اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99245
 الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)   Oooo14
 الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)   User_o10

 الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)   Empty
مُساهمةموضوع: الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)     الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)   Emptyالأربعاء 15 مايو 2013 - 10:52

يقول: "ولدت في سوهاج، من مدن الصعيد في مصر سنة 1912م، وتلقيت تعليمي الابتدائي والثانوي فيها، باستثناء السنة الأولى الثانوية التي التحقت فيها بمدرسة أسيوط الثانوية؛ لأنها كانت المدرسة الثانوية الوحيدة في صعيد مصر وقت ذاك، وحصلت على الليسانس سنة 1937م من قسم اللغة العربية في (الجامعة المصرية)، وكذلك كان اسمها؛ لأنها كانت الجامعة الوحيدة في مصر وفي البلاد العربية وقتذاك.



وعُيِّنت معيدًا في الكلية في السنة نفسها، وكُلِّفت بتدريس اثني عشر درسًا أسبوعيًّا في السنة الأولى. وكانت هذه هي السابقة الأولى التي يُعيَّن فيها معيد في سنة تخرجه ويكلف بالتدريس.



ثم حصلت على (الماجستير والدكتوراه)، وانتدبت للتدريس في كلية الآداب بالإسكندرية سنة 1940م، وكانت وقت ذاك فرعًا من الجامعة المصرية في القاهرة، ثم نقلت إليها بعد استقلالها سنة 1942م، وتدرجت في وظائف التدريس بها إلى أن شغلت كرسي الأستاذية سنة 1954م، وأُعرت أثناء عملي إلى الجامعة الليبية وجامعة بيروت العربية، ثم تعاقدت مع جامعة بيروت العربية بعد بلوغي سن التقاعد سنة 1972م، وظللت بها إلى أن تعاقدت مع جامعة محمد بن سعود الإسلامية سنة 1976م، حيث أعمل الآن في 2 رجب 1401هـ - 6/5/1981م.



هذا هو "محمد محمد حسين"، المفكر الأديب الناقد في تعريفه لنفسه، ولكن ماذا يقول عنه التاريخ والمؤرخون؟



لقد عاش أديبنا في زمن مبكر من النهضة الأدبية الحديثة - كما تُدعى - وكان في الساحة الأدبية والفكرية اتجاهان اثنان:

اتجاه محافظ أصيل:
واتجاه آخر متأثر بالغرب معجب بالغربيين وبكل ما عندهم، داعٍ إلى أن تكون أمم الشرق - وبخاصة البلاد العربية - مثل أوروبا في كل شيء.
وهذا الاتجاه الأخير كان من أعلامه بعض قادة الأدب وأعلامه في مصر زمن دراسة محمد محمد حسين، وأبرز أولئك (طه حسين) الذي كان أستاذًا لأديبنا.
وفي ظل تلك الظروف انخرط محمد حسين في هذا الاتجاه عَلِمَ أو لم يَعْلَم ويكتب متأثرًا به، وظهر ذلك جليًّا في رسالته (للدكتوراه) التي كانت بعنوان: (الهجاء والهجَّاؤون).
ولكن الله تعالى بمنه وكرمه فتح بصيرة الرجل وأنار فكره وقلبه فتبيَّن له زيف ذلك الاتجاه وانحرافه واعوجاجه، فتركه ونحا منحى آخر، وسلك طريقًا معاكسًا له، سلك مسلك الطبيب الناصح والمجاهد المخلص الذي يدعو للفضيلة بفعله قبل قوله، ويوضح معالم الخير النقي الصحيح، ويفضح خطط الباطل ودعاة الشر، ويرد على مكائدهم وأباطيلهم.
يقول رحمه الله في سياق حديثه في مقدمة كتابه: (حصوننا مهددة من داخلها):
"كتبت هذه الصفحات حين كتبتها لكي أفضح هذا النفر من المفسدين، وأنبِّه إلى ما انكشف لي من أهدافهم وأساليبهم التي خُدِعْتُ بها أنا نفسي حينًا من الزمان مع المخدوعين، أسأل الله أن يغفر لي فيه ما سبق به اللسان والقلم.

وإن مَدَّ الله في عمري رجوت أن أصلح بعض ما أفسدت مما أصبح الآن في أيدي القراء.

وأكثره في بحث حصلت به على درجة (دكتور في الآداب) من جامعة القاهرة، ثم نشرته تحت اسم (الهجاء والهجَّاؤون).

وقد كان مُصابي هذا في نفسي وفي تفكيري مما جعلني أقوى الناس إحساسًا بالكارثة التي يتردَّى فيها ضحايا هؤلاء المفسدين، وأشدهم رغبة في إنقاذهم منها بالكشف عما خفي من أساليب الهدَّامين وشِرَاكهم".

هذه إشارة سريعة إلى منهج الرجل واتجاهه؛ عرفنا منها صدق قوله واستقامة منهجه، وقوة عزيمته، وقد استطاع - بتوفيق الله - أن يصلح أخطاء كتابه بقدر ما وسعته الطاقة في الطبعات التي ظهرت في بيروت منذ 1969م.
من شهادات معاصريه:
يقول الدكتور الشيخ محمد بن سعد بن حسين - وهو رفيقه في كلية اللغة العربية بالرياض لمدة سبعة أعوام تقريبًا -:
"والناظر إلى كتبه بلا استثناء يجد أنها جميعًا من الموضوعات التي تَهَيَّبَ ميدانها كثيرون أو أنها موضوعات ذات حساسية في الميادين الفكرية؛ فهل تستطيع تحسس علة هذا الاتجاه والأسباب الدافعة إليه.
نستطيع تلخيص ذلك في رواية ثلاثة أبيات من الشعر أحدها قول بعضهم:
ما المرء إلاَّ حيث يجعل نفسه
فكن طالبًا في الناس أعلى المراتب
والآخر قول أبي الطَّيِّب:
لى قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
فكأنه تمثل النصيحة في البيت الأول فتحقق في أعماله معنى البيتين الآخرين، لقد كان: مؤمنًا صادقًا، وتقيًّا نقيًّا، ومتعففًا مترفعًا.

إذا تعارض حقه المالي مع الاحتفاظ بالكرامة قدم الاحتفاظ بالكرامة على المال.

ولم أعرف أن الرجل انتصف لنفسه من المسيئين إليه، وما جدَّ في طلب أو جاه، وتلك قواصم ظهور العلماء، يشتد حين تكون الخصومة فكرية، فإذا وصلت الأمور إلى إطار الشخصيات انطوى كأنما حُدِّث في أمر مخجل".

ويبين الدكتور إبراهيم عوضين طريقة طرح محمد محمد حسين ونقده، ودراساته وبحوثه، فيقول:
"والمبدع في نقد الدكتور محمد محمد حسين أنه يأتي بالدليل الحاسم في قوة؛ فليست بحوثه ذبذبات عاطفية تعتمد على الضجيج الخطابي، ولكنها ثمرة فكر عاقل، يؤمن بالحجة، ويعتصم بالدليل، فإذا ملأ كفه من الإقناع جاء بوهج العاطفة ليحدث من التأثير البالغ ما يترك هداه في قلوب من يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأحيل الدارس المتتبع إلى المجلد الثامن والعشرين من مجلة الأزهر الصادر في سنة 1376هـ، ليرى بحوث الدكتور محمد محمد حسين في هذا المضمار ناضجة الثمار شهية القطوف.

والحق أن بحوثه في محاربة الحركات الهدامة في هذا العصر كانت ضرورة حتمية يوجبها الواقع المعاصر؛ حيث كان الاحتلال الإنجليزي لمصر مصدرًا خطرًا لشبهات ظالمة تلحق بالإسلام".
عالِم يدرب طلابه، ثم لا ينسى جهدهم:
لقد قاد محمد محمد حسين - رحمه الله - الصدق والأمانة وكَرَم النفس وأصالة الطبع ولطيف المعشر، لتسجيل عبرات الوفاء لمن ساهم معه في إخراج كتاب وتحقيقه ونشره، سجَّل تلك العبارات لنفر ربما كان هو صاحب الفضل عليهم وله السابقة في خدمتهم ونفعهم، بل ربما كانت جهودهم (المحدودة) معه رد جميل وبر وصلة لمعلم فاضل وأستاذ كريم لم يبخل عليهم بشيء، وقد طوَّق أعناقهم بفضائله ومكارمه.

يقول في مقدمة ديوان "الأعشى الكبير" وهو الديوان الذي حققه:
"وقد كان ساعدني في إخراج هذا الكتاب في طبعته الأولى جماعة من الأصدقاء؛ فتفضل الأستاذ شوقي أمين بمعاونتي في مراجعة مسودات الطبع، وأسدى إليَّ كثيرًا من الآراء النافعة التي اقتنعت بكثير منها وأخذت به. وتفضل الزميل محمد أبو الفرج المعيد بقسم اللغة العربية في جامعة الإسكندرية بوضع الفهارس اللغوية للديوان - ويعلق في هامش الكتاب: توفي الدكتور محمد أبو الفرج في خلال العام الدراسي الماضي.
أسأل الله الكريم أن يرحمه ويحسن إليه - كما تفضل مصطفى عبد اللطيف الشويمي الطالب بليسانس الآداب بوضع فهارس الأعلام والأماكن والقبائل والأيام، وتفضلت الآنسة عزة كرارة المتخرجة في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة الإسكندرية، بترجمة المقدمة الألمانية للمستشرق (جاير) في الطبعة الأوروبية، فإلى هؤلاء جميعًا أقدم شكري الخالص".

إن في هذا لدلالة كبيرة على أن الرجل مربٍّ فاضل وليس عالمًا فقط؛ فهو يدعو بفعله قبل قوله إلى أن يُعْرَف الفضلُ لأهله؛ وهو بذلك يحفز همَّة كل قادر على العمل والبحث أن يقدم ما يستطيع؛ وليس بالضرورة أن يخرج عملاً مستقلاً بنفسه، ولكنه بإمكانه أن يشارك مع إخوانه وزملائه في إنجاز أعمال علمية؛ وله فيها - بإذن الله - أجران:

فحقه أن يُشكر من قبل إخوانه، ثم إنَّ له ما هو أغلى وأسمى من ذلك وهو الأجر من الله تعالى إن خلُصت نيته وصدَق توجهه.

إن سطورًا متواضعة كهذه التي نكتب هنا لن تفي بحق عَلَم كمَن نتحدث عنه؛ ولكنها إشارات، وحَسْبنا أن نثبت فيها أسماء المصادر والمراجع لمن أراد المزيد.

وفـاته:
توفي محمد محمد حسين سنة 1402هـ = 1982م، حيث بلغ من العمر سبعين سنة.

وقد رثاه بعض الشعراء والأدباء، ومنهم الدكتور محمد بن سعد بن حسين بقصيدة منها:
مَتَ الصريرُ وجَفَّتِ الأقلامُ
وطَوَتْ صَحَائِفَ عُمْرِكَ الأَيْامُ
هدأَ الزَّئِيرُ فَلا مَعَاركَ نَقْعُها
وَهَجُ العُقُولِ يمدُّه الإِلْهَامُ
وَأُبِيحَ غَابٌ كُنْتَ فيهِ مُسَوَّدًا
رَفَضَ ابنُ آوى إِذ هوى الضرغامُ
أَنَا إِنْ بَكَيْتُكَ سَاعَةً فلطالما
ذَرِفَتْ علَيْكَ دُمُوعَها الأعْلامُ
مؤلفـاته:
بلغت كتب الدكتور محمد محمد حسين المطبوعة أحَدَ عشر كتابًا، وهي:
1- الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (في جزأين).

2- الإسلام والحضارة الغربية.

3- أزمة العصر، وأصله ثلاثون حديثًا كتبت لتبث من إذاعة الرياض عام 1397هـ.

4- حصوننا مهددة من داخلها، وأصله مجوعة مقالات شهرية نشرت في مجلة الأزهر المصرية في عامي 1377هـ، 1378هـ.

5- الهجاء والهجَّاؤون في صدر الإسلام، وهذا الكتاب جزء من بحثه في (الدكتوراه).

6- أساليب الصناعة في شعر الخمر والأسفار، وهذا الكتاب (كما يذكر المؤلف في مقدمته) فصلان من بحث مرحلة (الماجستير).

7- شرح وتعليق على ديوان الأعشى الكبير (ميمون بن قيس).


8- المتنبي والقرامطة، وهذا الكتاب (كما يذكر المؤلف في مقدمته) في الأصل محاضرة ألقاها في كلية الآداب بالجامعة الليبية ببنغازي عام 1383هـ.

9- الهجاء والهجَّاؤون في الجاهلية.

10- مقالات في الأدب واللغة، وهذا الكتاب يحوي ستة بحوث هي:
أ- تطوير قواعد اللغة العربية.
ب - بين سينية البحترية وسينية شوقي.
ج - فقه اللغة بين الأصالة والتغريب.
د - دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بين التأييد والمعارضة.
هـ- أثر الأدب الغربي في الأدب العربي المعاصر.
و - اقتراحات للنهوض بمستوى اللغة العربية.
وقد طبعت تلك البحوث مجتمعة في كتاب واحد بعد وفاة المؤلف - رحمه الله - ونشرتها مؤسسة الرسالة في بيروت عام 1409هـ - 1989م بإشراف ورثة المؤلف.

11- الروحية الحديثة دعوة هدامة، وهذا الكتاب في الأصل محاضرة ألقيت في جمعية الشبان المسلمين بالإسكندرية عام 1379هـ، وكانت بعنوان: الروحية الحديثة حقيقتها وأهدافها.
كما أن للأستاذ محمد محمد حسين مؤلفات أخرى وكتبًا بعضها لا يزال مخطوطًا، وبعضها طبع مرة واحدة فقط ثم نفد ولم يعد يوجد، ومنها:
أ- رواية الدموع.
ب- الأعشى صناجة العرب، بحثه في (الماجستير)، وهو لا يزال مخطوطًا فيما نعلم.
ج- فتح مكة.
د- اتجاهات هدامة في الفكر العربي المعاصر، وهو في الأصل محاضرة ألقيت في جمعية الشبان المسلمين بالإسكندرية.
وقد لقيت كتب ورسائل هذا الأديب من طلابه وغيرهم عناية واهتمامًا، ومن أفضل من اعتنى بها كتاب نفيس بعنوان (موقف الدكتور محمد محمد حسين من الحركات الهدامة) ألفه الدكتور إبراهيم محمد عوضين، وفيه تناول المؤلف بالدراسة بعضًا من كتب محمد حسين وأبرز من خلال تلك الدراسة شجاعة أديبنا وجرأته وغيرته على الدين والعقيدة والمثل الإسلامية، وقد نشرت الكتاب مؤسسة الرسالة في بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ - 1985م، رحم الله محمد محمد حسين وغفر له.

وبعد وفاة هذا الأديب - رحمه الله - أُعِدَّتْ رسالتا (ماجستير) عن حياته وأدبه؛ فقد أعد الباحث:
عليان بن دخيل الله الحازمي رسالة (ماجستير) في كلية اللغة العربية بالرياض في جامعة الإمام عام 1407هـ بعنوان: (محمد محمد حسين حياته وآثاره الفكرية والأدبية)، وبلغت صفحاتها حوالي ثمانمائة صفحة.
وفي عام 1414هـ أعد الباحث محمد عبد الحميد محمد خليفة رسالة (ماجستير) في قسم اللغة العربية بجامعة الإسكندرية بعنوان: (دراسة النص الأدبي عند محمد محمد حسين)، وبلغت صفحاتها حوالي 330 صفحة.

ولكنَّ الرسالتين المذكورتين لم تنشرا - فيما نعلم - أسأل الله أن يوفق الأخوين الباحثين لطباعة كتابيهما ليكونا إضافة نفيسة إلى المكتبة العربية، كما نتمنى أن تجد كتب أستاذنا (محمد محمد حسين) العناية والاهتمام من القراء والباحثين وأصحاب دور النشر في البلاد العربية؛ لأن تلك الكتب تُحَدِّد معالم الأدب الأصيل، وتكشف زيف خصومه. والله الموفق والمعين.


• • • •

دوره - رحمه الله - في التصدي لمدرسة العصرنة والتمييع الفقهي المعاصر - (فصلان من كتابه: الإسلام والحضارة الغربية)- قال -رحمه الله-:
الفصل الثاني: التغريب:
لم ينتهِ القرن التاسع عشر إلاّ وقد عَظُم شأن الاستعمار الغربي، واستَفْحَلَ، وسقطَتْ أكثر الدول الإسلامية تحت سَيْطَرَته أو نُفُوذه، وبذلك دَخَلت صلات الإسلام والمسلمين بالحضارة الغربية في طَوْر جديد، أصبح فيه تأثيرُ هذه الحضارةِ الغازيةِ أكثر قُوَّة وفعالية؛ لأنها انتَقَلَتْ مع الجالياتِ الأجنبيةِ التي استَقَرَّتْ في بلاد المسلمين، وأصبحت تَحْيا بين ظهرانَيْهِم، وتعيشُ في قلب بلادهم، وتقدِّم نموذجًا حيًّا لأنماطها الفكريَّة والاجتماعية، يسْرِي من طريق المشاهدة والتقليد. وفرضتِ الدولُ الغربية الغازية لُغاتِها وثقافاتِها في البلاد التي احتلتها؛ تيسيرًا على الغربي المستعمر في التعامل من ناحية، وتمهيدًا لمحو طابع المستعمرات الشخصي وامتصاصها من ناحية أُخْرى. ومضت سياسة إرسال المَبْعُوثين من هذه البلاد في طريقها؛ ولكنها لم تعد حرة في توجيهها، فقد أصبح العدد الأكبر منها يُوَجَّه نحو الدول المُتَسَلِّطَة، وأصبح أكثرها يُوَجَّه توجيها أدبيًّا أو فلسفيًّا أو تربويًّا؛ بل إسلاميًّا في بعض الأحيانِ، يَتَلَقَّوْنَ فيه أصول البحث في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، والفِكْر الإسلامي عن المستشرقين من الغربيين؛ صحيحهم - إن وجد - وسقيمهم - وما أكثره. وصارتِ المجالات الصناعية والخبرات الفنية وقفًا على المستعمرين الأوروبيين، الذين حَوَّلُوا المستعمرات وأهلها إلى مزارع، ومناجم، وعمال لإنتاج المواد الأولية. وأصبح التعليمُ في داخل هذه البلاد يَجْرِي على تخطيط عربي رسمه الاستعمار، وأشرف على تنفيذه بنفسه أو بأيدي صنائعه من الأصدقاء والعُملاء. وبذلك ظهر في مُعْجَم السياسة والحضارة ما يسميه الغربيون ومفكروهم بالـ (Westernization)، وما يمكن أن نسميه بـ(التغريب)؛ أي طبع المستعمرات الأسيوية والإفريقية بطابع الحضارة الغربية. وجُهود الاستعمار في هذا تَشْمَل المُسْلِمينَ وغير المسلمين من أهل المستعمرات. ولكن جهدهم الأكبر وعنايتهم الأوفر كانت للمُسْلِمينَ بخاصة؛ لارتباط حياتهم في مختلف مناشِطِها بالدين.


لم يكن هدف الاستعمار من نشر حضارته هو تمدين البلاد التي استعمرها؛ كما كان يَتَشَدَّقُ به ويزعمه، ولكنه كان يقصد بذلك إزالة الحواجز التي تَقُوم بينه وبين هذه الشعوب، وهي حواجز تُهَدِّدُ مصالِحَهُ الاقتصادية، وتجعل مُهمَّة حراستها والمحافظة علها صعبة غير مأمونة العَوَاقب. كانت هذه الحواجز الناشئة عن الاختلاف في الدين، وفي اللغة، وفي التقاليد والعادات سببًا في إحساس الوطنيين بالنُّفُور من الأجنبي المُحْتلّ، وفي إحساس المستعمر بالغربة، بل الشعور بالخطر الذي يُحِيطُ به، ويَتَهَدَّده في بعض الأحيانِ. وكان هذا الإحساس بالغُرْبة وبالخطر أعظم ما يكون حين يتعامل المستعمر الغربي مع المسلمين. ذلك لأن الإسلام لم يكن مجموعة من الطقوس الدينية وحسب، كما هو الشأن في غيره من الأديان، ولكنه كان حضارة كاملةً يحملها لإسلام حيثما ذهب، لها لغتها التي لا يصح التعبد بغيرها، ولها قيمها وقوانينها التي تَمْتَد وتتغَلْغَل لتشمل سائر احتياجات الأفراد والجماعاتِ في سُلُوكهم، وفي مُعاملاتهم، وفي نشاطهم الفِكْري، والفني، والعاطفي على السواء. فلم يَمْضِ على ظهور الإسلام قرنٌ حتى كانتِ النظُم الإسلامية حضارةً كاملةً، يَحْمِلُها الإسلام معه حيثما ذهب، ليس فيها ثغرةٌ أو فجوةٌ.

وقد كان هذا هو السبب في وحدة الحضارة الإسلامية، وفي قوة الرابِطَة التي تجمع أفرادها على هذه الحضارة، والتي تُذِيب ما بينهم من فوارق الجنس واللغة والمكان؛ بل تُذِيب الفوارقَ الناشئة عن اختلاف الزمان؛ لتضم هذه الأمة في وحدة كَوْنِيَّة، تردّ آخرها إلى أولها، وتجمع حاضرها وماضِيها، بسبب ثبات القِيَم الإسلامية، وقدرتها على الاستجابة لحاجات الحياة في تَقَلُّباتها وتَطَوُّراتها، وبسبب ثبات لغة هذا الدين ومرونتها، التي مكَّنَتْ للمسلم المعاصر أن يقرأ القرآن، وأن يقرأ ما كتبه فُقهاء المسلمين، وأدباؤهم وشعراؤهم وفلاسفتهم وعلماؤهم، على امتداد تاريخهم الطويل، دون أن يحس الغربة، أو تصده صعوبة في التعبير، أو تغير في الذوق الفني واللُّغوي، فكأنما أنزل القرآن اليوم، وكأنما بُعث شعراء الماضي الغابر وأدباؤه وعلماؤه، فهم يُخَاطبون هذا الجيل، بما كتبوه وما أنشَؤُوه. ونشأ عن ذلك كله هذه الرابطة الإسلامية القوية، التي حار الغربيون في تعليلها، وكَلّتْ حِيَلُهم وقَصرت وسائلهم عن تَفْتِيتِها، فهي وحدة لا وجود لها في غير الإسلام من الأديان، تدعو تركيا إلى إنشاء سكة حديد الحجاز قبل الحرب العالمية الأولى. فتنهال التبرعات المالية من شتى بلاد المسلمين من أندونيسيا إلى مراكش.

ويفرض الغربيون على تركيا شروطًا ظالمة بعد الحرب العالمية الأولى، فيثور المسلمون في الهند ثورة عنيفة تفزع الإنجليز[1]. ويموت الزعيم الهندي المسلم مولانا محمد علي في لندن، أثناء دفاعه عن الإسلام في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فيُدْفَنُ في القدس الشريف حسب وصيته. وتتوالى الأنباءُ بمحاولات فرنسا السافرة، بين الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ للقضاء على الإسلام وعلى اللغة العربية، وتشجيع القومية البربرية في مراكش، فتَهْتَزُّ لذلك بلاد العرب والمسلمين. وتزداد جرائم إيطاليا الوحشية في ليبيا، فينهالُ المتطوّعون من شتى بلاد المسلمين للمشاركة في الجهاد بأموالهم وأنفسهم. ويُستشهَد عُمَرُ المختار في هذا الجهاد، فيرثيه كل شعراء العرب، ويبكيه كل المسلمين في أندونيسيا والهند. ويزدادُ خطرُ اليهود في فِلَسْطِين، فيُشغَل الرأي الإسلامي العام بذلك، ويتطوع للدفاع عنها مسلمون من شتى البلاد، ثم تقاطع الحكومات الإسلامية الدولة الدخيلة المغتصبة من بعد.

وزاد في قوة هذه الرابطة نشاطُ الدَّعوة إلى الجامعة الإسلامية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهي دعوة صادفتِ استِجابَة قوية عند كل المُسلمين، ودعّمها الشعور بالخطر المشترك أمام الزحف السياسي والاقتصادي الذي يُهَدِّدُ المسلمين بالفناء، فتزايد عددُ الصحف التي تدعُو إلى الجامعة الإسلامية تَزَايُدًا ظاهرًا قبل الحرب العالمية الأولى، كان عددها في سنة 1900 لا يزيد عن مائتي صحيفة، فبلغ عددها سنة 1906 خمسمائة صحيفة، ثم زاد في سنة 1914 على الألف صحيفة، حسب إحصاء لوثروب ستودارد في كتاب "حاضر العالم الإسلامي".

لذلك كله كان شعور المستعمر الأوروبي بالغُرْبة، والخطر أقوى ما يكون، حين يواجه هذه الأمة الإسلامية في مختلف بلادها. ولذلك كانت برامج التَّغْرِيب مُوَجَّهَة إلى الإسلام والمسلمين بنوع خاص، وكثرتِ الكتب والمؤتمرات التي تبحث في تاريخ الإسلام والمسلمين، وفي مشاكلهم المعاصرة، وتطورهم الفِكْري والحضَاري.

وكان يزيد في هذا الشعور بالغربة وبالخطر أن تاريخ الإسلام والغرب حافلٌ بالصراع منذ ظهور الإسلام، وأنَّ الصلةَ بينهما كانت صلة جهاد وعداوة دائمًا. توسع الإسلام على حساب الإمبراطورية البيزنطيَّة في الشام، وفي آسيا الصغرى، وفي شمال إفريقية، وظلت الحرب قائمةً بينهما على امتداد التاريخ، حتى بلغتْ قِمَّتَها في الحروب الصليبية. ثم بلغ مدُّ الإسلام غايته حين احتل العُثْمانِيُّون عاصمة الدولة البيزنطية، ومقرَّ كنيستهم سنة 1543 م، وغيَّروا اسمها إلى إسلامبول؛ أي (دار الإسلام)، واتخذوها عاصمةً لدولتهم، التي توغَّلَتْ في أوروبا، وكادتْ تَكْتَسِحُها حين هدَّدتْ فينَّا سنة 1529. وظلَّ هذا التهديد قائمًا حتى 1683.

ودار الصراع بين الإسلام وأوروبا منذ القرن الأول الهجري على الأرض الأوروبية من طرفها الغربي حين سقطت الأندلس في أيدي المسلمين، وأصبحت من بعدُ مقرًّا لخلافة أموية، ولحضارة مُزْدَهِرَة لا تزال آثارها الباقية تشهد بأمجادها. ثم كانت المذابح الوحشية التي تولَّتْ فيها محاكم التفتيش المسيحيةُ إبادةَ المسلمين عقب هزيمتهم في الأندلس.

والأوروبي بعد ذلك لا يعرف عن المسلمين إلا ما قرأه من الأكاذيب التي تُشَوِّهُ صورتهم في أذهان المسيحيين، والتي تَشيعُ في كل ما كتبه الغربيون عنهم منذ الحروب الصليبية، والتي لم تخفَّ حدَّتُها إلا في نصف القرن الأخير، حين لاحظ الغربيون أن المسلمين يقرؤون ما يكتبون. وكان يزيد في حدَّة هذه العداوة صَيْحَاتُ دول البلقان، التي تستغيثُ بالدول الأوروبية، وتطلب منهم باسم المسيحية أن يُنْقِذُوها من حكم المسلمين.

كان هذا التاريخُ الغابر، والحاضرُ الراهن، بكل ما يحفل به من صور العداء، يزيد في إحساس المستعمر الأوروبي بالغُربة والخَطَرِ. فكان التغريب - والتبشير فرع منه - هو الحل الذي اهتدى إليه، ونشطت أجهزتُهم في تنفيذه.

وبرامج التغريب تحاول أن تخدمَ هدفًا مزدوجًا، فهي تحرس مصالح الاستعمار، بتقريب الهُوَّة التي تفصل بينه وبين المسلمين؛ نتيجة لاختلاف القيم، ونتيجة للمرارة التي يحسها المسلم إزاء المحتلينَ لبلاده ممن يفرض عليه دينُه جهادَهم. وهي في الوقت نفسه تُضْعِفُ الرابطة الدينية التي تجمع المسلمين، وتفرّق جماعتهم التي كانت تلتقي على وحدة القيم الفكرية والثقافية، أو بتعبير أشمل: وحدة القيم الحضارية، فيستطيع الاستعمار أن ينفردَ بكل بلد على حدة، وأن يتفرغ لمواجهة ما عساه ينشأ من ثورات، وظهره آمن من ثورات المناطق الإسلامية الأُخْرى في مستعمراته، التي قد تهبّ لمساندتها.

وقد لاحظ كرومر وجود هذا الخلاف الشديد بين المسلمين وبين المستعمر الغربي، في العقائد، وفي القيم، وفي التقاليد والعادات، وفي اللغة، وفي الفن، وفي الموسيقى، وذلك في فصل طويل عقده في كتابه الذي ألَّفه عقب مُغادرته لمصر، بعد أن وضع أساس السياسة الإنجليزية وأشرف على تنفيذها، مُدَّة تقرب من ربع قرن. لاحظ كرومر في هذا الفصل أن هذه الخلافات هي السببُ في انعدام ثقة المسلم بالمستعمر الأوروبي وسوء ظنه به، وهي السبب في وجود هُوَّةٍ واسعة تفصل بينهما، وتجعل مهمة المستعمر محفوفة بالمتاعب. ودعا من أجل ذلك إلى العمل بمختلف الوسائل على بناء قنطرة فوق هذه الهُوة. وقد اتخذت هذه الوسائل طريقين: أحدهما هو تربية جيل من المصريين العصريين، الذين ينشؤون تنشئةً خاصة تقربهم من الأوروبيين ومن الإنجليز على وجه الخصوص، في طرائق السلوك والتفكير. ومن أجل ذلك أنشأ كرومر "كلية فكتوريا"، التي قصد بها تربية جيل من أبناء الحكَّام والزعماء والوجهاء في محيط إنجليزي؛ ليكونوا من بعد هم أدوات المستعمر الغربي في إدارة شؤون المسلمين؛ وليكونوا في الوقت نفسه على مضي الوقت أدواتِه في التقريب بين المسلمين وبين المستعمر الأوروبي، وفي نشر الحضارة الغربية.

وقد أعرب اللورد لويد - الذي كان ممثلاً لبريطانيا في مصر، أو "مندوبا ساميًا" كما كان يسمى في ذلك الوقت - عن هذا الهدف، حين قال في خطبة ألقاها في كلية "فكتوريا" بالإسكندرية سنة 1936، عن طلبة هذا المعهد وخريجيه: (كل هؤلاء لا يمضي عليهم وقت طويل حتى يتشبعوا بوجهة النظر البريطانية، بفضل العشرة الوثيقة بين المعلمين والتلاميذ، فيصيروا قادرين على أن يفهموا أساليبَنا ويعطفوا عليها... ومتى تَسَنَّى للجمهور أن يعرف هذه الكلية أكثر مما عرف عنها في الماضي، يتنبه الآباء إلى أن تعليم أولادهم فيها ينمّي فيهم من الشعور الإنكليزي ما يكون كافيًا لجعلهم صلةً للتفاهم بين الشرقي والغربي... علينا أن نحل المشاكل المعلَّقة بين مصر وإنكلترا. ولا شكَّ أنَّه ستنشأُ مشاكل أخرى في السنوات القادمة من العَلاقات بين الاثنين. وهذه المشاكل تُحَلُّ، إذا تعلم كل من الإنجليز والمصريين أن ينظر إلى رأي الفريق الآخر نظرًا مقرونًا بالفهم والعطف).

كان الاستعمار الغربي ينتظر الوقت الذي يستطيع أن يستغنيَ فيه عن الجيش؛ ليعتمدَ في حراسة مصالحه على الصداقة، التي هي الهدف المقصود بكل مشاريعه في نشر الحضارة الغربية.

أما الوسيلة الأخرى التي اتخذها الاستعمار لإيجاد هذا التفاهم المفقود، وعمل على تنفيذها، فهي أبطأ ثمارًا من الوسيلة الأولى، ولكنها أبقى آثارًا، كما لاحظ اللورد لويد. وهي تتلخص في تطوير الإسلام نفسه وإعادة تفسيره، بحيث يبدو مُتَّفِقًا مع الحضارة الغربية، أو قريبًا منها وغير متعارضٍ معها على الأقل، بدل أن يبدو عدوًّا لها أو معارضًا لقيمها وأساليبها.

بذلك وُجد عاملٌ جديد من صلات الإسلام بالحضارة الغربية، هو تدخُّل الغرب نفسه في توجيه هذه الصلات، والتخطيط لأساليبها ووسائلها، بينما ظلَّتْ هذه الصلات في طريقها القديم، الذي بدأ بإحساس المسلمين بالحاجة إلى إصلاح مجتمعهم؛ لكي يواجه الفساد الداخلي الذي يعاني منه المسلمون في حياتهم من ناحية؛ ولكي يواجه الخطر الخارجي الذي يُهَدِّدُ كِيانَهم من ناحية أخرى. ظلت هذه الصلات تستأنفُ سيرها في طريقها القديم، تتأثر بالعامل الجديد فتقترب منه أو تلتقي به في بعض الأحيان، وتنفر منه وتدرك خطورته فتعارضه وتهاجمه في أحيان أخرى.

إلى جانب هذين المنهجينِ وُجد منهج ثالث في بلاد العرب بخاصة، لم يعمل عملاً مُباشرًا في صلات الإسلام بالحضارة الغربية؛ ولكنه ترك أثرًا غير مباشر في تَوْجيهها. وهذا المنهج الثالث والعنصر الجديد مُمَثَّل في نصارى العرب، ونصارى الشام منهم على وجه الخصوص. كان هؤلاء النصارى من الشاميين كما كانوا يسمون - أو من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين والأردنيين كما نسميهم الآن - لا يشاركون المسلمين في الإحساس بالولاء القلبي الخالص للحكم الإسلامي القائم، الذي تمثّله الدولة العثمانية، وهو أمر طبيعيٌّ في أصل وجوده لا يدعُو إلى الغرابة، ولا سيما إذا أضفنا إليه فساد الدولة في آخِر أيامها، وهو فساد كان يشكُو منه المسلمون والمسيحيون، والعرب والترك على السواء. ومن أجل ذلك كانتْ آمال هذا الفريق من نصارى العرب تتعلق بالعِلْمانية الغربية، التي تقوم على الفصل بين الدين والدولة، والتي لا يتحَكَّمُ فيها الإسلام في التنظيم السياسي والاجتماعي، والتي يزُول معها إحساس المسلمين بالاعتزاز وإحساس النصارى بالذلة والانكسار الذي يخالط مشاعر الأقليَّات في أكثر الأحيان.

هذه تياراتٌ ثلاثة كانت تجري في أرض المسلمين والعرب. فلْنُحاوِل أن نَتَتَبَّعَهَا في إيجاز واحدًا تلو الآخر. وقبل أن أبدأَ الحديث عنها أحبُّ أن ألفتَ النظر إلى أمرين يجب أن يضعهما الباحث في هذا المشروع نصب عينيه؛ لكي يأمن الزلل؛ ولكي لا يضل الطريق؛ ولكي لا يُخْدَع عن حقائق الأمور.

أحد هذين الأمرين هو حاجتُنا الشديدة إلى إعادة النظر في تقويم الرجال؛ لأن كثيرًا ممن نعتبرهم دعائم النهضة الحديثة لم يُصبحوا كذلك في أَوْهَام الناس إلا بسبب الدعايات المُغْرِضة، التي أرادتْ أن تضعَهم في هذه المنزلة؛ لتحقِّق بِذَلك أغراضها في نشر مذاهبهم، والتمكين لآرائهم؛ ولأن كثيرًا من الآراء المنحرفة التي لم تكنْ تستطيعُ أن تجد طريقها إلى الفكر الإسلامي، وإلى مجتمعاته، قد أصبح قبولها ممكنًا، بنسبتها إلى هذه الزعامات وإلى هؤلاء الأئمة، الذين لا يتطرق إلى الناس شكٌّ في إخلاصهم وعلمهم. والواقع أنَّ كثيرًا من هؤلاءِ الرجال قد أُحِيطُوا بالأسباب التي تبني لهم مجدًا وذكرًا بين الناس، ولم يكنِ الغرض من ذلك هو خدمتَهم، ولكن الغرض منه كان ولا يزال هو خدمة المذاهب والآراء التي نادَوْا بها والتي وافقتْ أهدافَ الاستعْمار ومصالحه. فقد أصبح يكفي في ترويج أي مذهب فاسد في تأويل الإسلام - كما لاحظ جب في كتابه (Modern Trends in Islam) أن يقال: إنه يوافق رأي فلان أو فلان من هؤلاءِ الأعلام. ويكفي في التشهير بأي رأي سليم أن ينسب إلى ضيق الأفق، الذي لا يلائمُ ما اتَّصَفَ به هذا أو ذلك من سعة الأفق والسماحة وصحة الفهم لروح الإسلام، على ما تزعمه الدعايات. وليس مهمًّا أن يكون ذلك عن حسن قصد منهم أو عن سوء قصد، وليس مهمًّا أن يكون الاستعمار هو الذي استخدمهم لذلك، ووضع على ألسنَتِهم وأقلامهم هذه المذاهب والآراء، أو أن تكون هذه الآراء قد نشأتْ بعيدةً عن حضانته ورعايته، ثم رآها نافعةً له، فاستغلَّها وعمِل على ترويجها. المُهِمُّ في الأمر هو أنَّ المجد الذي يُنْسَبُ لهؤلاءِ الأفراد ليس من صُنْعِهِم، ولا هو من صنع الشعوب التي عاشوا فيها؛ ولكنه من صنع القوى التي استخْدَمَتْهُمْ أو التي تريد أن تستغلَّهم، سواء كانت هذه القوى هي الاستعمار، أو هي الصِّهْيَوْنِيَّة العالمية بمختلف وسائلها وأجهزتها.


وخطة الاستعمار والصِّهْيَوْنِيَّة العالمية في ذلك كانت تقوم - ولا تزال - على السيطرة على أجهزة النشر التي نسمّيها الآن: (الإعلام)، وإلقاء الأضواء من طريقها على كتَّاب ومفكرين من نوع خاص، يُبْنَوْن ويُنَشَّؤُون بالطريقة التي يُبْنَى بها نجومُ التمثيل والرقص والغناء، بالمُداومة على الإعلان عنهم، والإشادة بهم، وإسباغ الألقاب عليهم، ونشر أخبارهم وصورهم. وذلك في الوقت الذي يُهْمَلُ فيه الكتَّاب والمفكرون الذين يصوّرون وجهات النظر المعارضة، أو تُشَوَّهُ آراؤهم وتُسَفَّهُ، ويُشَهَّرُ بهم. ثم هي تقوم على تَكْرار آرائهم آنًا بعد آنٍ لا يملون من التَّكرار؛ لأنهم يعلمون أنهم يخاطبون في كل مرَّة جيلاً جديدًا، أو هم يخاطبون الجيل نفسه، فيتعهدون بالسقي البذورَ التي ألقَوْهَا من قبل.

ونحن حين ندعو إلى إعادة النظر في تقويم الرجال، لا نريدُ أن نَنْقُصَ من قَدْرِ أحد، ولكننا لا نريد أن تَقُومَ في مجتَمَعِنا أصنامٌ جديدةٌ معبودةٌ لأناس يزعم الزاعمون أنهم معصومون من كل خطأ، وأن أعمالهم كلها حسنات لا تقبل القدح والنقد، حتى إنَّ المخدوع بهم، والمتعصّبَ لهم، والمُرَوِّجَ لآرائهم ليهيج ويموج إذا وصف أحد الناس إمامًا من أئمتهم بالخطأ في رأي من آرائه، في الوقت الذي لا يهيجون فيه ولا يموجون حين يوصف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لا يَقبلُونَ أن يُوصفَ به زعماؤهم المعصومون.

فيَقْبَلُون أن يُوصَم سيف الإسلام خالِدُ بنُ الوليد بأنه قَتَلَ مالك بن نويرة في حرب الردة طمعًا في زوجتِه، ويُردِّدُون ما شاع حول ذلك من أكاذيب. ويقبلون أن يلطخ تاريخ ذي النورينِ عثمان بن عفان بما ألصقه به ابن سبأ اليهودي من تُهَم. ويقبلون ما يروي الأصبهاني في كتاب "الأغاني" في سُكَيْنة بنت سيد شباب أهل الجنة الحسين من أخبار اللهو والمجون. ويُردِّدُون ما يُذاع من أخبار هارون الرشيد الذي كان يحج عامًا ويغزو عامًا ثم أصبح في أوهام أبناء هذا الجيل رمْزًا للخلاعةِ والترف؛ بل كاد يصبح رمزًا للإسراف في طلب الشهوات، وصورةً من أبطال (ألف ليلة وليلة). يَقْبَلُونَ ذلك كله، ثم يرفضون أن يمس أحد أصنامهم بما هو أيسر منه. ويحتمون بحرية الرأي في كل ما يخالفون به إجماع المسلمين، ويَأْبَوْنَ على مخالفيهم في الرأي هذه الحرية. يُخَطِّئُون كبار المجتهدين من أئمة المسلمين، ويُجَرِّحُونَهم بالظنون والأوهام، ويثورون لتَخْطِيء ساداتهم أو تجريحهم بالحقائق الدامغة.

أما الأمر الآخر الذي أحب أن ألفتَ النظر إلى خُطُورته، فهو تطوير الإسلام؛ لكي يوافق الأمر الواقع في حياتنا العصرية. وقد بدأ هذا الاتجاه؛ كما رأينا في أول الأمر بإحساس الحاجة إلى مواجهة الأقضية الجديدة باستنباط أحكام شرعية تُوافِقُها، ورأَيْنا صدى ذلك فيما كتبه الطهطاوي، وخيرالدين التونسي. فكتب الطهطاوي في "مناهج الألباب" عن (اقتضاء الأحكام والمُعامَلات العصرية تنقيحَ الأقضية والأحكام الشرعية بما يوافق مزاج العصر بدون شذوذ)، مقترحًا وضع مدوَّنة قانونية عصرية شاملة. ودعا خيرالدين إلى الاجتهاد في أضيق الحدود، بإعادة النظر في الأحكام المترتبة على العادات إذا تغيَّرت، وردَّ على منِ احتجَّ بأنه لا يحق لنا (إحداث شرع جديد لعدم أهليتنا للاجتهاد) بأن هذا (ليس بتجديد اجتهاد من المقلدين؛ بل هو قاعدة اجتهد فيها العلماء، وأجمعوا عليها).

كانتِ الدعوة إلى الاجتهاد في هذا الطور مقتصدة غاية الاقتصاد، تدعو إليه في أضيق الحدود، ولا تنكر التقليد؛ بل هي تسلم به، وتسلم بأن أهل هذا العصر ليسوا أَكْفَاء للاجتهاد. ومن كان منهم قادرًا على الاجتهاد لا يطمحُ إلى أكثر من الاجتهاد في حدود مذهب من المذاهب الأربعة، لا يتجاوزه إلى الاجتهاد المطلق، الذي يسمو فيه بنفسه إلى مرتبة الأئمة الأربعة، ومن في طبقتهم من المجتهدينَ الأولينَ.

ثم إنَّ الدعوةَ أصبحت من بعدُ على يد محمد عبده ومدرسته ولا سيما رشيد رضا، دعوةً عامَّة تهاجم التقليد، وتطالب بإعادة النظر في التشريع الإسلامي كله دون قيد. فانفتح الباب على مصراعَيْهِ للقادرينَ ولغير القادرينَ، ولأصحاب الورع ولأصحاب الأهواء، حتى ظهرت الفتاوى التي تبيح الإفطار لأدني عذر؛ توسعًا في قوله - تعالى -: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، واستنادًا إلى إباحته في غزوة الفتح. وظهرت الفتاوى التي تبيحُ المعاملات التي تقوم على الربح، وتقسم الربا إلى: ربًا ظاهر وهو ربا النسيئة، الذين يتضاعف فيه الدَّيْنِ أضعافًا مضاعفة؛ وربًا خفي وهو ربا الفضل، ولا تحرِّم إلا ربا النسيئة، أو تحرِّم الربا في أصناف معينة "الخلافة 98، يسر الإسلام 58". وظهرت الفتاوى التي تحظُر تعدّد الزوجات، وتحظر الطلاق، وتُجِيزُ تدخل القضاء فيهما. وظهرت الآراء التي تجعل الإسلام داخلاً في هذا المذهب، أو ذاك من المذاهب السياسية والاجتماعية التي ابتدعتها الحضارة الغربية الحديثة. وبذلك تحوَّل الاجتهاد في آخِر الأمر إلى تطوير للشريعة الإسلامية يهدفُ إلى مطابقة الحضارة الغربية، أو الاقتراب منها إلى أقصى ما تسمح به النصوص من تأويل على أقل تقدير.

الاجتهاد في الشريعة حق لكل عالم قادر عليه، ومن القدرة عليه أن يُلِمَّ بكل ما قيل في المسألة التي يبحثها؛ لأنه لا يدري إن فاته بعضها أن يكون هذا الذي فاته سببًا في عدوله عن رأيه لو اطلع عليه؛ لأن فيه من الحقائق ما غاب عنه ولم يدخل في تقديره. وشأن الاجتهاد الديني في ذلك هو شأن الاجتهاد في أيّ فرع من فروع المعارف والفنون. فليس يباحُ للطبيب أن يجتهد حتى يبلغ من الإلمام بالطب حدًّا يَعترفُ له عنده أصحاب هذا العلم بالقُدرة على الاجتهاد فيه. وليس يُقْبَل من المهندس أن يطلع على الناس في الهندسة برأي جديد حتى يثبت عند علماء الهندسة أنه قادر على الابتكارِ. بل لا يُقْبَل من رجال القانون الوضعي الذي أخذناه من الغرب في كل فروعه أن يجتهدوا فيه حتى يبلغوا درجة من الحِذْق، يسلم لهم معها بالقُدرة على التشريع. والمهندسون والأطباء والقانونيون بعد ذلك في معظمهم مُقَلِّدُون، يكتفون بتطبيق ما ابتكره المجتهدون في الطب والهندسة والقانون، ولا يزيد اجتهادهم فيها عن الحِذْق والكياسة في تطبيق القواعد النظرية على الوقائع العملية. فالاجتهاد إذن لم يغلق بابه، ولكن المسلمين أحسوا في العصور المتأخرة من أنفسهم عدم القدرة عليه، وأحسوا أن أصول المسائل وفروعها في مختلف احتمالاتها قد فُصِّلَتْ تفصيلاً.

على أنَّ الاجتهادَ في حال افتتاننا بالحضارة الغربية خطرٌ غير مأمون العواقب، يخشى معه أن يتحوَّل من حيث يدري المجتهد - إن وجد - ومن حيث لا يدري، إلى تسويغ للقيم الأجنبية التي هو مُعْجَبٌ بها، فإذا لم يكن معجبًا بها فالمجتمع الذي هو معجبٌ بها لا يقبل اجتهاده، بل لا تزال تتناوله ألسن السفهاء من جُهَّالِه، الذين يتصدَّون لإبداء الرأي فيما يعرفون وفيما يجهلون، حتى يفقدَ ثقته في نفسه ويعتَبِر به غيرُه، فيفتي حين يُستفتَى وعينُه على الذين يفتيهم، يريد أن يرضِيَهم، وأن يظفر بتقديرهم وتقريظهم، فيجور على الحق إرضاءً للخلق، ويذهل عما عند الله تَعَجُّلاً لما عند الناس. ومع ذلك كله، فالاجتهاد الذي يحترم النصوص الشرعية ويبحثها في حَيْدَةٍ ونزاهة شيء، والتطوير الذي يهدف إلى تسويغ قيم الحضارة الغربية شيء آخر. الاجتهاد الذي يتمسك بمبادئ الإسلام يُقَوِّمُ بها عوج الحياة شيء، والتطوير الذي ينزل على الأمر الواقع، ويسوغ عوج الحياة بنصوص الشريعة شيء آخر. نقطة البدء في اجتهاد المجتهد هي هذا السؤال: هل يصح هذا الأمر شرعًا أو لا يصحُّ؟ أو: ما حُكْمُ الإسلام في هذا الأمر؟ ونقطة البدء في تطوير المطوِّر هي: ما النصوص الشرعية التي تُثْبِتُ صحة هذا الأمر؟ أو: ما النصوص الشرعية التي تُثْبِتُ حرمة هذا الأمر؟

وخطر التطوير على الإسلام وعلى المجتمع الإسلامي يأتي من وجهينِ: فهو إفساد للإسلام يشوش قيمَهُ، ومفاهيمَهُ الأصلية بإدخال الزَّيْف على الصحيح، ويُثَبِّتُ الغريب الدخيل، ويُؤَكِّدُه، فبعد أن كان الناس يشاركون في تصاريف الحياة، وهم يعرفون أنَّ هذا الذي غُلِبُوا على أمرهم فيه ليس من الإسلامِ، والأمل قائمٌ في أن تَجِيءَ من بعدُ نهضةٌ صحيحة ترد الأمور إلى نِصَابِها عند الإمكان، يصبح الناس وهم يعتقدونَ أن ما يفعلونه هو الإسلام. فإذا جاءَهم مِنْ بعدُ مَنْ يريدُ أن يرُدَّهم إلى الإسلام الصحيح أنكروا عليه ما يقول، واتَّهموه بالجُمود والتمَسُّك بظاهر النصوص دون روحها.

وتَقْلِيدُ المَغْلُوبِ لِلغالب مرحلةٌ طبيعية طارئة تزول مع زوال الضعف. واختلاط الحق بالباطل والنافع بالضار في هذه المرحلة أمرٌ طبيعي كذلك. وهو مرحلة من مراحل التطور الصحيح، تَجيء بعدها التصفية والتمحيص عندما تزول غواشي الضعف والخمول. فإذا سَوَّغْنَا ذلك الغريب الدخيل - خيره وشره - تَسْويغًا إسلاميًّا في حال الضعف والعجز، فقد أَصَّلْنَاهُ من ناحية، وقد أقْحَمْنَا على الإسلام ما يُفْسِدُ بِنْيَتَه من ناحية أخرى؛ لأنه يُصْبِحُ أخْلاطًا من عناصرَ شَتَّى لا تجمعُها رابطة، ولا يَضُمُّها نظام، ولا يشبِهُ بعضها بعضًا. فهذا هو أحد الوجهَينِ في ضرر التطوير، وهو وجه لا يعني إلا المسلمين.

أمَّا الوجهُ الآخر لضرر التطوير - وهو الذي يعني أعداء الإسلام - فهو أن هذا التطوير ينتهي بالمسلمين إلى الفُرقَة التي لا اجتماع بعدها؛ لأن كل جماعة منهم سوف تذهب في التطوير مذهبًا يخالِفُ غيرها من الجماعات. ومع توالي الأيام، نجد إسلامًا تركيًّا، وإسلامًا هنديًّا، وإسلامًا إيرانيًّا، وإسلامًا عربيًّا؛ بل ربما وجدنا في داخل هذا الإسلام العربي ألوانًا إقليمية تختلف باختلاف البلاد. بل لقد سمعنا مُنْذُ الآنَ أحد المنتسبينَ إلى الإسلام من الهنود يتحدث في (مؤتمر برنستون للثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة) سنة 1953 عن الإسلام الهندي الحديث (ص 78، 81). وسمعنا "سمث" يروي عن أحد المسؤولينَ من التُّرْك في كتابه (Islam In Modern History) كلامًا يتحدث فيه عن إسلام تُركيّ خاص (ص 193).


وبعد فلنعد إلى استئناف الحديث من حيث قطعناه في الفصل السابق. ولنتابع أحداث القصة التي وصلنا معها إلى نهاية الجيل الأول. جيل الطهطاوي، وخيرالدين، والتنظيمات، وإلى أول المرحلة الثانية التي بدأت مع الاستعمار.

برز في مطلع هذه المرحلة الثانية التي نتناوَلُها الآن بالكلام رجلٌ غريب الأطوار، يحيط سيرتَهُ وأهدافَه كثيرٌ من الغموض، الذي لم تكشفِ الأيَّامُ حقيقَتَهُ بعدُ. وقد ترك هذا الرجل الغريب أثرًا عميقًا في توجيه الفكر الإسلامي والأحداثِ السياسيَّة، في هذه الفترة وفيما تلاها. ولا يزال أثره باقيًا ومِيسَمُه واضحًا حتى الآن. ذلك هو جمال الدين الأفغاني، كما هو مشهور عند الناس، أو (المُتَأَفْغِن) كما كان يسميه أبو الهدى الصيادي، أو الإيراني كما هي الحقيقة في واقع الأمر.

وإذا ذكر اسم الأفغاني الذي يمثل تمثيلاً قويًّا ذلك التيار الثاني الذي أشرنا إليه - وهو التغريب - فلا بد أن يذكر معه خليفته في هذا الميدان وأبرز تلاميذه، الذي طبق مذهبه، وعمل على تدعيمه ونشره وهو محمد عبده، الذي لا يكاد يذكره أتباعه المتعصبون له إلا مقرونًا بلقب "الإمام".

والحديث عن الأفغانيّ ومحمد عبده طويل يحتاج إلى فُسْحة من الوقت. لذلك فضلت أن أُفْردهما بحديث خاص، وأن أتخطَّاهُما الآنَ إلى الكلام عن التيار الثالث الذي يتمثَّل في جماعة من نصارى العرب، الذين كانوا يشجِّعون الاتجاهات العِلْمانيَّة التحرُّريَّة، وهو تيار لم يؤثر تأثيرًا مباشرًا في الفكر الإسلامي؛ لأنه كان - بحكم ظروف أصحابه - لا يعرض له بخير أو بشر، لا يؤيده ولا يعارضه. وكل ما في الأمر أنه كان يدعو إلى ما كان يسمى عند أصحابه بالفكر الحر. لا يحدد موقف الدين من الموضوعات العلمية والحضارية التي يتكلم فيها ولا يبالي به. وهذه هي العلمانية التي تقوم عليها حضارة الغرب في صميمِها. ولم يكن هذا الفريق من نصارى العرب، ومن نصارى الشاميين على وجه الخصوص وحدَهُ في هذا الميدان. فقد كان يشاركه في الدعوة إلى الفكر الحر الذي لا يتقيد بالدِّين طائفةٌ من المسلمين. ولكن أهمية هذا الفريق وإشارتنا إليه على وجه خاص ترجع إلى أمرين:

أولهما، هو أنَّ كرومر قد أشار إليهم في كتابه "Modern Egypt"، حيث ذكرهم في الطوائف التي أعانتِ السِّياسة الاستعمارية في تحقيق أهدافها، كما أعانوا الخديوي إسماعيل من قبلُ، حين استخدمهم في تنفيذ سياسته التي تقوم على إدخال الحضارة الغربية في مصر[2].


وقد ذكر ألْبرت حوراني في كتابه الذي ظهر سنة 1962 "Arabic Thought In The Liberal Age"

أنَّ المسيحيِّينَ كانوا أسبَقَ أبناءِ العرب اتّصالاً بالثقافة الغربية. وأرجع ذلك إلى نشاط البَعَثَات التَّبْشِيريَّة، وانتشارِ مَدارِسِها وأدْيرتها في الشام، وفي المنطقة الساحلية منها بنوع خاصّ، مُنذُ بداية القرن الثامنَ عَشَرَ. ومع أنَّ الثقافات التي كانتْ تحملها المدارس التبشيرية، من كاثوليكية وبروتستنتية، لم تكن تتجاوز الدائرة الدينية، فإنَّ معرفةَ اللُّغةِ الفِرِنْسية واللغة الإنكليزية قد فتح آفاقًا جديدة للقِراءة أمام المسيحيينَ، فبدؤوا يقرؤون كتبًا تصور الثقافة الفرنسية الجديدة، التي تمثل علمانية الثورة الفرنسية، وأخذنا نسمع قي القرن التاسع عشر عن رجل مثل ميخائيل مشاقة، يحدثنا في كتابه "الجواب على اقتراح الأحباب" أن الشكوك بدأت تساوره في عقائده الدينية، وأنه وجد في مجتمعه كثيرًا من الناس الذين يفكرون على شاكلته[3].

والأمر الثاني: هو أن هذا الفريق، بحكم ظروفه التي ذكرتها من قبل - وهي ظروف طبيعية ليس فيها شذوذ عن المألوف - وبحكم ما كان يَحْظَى به من حمايةٍ أجنبيَّةٍ ولا سيما في مصر، قد كان أسبَقَ النَّاس إلى تأسيس الصحف. بعض هذه الصحف كان يوميًّا يحمل أنباء الأحداث العالمية، والأفكار والمذاهب السياسية، مثل صحيفة الأهرام، والمقطم، ومثل الصحف التي أسَّسها الأفغانيُّ ومَنَحَ امتيازها لرجلينِ من أبناء هذه الطائفة، وهما أديب إسحاق، وسليم نقاش. وبعضها الآخر كان أدبيًّا علميًّا، ينشر أخبار التطورات الحضارية والثقافية الغربية في العلوم والمخترعات، وفي المذاهب الاجتماعية، وفي الأدب والفلسفة والفنّ، وتمثله صحيفة المقتطف، التي انتقلت إلى مصر سنة 1884 - وكانت قد ظهرت قبل ذلك بثمانية أعوام في بيروت - وصحيفة الهلال، التي أنشئت في مصر سنة 1892. وهذا النوع الأخير الذي تمثِّلُه هاتان الصحيفتانِ، هو الذي يعنينا في هذا المكان؛ لأن أصحابه هم الذين تَزَعَّمُوا الدعوةَ إلى العِلْمانية والتَّحرُّرِية في الفِكْر العربي الحديث. وأهميَّة هذه الصحف لا ترجع إلى ما كانتْ تُذِيعه من آراء فحسب، ولكن أهميتها الكبرى ترجع إلى أنها كانتْ مركزًا لتنشئة الجيل التَّالي من الصحفيينَ على هذه المبادئ العِلْمانيَّة، وهو الجيل الذي ربَّى بدوره جيلا آخر، جاءت وتَجِيءُ من بعده أجيالٌ على شاكلته، فلم نبلغ منتصف القرن العشرين، حتى كانتِ الصَّحافةُ كلُّها في أيدي العلمانيين؛ كما لاحظ جِب (Gibb) في كتابه"Whither Islam".


وفي الوقت نفسه ظهر في النصف الأول من القرن التاسِعَ عَشر، للمرة الأولى في العصر الحديث، عالم لغوي مسيحي هو ناصيف اليازجي، ثم أخذ عدد المهتمين بعلوم اللغة العربية من المسيحيينَ العرب يتزايد، وظهر بينهم عدد من الكتاب والشعراء[4].

وبهذه الصلات الثقافية بين مسيحيي العرب وبين الثقافة الفرنسية والإنجليزية من ناحية، وبهذا الكَلَف الجديد بالدراسات العربية من ناحية أخرى، فُتِحَتْ عيونهم على عالَمَينِ جديدَينِ خارج الكنيسة وخارج المدارس التبشرية، وهَيَّأَهُمْ ذلك لظهور الفكر العِلْماني المُعادي للكنيسة في كثير من كتاباتهم، في الوقت الذي لم يكن فيه لهذا ا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل


avatar


نقــاط : 99245
 الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)   Oooo14
 الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)   User_o10

 الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)   Empty
مُساهمةموضوع: رد: الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)     الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)   Emptyالأربعاء 15 مايو 2013 - 10:56

الفصل الثالث: الأفغَاني ومحمّد عَبده:
الاهتمام بالأفغاني ومحمد عبده يَسْتَنِدُ إلى اعتبارينِ: أولهما: هو أنَّ الصورة الشائعة المعروفة عنهما بين الناس تخالف حقيقتَيْهِما، وهذه الصّورة الشائعة تستمِدُّ وجودها وقوتها من الدعاية الدائبة التي لا تَفْتُر، والتي تسهر عليها قوى ومؤسسات قادرة ذات نُفُوذ. ولذلك كان الكشف عن حقيقتيهما محتاجًا إلى مجهود كبير، وإلى مزيدٍ من الدَّأب يُقابل دأب الدعاية المبذولة في تدعيم مكانيهما. وثاني هذينِ الاعتبارين: هو أنَّ جلاءَ حقيقة الرجُلينِ يتبعه جلاء حقيقة كثير من الأوهام التي تأصلتْ في نفوس الناس تبعًا لاستقرار شُهْرتَيْهِما فيها، فكشف الستر عنهما هو في الوقت نفسه كشفٌ للستر عن أباطيلَ كثيرةٍ ترتبطُ بهما، وتستمدُّ قوتها وبريقها الخَدَّاع من شُهْرَتَيْهِمَا، ومن ارتباطِها بهما.

أول ما يَريبُ الباحث في أمر الأفغاني تعميتُه أصلَه ونسبَهُ، فقد زعم أنه أفغانيُّ سُنِّي، ثم أثبت البحث الحديث بأدلَّة لا تَقْبَل الشكَّ أنه كان إيرانيًّا شيعيًّا، وزعم أنه شريف النسب، حسيني الجد، وهو زعْمٌ لم يقم عليه دليل، والذي يكذب على الناس في بلده خليق أن لا يصدق في نسبه.

أما الأدلَّة على أنه إيراني شيعي، فهي صريحة متعدّدة في الكتاب الذي ألَّفه ابن أخته ميرزا لطف الله خان، الذي كان يلازمه في زياراته لإيران. وقد مات ابن أخته هذا سنة 1340 هـ (1921 - 1922م) فعهد ابنه صفات الله الأسد بادي إلى حسين كاظم زاده بنشره، فنشره في برلين لأول مرة سنة 1344 هـ (1926 م)، حيث كان يقيم وقتذاك. ثم ترجم الكتاب إلى العربية سنة 1957م تحت عنوان "جمال الدين الأسد بادي". وقد أثبت المؤلِّفُ والمترجمان بأدلَّة كثيرة أنَّ جمال الدين كان إيرانيًّا من أسد آباد (بالقرب من همذان)، وكان شيعيًّا.

ولم يكن أفغانيًّا من أسعد أباد (من أعمال كابل بأفغانستان)، وكما لم يكن سنيًّا حنفي المذهب، على ما كان يزعمه وعلى ما هو مشهور حتى الآن بين الناس. فبقية أسرته لا تزال في أسد أباد. وقد حقَّق نسبه وزار أسرته عنايت الله خان، عم أمان الله خان ملِك الأفغان الأسبق. واسم والده واسم خادمه يدلان على أنَّه شيعِيٌّ إيراني. فاسم والده (صفدر)، يعني (مفرق الأعداء)، وهي عند الشيعة صفة لسيدنا علي - رضي الله عنه - والاسم وقف على الشيعة، لا يتسمى به أحد من الأفغانيين. واسم خادمه الذي كان يلازمه دائمًا، والذي تركه بعد رحيله عن مصر في رعاية تلميذه محمد عبده، هو (أبو تراب)، وهي كنية سيدنا علي - رضي الله عنه - ولا وجود لهذا الاسم في غير إيران. ولهجة جمال الدين الفارسية تَقْطَعُ بأَنَّهُ إيراني، وأصدقاؤه المقربون الذين كانوا يلازمونه في الأستانة كانوا من الإيرانيين. وكان تفكيره دائمًا متجهًا إلى إيران، وإلى اتّخاذها مركزًا للجامعة الإسلامية التي كان يدعو إليها؛ كما يبدو من مقال له في "العروة الوثقى"[14].

وثقافة جمال الدين الفلسفية وتوسُّعه في دراسة المنطق وعلم الكلام، إلى جانب دراسة الفقه وعلم الأصول، هي الدراسة الشيعية التقليدية، التي تنمي ملكة الجدل وقوة الاستدلال. والدراسة السنية تتبع طريقًا آخر يقوم على دراسة الفقه والأصول والحديث والتفسير واللغة والأدب.

ولكن جمال الدين أخفى أصله الإيراني؛ لأنه كان يريد أن يخفي تَشَيُّعَه عن الناس في البلاد العثمانية التي تنقل فيها، وأهلها سنية حنفية كالأفغان. وقد استفاد جمال الدين من انتسابه للأفغان؛ لأنه أصبح بعيدًا عن سلطة ممثلي إيران وقناصلها في الخارج. وكان من السهل أن تَرُوج أفغانيته بين الناس في البلاد التي نزلها؛ لأن أفغانستان لم يكن لها تمثيل خارجي في ذلك الوقت، وكان للإنجليز نفوذ كبير فيها، فكانوا يرعون أتباعها في الخارج.

ومما يَريب الباحثَ في أمر جمال الدين وأهدافه أيضًا أن أكثر نشاطه كان سريًّا، فقد كان أول من أدخل نظام الجمعيات السرية في العصر الحديث في مصر، وكان حيثما حل يؤسس الجمعيات السرية وينشرها، فأسس الحزب الوطني الحر في مصر أثناء إقامته بها، وكان حزبًا سريًّا، لم يمضِ على تأسيسه عام واحد حتى أصبح أعضاؤه 20180 عضوًا، وأصبح له رصيد ضخم في المصارف[15].

وأنشأ جمعية "مصر الفتاة" السرية، وأنشأ صحيفة تنطق باسمها هي صحيفة "مصر الفتاة"، ولم يكن فيها مصري واحد؛ كما روى تلميذه محمد عبده في كتاب "أسباب الحوادث العرابية"، وكان أغلب أعضائها من شبان اليهود[16].

وأنشأ أثناء إقامته في الهند جمعية "العروة الوثقى" السرية، التي امتد نشاطها إلى الشام وإلى مصر وإلى السودان وتونس. وكان من أعضائها الأمير عبدالقادر الجزائري، ومن اختار من أنجاله ورجاله، ومنهم محمد أحمد المهدي السوداني الذي تتلمذ على الأفغاني في مصر أربع سنوات[17].

وقد حفظ الجزء الثاني من "تاريخ الأستاذ الإمام" لمحمد رشيد رضا عددًا من الرسائل التي تداوَلَها محمد عبده مع أعضاء هذه الجمعية، وهي مليئة بالإشارات والرموز. وبعض هذه الإشارات يدل على أن محمد عبده قد دخل سرًّا إلى مصر؛ استعدادًا لدخول السودان والاتصال بالمهدي، ومر أثناء هذه الجولة بتونس وبالشام، حيث كان يعمل على (إحكام العروة وتمكين عقودها) حسب تعبيره[18]. وكانت صحيفة "العروة الوثقى" التي أنشأها جمال الدين مع تلميذه محمد عبده في باريس هي الصحيفة الناطقة باسم الجمعية السياسية السرية.

ثم أنشأ محفلاً ماسونيًّا تابعًا للشرق الفرنسي، ضم إليه عددًا كبيرًا من أصحاب النفوذ في مصر بمساعدة رياض باشا رئيس الوزراء. وهو الذي استقدمه إلى مصر، وتولى رعايته فيها، وأجرى عليه راتبًا شهريًّا، وأعدَّ له سكنًا في خان الخليلي، ويقال: إنه كان في حارة اليهود[19].

ويتصل بهذا النشاط السري الذي لازمه في كل مكان تهييجُه على الثورات، وتشجيعه على تأسيس الصحف التي تخدم أغراضه، وتنشر آراءه، وتشيد بذكره، فهو الذي أنشأ صحيفة "مصر". وعهد بإدارتها إلى أديب إسحاق، وكان قد قدم إلى الإسكندرية للاشتراك في التمثيل المسرحي مع سليم نقاش، ثم أسس صحيفة "التجارة" بالإسكندرية، وعهد بإدارتها إلى أديب إسحاق وسليم نقاش، فكانا لا يزالان يُشيدانِ بذكره، في مثل قولهما: "مهبط أسرار الحكمة وإسطرلاب فلك العلوم، وإسطقس هَيُولى الفلسفة"، إلى غير ذلك مما اعتادا أن يصفاه به [20].

وقد طلب إلى تلميذيه محمد عبده وإبراهيم اللقاني أن يساهما في تحرير صحيفة "التجارة"، وكان هو نفسه يشترك ببعض مقالات، يوقعها باسم مستعار هو (مُظْهِر بن وَضَّاح).

وليس مُهِمًّا أن تكون المبادئ التي تُنشر على الناس وتذاع سليمة أو منحرفة، فالذي يُنْشَر على الناس دائمًا نظيفٌ وسليمٌ. ولكن المهمَّ هو أن الذين يشتركون في التنظيمات السرية يجهلون دائمًا حقيقة أهدافها، ولا يعْرِفون إلا ما يريد رؤوس التنظيم السِّرّي أن يعرفَ بين الناس. والدارس لتاريخ الدعوات السرية في الإسلام، ولتاريخ الباطنية أو الإسماعيلية على وجه الخصوص يرى الشاهد على ذلك في بدْئِهم بالدعوة إلى إعلاء كلمة الله وإنصاف المحرومين، وانتهائهم آخر الأمر إلى عقيدة فلسفية تنكر الأديان، وتخوض في دماء المسلمين. وغاراتهم على قوافل الحُجَّاج، وتنكيلهم بهم في المسجد الحرام أمر مشهور في كتب التاريخ.

وقد غمس جمال الدين يده فعلاً في الدم الحرام، وكان مستعدًّا دائمًا لأن يغمس يده فيه، فهو مسؤول عن اغتيال ناصر الدين شاه إيران. كان لا يزال يُؤَلِّب عليه في كل مكان منذ طرده من إيران 1891م، وأخرجه من الضريح المقدس عند الشيعة الذي كان قد عاذ به ولجأ إليه، وهو (بقعة حضرة عبدالعظيم المقدسة). فاتصل برجل هارب من إيران يدعى (ميرزا رضا الكرماني) وحرَّضه على قتله، فتسلَّل إلى إيران واغتاله سنة 1896 في المكان نفسه الذي طرد منه الأفغاني[21]، وقد فكر الأفغاني بموافقة محمد عبده في اغتيال الخديوي إسماعيل أثناء مروره على كوبري قصر النيل، لأن جمال الدين كان متفقًا على برنامج الحكم مع ابنه توفيق، الذي كان قد نجح في ضمه إلى محفله الماسوني. وقد اشترك من بعد مع نوبار باشا في السعي لعزل إسماعيل[22].

وليس مهمًّا أن يكون الذينَ اشترك في اغتيالهم، أو دبره وفكر فيه، مُفْسدينَ أو مصلحينَ. ولكن المهم هو أنه كان يتخذ الاغتيال وسيلة من وسائله السياسية، ويخوض الدماء في سبيل الوصول إلى أهدافه، وهو ما لا يحله الإسلام، ولا يفعله مسلم يؤمن بالله، ويخشى عذابه، ويقف عند حدوده. وهو يذكِّرُنا مرة أخرى بوسائل الإسماعيلية الباطنية، ولاسيما الحسن بن الصباح صاحب قلعة (ألْمُوت).

إنَّ الدَّارس المدقق لسيرة جمال الدين لا يملك إلا أن يتوقف أمام كثير من الظواهر الغريبة في سيرته. إنه يتساءل: فيمَ تَنَقُّلُه السريع المفاجئ الذي لا يفتر، بين إيران وبلاد الأفغان والهند والحجاز ومصر وتركيا وفرنسا والنمسا وإنجلترا وروسيا؟، وفيمَ هذه الأزياء المختلفة التي كان يلبسها لكل بلد، والتي يحفل بصورها كتاب ابن أخته ميرزا لطف الله خان؟ فهو في زي عربي تارة، وفي زي علماء الشيعة تارة أخرى، ومع جماعة من كبار علمائهم ومجتهديهم تارة ثالثة، وفي طربوش تركي تارة رابعة، وفي زي أفغاني تارة خامسة. فيمَ كل هذا، وباغي الخير لا يحتاج إلى التستر والتخفي، وإنما يتخفَّى المريب؟؟ ومن أين كان ينفق على هذه الرحلات؟ وفيمَ كانت صلته بالمستر بلنت، ذلك الرجل الغريب، الذي كان لا يفتر عن التنقل بين مضارب الأعراب في مصر وفي سورية وفي نجد؟ يدعو المصريين إلى الثورة، ويتكلم بعد وقوعها باسم عرابي، ويقدم له صورًا مضلِّلَة عن صفته الرسمية وقدرته السياسية وقوة الجيوش الإنكليزية، ثم يدافع عنه بعد اعتقاله؟! ويدعو العرب إلى إنشاء دولة عربية؛ لأن الدولة العثمانية على وشك السقوط والانحلال، ولا ينبغي أن يشاركها العرب هذا المصير، فيجب أن يُكَوِّنُوا دولة عربية حليفة لإنجلترا تصبح مقرًّا للخلافة الإسلامية، ويكتب في ذلك كتابه المشهور، الذي سماه "مستقبل الإسلام" (The Future of Islam)، والذي كان مصطفى كامل زعيم الحزب الوطني في مصر أول مَنْ تَنَبَّهَ إلى خُطُورته؟! فيمَ كانت صلة الأفغاني بهذا الرجل، ينزل ضيفًا عليه عندما زار إنجلترا، ويكتب إلى محمد عبده من بورسعيد وهو في طريقه إليها يطلب إليه أن يكون رده بعنوان المستر بلنت؟ بل فيمَ كانت صلته بإنكلترا، يلجأ إلى سفيرها في الأستانة؛ لكي يساعده على الخروج من تركيا، حين غضب عليه السلطان عبدالحميد[23]؟


وباسم مَنْ كان يفاوض الإنجليز في الوصول إلى اتفاق مع تركيا ضد روسيا؟ ومع المهدي للاعتراف باستقلال السودان؟ وما هذا الخليط من اليهود والنصارى الذي يجتمع حول الرجل الذي كان صوته أعلى الأصوات في الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وفي التنديد بفساد المجتمع الإسلامي والدعوة إلى إصلاحه؟ سليم نقاش صاحب الكتاب الذي يحمل عنوانًا غريبًا في إبَّان الدعوة إلى الجامعة الإسلامية وهو "مصر للمصريين" شامي نصراني. وأديب إسحاق من نصارى الشام أيضًا. وكان إذا ذكر بعد موته في مجلس الأفغاني جاشت نفسه بالحزن وهو يقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون". وطبيبه الخاص يهوديٌّ يدعى هارون. وقد كان هو ونصراني آخر يدعى جورجي كونجي هما اللذان شهدا احتضاره وحدَهُما[24]. والذي كان يساعده في تحرير صحيفة "العروة الوثقى" مع محمد عبده رجلٌ مريب من إيران يدعى ميرزا باقر، كان قد تنَصَّر وصار داعية للنصرانية هناك مع جمعية للمبشرينَ، ثم عاد إلى الإسلام؛ ليشارك في تحرير الجريدة الداعية إلى الجامعة الإسلامية[25].

ومجالس الأفغاني كانت تضم خليطًا من المسلمين والنصارى واليهود. هذا بالإضافة إلى ما أُشِيع من أنه كان ينزل في حارة اليهود، ومن أنه ألَّف جمعية سرية أعضاؤها من شباب اليهود. ولماذا كانت عداوته الشديدة للاستعمار الإنكليزي وحده دون الاستعمار الفرنسي والاستعمار الهولندي؟ فلم ترد في صحيفة "العروة الوثقى" إشارة للاستعمار الفرنسي في الجزائر، كما لم ترد فيها إشارة للاحتلال الهولندي في أندونيسيا، ولم تُشِر الصحيفة إلا إشارة عابرة لاحتلال الهند الصينية. نحن نعرف أن الأفغاني كان ينتسب حين دخل مصر إلى المحفل الماسوني الأسكتلندي، ثم اختلف معه فتحول إلى المحفل الماسوني الفرنسي[26]. فهل كانت عداوته للإنكليز مبنية على هذا الخلاف مع المحفل الماسوني الأسكتلندي، مع ما هو معروف من استغلال الاستعمار للمحافل الماسونية، إلى جانب ما هو معروف من صلتها بالصِّهْيَوْنِيَّة؟!

وبعد، فما هي الأعماق الحقيقية والأغوار البعيدة لدعوة جمال الدين الأسد بادي، التي كان يبدو على سطحها الظاهر دعوة متحمسة إلى إصلاح المجتمع الإسلامي، وجمع شَمْل المسلمين؟

يصف أبو الهدى الصيادي هذا الرجل في خطاب كتبه إلى رشيد رضا سنة 1898 م فيقول: إنه "مارق من الدين، كما مرق السهم من الرمية"[27].

ويقول تلميذه أديب إسحاق في ترجمته: "إنه أحس بميل للتصوف في بدء حياته، فانقطع حينا بمنزله يطلب الخلوة لكشْفِ الطريقة وإدراك الحقيقة... ثم خرج من خلوته مستقر الرأي على حكم العقل وأصول الفلسفة القياسية" [28].

ووصفه سليم العنحوري حين ترجم له في شرح ديوان "سِحْر هاروت"، فقال: "إنه سافر إلى الهند، وهناك أخذ عن علماء البراهمة والإسلام أجل العلوم الشرقية والتاريخ، وتبحر في لغة السانسكريت أم لغات الشرق، وبرز في علم الأديان حتى أفضى به ذلك إلى الإلحاد والقول بقدمية العالم، زاعمًا أن الجراثيم الحيوية المنتشرة في الفضاء هي المكونة بترقٍّ وتحوير طبيعيَّيْنِِ ما نراه من الأجرام التي تشغل الفضاء ويتجاذبها الجو، وأنَّ القول بوجود محرّك أول حكيم (وَهْمٌ)، نشأ من ترقي الإنسان في تنظيم المعبود على حسب ترقيه في المعقولات" [29].

وقالت صحيفة "المقطم" في نعيه: "إنه كان منارًا للحرية والعرفان في كل مكان احتله... فَقَدَ الشرق فيه عالمًا يُهْتَدَى بعلمه، وركنا يُعْتَمَد عليه، وداعيًا إلى الحرية يُقْتَدَى به في الدعوة إليها". وختمت الصحيفة النعي بقولها: "فنعزي جميع أنصار الحرية، ومحبي العلوم، والفضائل عن فَقْدِه" [30].

والحرية والأحرار أو أحرار الفكر هي ترجمة للكلمات الإنجليزيةFree Thinkers, Liberals, Liberalism وهي - كما أسلفنا القول في المحاضرة السابقة - كلمات اصطلاحية، يراد بها إطلاقُ الفكر من كل قيد، ومن العقائد الدينية على وجه الخصوص.


ووصف رشيدُ رضا الأفغانيَّ بأنه كان يميل إلى وحدة الوجود، التي يشتبه فيها كلام الصوفية بكلام الباطنية، وقال: إنَّ كلامه في النشوء والترقي يشتبه بكلام داروين[31].

وكتاب رشيد رضا إليه، الذي كتبه في سنة 1310 (1892م)، والذي أورد نصه في كتابه "تاريخ الأستاذ الإمام" يثبت ذلك، حيث يبدأ بقوله: "الحمد لله على إفضاله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، وعلى سيدي بل السيد المطلق... سدرة منتهى العرفان، وجنة مأوى المحاسن والإحسان، الذي له في كل جو مُتَنَفَّس، ومن كل نار مُقْتَبَس، الإمام المفرد، والعقل المُجَرَّد... بَدَل الأبدال، سيد الآل، الإنسان الكامل، الوراث الكامل، المرشد الكامل، مَهْبِط الفَيْض، مَصْعَد الكلم الطيب، مَجْلَى سر الجمال الأكمل" [32]

وأظهر منه في الدلالة على ذلك كتاب محمد عبده، الذي بعث به إليه من بيروت في 5 جمادى الأولى سنة 1300 هـ (1882 م) - بدأه بقوله:
"ليتنِي كنتُ أعلم ماذا أكْتُبُ إليك، وأنت تعلم ما في نفسي؛ كما تعلم ما في نفسك، صنعتنا بيديك، وأفَضْتَ على موادّنا صورها الكمالية، وأنشأتنا في أحسن تقويم، فبك عرفنا أنفسنا، وبك عرفناك، وبك عرفنا العالم أجمعين. فعِلْمُك بنا كما لا يَخْفَاك عِلْم من طريق الموجب. وهو علمك بذاتك، وثِقَتك بقدرتك وإرادتك، فعنك صَدَرْنا، وإليك إليك المآب".

وفيه يقول مخاطبًا الأفغاني:
"فصورتك الظاهرة تَجَلَّتْ في قوى خيالية، وامتد سلطانها على حسِّي المشترك، وهي رسم الشهامة، وشبح الحكمة، وهيكل الكمال، فإليها رُدن جميع محسوساتي، وفيها فنيت مجامع شهوداتي، وروح حكمتك التي أحييت بها مواتنا، وأنرت بها عقولنا، ولطفت بها نفوسنا، بل التي بَطَنْتَ بها فينا، فَظَهَرْتَ في أشخاصنا، فكنا أعدادك وأنت الواحد، وغَيْبك وأنت الشاهد، ورَسْمك الفوتغرافي الذي أقمته في صلاتي رقيبًا على ما أقدم من أعمالي، ومسيطرًا عليَّ في أحوالي، وما تحركتُ حركة، ولا تكلمتُ كلمة، ولا مضيتُ إلى غاية، ولا انْثَنَيْتُ عن نهاية، حتى تطابق في عملي أحكام أرواحك وهي ثلاثة، فمضيت على حكمها سعيًا في الخير، وإعلاء لكلمة لحق، وتأييدًا لشوكة الحكمة وسلطان الفضيلة، ولست في ذلك إلا آلة لتنفيذ الرأي المثلث وما لي من إرادة حتى ينقلب مربعًا".

وفي هذا الكتاب يقول:
"فإني على بينة من أمر مولاي، وإن كان في قوة بيانه ما يشكِّكُ الملائكة في معبودهم، والأنبياء في وحيهم".

وفيه يطلب نسخة من رسم فوتوغرافي حديث فيقول:
"ونستمنح من كرمه الواسع أن يمنَّ علينا بأمرين، أحدهما إرسال رسمه الفوتغرافي الجديد. فإن هذا الخادم كان عنده نسختان من الفوتغرافية الأولى، إحداهما أخذها أعوان الضبطية من بيتي عندما أودعت السجن، كما أخذوا كتاب الماسون بخط مولاي المعظم، والثانية استجدانيها سعد أفندي زغلول، وهو من خواصّ محسوبيكم. ولشفقتي عليه تركتها له أيامًا؛ ليعيش أعوامًا" [33].

ويشهد به كذلك كتاب الأفغاني إلى محمد عبده عند مروره ببورسعيد في طريقه إلى لندن، فقد بدأه بكلام غريب خرج فيه عمَّا جرت عليه عادة المسلمين، من البدء باسم الله وبحمده والصلاة على نبيه، فقال: "الابتهاج بجميل الصنع جزاءٌ تفيض به جامعة الكون على النفوس، كلما قامت بوظائف الوجود. والمَحْمَدة شهادة تبعث ملكوتُ وحدانيةِ الهيئةِ على بَثِّها مُتشخِّصاتِ الطبيعة في مشهد العالم، تخليدًا للجزاء، وتعظيمًا للأجر. فلك بجميع صنعك مع "العارف" الجزاء الأوفى"[34]. وفي آخر هذا الخطاب يشير الأفغاني إلى عصابته الذين بايعوه بقوله: "وسلم على كل من عَرَفَنَا وعَرَفْنَاه، واعترف بنا وسلَّمنا له". كما يطلب إبلاغ سلامه: "لصاحب النفس الزكية، والهمة العلية، دولتلو رياض باشا، أيَّده الله تعالى".

ومن هذا القبيل أيضًا كتاب إبراهيم اللقاني إلى جمال الدين الأفغاني، الذي أرسله إليه من بيروت في 15 فبراير 1883 م الموافق 7 ربيع الثاني 1300 هـ حسب ما جاء في صدره، بتقديم التاريخ الميلادي على التاريخ الهجري[35]. وقد بدأه بقوله: "إن راسل سواي حظيرة قدس مولاي، وأنا لم أفعل فلا عجب ولا عقوق، فإني أَخَصُّ خَشَمِ تلك الحظيرةِ، وأقربهم إلى قُدْسها، فأنا أشدُّهم خوفًا من مولاي، وأبعدُهم تصوُّرًا لعظمته، وما تصوَّرت غير العجز عن التصور. فكلما نَزع بي الوجد إلى المراسلة، غشيني من هذا التصور غاشٍ عمَّنِي هيبة ودهشة، وأفعمني ذُهولاً وغشية، حتى لا أعقلَ إلا العجز، ولا أعيَ إلا القصور، ولا أسمعَ إلا الزجر، ولا أبصرَ إلا الحطَّة، ولا أحسَّ إلا الضعف، ولا أجد إلا الحيرة؛ بل هذه كلها كلمات أكني بها عما يعروني حينئذ من الأحوال؛ كما يكنَّى بِما في الدنيا عما في الجنة".

وفي هذا الخطاب يعتذر إبراهيم اللقاني عما: "اقترفه من سوء الأدب بسبب الجرأة على إرادة مراسلة مولى لا تُطاولُ أعناقُ الحكماء موطئَ نَعْلِه في العَلْياء، مولى لا ندري هل هو يعلم الحكمة أم الحكمة تعلمه؟!، ولا نفقه مَنِ المعنى، ومن المَبْنَى منهما؟!، مولى لا نتحاشى أن نَقُول فيه: إن روح الطبيعة برزت في ثيابه؛ لتهدي عالمها إلى ما تريده من أسرارها".

والآراء السائدة في هذه الرسائل، والتي هي قدر مشترك بين الأستاذ وتلاميذه، من مثل كلام الأفغاني عن "جامعة الكون" و"ملكوت وحدانية الهيئة" و"متشخصات الطبيعة" وكلام المويلحي عن "روح الطبيعة"، وغلو محمد عبده في وصف الأفغاني بما لا يوصف به إلا الخالق جل شأنه، وجرأته على الملائكة والأنبياء، كل ذلك لا يكشف عن عقيدة سليمة أو إسلام صحيح.

وحكى شيخ الإسلام في الدولة العثمانية (حسن أفندي فهمي) عن الأفغاني حين كان في زيارته الأولى للأستانة أنه جعل النبوة صنعة، وسوَّى بينها وبين الفلسفة، وَأَمَرَ الوُعَّاظ في المساجد أن يهاجموه ويفندوا قوله، وانتهى الأمر بإجلائه عن الأستانة في زيارته الأولى لها، وسفره إلى مصر[36].

ولَمَّا تصدَّر الأفغانِيُّ في القاهرة للتدريس في الأزهر هاجمه علماؤه، وكان الشيخ عُلَيْش - وهو عالم من علماء الأزهر مغربي الأصل مشهور بتدينه وشدة غيرته على الإسلام - أعْنَفَهم في ذلك، فكان يروغ بِعُكَّازِه على جمال الدين وتلاميذه في صحن الأزهر، حتى انقطع عنه، وأصبح يجتمع بتلاميذه في بيته أو في قهوة البوستة.

هذه أقوالٌ لا تدعو إلى الاطمئنان لِظاهِرِ أمر الأفغاني، وتدعو إلى التنقيب عمَّا وراء هذا الظاهر. ومع ما أطلنا في الحديث عنه، فنحن لم نصل بعد إلى نتيجة محقَّقة، وغاية ما وصلنا إليه هو الدعوة إلى إعادة النظر في أمره، والتنبيه إلى أنه كان ذا أهداف سياسية خطيرة، تذكرنا بأهداف الباطنية وأساليبهم، وهي مسألة يدعو إلى التأمل فيها وتدبرها ما ذكره رشيد رضا في تاريخه، من أنَّ الأفغانيَّ ومحمد عبده كانا يهدفان إلى إخراج الإنجليز من مصر والسودان، أو إقناعهم بترك السودان، بتكبير شأن دعوى محمد أحمد للمهدوية، حتى إذا تيسر ذلك، وتم لهما هذا، ذهبا إلى السودان خفية، ونظما فيه قوة محمد أحمد، توسلاً إلى إنقاذ مصر بها، وتأسيس دولة قوية، يعتز بها الإسلام والشرق، وتتحرَّر شعوبهما من الرق (1: 380). وهذا كلام يذكرنا بقصة عبيدالله المهدي أول ملوك العُبَيْدِيِّينَ المشهورينَ باسم الفاطِمِيينَ، الذين كانوا يرسلون رسلهم إلى المغرب، حتى إذا مهَّدوا لهم الطريق، حضروا وأنشأوا دولتهم التي كانت تطمع في الاستيلاء على كل بلاد المسلمين.

وبعد، فلا بد لي من أن أقف عند هذا القدر في الكلام عن جمال الدين الأفغاني، وأن أكتفي بتأكيد مسؤوليته عن إنشاء الدعوات السرية في المجتمعات الإسلامية الحديثة، وتشريع الاغتيال وسيلة لتحقيق أهدافها، وتصعيد الدعوةِ إلى الحرية، التي بدأت كما رأينا مع الجيل الأول، جيل الطهطاوي وخيرالدين، وهي دعوى تشمل الحرية والتحرُّر بكل معانيهما السياسية والفكرية والاجتماعية، وبكل ما تشتملان عليه من روح التمرد والانطلاق الذي يأبى كل قيد ويرفض كل موروث، ولو كان قَيْدَ الدين وميراثه وتقاليده. وذلك كله بالإضافة إلى سعيه لإفساد العقيدة الإسلامية، واستعانته بأعداء الإسلام على تحقيق أهدافه.

وإذا ذكر الأفغاني، فلابد - لاستكمال الصورة - من أن نذكر معه تلميذه محمد عبده، والذي نشر مذهبه وقدمه في صيغة مغرية جذبت إليها كثيرًا من المخدوعين بظاهرها.

تنقسم حياة محمد عبده الفكرية والسياسية إلى قسمين: يتميز أحدهما عن الآخر: القسم الأول هو الذي عمل فيه تحت إشراف الأفغاني، وكان فيه خادمًا لأهدافه، يرى بعينيه، ويفكر بعقله، ويكتب بوحيه، وذلك واضح في رسائله التي ما أكثر ما تجد فيها مثل قوله: "فتلقيت من الأمر الجديد أن أكون على مقربة من الضوضاء"[37]، أو قوله: "تلقيت من الأمر الجديد أن أنحو نحو الشرق، حيث مسيل الحادثات"[38]، أو قوله: "أُذِنْتُ أن أبعث لك ببعض القواعد التي ينبغي أن يُرْفَع البناء عليها"[39]، أو نحو ذلك مما يشهد أنه كان آلة في يده. ويتسم هذا الطور بالعنف، وفيه مما يريب، ما رابنا من الأفغاني.

والقسم الثاني من حياته هو الذي عمل فيه بعد عودته إلى مصر في ظل صداقة اللورد كرومر والمستر بلنت، ما تشهد به تقارير كرومر السنوية، وكتابه عن مصر الحديثة (Modern Egypt)، وعن عباس الثاني، ومذكرات المستر بلنت (My Diaries)، وكتابه "التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر" (The Secret History of the Brithes Occupation of Egypt)، وهي صداقة تركت أثرها في سلوك محمد عبده وفي آرائه.


يقول كرومر في تقريره السنوي عن عام 1905 في الفقرة (7)، التي كتبها بعنوان: "الشيخ محمد عبده". بمناسبة وفاته: "وكان لمعرفته العميقة بالشريعة الإسلامية، ولآرائه المتحرّرة المستنيرة، أثرها في جَعْل مشورته، والتعاون معه عظيمَ الجَدْوى". وضرب لذلك مثلاً فتواه المشهورة في ربح صناديق التوفير. ثم يقول، بعد أن يشبه دور محمد عبده في مصر بدور السيد أحمد خان في الهند: "والأيام وحدها هي التي ستكشف، عما إذا كانت الآراء التي تعتنقها المدرسة التي تزعمها الشيخ محمد عبده، سوف تستطيع التسرب إلى المجتمع الإسلامي. وأنا شديد الرجاء في أن تنجح في اكتساب الأنصار تدريجيًّا، فلا ريب أن مستقبل الإصلاح الإسلامي، في صورته الصحيحة المُبَشِّرَة بالآمال، يكمن في ذلك الطريق الذي رسمه الشيخ محمد عبده. وإن أتباعه ليستحقون أن يعاوَنوا بكل ما هو مستطاع من عطف الأوروبي وتشجيعه".

ويقول كذلك في تقرير سنة 1906، في الفقرة الثالثة، التي تكلم فيها عن الوطنية المصرية، بعد أن عرض لفكرة الجامعة الإسلامية، وللحزب الوطني المتشبع بها: "إلى جانب هؤلاء الذين يَدَّعُون لأنفسهم صفةَ الوطنية، تُوجَدُ جماعةٌ أُخْرَى من المصريين الذين لا يتمتعون بمثل شُهْرة الفريق الأول؛ ولكنهم لا يقلّون عن منافسيهم استحقاق لهذه الصفة، بالرغم من اختلافهم معهم في المنهج الفكري، وفي أسلوب العمل. وهذه الجماعة الصغيرة العدد، والآخذة في الازدياد، هي الحزب الذي يمكن أن أسميه على سبيل الاختصار بأتباع المفتي الأخير الشيخ محمد عبده[40]... وفكرتهم الأساسية تقوم على إصلاح النظم الإسلامية المختلفة، دون إخلال بالقواعد الأساسية للعقيدة الإسلامية. فهم وطنيون حقًّا، بمعنى أنهم راغبون في ترقية مصالح مواطنيهم وإخوانهم في الدين، ولكنهم غير متأثرين بدعوة الجامعة الإسلامية. ويتضمن برنامجهم - إن كنت قد فهمتُه حقَّ الفهم - التعاونَ مع الأوربيين، لا معارضتهم، في إدخال الحضارة الغربية إلى بلادهم".

ثم يُشيرُ إلى أنه - تشجيعا لهذا الحزب، وعلى سبيل التجرِبة - قد اختار أحد رجاله، وهو سعد زغلول، وزيرًا للمعارف. ويؤكد في نهاية الفقرة أنه: "لن يكون هناك محل للتراجع في كل حال. إن العمل على إدخال الحضارة الغربية في مصر يسير سيرًا حثيثًا، في كل فرع من فرع الإدارة في الدولة، على خطوط كانت موضعَ العناية والدرس، تقوم على التطور والتدرج، دون إحداث انقلاب أو تغيير جذري مفاجئ".

ويردد كرومر هذه الآراء نفسها في كتابه "Modern Egypt" الذي ظهر بعد ذلك بعامين (1908)، ويضيف إليه: "إني أشكُّ كثيرًا في أنَّ صديقي مُحمَّد عبده كان لا أدريا (Agnostic). ولو أني أعرف أنه كان يكره أن يوصف بهذه الصفة. وقد تعوَّد أصدقاؤه - مع تقديرهم له - أن يعتبروه فيلسوفًا" [41].


أمَّا وِلْفْرِدْ بْلَنْتْ فَصِلَتُه بمحمد عبده قديمة، ترجع إلى صلته بأستاذه جمال الدين وصلته بالثورة العرابية. ثم جدد بلنت هذه الصلة بمحمد عبده بعد عودته من المنفى، إذ كانا يسكنان في دارين خَلَوِيَّتَيْنِ متقاربتينِ بالمطرية. وكانا يلتقيانِ كل يوم ليتبادلا الحديث في موضوعات شتى، كما ذكر المستر بلنت في مقدمة النسخة العربية من مذكراته الخاصَّة بمصر، التي راجعها محمد عبده قبل وفاته، ونشرت من بعد تحت اسم: "التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر".

يقول بلنت في يومياته بتاريخ 28/1/1900 م عن صديقه مُحمَّد عبده، بعد أن سجَّل حديثًا جرى بينهما عن الجنس البشري ومعاملة القوي للضعيف: "وعبده لا يؤمن بنهاية سعيدة للجنس البشري. وأخشى أن أقول: إن محمد عبده - بالرغم من أنه المفتي الأعظم - ليس له من الثقة في الإسلام أكثر مما لي من الثقة في الكنيسة الكاثوليكية"[42].

وبلنت كان من المتحررين الذين لا يؤمنون بالمسيحيَّة، ولا يحسنون الظَّنَّ بالكنيسة الكاثوليكية، فَقَدَ إيمانه بقراءة داروين، وكان واقعًا تحت تأثير بعض المُفكِّرين الأوروبيينَ، أمثال: رينان، وتولستوي، الذين يفرّقون بين تعاليم المسيح وبين التَّعاليم المستنبطة من القديس بطرس، والكنيسة الكاثوليكية[43].

وتحدَّث بلنت في الفصل الخامس من كتابه "التاريخ السري" عن (زعماء الإصلاح في الأزهر)، وعمَّا سمَّاه (الإصلاح الديني الحر)، الذي أرجعه إلى جمال الدين الأفغاني، ووصف صنيعه في (إطلاق العقول من الأغلال التي قَيَّدَتْهَا طوال الأجيال الماضية) بأنه (يماثل ما حدث من إحياء المسيحية بأوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر). ثم وصف بلنت لقاءه الأول سنة 1881 لمحمد عبده، الذي خلف جمال الدين الأفغاني في زعامة حزب الإصلاح الحر في الأزهر)، فأبدى إعجابه الشديد بآرائه، (فيما يختص بتعاليم المسلمين الأحرار)، ومخاوفهم وآمالهم في المستقبل، وقال: إن هذه المخاوف والآمال هي التي دوَّنها في كتابه "مستقبل الإسلام"[44].

ثم عاد للكلام عَنْ هذا الكتاب في الفصل السادس، فقال إنه شرح هذه الآراء كما تعلَّمها من الشيخ محمد عبده، (أستاذ المدرسة الجديدة الحرة) [45].

وواضح من إصرار بلنت على وصف الإصلاح بأنه (حر)، ووصف المسلمين الذي يمثلهم محمد عبده بالأحرار، أنَّ تفكير هذه المدرسة كان يتَّسم بنزعة عقلية تقربهم من أحرار الغربيين، وتجعلهم صالحين للقيام بدور الوساطة، في التقريب بين الإسلام وبين الحضارة الغربية، وهو العمل الذي يسعى الاستعمار إلى تحقيقه كما قدمنا من قبل.

هذا هو رأي صديقيْنِ من ساسة الأوروبيينَ عَرَفَا محمد عبده وعَاشَرَاه عن قُرب، وهو متفق مع ما كتبه ساسة الغرب وباحِثوه عنه من بعد، لا يخلو كتاب من الكتب العديدة التي تناولت تطوّر الفكر الإسلامي في العصر الحديث مما يؤيده ويؤكده.

كان سبيل محمد عبده للقِيام بهذا الدور الذي يشجّعه الاستعمار هو الدعوةَ إلى فتح باب الاجتهاد، وهي دعوة لا أريد أن أعود للحديث عنها، اكتفاء بما قلته من قبل، ولكنني أريد أن أضيف إلى ما قلته أنَّ هذه الدعوة قد استُغِلَّتْ أوسع استغلال، في تطوير الإسلام والاقتراب به من قيم الحضارة الغربية، وأنَّ هذا التقريب المقصود، بين الإسلام وبين الفكر الغربي والحضارة الغربية، قد بلغ قمة التطرف، حين دخل محمد عبده في مفاوضات مع القسيس الإنجليزي إسحاق تيلور، للتقريب بين الإسلام والنصرانية، وهي المفاوضات التي أشار إليها رشيد رضا، وَنَشَرَ رِسالَتَيْنِ منها في الجزء الثاني من تاريخه، وبيَّن اشتراك اليهود فيها في الجزء الأول[46].

هذا هو الجديد في عمل محمد عبده في القسم الثاني من حياته: رعاية بعض الأفكار التي شهِدْناها وهي تُبْذَر في التربة الإسلامية بيد الطهطاوي وخيرالدين وجيلهما، والسهر على تطويرها برُوح، لا أقول كما قال: بلنت (حرة) أو (متحرّرة)، ولكن أقول: برُوح هادفةٍ، تسعى إلى الاقتراب بها من القيم الغربية. ولْأَذْكُر رؤوس هذه المسائل على سبيل التذكير: الوطنية الإقليمية، والعناية بالتاريخ القديم السابق على الإسلام - الدعوة إلى الحرية، وإلى الحياة النيابية، وإلى وَضْع دستور، يحدِّدُ حقوق الحاكم والمحكوم، وواجبات كل منهما - الدعوة إلى إعادة النظر في وضْع المرأة من المجتمع: في الحجاب، والحدّ من تَعدُّد الزوجات، الحدّ من حريَّة الطلاق. وكل هذه المسائل قد وَاصَل تلاميذُ محمد عبده مِن بَعْدُ تطويرَها؛ حتَّى بَلَغَتْ نِهايَةَ مَدَاهَا. فالوطنيَّةُ الإقليمية، والعناية بالتاريخ الفِرْعَوْنِي، والدعوة إلى الحرية، قد رعاها مِن بعدُ تلميذُه لطفي السيد، وبلغتْ نِهاية مداها على يد تلميذه سعد زغلول. وأصبح الجانبُ الفِكْرِي من الحرية مَوْضعَ صراع في العِقد الثالث من القرن العشرين؛ حين ظهر كتاب طه حسين "الشعر الجاهلي" وكتاب علي عبدالرازق "الإسلام وأصول الحُكْم" ، وأصبح (الدستور) - وهو الجانب السياسيّ من الحرية - هو الموضوع الذي يدور عليه صراعُ الأحزاب في هذه الفترة وما تلاها. أمَّا شؤون المرأة فَقَدْ تَطَوَّرَتْ على يد قاسم أمين تلميذ محمد عبده، ولم يزل أبناء هذه المدرسة يرعون التطور؛ حتى تجاوز ما حدَّدَهُ له محمد عبده وقاسم أمين مِن حدود.

ومِنَ الحَقّ أنَّ الذي يقرأ مُحمَّد عبده في مثل مناظراته مع رينان ومع فرج أنطون، يُحِسُّ أنَّه كان يريد أن يُقيم سدًّا في وجه الاتجاه العلماني، يَحمي المجتمعَ الإسلامي من طوفانه. ولكنَّ الذي حدث - كما يقول حوراني في كتابه ( Arabic Thought in the Liberal Age,) - هو أن هذا السَّدَّ قد أصبح قنطرةً للعلمانية، عَبَرَتْ عليه إلى العالم الإسلامي، لتحتل المواقع واحدًا تلو الآخر، ثم جاء فريق من تلاميذ محمد عبده وأتباعه، فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى طريق العلمانية[47].


والذي يبدو لي هو أنَّ دعوة الأفغاني، التي رُبِّيَ محمد عبده في أحضانها كان لها - ككل الدعوات السرية - ظاهر وباطن، فظاهِرُها يخاطب الجماهير، وهو يصور ما يريد صاحب الدعوة أن يَعرِفَه جمهورُ المسلمين عنها، مِمَّا يُعجِبهم ويَقَع من قلوبهم موقعَ الارتياح والقبول. وباطنُها يُمثِّل حقيقتها، التي يخفيها أصحابها عن الناس، ولا يكشفون الستر عنها قبل أن تحقق أهدافها بالوصول إلى مركز السلطة. ومحمد عبده كان تابعًا لسيده الأفغاني أو خادمًا له - كما تَعوَّد هو نفسه أن يكتب إليه في بعض رسائله - والأفغاني كان يريد أن يُعيد الدورَ نفسَه الذي لَعِبَه الإسماعيليةُ من أصحاب الدعوات الباطنية، التي تتستَّر وراء التشيّع، وتتقرَّب إلى جمهور المسلمين بأنَّها تدعو إلى خلافة أهل بيت النّبوَّة. كان يريد أن يُعيد الدورَ نفسَه، الذي لَعِبَه الإسماعيلية حين أقاموا دَوْلَتَهُم الفاطمية في مصر، بعد أن مهَّدوا لذلك بالاستيلاء على المغرب، وانتظار الفرصة السانحة للزحف منه إلى مصر، ولكنَّ الأفغاني استبدل السودان بالمغرب في تخطيطه السّرّيّ، ومِن هنا كان اهتمامه بثورة المهدي ومفاوضاته باسمها في إنجلترا. ومِن هنا كان إنشاؤه جمعية العروة الوثقى السرية، التي انتشرت فروعها في شمال إفريقية، وفي الشام، وفي السودان، والتي وَضَعَ لها نظامًا يضاهي النظام الماسوني في درجاته[48].

ومن هنا أيضًا كانت صلتُه الوثيقة، وصلةُ تلميذه محمد عبده مِن بَعْده بالمستر بلانت، الذي كان يَطوفُ هُوَ وَزَوْجَتُه بالبلاد العربيَّة مُرْتَدِيًا الزيَّ العربي؛ ليُثِيرَ حميَّةَ العرب القومِيَّة، ويدعوهم إلى إنشاء خلافة عربية، خدمةً لأهدافٍ، يغلب على ظنّي أنَّ لها صلة بالماسونية وبالصِّهْيَوْنِيَّة العالَمِيَّة، وإن كانتْ لا تخلو من فائدة مشتركة للاستعمارَيْنِ الإنجليزي والفرنسي، المتربِّصَيْن بالدولة العثمانية، والطامِعَيْن في اقتسام مُمْتَلكاتِها بَيْنَهُما. من أَجْلِ ذلك كان من وراء الأفغانِيّ ومحمد عبده كِلَيْهِمَا قُوَّتَانِ كبيرتان، تعملان على ترويج آرائهما، وإعلاء ذِكْرهِما، وهما الماسونية - قمة الأجهزة الصِّهْيَوْنِيَّة السّرّيّة - والاستعمار. وقد نَجَحَتْ هاتانِ القُوَّتان في تدعيم زعامتهما الفكرية والدينية في المجتمع الإسلامي كلِّه، وفي إضعاف أثر أعدائِهِما الكثيري العدد من عُلَماءِ الإسلام المعاصرين، وحَجْب ما كتبوه عن جُمهور القُرَّاء، فلم يَمضِ على موت محمد عبده أكثر من ربع قرن حتى أصبح الأزهر - مَوْطِنُ المعارضة الأصيل لمحمد عبده وللأفغاني - عامرًا بأنصارهما، الذين يحملون لواء الدعوة إلى (التجديد) وإلى (العصرية)[49].

ولمن شاء أن يعرف المكان الصحيح، والقيمة الحقيقية لمحمد عبده وللأفغاني، أن يَنظُرَ في الصحف اليومية والمجلات الدَّوْرِيَّة في كُتُب الكُتَّاب اللبراليين، الذين لا يسمحون بأن يُمسَّ أيٌّ منهما، والذين يهاجمون بفظاظة وشراسة كلَّ مَن يَمَسُّهما من قريب أو بعيد، مع أن هذه الصحف والمجلات والكُتَّاب، لا يُعرَف عنهم غَيْرَةٌ على الإسلام في غير هذا الموضع؛ بل إنهم لا يثورون حين يُمسُّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه، ويرَوْن أن ذلك مما تَسَعُه حريةُ الفكر واختلاف الرأي؛ بل إنهم يلتزمون التزامًا دقيقًا أن لا يُذكَر اسمُ محمد عبده إلا مقرونًا بلقب (الإمام)، ويذكرون اسم الرسول - صلى الله عليه وسلم - مجردًا، ويستكثرون إذا ذُكر الرجلُ من أصحابه أن يقولوا: "سيدنا فلان" أو يُتْبِعُوه - كما تَعَوَّد المسلمون - أن يقولوا في الدعاء له: "رضي الله عنه".

لذلك رأيتُ أن أسوق جملة من النصوص، التي وردت في كُتُب المعاصرين لمحمد عبده، الذين نبهوا إلى فساد فِكْرِه، وانحراف مذهبه، ومذهب أستاذه الأفغاني. وأولُ ما أبدأ به نقلُ نصوصٍ لأَحَد أتراب مُحمَّد عبده، الذي صَحِبَه في طلب العلم، وشَهِد الأفغاني، وحضر بعض مجالسه، وظلَّ على صلةٍ بِمُحَمَّد عبده إلى آخر عمره، وهو الشيخ محمد الجنبيهي[50].

وسوف أستكثر وأطيل في نقل نصوصٍ من كتابه "بلايا بوزا" الذي صدر 1926 عقب ظهور كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، لأنه نموذج لذلك الفكر المعارِض للأفغاني ومحمد عبده، الذي اندثر تمامًا، واختفى من الأسواق وأصبح مجهولاً عند الناس.

و(بوزا) عند الشيخ محمد الجنبيهي رمزٌ لطه حسين ولمحمد عبده، ولكل مُعانِد يُصرُّ على الباطل، ويأبى التحول عنه، وهو كما يقول في صدر كتابه: "قطعة من خشبٍ وزنُها خفيف، وجِرْمُها صغير، لا قيمة لها، صَنَعَها صانعُها على هيئة قُبُل الرجال الموصوف بأنه عضو التناسل. ولقد رُكبت تلك القطعة على مُقَعَّر من رصاص ثقيل، لا تستطيع أن تتحول عن ذلك المركز الذي وُضِعَتْ فيه بحال من الأحوال، فتراها كلما أُلقِيَتْ فوق الأرض، كانت قائمة على هيئة الذَّكَر. وتسمى تلك القطعة في اصطلاح الفرنساويين (بوزا). وأما في اصطلاح المصريين (زِب الأرض).

وقد ضَرَبَها عقلاءُ الأقدمين مَثَلاً لكل ضالٍّ حائرٍ مغرور ذي لَسَانَةٍ وسَفَه، فَقَدَ مزايا الأدباء، وشذَّ عن مناهج الفضلاء، متلبّسًا بعناد وإصرار شيطاني من حيث لا يشعر بما يقول، ولا بما يعمل، فلا تتوجه به أفعاله إلا إلى مخالفة الفضلاء، ومعارضة الأدباء بما لا يعلم عاقبته، ولا يستطيع أن يقيم على صحته دليلاً". (ص: 28).

وقصةُ طه حسين عند محمد الجنبيهي هي نفسُها قصةُ محمد عبده، في عمل الاستعمار وأعداء الإسلام على إعلاء شأنهما. "فالأسباب التي جعلت ابن عبده الغرابلي[51] محبوبًا لفحول السياسيين، ولولاة الأمور من الدول المتحالفة على مَحْوِ الإسلام اسمًا ورسمًا، وصيَّرتْهُ محمودًا عند محرري الجرائد الأورباوية؛ تتمدَّح باسمه، وتعتني بعمل تَذكار له، هي بعينها الأسباب التي يتناول بها أستاذ الجامعة المصرية مرتبًا كبيرًا بسبب شهادة الدكتوراه، التي نالها من أوروبا لسبب عداوته للدِّين ورجاله؛ حتى يكون إذا أَعلَوْا شأنه فتنةً لأبناء المسلمين" (ص: 35).

يروي الجنبيهي قصته مع محمد عبده وأستاذه الأفغاني فيقول:
"نشأتُ بعد بلوغ الرشد وطلب العلم في الأزهر الشريف مصاحبًا لتلميذ جمال الدين الأفغاني، ومحاذيًا له قدمًا بقدم بعدما أتى جمال الدين الديار المصرية. وكثيرًا ما جالستُ ذلك الرجل، وتذاكرتُ معه مذاكرات ذكرتُها في بعض الكتب. وما كان يدعوني إلى مجالسته إلا صاحبي، الذي كان يظن أن يجذبني إلى الميل إلى ما مال إليه من فتنة ذلك الفاتن. وكنت أطمع أن أكون سببًا في خلاصه من تلك الفتنة؛ ولكن الله غالب على أمره. ولقد كان الفارق بيني وبينه في الشؤون المُقَدَّرَة في سابقة الأزل أنه عاش في كَنَف أهل الطريق أعوامًا، لينتفعَ بأسرار ما دونوه في كتبهم من مُجرَّبات المتجرِّدين، الذين كانوا يريدون الانقطاع عن الأسباب، والاشتغال بما يُصلِح بينهم وبين ربهم. وكنت أنا في مبدأ أمري ميالاً لسبيل المسرفين[52].

ولكني ما كنت أستطيع أن أَفِرَّ من معصيةٍ إلا بمانع إلهي قهري، ولا أعمل طاعة إلا بجاذب قوي. فكانت نهاية أمر ذلك الصاحب أنه أبغض أهل الطريق، لأن الله - سبحانه وتعالى - حَرَمَه من مزايا أسرارهم؛ لأن نيته في العمل ما كانت مشابهة لِنَوايا المتجرِّدين، فلما جَمَعَتْه المقاديرُ بجمال الدين الأفغاني، وسَمِعَ مِنْهُ الطَّعن على الصوفيَّة، وعلى أئِمَّة الدِّين، وعلى الخِلافة الإسلاميَّة، تَوَهَّم أنَّه العالِم الوحيد، فكان أوَّل تلميذ له، يجتمع عليه من صبيان الطلبة كُلُّ مَن كُتِبَ عليه الشقاءُ، وحَقَّتْ عليه كلمة العذاب" (ص: 38).

"وكان نهاية أمري أن تباعدتُ عن طريق المسرفين لأسباب سماوية. وتوجهتْ أميالي إلى ما عليه أهل الإيمان الصادق. وكان السبب في ذلك أنَّ المقادير جَمَعَتْ بيني وبين كثير من المرشدين بطرق قهرية، لا يسَعُ المقامُ ذكرَها، وقد كانتْ تصل إليَّ مدوَّنات الصالحين، وأدعية المرشدين وأورادهم ومواعِظُهم من غير طلب مني، ثم كانت تواجهني رجال الهداية والتوفيق بلا قصد ولا سابقة التَّفَكُّر، فكنتُ أنا وذلك الصاحب في النهاية على طرَفَيْ نَقيض. وكان كلٌّ منَّا يعلم ما عليه الآخر من حِفْظِ آداب الصحبة التي كنَّا عليها، وذلك - والله - من عجائب الأقدار، وغرائب الاقتدار، وأَظُنُّ أنَّ حكمة الله - سبحانه وتعالى - في استمرار تلك الصحبة وفَقْد التنافر، مع تبايُن الشؤون في الأعمال والعقائد، ما هي إلا أنْ يحيط كلٌّ منا عِلمًا بأعمال الآخر؛ ليُحذِّر منها الذين اتَّبعوه، كما أنه ما سلك طريق الأبرار، ولم تَرُقْ في نظره إلا ليمقتهم، ويُنفِّر منهم كلَّ مَن حَكَمَتْ عليه المقاديرُ باتباعه. وما سلكتُ طريق المسرفين، ولم تَرُقْ في نظري ولا مالتْ إليها قابليَّتي إلا لأبغض أهلها، وأتباعد عنهم، وأقبِّح لمَن أحبني أعمالهم" (ص: 39).

ويقول الجنبيهي في سبب نفوره من الأفغاني، بعد أن روى الحديثَ القُدسيَّ: ((كنتُ كنزًا مخفيًّا، فأحببتُ أن أُعرَف فخلقتُ الخَلْقَ. فَبِي عرفوني)).

"ولقد كان لي في هذا الحديث القدسي مع جمال الدين الأفغاني واقعةٌ، كانت سببًا لعدم اتصالي به، مع شديد رغبته ورغبة تلميذه، الذي أشرنا إليه من قبل. وتلك الواقعة هي أنّي سألْتُه عن هذا الحديث، لعِلمي أنه يُنكر الأحاديثَ القدسية؛ لأنه طبيعي لا يعترف بوجودِ إله. وكنَّا في جَمْعٍ من الناس. فقال: ليس هذا وقت الكلام على هذا الحديث؛ فأمهلْني لوقت آخر. فاتَّفق من طريق الصُّدفة أني رأيتُه جالسًا وَحْدَهُ في مجالس اللاهين، في قهوة من القهاوي المجاورة لمنتزه الأزبكية، فجئتُه وهو واضعٌ طربوشَه على ترابيزة القهوة، وجالس وحده. فقلت له: هذا هو وقت الكلام على ذلك الحديث الشريف. فما كان جوابه إلا أن قال: ذهب فيلسوف إلى المنتزه في يوم العيد، فوجد الناس على حال مضحك، منهم مَن هو مخمور، ومنهم مَن هو لاعب، ومنهم مَن هو مرافق لامرأة مِن المومسات، ومنهم مَن هو راقص، ومنهم مَن هو مُتلبِّس بما لا يرتضيه أبناء البشر، فنظر ذلك الفيلسوف إلى السماء قائلاً: الآن وقعت الحسرةُ في قلبك، أهؤلاء كلهم عرفوك؟! فعند ذلك تغيَّر حالي وعَلِمتُ أنَّ الرَّجل ضالٌّ. فقلت له: إنَّ هذا الفيلسوف لأحمقٌ ومجنون. قال: ولمَ ذلك؟ قلتُ: لأنَّ مَن جَهِلَ ربَّه في الدنيا يعرفه فيما بعد الموت، ومَن جَهِله في الرخاء يعرفه في الشدة. فما ذلك الفيلسوفُ إلا ضائع العقل والدِّين، ثم تركتُ الرجل محزونًا؛ لأن فتنته لم تؤثِّر في قلبي أثرًا كان يريده، وكان ذلك الموقف آخر عهدي به" (ص: 119).

ويقول الجنبيهي في صلة محمد عبده باللورد كرومر وبالمستر بلانت، اللذَيْن عَمِلا كلاهما على إعلاء شأنه وذيوع صيته، توسلاً إلى تحقيق مخططاتهما، باتخاذه آلة لهذا الغرض:
"لما شَرَعَتِ القوَّةُ البريطانية في نفي الخونة العُرابِيّين[53]، ذلك النفي الصوري، كان نفي ابن عبده الغرابلي في البلاد الشاميَّة وحْدَهُ، ليَفتنَ فيها مَن أرادَ اللهُ فِتْنَتَهُ. فلما انقضت مدة النَّفْيِ، ورجع إلى الديار المصرية، كانت ثقة اللورد كرومر به أكْبَرَ ثِقة. فسكن في (منشيَّة الصدر) بعيدًا عن عيون الرقباء، وكانتِ الواسطة بينه وبين اللورد رجلاً إنكليزيًّا يسمى (بلنت)[54] كان يتزيَّا هو وزوجتُه بزيّ عرب البادية، وكان يُحِيطان عِلمًا بلغات القبائل العربية وأنسابِهم، وعوائدهم، وكانا يسكُنانِ في (عين شمس) قريبًا من (منشية الصدر). فلمَّا قَوِيَتْ رابطة التَّواصل بين ذلك الإنكليزي، وبين ابن عبده الغرابلي أعطاه قِطعةَ أرض من ملكه في (عين شمس)؛ ليكون له جارًا، وفي ذلك الحين اتَّخذه اللورد أستاذًا ومرشدًا يسترشد برأيه في كل عمل يطلبه في تنفيذ الغرض الذي أجمع عليه السياسيون، فكان الإصلاح الأزهريّ الذي ذهب بالدين وعِلْمِه النَّافِع أدراجَ الرياح من إشارات ذلك المفتون، وكذلك كان إصلاح المحاكم الشرعية... وكان من مساعدة اللورد كرومر لِشَيْخِه ومُرْشِده أنْ ولاه مناصب القضاء الأهلي، ح
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل


avatar


نقــاط : 99245
 الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)   Oooo14
 الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)   User_o10

 الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)   Empty
مُساهمةموضوع: رد: الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)     الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)   Emptyالأربعاء 15 مايو 2013 - 10:56


ويروي مُحَمَّد الجنبيهي أنَّ محمَّد عبده مات حسرةً حين تخلَّى عنه اللورد كرومر في الواقعة التي كانت بينه وبين رواق المغاربة فيقول:
"إن اللورد كرومر أجهد نفسه في إعلاء شأن ابن عبده الغرابلي، وجعل له نفوذًا تامًّا في جميع الدوائر السياسية، حتى صيَّره نافذَ الإرادة والأمر في القَصْرِ المصري بحالة تدهش المفكرين. وتستميل قلوب البسطاء من الأمة إليه؛ ليستعمله في تنفيذ الأغراض السياسية التي أجمع عليها ساسة الدولة المتحالفة. وقد ذكرناها من قبل[56]. فلمَّا ولاّه وظيفة الإفتاء ليتداخل في الشؤون الأزهرية، ووقعتِ الواقعة التي كانت بينه وبين رواق المغاربة، وهم حماية فرنسا، ورفعوا أمرهم لسفير تلك الدولة، وخاطب ذلك السفير سُمو الخديوي في ذلك الشأن، فقرر سُمُوُّه (أعني عباس باشا الثاني) انفصال الإفتاء عن الأزهر، وهناك توهَّم ابن عبده الغرابلي أنَّ اللورد كرومر يقف في تلك الواقعة موقف المانعين، فكتب أبياتًا من الشعر معناها أنَّ مِن العَجِب أنَّ ذئب (عابدين) يعوي، وأسد دار الحماية يسمع ويسكت، وهذا نص البيتين:

قَصْرَ الدُّوبَارَةِ) مَا لِلَيْثِكَ رَابِضًا
وَالذِّئْبُ فِي بَيْتِ الإِمَارَةِ يَحْجِلُ
إِنِّي سَمِعْتُ (بِعَابِدِينَ) عِوَاءَهُ
فَعَجِبْتُ كَيْفَ يَسُودُ مَنْ لا يَعْقِلُ [57]

ثم توجة بهما إلى دار الحماية، ظانًّا أنَّ اللورد كرومر ينخدع لِهَذَا التملّق، ويُسَرُّ بازدرائه لسموّ الخديوي. فما كان خطابه لذلك المغرور إلا أن قال له: ما كنت أظن أنك جهول بالسياسة إلى هذا الحد. أتريد أن توقع بين بريطانيا وفرنسا؟! اذهب مِن حيثُ أتيْتَ؛ فإني لا أتداخل في هذا الأمر، فكانت هي الضربة القاضية على ابن عبده الغرابلي. وكانت سبب حسرته، حتى مات مصابًا بما يُصاب به أهل الحسرة، فلما قضى نَحْبَه نعاه اللورد كرومر نَعْيًا سياسيًّا[58] يستنهض به أتباعه الذي افتتنوا به؛ حتى يكونوا مكانه في التضليل، وفي تنفيذ ما أجمع عليه السياسيون، مما سبق بيانه. وهذه عبارة نَعْيِه، التي نشرتها الجرائد في ذلك الحين: "فَقَدْنا رجلاً كان يرشدنا في الدين، وفي السياسة، ونرجو من تلامذته ألا تخور عزائمهم بموته).

فكان ذلك النَّعْيُ سببًا في تظاهر السفلة بالطعن على رجال الدين، وازدراء أوامر الله ونواهيه، تنفيذًا لتلك الأغراض السياسية. فأجهدوا نفوسهم تَفَنُّنًا في إنشاء الفتن، التي تذهبُ بِمجد الأُمة ودِينها، وتجعلها أوروباويَّة لا عربية ولا إسلامية، فكان منهم صاحب "تحرير المرأة"، الذي سَنَّ التَّهتُّكَ للنساء في المدن والقرى. وكان منهم صاحب "المنار"، الذي نادى على ابن عبده الغرابلي بأنه الإمام العليم الحكيم".[59] (ص: 54، 55).

ونستطيع أن نضيف إلى رأي الشيخ محمد الجنبيهي في الأفغاني ومحمد عبده ومدرستهما، رأيَ عالم أزهري آخر معاصر أيضًا، لَقِيَ كلاًّ من محمد عبده وشيخه الأفغاني وعَاشَرَهما، وهو الشيخ يوسف النبهاني[60]. اجتمع بالأفغاني ومحمد عبده في القاهرة حين كان مجاورًا في (الأزهر)، ثم عاد، فالتقى الشيخ محمد عبده في بيروت أثناء إقامته بها منفيًّا، بعد فشل الثورة العرابية ومحاكمة زعمائها، حين كان النبهاني رئيسًا لمحكمة الحقوق بها. ونشأتْ بينهما مودة، فكان محمد عبده يزور يوسف النبهاني في أكثرِ الأيام. والقيمة الكبرى للرأيين - رأي الجنبيهي والنبهاني - تَعُود إلى أن لرأي كُلٍّ منهما قيمةً أخرى إلى جانب قيمته الفقهية والفكرية، وهو أنَّه شهادة من شاهِدَيْ عَدْل معاصرين. فكلاهما كان معروفًا بين أهل عصره بالصلاح والتقوى والعِلْم، وكلاهما كان صديقًا لمحمد عبده، لم يَصْدُر في كلامه عن حقد أو ضغينة، ثم إن الرأيين يصوِّران الجانب الآخر لصدى دعوة الأفغاني ومحمد عبده عند المعاصرين، وهو الجانب الذي اختفى الآن، أو كاد يختفي تحت تأثير الضغوط والحماية التي تُساند هذه المدرسة وتحارب خصومها.

أوضح يوسف النبْهاني رأيَه في أكثر من موضع من مؤلفاته، شعرًا ونثرًا. أثبتَه نثرًا في كتابه "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق". وأوضحه شعرًا في قصيدته "الرائية الصغرى" التي طبعها مستقلة، ثم أعاد طباعتها ضمن ديوانه "العقود اللؤلؤية في المدائح النبوية". ولخص رأيه في هذه المدرسة في مقدمته فقال[61]: "لما اجتمعتُ بالشيخ رشيد رضا[62] ذاكَرْتُه بشأن شيخه الشيخ محمد عبده، فقلتُ له في شأنه: إنكم تتخذونه قدوة في دينكم، وتدعون الناس إلى ذلك، وهذا غير صواب، فإنه لم يكن مُحافظًا على الفرائض الدينية، فلا يصح أن يكون قدوة في الدين. فمن المعلوم المسَلَّم أنه كان يترك كثيرًا من الصلوات بلا عذر، وأنا نفسي رافقتُه من وقت الضحى إلى قبيل المغرب عند رجل كان دعانا في جبل لبنان، فلم يُصلِّ الظهر ولا العصر، ولم يكن له عذر؛ بل كان بكمال الصحة، ورآني صَلَّيْتُ الظهر والعصر ولم يُصلِّهما، فسَلَّم الشيخُ رشيد رضا تَرْكَه لبعض الصلوات، وقال في الجواب عنه: لعلَّ مذهبَه يجوّز الجَمْعَ في الحضر. فتعجبت من هذا الجواب؛ لأن الجَمْع إنما يجوز في السفر والمطر والمرض عند بعض الأئمة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ولم يَقُل أحدٌ إن الظهر والعصر يُجمَعان مع المغرب والعشاء؛ حتى نحتمل صحة هذا الجواب، ولو جدلاً.

قلتُ له: وأيضًا كانت تاركًا للحج إلى بيت الله الحرام مع الاستطاعة. وبتلك الاستطاعة التي كان مالكًا لها من القوة الجسمية والمالية كان يَحُجّ باريز ولندرة وغيرهما من بلاد أوروبا وغيرها مرارًا كثيرة، ولم يخطر له أن يكون سفره مرة واحدة للحج، مع قرب الديار، فلا شك أنه آثم بذلك أشد الإثم، وتاركٌ لركن من أركان الإسلام.

ثم قلتُ له: ومِمَّا لا يختلف فيه أحدٌ أنَّهُ كان هو وشيخُه الشَّيْخ جمال الدين الأفغانيّ داخلَيْنِ في الجمعية المسونية، وهي لا تجتمع مع الدِّين بوجه من الوجوه؛ بل هي ترفض الأديان كلها، وهي ضد السلطات كلها - الدينيَّة وغيرها - فكيف يمكن أن يكون قدوةً في دين الإسلام مع كونه مسونيًّا، وكذلك شيخه؟! فقال الشَّيْخُ رشيد: نعم، هما داخلان في المسونية، ولكن أنا لم أدخل فيها.

قلتُ له: فلو قلتم: إنَّ الشيخ محمد عبده هو فيلسوف الإسلام، بمنزلة ابن سينا والفارابي، لسَلَّمْنا لكم ذلك، وإن كان خلاف الحقيقة، لأنه لا ضرر فيه علينا، ولا على دِيننا، وأمَّا أن يكون من أفسق الفُسَّاق بترْكه أركانَ الإسلام، ومع ذلك تقولون عنه: إنه في دين الإسلام إمامٌ، فهذا شيء مُنْكَر، لا يَقبَله أحدٌ من ذوي الأحلام. فقال الشيخ رشيد: نحن لا نعتبره مثل ابن سينا، ولكن نعتبره مثل الإمام الغزالي. فانظر - رحمك الله - لهذا الضلال وهذه المكابرة! فإنه يُسَلِّم أنَّه كان تاركًا لِلصلاة والحج، وأنه كان مسونيًّا، ويقول: إنه مثل الغزالي. وفي الحقيقة، كل واحد من هذه الفرقة الضالَّة يعتقد نفسه أجلَّ من الغزالي، لأنهم يدَّعون الاجتهاد المطلق - صغيرهم وكبيرهم - والإمام الغزالي لم يَدَّعِ الاجتهاد المطلق؛ بل صرح في "الإحياء" بعدم وجود المجتهد المطلق في عصره بقوله كما هو في حُكْم جميع أهل العصر، وكذل الفخر الرازي صرح بذلك، وغيرهما من الأعلام. وهؤلاء الجُهَّال كلُّ واحد منهم يَعُدُّ نفسَه بمنزلة الأئمة الأربعة، رضي الله عنهم. وقد رسخ هذا الضلال في نفوسهم الخبيثة، فليس لِلموعظة فيهم أدنى تأثير، وهم يجتهدون في أن تكون الناس على شاكلتهم ضالّين مُضِلّينَ، ومع هذا الفساد العظيم يزعمون أنهم هم مصلحون لهذا الدين المبين. ولا شك أنهم من جملة الذين شمِلَهم قوله - تعالى - في سورة البقرة: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11 - 12].

وناقش النبهاني دعوى الاجتهاد في موضع آخر من كتابه فقال[63]:
"واعلم أن هؤلاء المفتونين يدَّعون الاجتهاد المطلق، واستنباط الأحكام من الكتاب والسنة، ويرفضون المذاهب الأربعة مع جهلهم المركَّب، وفِسقِهم المحقَّق، وتهتُّكِهم في أنواع المعاصي من الكبائر والصغائر وسائر الآثام، وتركِهم ما عدا الشهادتين من أركان الإسلام، فلا صلاة ولا زكاة ولا حج ولا صيام. ومع كونهم كالأنعام أو أضلَّ من الأنعام يَدَّعي كل واحد منهم أنه من أئمة الإسلام، ويدعو الناس إلى الاجتهاد حتى العوامّ، وهم مع كُلّ ذلك لا يتقَيَّدُون بالحلال والحرام، وإنَّما دِينُهم كلام في كلام، وصارت أحكام الدين عندهم كلَّ ما خطر ببالهم، ووافق أغراضهم، وجرى على ألسنتهم، من الألفاظ المنمَّقة، والمعاني الملفَّقة، التي تلقَّفوها من مقالات الفلاسفة وكُتَّاب الإفرنج، مما لا يوافق دِين الإسلام، ولا يقوله مَن عنده في هذا الدِّين أدنى إلمام، فينشرونه في كتبهم وجرائدهم بصفة تُرضي إخوانَهم مُرَّاق المدارس، وفُسَّاق العوام، الذين لا يبالون بالإسلام ولا بأحكام الإسلام. وقد يستدلون على غير فَهْم وعِلْم ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ لِيُوهِموا العوامَّ أنَّهُمْ إنَّما يأخذون من الكِتابِ والسُّنَّة ما يُلَفِّقُونَهُ مِنَ الأَحْكَامِ".

ثُمَّ قال: "إن هؤلاء المفتونين الضالِّين قد مشَوْا ببدعتهم على أثر البروتستانت من النصارى، الذين يَدَّعون إصلاح دينِ النصرانية، بترْكهم العملَ بأقوال أئمتهم السابقين، والاقتصار على ما في التوراة والإنجيل من أحكام الدين. وقد أخطأ هؤلاء الطَّغام بتقليدهم أولئك الأقوامَ؛ لأنَّ ما زاده أئمتهم على التوراة والإنجيل ليس له أصل فيهما، وإنَّما هو من ترتيب مجامعهم، أمَّا أئمَّة الإسلام، فلم يَزيدوا على الكتاب والسنة شيئًا من عند أنفسهم؛ بل جميع أحكام المذاهب الأربعة مأخوذة من صريح الكتاب والسنة، وهو أكثر الأحكام، أو مستندة إلى القياس الصحيح عليهما أو على أحدهما. فليس هناك حُكْم في المذاهب الأربعة خارج عن الكتاب والسنة من كل الوجوه، ولا يمكن أن يستعملوا القياس إلا إذا لم توجد آية أو حديث يصلح للاستدلال".

ويذكر المؤلف في موضع ثالث من كتابه (ص 258) محاولة رشيد رضا ورفاقه من مدرسة محمد عبده نشرَ مذهبهم، بتقليد الإرساليات البروتستانتية، حين دَعَوْا إلى المُؤْتَمَر الديني في القاهرة سنة 1327 هـ (1909 م) فلم يتيَّسر لهم الاجتماع، ثُمَّ ألَّفُوا (جمعية الدعوة والإرشاد) للتبشير بمذهبهم الجديد سنة 1329 هـ. ثم يعقّب على ذلك بقوله: "وقد سَهُل على هؤلاء المبتدعين تقليدُ البروتستانت، ولم يَسهُل عليهم تقليدُ أئمَّة المذاهب الأربعة، كما أنهم سهل عليهم تقليد إخوانِ الشياطين مثل محمَّد عبده وجَمال الدين، ولم يسهل عليهم تقليد أئمة الأمة المحمدية بأسرها منذ أكثر من ألف سنة".

من ذلك يتبيَّن أنَّ مآخذ النبهاني على هذه الجماعة تنحصر في أمرين:
أولهما: هو دعوى الاجتهاد المطلق مع عدم الكفاية من الناحية العلمية، ومع فساد الاستعداد من الناحية الرُّوحية، وسوء السيرة من الناحية الخلقية والسلوكية.

وثانيهما: هو أنهم مع تَرَفُّعِهم عن الاقتداء بالأئمة الأعلام من فقهاء المسلمين، يقتدون بالبروتستانت في تنقيح الإسلام، وبالمجامع المقدسة المسيحية في اتخاذ قرارات، تعمل على تطوير الإسلام أو تحسينه حسب زعمهم، بالزيادة والنقص.

وقد تتبع النبهانيُّ زعماءَ هذه المدرسة: الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، في قصيدته "الرائية الصغرى، في ذم البدعة ومدح السُّنَّة الغَرَّا"، وهي قصيدة طويلة تبلغ 553 بيتًا، فخصَّ كلَّ فرد منهم بفصل منها.

يقول في سوء سيرة كلِّ المنتمين إلى هذه الجماعة:

رَاهُمْ إِبَاحِيِّينَ أَوْ هُمْ نَظِيرُهُمْ
إِذَا كُنْتَ عَنْ أَسْرَارِهِمْ تَكْشِفُ السِّتْرَا
وَكُلُّ امْرِئٍ لا يَسْتَحِي فِي جِدَالِهِ
مِنَ الْكِذْبِ وَالتَّلْفِيقِ مَهْمَا أَتَى نُكْرَا
فَمَنْ قَالَ صَلُّوا قَالَ قَائِلُهُمْ لَهُ
يَجُوزُ لَنَا فِي الْبَيْتِ نَجْمَعُهَا قَصْرَا
وَإِنْ قِيلَ لا تَشْرَبْ يَقُولُ شَرِبْتُهَا
بِقَصْدِ الشِّفَا أَوْ قَالَ لَيْسَ اسْمُهَا خَمْرَا
فَيَجْهَرُ كُلٌّ بِالْمَعَاصِي مُجَادِلاً
بِمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِهِ سِرَّا
فَلا صَامَ، لا صَلَّى، وَلا حَجَّ، لا حَبَا
فَقِيرًا وَإِنْ أَوْدَى بِهِ فَقْرُهُ بِرَّا
وَفِي الأَلْفِ مِنْهُمْ وَاحِدٌ رُبَّمَا أَتَى
مَسَاجِدَنَا لَكِنْ إِذَا كَانَ مُضْطَرَّا
وَأَخْبَرَنِي مَنْ لا أَشُكُّ بِصِدْقِهِ
بِأَنْ قَدْ رَأَى مَنْ بَالَ مِنْهُمْ بِلا اسْتِبْرَا [64]
وَلازَمَهُ حَتَّى أَتَى بَعْدُ مَسْجِدًا
فَصَلَّى وَلَمْ يُحْدِثْ مِنَ الْحَدَثِ الطُّهْرَا
وَآخَرُ مِنْهُمْ قََدْ أَقَامَ صَلاتَهُ
بِدُونِ اغْتِسَالٍ مَعْ جَنَابَتِهِ الْكُبْرَى
عَلَى وَجْهِ كُلٍّ مِنْ ظَلامٍ عَلامَةٌ
بِهِ عَرَّفَتْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ الأَمْرَا

ثم يقول:

ولَئِكَ أَنْصَارُ الضَّلالِ وَحِزْبُهُ
وَإِنْ قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مِنْهُمْ لَنَا نَصْرَا
فَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ مِنْهُمْ بِفَاجِرٍ
وَإِنْ أَنْتَ قَدْ شَاهَدْتَ مِنْ فِعْلِهِ الْخَيْرَا
فَذَلِكَ شَيْءٌ جَاءَ ضِدَّ طِبَاعِهِمْ
وَقَدْ فَعَلُوا أَضْعَافَ أَضْعَافِهِ شَرَّا
وَكَمْ أَيَّدَ الإِسْلامَ رَبِّي بِفَاجِرٍ
فَنُهْدِي لَهُ لا الْفَاجِرِ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَا
أَشَدُّ مِنَ الْكُفَّارِ فِينَا نِكَايَةً
وَأَعْظُمُ مِنْهُمْ فِي دِيَانَتِنَا ضَرَّا
مِنَ الْكُفْرِ ذُو الإِسْلامِ يَأْخُذُ حِذْرَهُ
وَمِنْ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَأْخُذُ الحِذْرَا

ويقول في التقائه بالأفغانيّ سنة 1286 هـ (1876 م) في القاهرة، وما كان من طرد الشيخ عبدالرحمن الشربيني شيخ الجامع الأزهر له من حلقته بعد زجره:

تَى مِصْرَ مَطْرُودًا فَعَابَ بِقُطْرِهَا
فَيَا قُبْحَهُ شَيْخًا وَيَا حُسْنَهُ قُطْرَا
وَكُنْتُ بِذَاكَ الْحِينِ فِيهَا مُجَاوِرًا
بِأَزْهَرِهَا صَاحَبْتُ أَنْجُمَهُ الزُّهْرَا
بِتَارِيخِ سِتٍّ وَالثَّمَانِينَ قَدْ تَلَتْ
مَعَ الْمِائَتَيْنِ الأَلْفَ فِي الْهِجْرَةِ الْغَرَّا
حَضَرْتُ بِفِقْهِ الشَّافِعِيِّ خَطِيبَهُ
عَلَى شَيْخِ شِرْبِينٍ فَأَلْفَيْتُهُ بَحْرَا
وَجَاءَ جَمَالُ الدِّينِ يَوْمًا لِدَرْسِهِ
فَأَلْقَى عَلَى الأُسْتَاذِ أَسْئِلَةً تَتْرَى
فَفَاضَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَعَارِفِ شَيْخِنَا
سُيُولٌ أَرَتْهُ عِلْمَهُ عِنْدَهُ قَطْرَا
وَإِذْ شَمَّ مِنْهُ الشَّيْخُ رِيحَ ضَلالِهِ
وَإِلْحَادِهِ أَوْلاهُ مَعْ طَرْدِهِ زَجْرَا
وَذَاكَرْتُهُ يَوْمًا فَأَخْبَرَ أَنَّهُ
كَأُسْتَاذِنَا لَمْ يُلْفِ فِي مِصْرِهِ حَبْرَا
وَمِنْ بَعْدِ هَذَا حَازَ فِي مِصْرَ شُهْرَةً
وَأَلْقَى دُرُوسًا لِلْفَلاسِفِ فِي مِصْرَا
وَحِينَ أَتَاهُ ذَلِكَ الْحِينَ عَبْدُهُ
وَأَمْثَالُهُ أَفْشَى لَهُمْ ذَلِكَ السِّرَّا
أَسَرَّ لَهُمْ مَحْوَ الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا
لِيَرْجِعَ هَذَا الدِّينُ فِي زَعْمِهِ بِكْرَا

ويقول في صداقة محمد عبده لكرومر ممثل الاحتلال الإنجليزي في مصر:

وَلَّعَ بِالدُّنْيَا وَصَيَّرَ دِينَهُ
إِلَيْهَا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ خِفَّةٍ جِسْرَا
يَمِينًا إِذَا كَانَتْ يَمِينًا، وَإِنْ تَكُنْ
يَسَارًا سَعَى يَعْدُو إِلَيْهَا مِنَ الْيُسْرَى
فَمِنْ جِهَةٍ يُدْعَى الإِمَامَ، وَيَقْتَدِي
بِأَعْمَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ مِنْ جَهَةٍ أُخْرَى
يَذُمُّ خِيَارَ الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَمَا
يَرَى حُجَّةً لِلْكُفْرِ يَسْتَحْسِنُ الْكُفْرَا
لِكَيْمَا يُقَالَ الشَّيْخُ حُرٌّ ضَمِيرُهُ
فَيَبْلُغَ عِنْدَ الْقَوْمِ مَرْتَبَةً كُبْرَى
وَأَيَّدَ أَعْدَاءَ الْبِلادِ بِسَعْيِهِ
وَأَوْهَمَ أَهْلَ الْجَهْلِ أَنَّ بِهِمْ خَيْرَا
يُحَسِّنُ بَيْنَ النَّاسِ قُبْحَ فِعَالِهِمْ
وَمَهْمَا أَسَاؤُوا رَاحَ يَلْتَمِسُ الْعُذْرَا
بِمِقْدَارِ مَا خَانَ الْبِلادَ وَمَا أَتَى
لأَعْدَائِهَا نُصْحًا عَلا عِنْدَهُمْ قَدْرَا
وَنَالَ بِجَاهِ الْقَوْمِ فِي النَّاسِ رُتْبَةً
بِهَا حَازَ فِيمَنْ شَاءَهُ النَّفْعَ وَالضَّرَّا
فَمِنْ رَهْبَةٍ أَوْ رَغْبَةٍ كَمْ سَعَى لَهُ
طَغَامٌ مِنَ الْجُهَّالِ أَكْسَبَهُمْ خُسْرَا
وَأَلْقَى لَهُمْ دَرْسًا يُخَالِفُ حُكْمُهُ
بِأَزْهَرِهَا الْمَعْمُورِ دِينَ أَبِي الزَّهْرَا
وَقَدْ ضَلَّ فِي الْقُرْآنِ مَعْ عُظْمِ نُورِه
كَمَا خَبَطَتْ عَشْوَاءُ فِي اللَّيْلَةِ الْقَمْرَا
أُحَذِّرُ كُلَّ النَّاسِ فِي كُتْبِ دِينِهِ
وَبِالرَّدِ وَالإِعْرَاضِ تَفْسِيرُهُ أَحْرَى

ويقول في فساد سيرته أثناء إقامته في بيروت، وفي فتواه المشهورة بالفتوى الترنسفالية[65]:

عَاشِرُ نِسْوَانَ النَّصَارَى وَلا يَرَى
بِذَلِكَ مِنْ بَأْسٍ وَإِنْ كَشَفَ السِّتْرَا [66]
وَيَأْكُلُ مَعْهُمْ كُلَّ مَا يَأْكُلُونَهُ
وَيَشْرَبُهَا حَمْرَاءَ إِنْ شَاءَ أَوْ صَفْرَا
وَيُفْتِي بِحِلِّ الْمُسْكِراتِ جَمِيعِهَا
إِذَا هِيَ بِالأَسْمَاءِ خَالَفَتِ الْخَمْرَا
وَيَأْكُلُ مَخْنُوقًا وَيُفْتِي بِحِلِّهِ
لِئَلاّ يَقُولُوا إِنَّهُ ارْتَكَبَ الْوِزْرَا
وَتَحْلِيلُهُ لُبْسَ الْبَرَانِيطِ وَالرِّبَا
بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ أَلْحَقَ الْكُفْرَا
وَقَدْ كُنْتُ فِي لُبْنَانَ يَوْمًا صَحِبْتُهُ
لِقُرْبِ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ ضَحْوَةٍ كُبْرَى
وَصَلَّيْتُ فَرْضَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بَعْدَهُ
لَدَيْهِ وَمَا صَلَّى هُوَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَا
وَقَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ صَاحَبْتُ شَيْخَهُ
لِقُرْبِ الْعِشَا أَيَّامَ جَاوَرْتُ فِي مِصْرَا
وَلَمْ أَرَهُ أَدَّى فَرِيضَةَ مَغْرِبٍ
فَقَاطَعْتُ شَيْخَ السُّوءِ مِنْ أَجْلِهَا الدَّهْرَا

ويقول النبهاني في قصيدته هذه: إنه لقي رشيد رضا أول مرة في بيروت، حين جاءه في أول شبابه حليقَ اللِّحية، أحمر الوجنتين - على غير عادة طُلاب العلوم الشرعية من المسلمين وقتذاك - وكان نصوحي بك والى بيروت في مجلسه فوبَّخه، ثم عاد إليه بَعْدَ خمس عشرة سنة (لم يزدد شُعورًا ولا شَعْرًا). ويختم ذلك بقوله (ص 374):

ذَلِكَ مَعْ مَا فِيهِ أَهْوَنُ أَمْرِهِ
إِذَا مَا بِهِ قِيسَتْ فَظَائِعُةُ الأُخْرَى

ويَذكُر بعد ذلك ادِّعاءَه شرفَ الانتسابِ إلى آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبراءة ابْنِ عمِّه من هذا الادّعاء حين سأله فيه (ص 375). ثم يشير إلى تقرُّبه من الأمريكان بما نشَره في عدد شعبان سنة 1327 هـ من مجلة "المنار"، حين أَذِنَ لشباب المسلمين من طلاب الكلية الأمريكية ببيروت أن يُشاركوا أولاد النصارى في الصلاة بكنيسة هذه الكلية. ويعقب على ذلك بقوله:

تَاوِيهِ فِي الأَحْكَامِ طَوْعَ اخْتِيَارِهِ
تَصَرَّفَ كَالْمُلاّكِ فِي دِينِهِ حُرَّا
فَيَحْظُرُ شَيْئًا كَانَ بِالأَمْسِ وَاجِبًا
وَيُوجِبُ شَيْئًا كَانَ فِي أَمْسِهِ حَظْرَا
فَتَحْرِيمُهُ تَحْلِيلُهُ بِاشْتِهَائِهِ
بِأَهْوَائِهِ أَحْكَامُهُ دَائِمًا تَطْرَا
وَمَذْهَبُهُ لا مَذْهَبٌ غَيْرَ أَنَّهُ
يُجَادِلُ عَنْ أَهْوَائِهِ الشَّهْرَ وَالدَّهْرَا
يُجَادِلُ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْجَهْلِ مُمْلِيًا
عَلَى فِكْرِهِ إِبْلِيسُهُ كُلَّ مَا أَجْرَى
وَيَبْقَى عَلَى مَا قَدْ جَرَى مِنْ كَلامِهِ
مُصِرًّا وَلَوْ أَجْرَى بِأَلْفَاظِهِ كُفْرَا

وذكر الشاعر بعد ذلك في قصيدته هذه ما لقي رشيد رضا من الطرد والضرب والإهانة، حينَ حاوَلَ أن يَنْشُرَ ضلالاتِه في مساجِدِ طرابلس الشام، فَعَلاهُ أحدُ آل بيت المقدَّم بعصاه - وهم من نسل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فشجَّ رأسه، وفي دمشق، فأفحمه الشيخ صالح أفندي التونسي أحد أشراف المغاربة، والشيخ عبدالقادر الخطيب، وهو قادري النسب من السلالة الشريفة، وفي حِمْص وحماة، فأنذره أهلُهُما بترك بلدَيْهم، واضطروه للهرب إلى بلده (قَلَمون):

عَادَ إِلَى مَثْوَاهُ فِي (قَلَمُونِهِ)
وَمِنْ خَوْفِهِ كَالضَّبِّ قَدْ لَزِمَ الْجُحْرَا
فَكَانَتْ لَهُ فِي عُمْرِهِ شَرَّ رِحْلَةٍ
بِهَا بَيْنَ تُجَّارِ الْهُدَى رَبِحَ الْخُسْرَا
وَعَادَ إِلَى مِصْرٍ مِنَ الشَّامِ هَارِبًا
يُنَفِّضُ عَنْ أَعْطَافِهِ الْمَوْتَ وَالذُّعْرَا

أمَّا الَّذي تدعو إليه هذه الجماعة من إطلاق الاجتهاد دون تقيُّد بأحد المذاهب الأربعة، فقد ردَّ عليْهِ النَّبَهَانِي بكلام كثير في ثنايا قصيدته هذه، فمن ذلك قوله:

دِ اخْتَصَرُوا بِالْجَهْلِ دِينَ مُحَمَّدٍ
وَمَا تَرَكُوا مِنْ عُشْرِ أَحْكَامِهِ الْعُشْرَا
لَقَدْ زَعَمُوا إِصْلاحَهُ بِفَسَادِهِمْ
وَكَمْ حَمَّلُوهُ مِنْ ضَلالَتِهِمْ إِصْرَا
يَقُولُونَ لا نَرْمِي كِتَابًا وَسُنَّةً
وَنَتْبَعُ زَيْدًا فِي الدِّيَانَةِ أَوْ عَمْرَا
وَذَلِكَ حَقٌّ قَصْدُهُمْ فِيهِ بَاطِلٌ
وَخَيْرُ كَلامٍ قَدْ أَرَادُوا بِهِ شَرَّا
أَرَادُوا بِهِ مِنْ جَهْلِهِمْ بِنُفُوسِهِمْ
لِتَرْفَعَ دَعْوَى الاجْتِهَادِ لَهُمْ قَدْرَا
وَمَا الْعِلْمُ شَرْطُ الاجْتِهَادِ وَلا التُّقَى
لَدَيْهِمْ وَلَكِنْ كُلُّ عَبْدٍ غَدَا حُرَّا
وَأَقْوَى شُرُوطِ الاجْتِهَادِ لَدَيْهِمُ
وَقَاحَةُ وَجْهٍ حَدُّهُ يَفْلِقُ الصَّخْرَا
يَقُولُونَ إِنَّا كَالأَئِمَّةِ كُلُّنَا
رِجَالٌ وَمَا زَادُوا عَلَى أَحَدٍ ظُفْرَا
لَقَدْ أَخْطَؤُوا أَيْنَ الثُّرَيَّا مِنَ الثَّرَى
وَمَا لِبُغَاثِ الطَّيْرِ أَنْ يُشْبِهَ النَّسْرَا
يَقُولُونَ أَغْنَانَا كِتَابٌ وَسُنَّةٌ
وَلَمْ يُبْقِيَا فِينَا لِغَيْرِهِمَا فَقْرَا
وَفِي الأَلْفِ مِنْهُمْ لَيْسَ يُوجَدُ حَافِظٌ
لِجُزْءِ حَدِيثٍ قَلَّ أَوْ سُورَةٌ تُقْرَا
وَمَا قَرَؤُوهُ مِنْهُمَا عَنْ جَهَالَةٍ
فَلا سَامِعٌ نَهْيًا وَلا عَالِمٌ سِرَّا

وهو يشبِّه كبار الأئمة بالبدور، استمدَّتْ إشراقها من شمس الشريعة باستعدادها لقبول النور والإشراق. ويقول: إنَّ النَّاس لا تستوي في هذا الاستعداد، وأنَّ الذي يتجاوز قَدْره، ويدَّعي ما ليس له من أدعياء الاجتهاد؛ لا يجني إلا الشر:

رِيعَةُ خَيْرِ الْخَلْقِ شَمْسٌ مُنِيرَةٌ
وَأَنْوَارُهَا قَدْ عَمَّتِ الْبَرَّ وَالْبَحْرَا
أَضَاءَتْ بِهَا الأَكْوَانُ بَعْدَ ظَلامِهَا
وَكَمْ ذَا أَمَدَّتْ مِنْ أَئِمَّتِنَا بَدْرَا
لَقَدْ أَشْرَقَتْ فِيهِمْ وَفِي كُلِّ مُؤْمِنٍ
وَأَعْطَتْ لِكُلٍّ مِنْ أَشِعَّتِهَا قَدْرَا
وَلَكَنْ بِقَدْرِ الْقَابِلِيَّةِ نُورُهَا
يَكُونُ قَلِيلاً بِالْمُقَابِلِ أَوْ نَزْرَا
وَهَلْ يَسْتَوِي أَنْ قَابَلَتْ بِشُعَاعِهَا
جَوَاهِرَهُمْ أَوْ أَنَّهَا قَابَلَتْ صَخْرَا
وَأَجْهَلُ خَلْقِ اللهِ مَنْ قَالَ إِنَّهَا
بِإِشْرَاقِهَا سَاوَتْ مَعَ الْحَجَرِ الدُّرَّا
وَكَمْ مِنْ إِمَامٍ جَاءَ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ
كَبِيرٍ بِهِ قَدْ أَحْرَزَ الْمَذْهَبُ الْفَخْرَا
وَمَا مِنْهُمُ فَرْدٌ بِدَعْوَى اجْتِهَادِهِ
سَمِعْنَا لَهُ فِي غَيْرِ مَذْهَبِهِ مَسْرَى
بَلَى مِنْ طَرِيقٍ لِلْوِلايَةِ وَاضِحٍ
يَجُوزُ بَقَاءُ الاجْتِهَادِ وَلا حَجْرَا
وَأَمَّا طَرِيقُ الدَّرْسِ بِالنَّفْسِ وَالْهَوَى
فَكَمْ أَوْصَلَتْ لِلسَّالِكِينَ بِهَا شَرَّا
قَدِ اجْتَهَدُوا فِيهَا بِحُكْمِ نُفُوسِهِمْ
فَنَالُوا بِهَا مِنْهَا الْكَبَائِرَ وَالْكِبْرَا

ويقول النبهاني في تقليد هذه الجماعة للبُروتستانت والمجامع المسيحيَّة، مُشِيرًا إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقولُ: ((لتَتَّبِعُنَّ مَنْ قبلكم شِبْرًا بشبرٍ، وذِرَاعًا بذِراعٍ، حتى لو دَخَلُوا جحر ضَبٍّ لدَخَلْتُمُوه)). وحين سأله أصحابه مُستوضِحينَ: "اليهود والنصارى؟" قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فمَنْ؟!))، يقول النبهاني مُبينًا فساد تقليدهم لاختلاف الحالَيْنِ


بِفِعْلِ الْبُرُوسْتَنْتِ اقْتَدَوْا بِاجْتِهَادِهِمْ
لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ لَوْ دَخَلُوا جُحْرَا
أُولَئِكَ قَدْ أَلْغَوْا زَوَائِدَ دِينِهِمْ
وَقَدْ ضَلَّلُوا فِي ذَلِكَ الْقِسَّ وَالْحَبْرَا
قَدِ اجْتَهَدُوا فِي دِينِهِمْ حِينَمَا رَأَوْا
مَجَامِعَهُمْ زَادَتْهُ مِنْ نُكْرِهِ نُكْرَا
وَمَهْمَا يَكُنْ عُذْرٌ لَهُمْ بِاجْتِهَادِهِمْ
فَمُجْتَهِدُونَا الْيَوْمَ قَدْ فَقَدُوا الْعُذْرَا
وَمَعْ كَوْنِهِمْ مِثْلَ الْبُرُوسْتَنْتِ فَارَقُوا
أَئِمَّتَهُمْ كُلٌّ غَدَا عَالِمًا حَبْرَا
فَقَدْ قَلَّدُوا أَهْلَ الْمَجَامِعِ مِنْهُمُ
بِمُؤْتَمَرٍ لِلْبَحْثِ فِي الدِّينِ فِي مِصْرَا
بِهِ سَنَنَ الْقَوْمِ النَّصَارَى تَتَبَّعُوا
عَلَى الإثْرِ لَمْ يَعْدُوا ذِرَاعًا وَلا شِبْرَا
فَلِلَّهِ دَرُّ الْمُصْطَفَى سَيِّدِ الْوَرَى
فَقَدْ طَابَقَتْ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا الْخُبْرَا
أَمِنْ بَعْدِ قَوْلِ اللهِ: أَكْمَلْتُ دِينَكُمْ
يُرِيدُونَ فِي الإسْلامِ أَنْ يُحْدِثُوا أَمْرَا؟

من العُلماء المعاصرين الذين تَنَبَّهُوا لخطر محمد عبده، وفساد فكره مصطفى أفندي صبري شيخ الإسلام في الدولة العُثمانيَّة. وهُو يمتازُ إلى جانب ثقافته الفِقْهِيَّة الإسلامية بمعرفةٍ دقيقةٍ بِخَفَايا السياسة، وذلك بحكم عُضْويَّته في المجلس النِّيَابِي (المبعوثان) منذ سنة 1908، وعضويته في مجلس الشيوخ بعد ذلك، مع نِيَابَتِه عن (الصدر الأعظم) في رياسة الوزراء أثناء غِيابِه في أوروبا للمُفاوَضَة، بعد هزيمة تُركيا في الحرب العالمية الأولى.

يقول شيخ الإسلام مصطفى أفندي صبري في كتابه الكبير "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين" [67].
"أمَّا النهضة الإصلاحيَّة المنسوبة إلى الشَّيْخِ محمد عبده، فخلاصتها أنه زَعْزَعَ الأزهر عن جُمُوