدمة والمتأخرة على السواء، وهي كذلك أيضًا عند غالبية المستشرقين أمثال: يوليوس فلهاوزن, وفان فولتن, وليفي ديلافيد, وجولد تسيهر, ورينولد نكلسن, وداويت رونلدس..على حين يبقى ابن سبأ محل شك أو مجرد خرافة عند فئة قليلة من المستشرقين أمثال: كيتاني، وبرنارد لويس, وفريد لندر المتأرجح, علمًا بأننا لا نعتد بهم في أحداث تاريخنا.
ومن يستقرئ المصادر -سواء القديمة والمتأخرة- عند السنة والشيعة، يتأكد له بأن وجود ابن سبأ كان وجودًا تؤكده الروايات التاريخية، وتفيض فيه كتب العقائد، وذكرته كتب الحديث، والرجال والأنساب، والأدب، واللغة، وسار على هذا النهج كثير من المحققين والباحثين والمحدثين، يبدو أن أول من شك في وجود ابن سبأ المستشرقون، ثم دعّم هذا الطرح الغالبية من الشيعة المعاصرين، بل وأنكر بعضهم وجوده ألبتة، وبرز من الباحثين العرب المعاصرين من أعجب بآراء المستشرقين، ومن تأثر بكتابات الشيعة المحدثين، ولكن هؤلاء جميعًا ليس لهم ما يدعمون به شكهم وإنكارهم إلا الشك ذاته، والاستناد إلى مجرد الهوى والظنون والفرضيات, ومن أراد التوسع في معرفة المراجع والمصادر السنية والشيعية والاستشراقية التي ذكرت ابن سبأ فليراجع تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة للدكتور محمد محزون، وعبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام، للدكتور سليمان بن حمد العودة.
دور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة:
في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان -رضي الله عنه- بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلامي؛ نتيجة عوامل التغيير التي ذكرناها، وأخذ بعض اليهود يتحينون فرصة الظهور مستغلين عوامل الفتنة ومتظاهرين بالإسلام واستعمال التقية، ومن هؤلاء عبد الله بن سبأ الملقب بابن السوداء، وإذا كان ابن سبأ لا يجوز التهويل من شأنه كما فعل بعض المغالين في تضخيم دوره في الفتنة, فإنه كذلك لا يجوز التشكيك فيه أو الاستهانة بالدور الذي لعبه في أحداث الفتنة، كعامل من عواملها، على أنه أبرزها وأخطرها، إذ إن هناك أجواءً للفتنة مهدت له، وعوامل أخرى ساعدته، وغاية ما جاء به ابن سبأ آراء ومعتقدات ادّعاها واخترعها من قبل نفسه، وافتعلها من يهوديته الحاقدة، وجعل يروجها لغاية ينشدها، وغرض يستهدفه، وهو الدَّس في المجتمع الإسلامي؛ بغية النيل من وحدته، وإذكاء نار الفتنة، وغرس بذور الشقاق بين أفراده، فكان ذلك من جملة العوامل التي أدّت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- وتفرق الأمة شيعًا وأحزابًا.
وخلاصة ما جاء به أن أتى بمقدمات صادقة، وبنى عليها مبادئ فاسدة، راجت لدى السذج الغلاة وأصحاب الأهواء من الناس، وقد سلك في ذلك مسالك ملتوية لبّس فيها على من حوله حتى اجتمعوا عليه، فطرق باب القرآن بتأولّه على زعمه الفاسد حيث قال: لَعجَب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمدًا يرجع، وقد قال تعالى: "إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85] فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. كما سلك طريق القياس الفاسد من ادعاء إثبات الوصية لعلى - رضي الله عنه- بقوله: إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصى، وكان على وصى محمد، ثم قال: محمد خاتم الأنبياء، وعلى خاتم الأوصياء, وحينما استقر الأمر في نفوس أتباعه، انتقل إلى هدفه المرسوم، وهو خروج الناس على الخليفة عثمان -رضي الله عنه -، فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم حيث قال لهم: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووثب على وصىّ رسول الله، وتناول أمر الأمة؟ ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصىّ رسول الله فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدءوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوا إلى هذا الأمر. وبث دعاته، وكاتب من كان في الأمصار، وكاتبوه، ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرؤه أولئك في أمصارهم، وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويسترون غير ما يبدون، فيقول أهل مصر: إنّا لفي عافية مما فيه الناس.
ويظهر في النص الأسلوب الذي اتبعه ابن سبأ، فهو أراد أن يوقع في أعين الناس بين اثنين من كبار الصحابة، حيث جعل أحدهما مهضوم الحق وهو على، وجعل الثاني مغتصبًا وهو عثمان، ثم حاول بعد ذلك أن يحرك الناس -خاصة في الكوفة- على أمرائهم باسم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فجعل هؤلاء يثورون لأصغر الحوادث على ولاتهم، علمًا بأنه ركز في حملته هذه على الأعراب الذين وجد فيهم مادة ملائمة لتنفيذ خطته؛ فالقرَّاء منهم استهواهم عن طريق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأصحاب المطامع منهم هيّج أنفسهم بالإشاعات المغرضة المفتراة على عثمان؛ مثل تحيزه لأقاربه، وإغداق الأموال من بيت مال المسلمين عليهم، وأنه حمى الحمى لنفسه.. إلى غير ذلك من التهم والمطاعن التي حرك بها نفوس الغوغاء ضد عثمان -رضي الله عنه- مع براءته، ثم إنه أخذ يحض أتباعه على إرسال الكتب بأخبار سيئة مفجعة عن مصرهم إلى بقية الأمصار، وهكذا يتخيل الناس في جميع الأمصار أن الحال بلغ من السوء ما لا مزيد عليه، والمستفيد من هذه الحال هم السبئية؛ لأن تصديق ذلك من الناس يفيدهم في إشعال شرارة الفتنة داخل المجتمع الإسلامي. هذا وقد شعر عثمان - رضي الله عنه- بأن شيئًا ما يحاك في الأمصار، وأن الأمة تمخض بشر فقال: والله إن رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها.
على أن المكان الذي رتع فيه ابن سبأ هو مصر، وهناك أخذ ينظم حملته ضد عثمان-رضي الله عنه -، ويحث الناس على التوجه إلى المدينة لإثارة الفتنة؛ بدعوى أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، ووثب على وصى رسول الله: يقصد عليًا، وقد غشهم بكتب ادّعى أنها وردت من كبار الصحابة حتى إذا أتى هؤلاء الأعراب المدينة المنورة، واجتمعوا بالصحابة لم يجدوا منهم تشجيعًا، حيث تبرءوا مما نسب إليهم من رسائل تؤلب الناس على عثمان, ووجدوا عثمان مقدرًا للحقوق، بل وناظرهم فيما نسبوا إليه، ورد عليهم افتراءهم، وفسّر لهم صدق أعماله، حتى قال أحد زعمائهم وهو مالك ابن الأشتر النخعى: لعله مُكر به وبكم.
ويعتبر الذهبي أن عبد الله بن سبأ المهيج للفتنة بمصر وباذر بذور الشقاق والنقمة على الولاة ثم على أمير المؤمنين عثمان فيها, ولم يكن ابن سبأ وحده، وإنما كان عمله ضمن شبكة من المتآمرين، وأخطبوط من أساليب الخداع والاحتيال والمكر، وتجنيد الأعراب والقراء وغيرهم، ويروى ابن كثير أن أسباب تألب الأحزاب على عثمان ظهور ابن سبأ، وذهابه إلى مصر، وإذاعته بين الناس كلامًا اخترعه من عند نفسه، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر.
إن المشاهير من المؤرخين والعلماء من سلف الأمة وخلفها يتفقون على أن ابن سبأ ظهر بين المسلمين بعقائد وأفكار وخطط سبئية؛ ليلفت المسلمين عن دينهم وطاعة إمامهم، ويوقع بينهم الفرقة والخلاف، فاجتمع إليه من غوغاء الناس ما تكوّنت به الطائفة السبئية المعروفة التي كانت عاملاً من عوامل الفتنة المنتهية بمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وما ترتب على قتله من فتن كمعركتي الجمل وصفين وغيرهما. والذي يظهر من خطط السبئية أنها كانت أكثر تنظيمًا، إذ كانت بارعة في توجيه دعايتها، ونشر أفكارها لامتلاكها ناصية الدعاية والتأثير بين الغوغاء والرعاع من الناس، كما كانت نشيطة في تكوين فروع لها سواء في البصرة أو في الكوفة أو في مصر، مستغلة العصبية القبلية، ومتمكنة من إثارة مكامن التذمر عند الأعراب والعبيد والموالي، عارفة بالمواضع الحساسة في حياتهم وبما يريدون.
==========