اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  رحمة الله تعالى

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99270
 رحمة الله تعالى Oooo14
 رحمة الله تعالى User_o10

 رحمة الله تعالى Empty
مُساهمةموضوع: رحمة الله تعالى    رحمة الله تعالى Emptyالخميس 6 يونيو 2013 - 16:08

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عمَّ برحمته جميع خلقه، خلقهم ورزقهم وأعطاهم، ورحم المؤمنين رحمة خاصة؛ فهداهم صراطه المستقيم، ووفقهم لعمل ما يرضيه، ثم منَّ عليهم بالخلد في دار النعيم.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ رحمه ربه وأكرمه بالرسالة، وجعله رحمة للناس أجمعين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وملأ قلبه بالرحمة فكان رحيمًا بأمته، مشفقًا عليها، يدلها على أسباب رحمة الله - تعالى - {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - فإن التقوى سبب لرحمة الله - تعالى - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28]، وقال – سبحانه -: {وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].

أيها الإخوة المؤمنون: من أسماء الرب جلَّ جلاله، وتقدست أسماؤه: الرحمن والرحيم، ومن صفاته العلى - جل في علاه -: الرحمة، وهي رحمة عامة شاملة، شملت جميع خلقه.
واسم الرحمن: دال على صفة ذاتية، واسم الرحيم: دال على صفة فعلية.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "إن الرحمنَ دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالٌ على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله: {وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، ولم يجئ قط (رحمن بهم) فعلم أن رحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته"[1].
وقد جاء اسم الرحمن في القرآن في سبعة وخمسين موضعًا، وجاء اسم الرحيم في مائة وأربعة عشر موضعًا[2].
وهذا يؤكد اتصاف ربنا - جلَّ جلاله - بالرحمة، وأنه رحيم بخلقه؛ إذ كُرِّر ذلك في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى.

وصفة الرحمة لله - تعالى - هي صفة كمال لائقة بذاته كسائر صفاته العلى، وليست كرحمة المخلوقين التي يعتريها النقص والعجز والضعف؛ بسبب نقصهم وعجزهم وضعفهم، والله - تعالى - له الكمال المطلق؛ فكانت له الرحمة الكاملة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه·
إنها رحمة رَحِمَ بها عباده من ملائكة وإنس وجن وحيوان، ورحم بها جميع مخلوقاته، وإذا كان ما في الوجود من آثار التدبير والتصريف الإلهي شاهدًا بملكه سبحانه؛ فإن ما لله - تعالى - على خلقه من الإحسان والإنعام شاهدٌ برحمةٍ تامةٍ وسعت كل شيء.
وآثار رحمته العامة والخاصَّة باديةٌ للعيان، ظاهرةٌ للعقلاء، أدركتها العقول، واستقرت في الفِطَر، وشاهدها الخلق.
فبرحمته - جلَّ في علاه - أوجد خلقه من العـدم، ورباهم بالنعم، ودبرهم أحسن تدبير، وصرفهم أجمل تصريف.

وبرحمته - تعالى - أرسل إلينا رسله، وأنزل علينا كتبه، وهدانا من الضلالة، وبصَّرنا من العمى، وأرشدنا من الغي، {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
وبرحمته - تبارك وتعالى - عرّفنا من أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وأفعاله الحكيمة ما عرفنا به أنه ربنا ومولانا ومعبودنا، وعلَّمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]، {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، {فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239].
وبرحمته - تعالى - خلق الشمس والقمر والأنجم، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض وجعلها مهادًا وفراشًا وقرارًا وكفاتًا للأحياء والأموات {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 61-62].

وبرحمته ينشئ السحاب، وينزل الغيث، +ويُحْيي الأرض بعد موتها، ويخرج للأحياء من شجرها وخضرتها وثمارها، وسائر أرزاقها ما يأكلون وما يقتاتون، وسخر لهم ما في الأرض مما ينفعهم وينفع دوابهم، وسخر لهم ما يحملهم في البر والبحر والجو {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الرُّوم: 50]، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، {وَالخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} [إبراهيم: 32]، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ} [الشُّورى: 28].
ومن رحمته - جلَّ جلاله - أنه أحوجَ الخلقَ بعضَهم إلى بعض لتتم مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم، وانحل نظامهم، وكان من تمام رحمته بهم أن جعلَ فيهم الغني والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والراعي والمرعي، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته[3].
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزُّخرف: 32].

وبرحمته - جلَّ في علاه - وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان، فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته، واشتقَّ لنفسه منها اسم (الرحمن الرحيم) وبهذه الرحمة قوام العالم ونظامه.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله خلق الرحمة يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السموات والأرض)) وفي رواية: ((فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمةً، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة)) وفي رواية: ((إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحشُ على ولدها - وفي رواية: حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه - وأخَّر الله تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة))؛ رواه الشيخان[4].

إن أوسع المخلوقات شيئًا عرش الرحمن الرحيم، وأوسعَ الصفاتِ رحمته؛ فاستوى على عرشه الذي وسع كل المخلوقات بصفة رحمته التي وسعت كل شيء، ولما استوى على عرشه باسم (الرحمن) الذي اشتقه من صفة الرحمة، وتسمى به دون خلقه، كتب بمقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين قضى الخلق كتابًا فهو عنده، وضعه على عرشه أن رحمته سبقت غضبه، وكان هذا الكتابُ العظيمُ الشأنِ كالعهدِ منه – سبحانه - للخليقة كلها بالرحمة لهم، والعفو عنهم، والمغفرة والتجاوزِ والستر والإمهال والحِلم والأناة؛ فكان قيام العالم كله في السماء والأرض بمضمون هذا الكتاب، الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر[5].وقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لما خلق الله الخلق كتب كتابه: إن رحمتي تغلب غضبي))، وفي رواية: ((إن رحمتي سبقت غضبي))[6].
وهذا موافق لقوله – سبحانه -: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12]، وهو - جلَّ ذكره - يكتب على نفسه ما شاء؛ لأنه لا آمر له ولا ناهي يوجب عليه ما يطالبه به، ولكنه – سبحانه - إذا وعد عباده وعدًا أنجزه {وَعْدَ الله لَا يُخْلِفُ اللهُ المِيعَادَ} [الزُّمر: 20]، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} [التوبة: 111].

ومن رحمته - تعالى - أنه يُعيذ من سخطه برضاه، ومن عقوبته بعفوه، ومن نفسه بنفسه.
وخَلْقُ الجنة وما فيها من النعيم المقيم ما هو إلا رحمةٌ منه – سبحانه - بعباده المؤمنين، فبرحمته خلقت، وبرحمته عمرت بأهلها، وبرحمته وصلوا إليها، وبرحمته طاب عيشهم فيها.
روى الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من أحد يُدخله عمله الجنة)). فقيل: "ولا أنت يا رسول الله"؟! قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني ربي برحمة)) وفي رواية: ((إلا أن يتغمدني ربي برحمة منه وفضل))[7].
ومن رحمته - تعالى - أنه ما عذَّب العصاة من عباده إلا بعد أن ابتلاهم، وبيَّن لهم طريق الحقّ فرفضوه، ودلَّهم على الخير فما قبلوه، ولو شاء – سبحانه - لعذَّبهم بلا ابتلاء ولا اختبار، ولو فعل لكان ذلك عدلاً منه؛ لأنه خلقهم ويتصرف فيهم كيف شاء، ولكن رحمته - التي وسعت كل شيء - اقتضت أن يُعْذِرَ إليهم، ويقيمَ الحجة عليهم قبل أن يعذبهم {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].

وآثار رحمة الله - تعالى - على خلقه ليس يحدها الحد، ولا يحصيها العد؛ ففي كل شأن من شؤون الخلق تجد آثارًا لرحمة أرحم الراحمين بهم.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وتأمل قوله - تعالى -: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآَنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ} [الرَّحمن: 1-4]. كيف جعل الخلق والتعليم ناشئًا عن صفة الرحمة، متعلقًا باسم الرحمن، وجعل معاني السورة مرتبطةً بهذا الاسم، وختمها بقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ} [الرَّحمن: 78]، فالاسم الذي تبارك هو الذي افتتح به السورة، وهو اسم "الرحمن" إذ مجئ البركة كلها منه، وبه وضعت البركةُ في كل مبارك... إلى أن قال - رحمه الله -: وإذا أراد الله بأهلِ الأرض خيرًا نشر عليهم أثرًا من آثار اسمه الرحمن، فعمر به البلاد وأحيا به العباد، وإذا أراد بهم شرًّا أمسك عنهم ذلك الأثر، فحلَّ بهم من البلاء بحسـب ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن... وأنت لو تأملت العالم بعين البصيرة لرأيته ممتلئًا بهذه الرحمة الواحدة، التي أنزلها إلى الأرض كامتلاء البحر بمائه، والجو بهوائه، فسبحان أحكمِ الحاكمين وأرحم الراحمين"[8]!!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - بفعل ما أمر، واجتنبوا الفواحش ما بطن منها وما ظهر، واعلموا أن الله شديد العقاب، وأنه غفور رحيم.
أيها المؤمنون: من آثارِ رحمة الله - تعالى - بعباده أن فتح للعصاة منهم أبواب التوبة، فمهما أسرفوا على أنفسهم في الذنوب، ومهما ارتكبوا من الشرك والكفر والعصيان فإنهم إذا تابوا وصدقوا مع الله - تعالى - قَبِل اللهُ توبتهم، وزكى أعمالهم، وعفا عن ماضيهم {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزُّمر: 53].
وروى الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد))[9].

وأحظى الناس برحمة الله - تعالى - أهل طاعته، الذين آمنوا به، وصدقوا رسله، والتزموا شريعته، وجانبوا المعاصي والمحرمات. وإذا تسلط عليهم الشيطان فاستزلهم، وزين لهم المعصية؛ فوقعوا فيها، سرعان ما يرجعون ويتوبون {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ} [آل عمران: 135-136].
وأبعد الناس عن رحمة الله - تعالى - مَن عبدوا غيره، وخضعوا لسواه، وقدموا أهواءهم على شريعته، وارتكبوا مناهيه، وخالفوا أوامره..
وبقدر قرب العبد من الله - تعالى - محبةً، وخوفًا، ورجاءً، وإنابة، والتزامًا بفرائضه يكون قربه من نيل رحمة الله - تعالى – وعفوه. وتبعدُ رحمة الله - تعالى - عن العبد بقدرِ ابتعاده عن شريعته.

فحذارِ أن تغرَّ العبدَ نفسُه فيتَّكل على رحمة الله - تعالى - بلا عمل صالح، فكما أنه – سبحانه - غفور رحيم فهو كذلك شديد العقاب، وسريع العقاب، وعزيز ذو انتقام، وبطشه شديد، وأخذه أليم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 102-103].
أيها الإخوة: ما أحوج المسلمين في هذا العصر إلى النظر بعين الاعتبار واليقين إلى رحمة أرحم الراحمين؛ حيث تكالب الأعداء على دينهم، وأحاطت بهم المشكلات من كل جوانبهم، وعمت الأزمات بلدانهم، وزين لهم شياطين الجن والإنس من قوى ظالمة، ومنافقين موتـورين أنه لا مخرج من هذه الأزمات والمشكلات إلا بتبديل دينهم، وتغيير شريعتهم، واستبدالها بما يرضي الكافرين والمنافقين، وهذا والله هو الابتلاءُ للمؤمنين الصادقين، وهو الفتنة لضعفاء الإيمان واليقين.

فإن ثبت المؤمنون على دينهم، ورفضوا تبديل شريعتهم، وتحملوا تبعات ذلك فإنهم قد أحسنوا، ورحمةُ الله - تعالى - قريب من المحسنين. ومن تزعزع منهم، وتفلت من دينه، وتنازل عن شريعة ربه؛ فإنه يضر نفسه ولا يضر الله شيئًا، وكيف يطلب رحمة الله - تعالى - من غيَّر دينه، وترك شريعته؟!
ومن رحمة الله - تعالى - بعباده المؤمنين أنه يثبتهم في الابتلاءات، ويربط على قلوبهم، ويقوي نفوسهم. وكلما زاد الظالمون في ابتلائهم ومحاولة فتنتهم لَـحَظَ المؤمنون رحمة الله - تعالى - فطمعوا فيها، فثبتوا وتحملوا ألوان الأذى والعذاب؛ كما ثبت سحرة فرعون على إيمانهم لما هددهم فرعون بقوله: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 71-73].

لقد ذهبوا وذهب فرعون وجنده، وبقي ثباتهم على الحق مكتوبًا في صحائفهم؛ ليكون سببًا لرحمة الله - تعالى - لهم في قبورهم وفي آخرتهم، وما نفع فرعونَ كفرُه وعلوُّه وجبروته؛ بل كان سببًا في بعده عن رحمة أرحم الراحمين، فغضب الله عليه، وعذبه في قبره قبل نشره، ولعذاب الآخرة أخزى {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} [غافر: 46].
ألا وصلُّوا وسلموا على خير خلق الله كما أمركم بذلك ربكم.
[1] "بدائع الفوائد" (1/28)، وشرح نونية ابن القيم (1/14) وأيضاً (2/37).
[2] انظر: "النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى" لمحمد النجدي (1/77).
[3] انظر: "مختصر الصواعق المرسلة" (2/303 ـ 304).
[4] أخرجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - البخاري في التوحيد باب: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]. (7404)، ومسلم في التوبة باب: سعة رحمة الله – تعالى - وأنها تغلب غضبه (2715 ـ 2725)، وأخرجه من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - مسلم (2735)، وهذه الروايات كلها لمسلم.
[5] "مختصر الصواعق المرسلة" (2/303 ـ 304).
[6] نفس الحديث المخرج في هامش (4) بلفظ آخر.
[7] أخرجه البخاري في المرضى باب: تمني المريض الموت (5673)، ومسلم في صفات المنافقين باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله؛ بل برحمة الله – تعالى - (2816)، والرواية الأولى لمسلم، والثانية للبخاري.
[8] "مختصر الصواعق المرسلة" (2/304-305).
[9] أخرجه البخاري في الرقائق باب الرجاء مع الخوف (6469)، ومسلم في التوبة باب في سعة رحمة الله – تعالى - وأنها تغلب غضبه (2755)، واللفظ لمسلم.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رحمة الله تعالى
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  سعة رحمة الله تعالى بعباده
» ما حكم قول:السلام عليكم و رحمة الله (تعالى)و بركاته؟؟
» جزاء معاداة أولياء الله تعالى و أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى
» شرح الحديث الشريف علامات حب الله تعالى للعبد وعلامات حب العبد لله تعالى
» علامات حب الله تعالى للعبد, وعلامات حب العبد لله تعالى

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: