اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 فن الإلقاء المؤثر من الكتاب والسنة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99315
فن الإلقاء المؤثر من الكتاب والسنة Oooo14
فن الإلقاء المؤثر من الكتاب والسنة User_o10

فن الإلقاء المؤثر من الكتاب والسنة Empty
مُساهمةموضوع: فن الإلقاء المؤثر من الكتاب والسنة   فن الإلقاء المؤثر من الكتاب والسنة Emptyالأحد 2 يونيو 2013 - 16:11

فن الإلقاء المؤثر من الكتاب والسنة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].

أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إنَّ مِمَّا يلفت الانتباه هذه الأيام - ولله الحمد والمنَّة - هو كثرة الدُّعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وتنوُّع أساليبهم في الدَّعوة إليه، إلاَّ أن إلقاء المحاضرات والدروس والخطب والكلمات يبقى من أكثر الأساليب استخدامًا، ولقد لمستُ حاجة هؤلاء الدُّعاة إلى الإلمام بفنِّ الإلقاء وطرقه وأساليبه؛ ليكون إلقاؤهم أكثر جاذبية، وتكون كلماتهم أوْقَع في القلوب، فتؤتِي أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذن ربِّها، لذا؛ فقد أحببت أن أساهم بمحاولة متواضعة لسدِّ جزءٍ من هذه الحاجة، وقد وفَّقني الله تعالى لإعداد هذه الرِّسالة المقتَضبة جدًّا؛ لتكون نواة لعمل آخَر يكون أكثر إسهابًا وتفصيلاً، فما كان فيها من صوابٍ فمن الله وحده، وما كان فيها من خطأٍ فمن نفسي والشيطان، واللهَ أسألُ أن ينفع بها كاتبها وقارئها، وأن يجعلها خالصةً لوجهه الكريم.


تمهيد
تعريف الإلقاء وأنواعه:
تعتبر كل محادثة بين اثنين فأكثر نوعٌ من أنواع الإلقاء، ولقد صُنِّفَ الإلقاء إلى ثلاثة أنواع:
1- فرديٌّ؛ أي: تتحدَّث مع شخص واحد فقط.
2- لمجموعة صغيرة، كما هو الحال في الدُّروس المنهجيَّة في المدارس والمساجد ونحوها.
3- لمجموعة كبيرة، كما هو الحال في الخطب والمحاضرات العامة ونحوها.
ولعل ما يهمُّنا في هذه الرسالة هو النوع الثاني والثالث؛ لكونهما يمثِّلان جلَّ مجالات الإلقاء المنظَّم، ولأنَّ القصور - غالبًا - ما يقع فيهما دون سواهما.

مجالات الإلقاء:
إن مجالات الإلقاء كثيرةٌ جدًّا ويصعب حصرها، ولعل من أبرز أمثلتها: خطبة الجمعة، والدروس المنهجيَّة؛ سواء في المدارس أو في المساجد، والمحاضرات العامة على تنوُّع موضوعاتها، والمواعظ، والمناسبات العامة، والاحتفالات، والمؤتمرات، والبرامج الإذاعيَّة والتِّلفازيَّة... وغيرها.

عناصر الإلقاء:
كل عملية إلقاء لابدَّ لها من ستة عناصر أو أركان، ينبغي مراعاتها إذا ما أُريدَ لها النجاح، وهذه العناصر هي:-
1- المصدر: وهو المُلقِي، فلابدَّ أن يُلِمَّ بقواعد الإلقاء؛ ليكون إلقاؤه مؤثِّرًا.
2- المُستقبِل: وهو المستمع؛ فلابدَّ من التعرُّف على صفاته الشخصية؛ كعمره، ومستواه العلمي، ومستواه المعيشي، وعاداته وتقاليده وغيرها، وذلك لاختيار ما يناسبه من المواضيع، ومن طرق ووسائل وأساليب الإلقاء.
3- الرِّسالة: وهي الموضوع؛ فلابد من إتقان تحضيره، ومراعاة كوْنه مناسبًا للمستمعين وضمن دائرة اهتماماتهم.
4- القناة: وهي وسائل وأساليب الإلقاء، وأعني بها: الطبق الذي سيُقدَّم به الإلقاء، فقد يكون عن طريق إلقاء محاضرة من جانب واحد فقط، وقد يكون على شكل حَلْقَة نقاش، يشارك فيها المستمعون بآرائهم ومقترحاتهم وأسئلتهم، وقد تُستَخدم فيه (السَّبورة) أو عارضة الشرائح أو الشفافيات أو (الفيديو)، أو غيرها، وذلك لضمان فاعلية الإلقاء واستفادة المستمعين.
5- استِجابة الجمهور: وأعني بِها مدى استفادة الجمهور من الموضوع الذي أُلقِيَ عليهم، إذ إن العناصر السابقة مهما كان الاهتمام بِها ومَهْما رُوعِيَت؛ فإنه لا يكون لها أدنى فائدة إذا لم يَنْتُجْ عنها استفادة المستمعين، لذا كان لابدَّ من التأكُّد من استجابة الجمهور، وذلك عن طريق فتح المجال لأسئلتهم، وإلقاء الأسئلة عليهم، واستِقْبال أجوبتهم، أو عن طريق الأسئلة المكتوبة؛ كالاختبار في نهاية الدرس أو بعد مجموعة من الدروس أو المحاضرات ... ونحو ذلك.
6- المؤثِّرات الخارجية: كضِيق المكان، وحرارة الجوِّ، وضعف الإضاءة، وكثرة الضَّوضاء الخارجيَّة ... ونحوه، فلو أنَّ جميع العناصر السابقة قد رُوعِيَتْ بدقَّةٍ إلاَّ أن مكان الدرس أو المحاضرة كان شديد الحرارة لتعطُّل أجهزة التكييف – مثلاً - فإنَّ المتوقَّع هو عدم استفادة المستمعين، لذا كان من المهمِّ جدًّا التأكُّد من عدم وجود أي مؤثِّرات خارجية تؤثِّر سَلْبًا على عملية الإلقاء.
وسنعرض في هذه الرسالة للعنصر الأول بشيءٍ من التفصيل، ولبقية العناصر بشكلٍ مُجْمَل.

أهداف الإلقاء:
لابدَّ لكلِّ عملٍ من هدف وإلا كان هذا العمل فاشلاً، يتخبَّط فيه صاحبه يَمنَةً ويَسْرَةً ولا يصل إلى شيء، ولابدَّ لهذا الهدف من أن يكون واضحًا يمكن تحقيقه.
وبشكل عام؛ فإن أهداف الإلقاء لا تخرج عن هذه الأهداف العامة التالية:-
1- زيادة العلم والمعرفة: مثال ذلك أن تُلقِي محاضرةً للتَّعريف ببلد معيَّن أو إنسان معين أو مبدأ معين ... أو نحو ذلك.
2- تعزيز وجهات النَّظر السليمة: مثال ذلك أن تُلقِي محاضرة على جمع من المسلمين المصلِّين عن فضائل الصَّلاة؛ لتزيدهم محبَّةً للصَّلاة وتمسُّكًا بها.
3- تغيير وجهات النَّظر الخاطئة: مثال ذلك أن تلقي محاضرة على جمع من الناس يعتقدون بجواز تطبيق القوانين الوضعيَّة في ديار الإسلام؛ لإقناعهم بعدم جواز ذلك.
4- تعزيز السُّلوك العَمَلِي السليم: مثال ذلك أن تُلقِي محاضرةً على جَمْعٍ من المحافِظين على صلاة الجماعة، عن فضل المحافظة عليها؛ لتعزِّز فيهم هذا المَسْلَك.
5- تغيير السلوك العملي الخاطئ، وتبنِّي السلوك السليم: مثال ذلك أن تُلقِي محاضرةً على جَمْعٍ من المدخِّنين، عن حُرْمَة التدخين وأضراره؛ ليكفُّوا عنه.
والحقيقة أنه بالرغم من أهمية جميع الأهداف المذكورة إلاَّ أن الهدف الأخير يعتبر من أهمها ومن أصعبها تحقيقًا، ذلك لأنه يتطلَّب تَرْكَ ما اعتاده الإنسان لزمن طويل، وما يكون قد ورثه عن آبائه وأجداده، فيعزُّ عليه تَرْكُه، كما أن السلوك الخاطئ - غالبًا - ما يكون موافقًا للهوى والشهوة، وفي تغييره وتبنِّي السلوك السليم مشقَّةٌ وتَبِعاتٌ ثقيلة، ولقد أخبر الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ذلك؛ حيث قال: ((حُفَّتِ النار بالشَّهوات، وحُفَّتِ الجنة بالمكارِه))؛ (صحيح الجامع: 3142).
لذا فسوف نتحدَّث في الفصل القادم عن مراحل التغيير، التي غالبًا ما يتنقَّل فيها كل مَنْ أراد أن يغير سلوكًا خاطئًا إلى آخَر سليم.

مراحل التغيير:
إن تغيير السلوك الخاطئ إلى آخَر صحيح لا يمكن أن يتحقَّق إلا إذا شاء الله ذلك وأراده؛ حيث يقول سبحانه وتعالى مخاطبًا نبيَّه محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم -: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].
ويقول في موضعٍ آخَر على لسان نبيِّه نوح - عليه السَّلام -: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود: 34].
إن هذا التغيير لا يأتي في الغالب فجأةً بدون مقدِّمات، ولا دفعةً واحدةً بدون تدرُّج؛ بل لابدَّ للإنسان من الانتقال عبر عدَّة مراحل حتى يبلغ حدَّ التغيير؛ لذا كان لزامًا على المُلقِي أن يراعي جميع هذه المراحل قبل إلقائه وأثنائه وبعده.

وهذه المراحل غالبًا ما تكون مُرَتَّبة على النحو التالي:-
1- العلم والإدراك:
إنَّ أوَّل مرحلة - وأهم مرحلة - من مراحل التغيير هي مرحلة العلم والإدراك؛ فإن الإنسان عدوُّ ما يجهل، ومَنْ أراد أن يجيد صنعةً فلابد أن يتعلَّمها، وإلاَّ ذهب يتخبَّط فلا يهتدي إلى شيء.
لذا فإنه من أهم واجبات الدَّاعية إلى الله سبحانه هو تعليم الناس العلم النافع الذي يُثمِر - بإذن الله - عملاً صالحًا؛ يقول تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]، ويقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]، فإن الله قد بعث رسوله إلى الناس تاليًا لآياته عليهم، مبلِّغًا إيَّاهم ما بعثه الله به من الهدى، ومعلِّمًا إياهم العلم الإلهي النافع، وبعد ذلك هم يختارون إما الاتِّباع وإما الإعراض والامتناع.

ويقول - جلَّ مِنْ قائل - في موضع آخر: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 24]؛ أي إنهم لو علِموا الحقَّ لكان أحْرَى بِهم أن يتَّبعوه، ويقول تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، وهذا يعني العلم أولاً ثم العمل.
وفي الآية الأخرى يقول تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39]؛ فهذه الآية تبيِّن أن سبب التكذيب هو عدم كمال العلم بالمكذَّب به، وبالتالي فإنه يُفهم منها بأن كمال العلم بالشيء شرطٌ لقبوله والأخذ به.


لذا فإننا نجد آياتٍ وأحاديثَ كثيرةً تحثُّ على تبليغ العلم للناس؛ لأنَّ ذلك هو نقطة البدء والانطلاق للتغيير.
ومن هذه الآيات قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، وقوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104].
ومن الأحاديث قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((بلِّغوا عنِّي ولو آية))؛ "صحيح الجامع" (2834)، ويقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خيركم مَنْ تعلَّم القرآن وعلَّمه))؛ "صحيح الجامع" (3314)، ويقول - عليه الصَّلاة والسَّلام- أيضًا: ((إن الله وملائكته، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر - لَيُصَلُّون على معلِّم الناس الخير))؛ "صحيح الجامع" (1834).
إن تبليغ العلم إلى الناس له وسائل كثيرة ومتنوِّعة، ولعل من أهمها وأكثرها استعمالاً هو توصيل العلم عبر الكلمة المسموعة، أو بمعنى آخر: عن طريق الإلقاء، لذا كان لزامًا على كل داعية أن يجيد فنَّ الإلقاء.

2- محبة ما عَلِمه والاهتمام به:
إذ إن الإنسان إذا بلغه علمٌ معيَّنٌ ينبئه بأنَّ السلوك الذي يمارسه خطأٌ وفيه ضرر عليه؛ فإنه ليس بالضرورة أن يبادِر بتَرْك ذلك السلوك الخاطئ، وإنما يكون حاله بين أمرَيْن اثنين لا ثالث لهما: فإما أن يحبَّ ذلك الأمر، ويهتمَّ به، ويبحث فيه، ومن ثَمَّ يتدرَّج إلى تَرْك ذلك السلوك الخاطئ، وإما أن يكره ذلك الأمر الذي أُبْلِغ به ولا يقبله، وذلك لأسباب عديدة، ولعلَّ منها عدم فهمه لذلك الأمر أو عدم قناعته به، أو محبته لِما كان يُمارِسه من سلوك خاطئ وتعوُّده عليه، ونحو ذلك؛ فتكون النتيجة أن يَمكث على سلوكه الخاطئ ولا يغيِّره.

يقول تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70]، فبالرغم من صدق ما بلَّغهم به المرسلون - عليهم السَّلام - وأنَّ الخير كلَّ الخير فيه، إلا أنَّ أنفسهم لم تهوَ ما بُلِّغوا به؛ فكانت النتيجة أن كذَّبوهم ولم يقبلوا ما جاؤوا به؛ بل قتلوهم - قاتلهم الله.
وفي موضعٍ آخَر يقول الله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113-114]؛ فإن شياطين الإنس والجن عندما أوحى بعضهم إلى بعضٍ القولَ الباطل المزخرَف المزيَّن، كان من نتيجة ذلك أن تميل إليه قلوب الكافرين بالآخِرة، ويستقبلونه بالمحبة والرِّضا، ومن ثَمَّ يُسْفِر ذلك عن العمل والسلوك الفاسد، وذلك بأن يقترفوا ما هم مقترفون، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] .

وفي موضعٍ آخَر يقول الله - جلَّ مِنْ قائل -: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7]، وكفى بهذه الآيات دليلاً على أهمية هذه المرحلة من مراحل التغيير.
وهكذا فإنَّ على المُلقِي ألاَّ يدَّخر وُسْعًا في تحبيب موضوع إلقائه للمستمعين؛ ليضمن انتقال المستمع من مرحلة العلم والإدراك إلى هذه المرحلة إذا شاء الله لهذا المستمع هدايةً وتوفيقًا.


3- التَّقييم و الموازنة الفكرية:
فإن الإنسان إذا علم شيئًا وأدرك أنه الحقُّ، ثم أحبَّه واهتمَّ به؛ فإنه ليس بالضرورة أن يتبنَّى السلوك الذي يدعو إليه ذلك العلم؛ بل لابدَّ له وأن يَخْضَع لمرحلة الموازنة بين المصالح والخسائر التي سيجنيها من وراء تَبَنِّيه لذلك السلوك، سواء أكانت أُخْرَوِيَّة أم دنيويَّة، فإن ترجَّح لديه جانب المصلحة عمل بذلك السلوك، وإلاَّ تركه.
والناس يتفاوتون في ذلك تفاوتًا عظيمًا؛ فمنهم من يُقَدِّم المصلحة الأُخرويَّة الآجِلة على الدُّنيويَّة العاجلة، مهما كانت خسائره المادية، ومنهم مَنْ يفعل العكس؛ فيُقَدِّم المصلحة الدُّنيويَّة الفانية على الأُخرويَّة الباقية.

ففي كتاب الله آياتٌ كثيرةٌ تتحدَّث عن حال الناس في هذه المرحلة، منها قول الله تعالى عن أهل الكتاب: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 20]، ومنها قوله - جلَّ وعلا - في حقِّ آل فرعون: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 13-14].

ولعل من أمثلة ذلك في السنَّة الشريفة: قصة أبي طالب عمِّ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث إنه ناصَر دعوة ابن أخيه محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأقرَّ بصحَّة دين الإسلام؛ حيث قال مُنشِدًا:
وَاللهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ أَبْشِرْ وَقَرَّ بِذَاكَ مِنْكَ عُيُونَا
وَدَعَوْتَنِي وَعَرَفْتُ أَنَّكَ نَاصِحِي وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِينَا
وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَرَفْتُ بِأَنَّهُ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلا المَلامَةَ أَوْ حِذَارَ مَسَبَّةٍ لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينًا
فبالرغم من ذلك لم يُسلم، حتى وهو على فراش الموت، ومات وهو يقول: "على ملَّة عبد المطَّلب"، والنبيُّ الدَّاعية الأعظم - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين يديه ويقول له: ((يا عمِّ، قُلْ: لا إله إلاَّ الله، كلمة أشفع لكَ بها عند الله))؛ رواه البخاريُّ ومسلمٌ.

ومثال آخَر من السُّنة: هو ما رواه البخاريُّ في "صحيحه" عن الزهري قال: أخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، أنَّ عبدالله بن عباس أخبره، أن أبا سفيان بن حرب – رضي الله عنهم جميعًا – أخبره: أن هِرَقْل أرسل إليه في ركبٍ من قريش، وكانوا تجارًا بالشام في المدَّة – أي: صلح الحديبية - التي كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيُّكم أقرب نَسَبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبيٌّ؟ فقال أبو سفيان: فقلتُ: أنا أقربهم نَسَبًا؛ فقال: أدنوه منِّي، وقرِّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائلٌ هذا الرجل؛ فإن كذَبني فكذِّبوه، فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا عليَّ كذبًا لكذبتُ عنده.

ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نَسَبُهُ فيكم؟ قلتُ: هو فينا ذو نَسَبٍ.
قال: فهل قال هذا القول منكم أحدٌ قطُّ قبله؟ قلتُ: لا.
قال: فهل كان من آبائه من مَلِكٍ؟ قلتُ: لا.
قال: فأشرافُ الناس يتَّبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلتُ: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلتُ: بل يزيدون.
قال: فهل يرتدُّ أحدٌ منهم سَخْطَةً لِدينِه بعد أن يدخل فيه؟ قلتُ: لا.
قال: فهل كنتم تتَّهِمُونَه بِالكَذِب قبل أن يقول ما قال؟ قلتُ: لا.
قال: فهل يغدر؟ قلتُ: لا، ونحن في مدَّةٍ لا ندري ما هو فاعلٌ فيها.
قال – أي: أبو سفيان - ولم تُمكِنِّي كلمة أُدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة.

قال: فهل قاتلتموه؟ قلتُ: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إيَّاه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجالٌ، ينال منَّا وننال منه.
قال: ماذا يأمركم؟ قلتُ: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصَّلاة والصِّدق والعفاف والصِّلَة.
فقال للترجمان: قل له:
سألتك عن نسبه فذكرتَ أنه فيكم ذو نَسَبٍ؛ فكذلك الرُّسل تُرسَل في نَسَبِ قومها.
وسألتك: هل قال أحدٌ منكم هذا القول؟ فذكرتَ أن لا، فقلتُ: لو كان أحدٌ قال هذا القول قبله لقلتُ: رجلٌ يأتي بقولٍ قيل قبله.
وسألتكَ: هل كان من آبائه من مَلِك؟ فذكرتَ أن لا، قلتُ: فلو كان من آبائه من مَلِكٍ قلتُ رجلٌ يطلب مُلْكَ أبيه.
وسألتكَ: هل كنتم تتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرتَ أن لا؛ فقد أعرف أنه لم يكن ليَذَرَ الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتكَ: أشرافُ الناس اتَّبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أنَّ ضعفاءهم اتَّبعوه، وهم أتباع الرُّسل.
وسألتكَ: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرتَ أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتمَّ.

وسألتكَ: أيرتدُّ أحدٌ سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرتَ أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتكَ: هل يغدر؟ فذكرتَ أن لا، وكذلك الرُّسل لا تغدر.
وسألتُك: بم يأمركم؟ فذكرتَ أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصَّلاة والصِّدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًّا؛ فسيملِك موضع قدميَّ هاتين!! وقد كنتُ أعلم أنه خارجٌ، لم أكن أظنُّ أنه منكم، فلو أعلم أني أَخْلُصُ إليه لتجشَّمْتُ لقاءه، ولو كنتُ عنده لغسلتُ عن قدمه!!.

ثم دعا بكتاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي بعث به دِحْيَةَ إلى عظيم بُصْرَى، فدفعه إلى هِرَقْل، فقرأه، فإذا فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم،،
من محمد عبد الله ورسوله إلى هِرَقْل عظيم الروم،،،
سلامٌ على مَنِ اتَّبع الهدى، أمَّا بعد:
فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أَسْلِم تَسْلَم، يؤتِكَ الله أجركَ مرَّتين، فإن تولَّيْت فإنَّ عليك إثم الأريسيين.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]".

قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كَثُرَ عنده الصَّخَب، وارتفعت الأصوات، وأُخرجنا؛ فقلت لأصحابي حين أخرجنا: "لقد أَمِرَ أَمرُ ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر"، فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.
"وكان ابن الناطور- صاحب إيلياء - وهِرَقْل أسْقَفَه على نصارى الشام، يحدِّث أن هِرَقْل حين قدم إيلياء أصبح يومًا خبيث النفس؛ فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك - قال ابن الناطور: وكان هِرَقْل حزَّاءً؛ أي: كاهنًا ينظر في النجوم - فقال لهم حين سألوه: إني رأيتُ الليلة حين نظرت في النجوم ملَكَ الخِتان قد ظهر، فمَنْ يَخْتَتِنُ من هذه الأمَّة؟ قالوا: ليس يَخْتَتِنُ إلاَّ اليهود؛ فلا يُهِمَّنَّك شأنهم، واكتب إلى مدائن مُلْكِكَ فيقتلوا مَنْ فيهم من اليهود.
فبينما هم على أمرهم؛ أُتِي هِرَقْل برجلٍ أرسل به ملك غسَّان يُخبِر عن خبر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلما استخبره هِرَقْل قال: اذهبوا فانظروا: أَمُخْتَتِنٌ هو أم لا؟ فنظروا إليه، فحدثوه أنه مُخْتَتِنٌ، وسأله عن العرب فقال: هم يَخْتَتِنُون؛ فقال هِرَقْل: هذا مَلِك هذه الأمَّة قد ظهر.

ثم كتب هِرَقْل إلى صاحب له بروميَّة، وكان نظيره في العلم، وسار هِرَقْل إلى حِمْص، فلم يرِمْ حِمْصَ حتى أتاه كتابٌ من صاحبه يوافق رأي هِرَقْل على خروج النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنه نبيٌّ.
فأذن هِرَقْل لعظماء الروم في دَسْكَرَةٍ – أي: قصرٍ - له بحِمْص، ثم أمر بأبوابها فغُلِّقَت، ثم اطَّلَعَ فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبُت مُلْكُكم فتُبايعوا هذا النبيَّ؟ فحاصوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْش إلى الأبواب، فوجدوها قد غُلِّقَت، فلما رأى هِرَقْل نَفْرَتَهم وأَيِسَ من الإيمان قال: ردُّوهم عليَّ، وقال: إني قلتُ مقالتي آنفًا أختبر بها شدَّتكم على دينكم؛ فقد رأيتُ.
فسجدوا له ورضوا عنه؛ فكان ذلك آخِر شأنَ هِرَقْل".
رواه صالح بن كَيْسان ويونس ومَعْمَر عن الزُّهري؛ رواه البخاريُّ.

4- التَّجرِبة و المحاولة العملية:
بعد الموازنة الفكرية وترجيح المصالح على الخسائر، والاقتناع بهَجْر السلوك الخاطئ وتبنِّي السلوك الصحيح، تبرز مرحلة مهمة من مراحل التغيير، ألا وهي مرحلة التجربة العملية لممارسة السلوك الصحيح.
وهذه المرحلة تعتبر من أخطر المراحل؛ حيث إن العلم النظري شيءٌ والتطبيق العملي شيءٌ آخَر، وقد تواجه الإنسان في هذه المرحلة صعوبات كثيرة لم يكن يحسب لها حسابًا؛ فقد تكون ممارسة السلوك القويم أمرٌ شاقٌّ ومكلِّفٌ، وبالذات لشخص لم يتعوَّد عليه، كما أن انتقادات المنحرفين ممَّن حوله له وسخريتهم به قد تشكِّل عائقًا دون ثباته على ذلك السلوك؛ لذا كان واجبًا على الدَّاعية أن يبصِّر مَنْ يدعوهم إلى خطورة هذه المرحلة وكيفية التغلُّب على مصاعبها، كما وعليه أن يكتنف مَنْ يعيش هذه المرحلة ويؤازره حتى يثبت على السلوك القويم، ولا يكتفي فقط بإلقاء المحاضرة أو الدرس ثم الخلود إلى الراحة.

إن آيات القرآن التي تبصِّر الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصَحْبَه الكرام بما سَيَعْرِضُ لهم من مشاقَّ وصعابٍ في مسيرة الدَّعوة كثيرةٌ ولا تُحصى، فما قَصَص الأنبياء في القرآن إلا من هذا القبيل؛ حيث يقول جلَّ مِنْ قائلٍ في أواخر سورة هود، بعد أن قصَّ على نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قصصَ الأمم السابقة وتكذيبهم لأنبيائهم وما نزل بهم من العذاب: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].

ومن الأحاديث ذات الدلالة على تثبيت الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأصحابه حديث خَبَّاب بن الأَرَتِّ في "صحيح البخاري"؛ حيث قال: شكونا إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو متوسِّدٌ بُرْدَةً له في ظلِّ الكعبة، قلنا له: ألا تستنصرْ لنا، ألا تدعو لنا؟ قال: ((كان الرجل قبلكم يؤخَذ فيُحفَر له في الأرض فيجعل فيه، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُشقُّ باثنتَيْن، وما يصدُّه ذلك عن دينه، ويمُشْطَ بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عَصَبٍ، وما يصدُّه ذلك عن دينه! والله لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الرَّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))؛ (صحيح الجامع: 4326).

5- تبنِّي السُّلوك القويم و الثَّبات عليه:
إن هذه المرحلة تعتمد اعتمادًا كبيرًا على المرحلة السابقة، فهي نتيجة متوقَّعة لتجاوز المرحلة السابقة، ومع ذلك فإن الثبات على السلوك الصحيح يحتاج إلى مزيد من المتابعة والتَّعزيز من قِبَل الدَّاعية؛ فإنه لا يؤمَن على الإنسان من الكسل والفتور، والمتأمِّل في كتاب الله تعالى يجد أن آيات الله لم تَكُفَّ عن دعوة المؤمنين للإيمان وتحذيرهم من الشِّرك ومن المعاصي، وذلك بعد أن حقَّقوا الإيمان في أنفسهم وأهليهم ومجتمعهم، وبعد أن جادوا بأرواحهم رخيصةً في سبيل الله.

ففي سورة الحديد يخاطب الله المؤمنين وهم في دار الهجرة، بعد أكثر من ثلاث عشرة سنة من البَعثة، وبعد أن خاضوا غزوةَ بدرٍ الكبرى، يقول لهم: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].
وفي سورة الحشر يأمر الله المؤمنين بالتقوى؛ فيقول جلَّ مِنْ قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 18-19] .

وفي سورة النساء يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا} [النساء: 136].

كيف يكون إلقاؤك مؤثرًا؟
أولاً:- أسسٌ لابدَّ منها:-
1-الإخلاص لله تعالى:
يقول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]، ويقول - جلَّ مِنْ قائل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} [الأحزاب: 70]، فأمر سبحانه بتقواه أولاً، ثم القول السَّديد المستقيم الموافِق لهَدْي المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى، فمَنْ كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومَنْ كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه))؛ رواه البخاريُّ.

فما كان الله ليبارك في عملٍ لم يُرِدْ به صاحبه وجه الله؛ ففي الحديث القدسي يقول الله سبحانه وتعالى: ((أنا أغنى الشُّركاء عن الشِّرك، مَنْ عمل عملاً أشرك معي فيه غيري؛ تركتُه وشركه))؛ (صححه الألباني في صحيح الجامع برقم 4189).
وروى مسلم أيضًا في "صحيحه" حديث الثلاثة الذين هم أوَّل مَنْ تُسَعَّر بهم النار: ((المقاتل ليُقال جريءٌ، والمعلِّم ليُقال عالمٌ، والمتصدِّق ليُقال جوادٌ))؛ (رواه مسلم: 6/47).
وكما أُثِرَ عن سلفنا الصالح أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه تعالى وموافقا لسنَّة نبيِّه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم.

2- اتِّباع هدي النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كلامه وخطبه وأحاديثه:
هذا هو الشرط الثاني من شروط قبول العمل، ولا ريب أن عملاً لا يقبله الله لا يمكن أن يكون مؤثِّرًا في الناس تأثيرًا يرضاه الله، كما أن الله قد علَّم نبيَّه أفضل الطرائق والأساليب لدعوة الناس إلى دين الإسلام؛ فهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - خير متبوعٍ في هذا الأمر وفي كل أمر.
يقول الله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، ويقول تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، ويقول جلَّ وعلا: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52-53]، ويقول النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تركتُ فيكم شيئَيْن لن تضلُّوا بعدهما: كتاب الله وسنَّتي))؛ صحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" برقم2934، ويقول: ((إن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أفضل الهدي هدي محمد، وشرُّ الأمور محدثاتها))؛ "صحيح الجامع" برقم 1365، ويقول أيضًا: ((مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ))؛ "صحيح الجامع" 6274.

3- القدوة:
إن كلامك لن يكون مقبولاً إلا إذا صدَّق فعلُك قولَك، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]، ويقول سبحانه على لسان شعيب - عليه السَّلام -: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]، ويقول أيضًا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] .
وتقول عائشة - رضي الله عنها - عندما سُئلت عن خُلُق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كان خُلُقُه القرآن))؛ "صحيح الجامع" 4687.
فلقد كان - صلوات ربِّي وسلامه عليه - يدعو الناس للعمل بالقرآن وكان هو أوَّل من يتخلَّق بأخلاق القرآن، فهذا الذي ينبغي أن يكون عليه الدُّعاة المخلِصون.

4-وضوح اللغة:
يجب أن يكون الإلقاء باللغة التي تناسب المستمعين فبالنسبة لنا نحن العرب يجب أن يكون إلقاؤنا باللغة العربية الفصحى، مع ضرورة تجنب اللَّهجات الدَّارجة إلا في أضيق الحدود.
يقول الله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، ويقول: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192-195]، ويقول جلَّ مِنْ قائل: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 44].
إن مراعاة النُّطق السليم وقواعد اللغة له أكبر الأثر في تقبُّل الجمهور لما يُلقَى إليهم، كما أنَّ استخدام المحسِّنات البديعيَّة دونَما مُبالغةٍ يُضفِي على الإلقاء جمالاً وقَبولاً لدى المستمعين.

5- التوقيت المناسب:
يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا))؛ أي: كان يراعي الأوقات في تذكيرنا، كما نقله ابن حجر - رحمه الله - في "الفتح" عن الخطَّابي "فتح الباري" (1/68).
فهذا يتضمَّن اختيار الوقت المناسب للمحاضرة ابتداءً، كما يتضمَّن عدم الإكثار في عدد مرات الإلقاء، ومراعاة الفارق الزمني بين كلِّ محاضرةٍ وأخرى.
أما بالنسبة لطول المحاضرة؛ فهو أمرٌ في منتهى الأهميَّة؛ حيث ينبغي مراعاة الحال سواء بالنسبة لنوعية الإلقاء أو نوعية المكان أو نوعية المستمعين.
وعلى كلِّ حالٍ؛ فإن الأصل هو عدم الإطالة والالتزام بوقت محدد، مما يضمن عدم تسرُّب الملل إلى المستمعين، ولعل المتخصِّصين في مجال التربية والتعليم يحبِّذون ألاَّ تطول المحاضرة أو الدرس أكثر من (45) دقيقة.

6- الوسائل المناسبة:
السبورة - الشفافيات - الشرائح – (الفيديو) – الحاسب الآلي ... الخ، مما يساعد على توضيح المعاني، ويؤدِّي إلى جذب انتباه المستمعين.
ولعلَّ لاستخدام هذه الوسائل التعليمية أصلاً في الشريعة؛ حيث ثبت في "صحيح البخاري" أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - خطَّ خطًّا مربَّعًا، وخطَّ خطًّا في الوسط خارجًا منه، وخطَّ خُطُطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: ((هذا الإنسان؛ وهذا أَجَلُه محيطٌ به – أو: قد أحاط به - وهذا الذي هو خارجٌ أمله، وهذه الخُطُط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وان أخطأه هذا نهشه هذا))؛ "فتح الباري" (11/ 6417).


7- تنويع الأساليب:
كالتقرير والاستفهام والتعجُّب، وكضرب الأمثال وقَصِّ القَصص، وغيرها مما يكثر استعماله في القرآن والسنَّة المطهرة.
كما أن من أعظم الأساليب المؤثِّرة في المستمعين هو الاستدلال على أقوالك بنصوص القرآن وأحاديث المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

8- مراعاة حاجة المستمعين للموضوع:
فهذا هو القرآن يتنزَّل في مكة ثلاث عشرة سنة، لا يحدِّثهم - في الأعمِّ الأغلب - إلا في موضوع العقيدة؛ لحاجة المسلمين الجُدُد لهذا الموضوع دونما سواه، كما أن القرآن كان يتنزَّل طيلة حياة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعالج المواقف والوقائع التي كانت تقع آنذاك، وهذا هو الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يستغل وقوع الحوادث والمناسبات ليحدِّثهم عنها، كما حدث عند كسوف الشمس في عهده، وعند خوض نفرٍ من المسلمين في حادثة الإفك، وغير ذلك كثيرٌ.

9- مشاركة الجمهور:
وذلك عن طريق إلقاء الأسئلة عليهم واستقبالها منهم؛ ففي خطبة الوداع يسأل الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابه فيقول: ((أتدرون أيُّ يومٍ هذا؟ ...)) الخ الحديث؛ "فتح الباري" (1/67).
ويسألهم في حديث آخَر فيقول: ((أتدرون مَنِ المُفْلِس؟ ...)) الخ الحديث "ترتيب أحاديث صحيح الجامع" (3/117).
كما كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يستقبل الأسئلة منهم؛ حيث ورد في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قاربوا وسدِّدوا وأبشروا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله))، قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمةٍ منه وفضلٍ))؛ "صحيح الجامع" (4173).

وفي الحديث الآخر المتَّفق عليه، يقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بينما رجل يمشي بطريقٍ اشتدَّ عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث، يأكل الثَّرى من العطش! فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ منِّي، فنزل البئر، فملأ خفَّه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رَقِيَ، فسقى الكلب، فشكر الله، له فغفر له))، قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: ((في كلِّ كبدٍ رَطْبَةٍ أجرٌ))؛ "صحيح الجامع" (2870).

10- ابدأ بالمعلوم ثم انتقل للمجهول:
من ذلك ضرب الأمثلة، وهو كثيرٌ في القرآن والسنَّة؛ ففي القرآن يقول تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
أما من السُّنة؛ ففي خطبة الوداع بدأ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بتقرير حرمة اليوم والشهر والبلد، وهي أمورٌ معلومةٌ لأصحابه، ثم انتقل إلى ما قد يجهلونه، وهو أن دماءهم وأموالهم حرامٌ عليهم كحرمة هذه الأمور؛ "فتح الباري" (1/67).

11- تأكَّدْ من الإفهام:
بسؤالهم: هل فهموا؟ قال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في آخر خطبة الوداع: ((ألا هل بلَّغْتُ)) ثلاثًا، حتى قالوا: نعم، فقال: ((اللهمَّ فاشهدْ))؛ "فتح الباري" (1/67).
كما أن توجيه الأسئلة إليهم عن موضوع الإلقاء، سواء شفويًّا أو تحريريًّا بعد نهاية الدرس أو المحاضرة، واستقبال أجوبتهم - ينبئُكَ عن مدى فهمهم للموضوع.

12- تعزيز الفَهْم و التَّحفيز:
بالتكرار، والأسئلة فيما سبق طرحه، والحوافز المادية والمعنوية، والتَّنويع في الوسيلة والأسلوب.


13- التعليم بالتطبيق العملي:
صعِد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - المنبر لتعليم أصحابه الصلاة، وقال – صلوات الله وسلامه عليه -: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي))؛ "إرواء الغليل" (262)، وقال كذلك في الحج: ((خذوا عنِّي مناسككم))، ((لتأخذوا عنِّي مناسككم)) الخ الحديث "ترتيب أحاديث صحيح الجامع الصغير وزياداته" (1/3).

14- مبدأ البذرة والأرض والساقي:
يصوِّر ذلك تصويرًا جميلاً قول المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَثَلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغَيْث الكثير أصاب أرضًا؛ فكان منها نقيَّة قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس فشربوا وسَقَوْا وزرعوا، وأصابت منها طائفةٌ أخرى إنما هي قيعان، لا تُمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مَثَلُ مَنْ فَقِهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِمَ وعلَّم، ومَثَلُ مَنْ لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلْتُ به))؛ "فتح الباري" (1/79).
وهذا يعني أنه لابدَّ من اختيار الأرض الخصبة التي تتقبَّل البذرة وتُنبت بإذن ربها، كما أنه لابدَّ من المتابعة والسَّقي المستمر والصبر على ذلك مهما طال الزمن، وإلا قد تجدب الأرض وتموت البذرة ولا تُثمر الجهود.

15- الرِّفق والرَّحمة والخُلُق الحَسَن:
يقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، ويقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، ويقول سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ما كان الرِّفق في شيءٍ إلاَّ زانه، وما نزع من شيءٍ إلا شانه))؛ رواه مسلم.

وعندما بال الأعرابي في المسجد لم يزجره النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يعنِّفه، وإنما قال له – صلوات ربي وسلامه عليه -: ((إنما جُعِلَ المسجد للصلاة وذِكْر الله، ولا يصلح لمثل فِعْلِكَ))، وعندما عطس رجلٌ في الصَّفِّ والصحابة يصلُّون خلف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال له معاوية بن الحكم - رضي الله عنه -: يرحمك الله بصوتٍ عالٍ؛ فرماه الصحابة بأبصارهم؛ فقال معاوية: واثَكَلَ أُمِّيَاهُ، فأخذوا يضربون على أفخاذهم ليُسكِتوه، وعندما سلم الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من صلاته لم ينهَرْهُ ولم يعنِّفه، وإنما قال له: ((إن هذه الصلاة لا يحلُّ فيها شيءٌ من كلام الناس هذا، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن))؛ "صحيح سنن أبي داود" (1/823).

16- كن قياديًّا:
أحسِن السيطرة على المستمعين لكيلا يُفلِت منكَ زمام المحاضرة؛ فقد يوجد بينهم مَنْ يُثير الشَّغب أو مَنْ يحبُّ الضحك والمزاح، أو مَنْ يهوى إحراج المحاضِرين!.
ولعله يحضرني في هذا المقام قصة طريفة لأحد الدُّعاة، عندما كان يحاضر في جمعٍ من النساء عن تعدُّد الزَّوجات في الإسلام، وأفاض في الحديث بموضوعيَّة وإتقان واستيعاب، واستعان بالأرقام والإحصاءات، وأورد الحجج العقلية والنَّقلية لإثبات فوائد تعدُّد الزوجات، إلا أن عددًا من الحاضرات لم يقتنِعْنَ وأخذنَ في اللِّجاج والجدل العقيم؛ فرأى المحاضر أن يسكتهنَّ بطريقةٍ أخرى؛ فقال لهنَّ: في الحقيقة أن المسؤول الحقيقي عن تعدُّد الزوجات هو المرأة لا الرجل.
فلمَّا استغربن ذلك وأنْكَرْنَ عليْهِ قال لهنَّ: لو أنَّ كل امرأة رفضت أن تكون زوجة ثانية لرجلٍ؛ لما كان هناك تعدُّد زوجات!!.

ثانيا:- المواصفات الكلامية:-
1- معدل سرعة الكلام:
لا يكن كلامك سريعًا لا يُفهَم ولا بطيئًا فيُمَلَّ، وإنما ابتغِ بين ذلك سبيلاً.
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسرد كسردكم هذا، ولكنه كان يتكلَّم بكلام بيِّنٍ فَصْلٍ، يحفظه مَنْ جلس إليه"؛ "مختصر الشمائل المحمدية" (191).
وثبت عن أم سلمه – رضي الله عنها - أنها قالت: "كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقطع قراءته؛ يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، ثم يقف ثم يقول {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، ثم يقف وكان يقرأ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]" الخ الحديث "الشمائل المحمدية" (720).

2- التَّكرار للمعلومة المهمَّة:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعيد الكلمة ثلاثًا لتُعقَل عنه"؛ "الشمائل المحمدية" (192)، وقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ويلٌ للأعقاب من النار)) مرتين أو ثلاثًا؛ "صحيح الجامع" (7009).
ويقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألا أحدِّثكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدَيْن))، وجلس - وكان متَّكئًا - فقال: ((وشهادة الزُّور))، قال: فما زال يقولها حتى قلنا: ليته سكتَ؛ "مختصر الشمائل المحمدية" (104).


3- السَّكتة الخفيفة قبل المعلومة المهمة:
عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: "خطبَنَا النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يوم النَّحر فقال: ((أتدرون أيُّ يومٍ هذا؟))، قلنا: الله ورسوله أعلم؛ فسكت حتى ظننا أنه سيسمِّيه بغير اسمه، قال: ((أليس يوم النَّحر؟))؛ قلنا: بلى، قال: ((أيُّ شهرٍ هذا؟))، قلنا: الله ورسوله أعلم؛ فسكت حتى ظننا أنه سيسمِّيه بغير اسمه، فقال: ((أليس ذو الحجة؟))، قلنا: بلى، قال: ((أيُّ بلدٍ هذا؟))، قلنا: الله ورسوله أعلم؛ فسكت حتى ظننا أنه سيسمِّيه بغير اسمه، قال: ((أليست بالبلدة الحرام؟))، قلنا: بلى، قال: ((فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، إلى يوم تلقون ربَّكم))؛ "إرواء الغليل" (10).

4- تكلَّم ببطء عند المعلومة المهمَّة:
فإن ذلك أدعى لجذب انتباه المستمعين، وأبلغ في إيصال المعلومة المهمة إليهم.

5- تجنَّب السَّكتات الطويلة من غير حاجة:
كتلك التي تُفعل عند تقليب الأوراق، أو البحث عن ورقة معينة، أو استذكار نصٍّ معيَّنٍ من القرآن أو الحديث أو غير ذلك.

6- تجنب تكرار كلمة معينة بكثرة لغير حاجة:
نحو: (يعني، إيش، عرفت، تعرف، سمعت، أقول، شفت كيف، في الحقيقة، في الواقع، هاه ... الخ).

7- ارتفاع الصوت:
ينبغي أن ترفع صوتك بحيث تُسمِع جميع المستمعين دون أن تزعجهم؛ تأسِّيًا برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

8- ارفع الصوت عند المعلومة المهمة:
عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: تخلَّف عنَّا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سَفْرَةٍ سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا؛ فنادى بأعلى صوته: ((ويلٌ للأعقاب من النار)) مرتين أو ثلاثًا؛ "صحيح الجامع" (7009).
وأخرج مسلمٌ من رواية جابر - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا خطب وذكر الساعة اشتدَّ غضبه وعلا صوته؛ "صحيح النسائي" (1487).

9- لا يكن صوتك رتيبا مملاًّ في الشدَّة والحدَّة:
فإن التنويع في شدَّة الصوت بين الارتفاع والانخفاض، وفي الحدَّة ترقيقًا وتفخيمًا، يمنع تسلُّل الملل والنعاس إلى المستمعين، ويشدُّ انتباههم إليك شدًّا.

ثالثا:- المؤثرات غير الكلامية:-
1- المظهر العام:
لابدَّ أن يوافق سنة المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - من إعفاء اللحية، وجعل أسفل الثوب فوق الكعبين بالنسبة للرجال، ونظافة الملبس وحسن الهندام، هذا إضافةً إلى كونه مقبولاً لدى المستمعين من حيث العُرْف والتقاليد؛ فإن الله سبحانه وتعالى ردَّ على المشركين عندما اعترضوا على كون النبي المرسل إليهم بشرًا وطلبوا أن يكون مَلَكًا بقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9].

2- توزيع النَّظرات:
ينبغي الإقبال بالوجه والنَّظر إلى جميع المستمعين، وعدم النظر فقط في الأوراق أو إلى أعلى أو إلى أسفل أو إلى جهة واحدة أو إلى شخص معيَّن، فإن ذلك أدعى لجذب انتباه المستمعين جميعهم إليك.
عن العِرْباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: "صلَّى بنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - صلاة الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظةً بليغةً"؛ رواه ابن ماجه، وصحَّحه الألباني برقم (42
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
فن الإلقاء المؤثر من الكتاب والسنة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  أدعية الكتاب والسنة
» الدعاء من الكتاب والسنة
» سلسلة العقيدة في ضوء الكتاب والسنة
»  الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة
» السعادة الزوجية في ضوء الكتاب والسنة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: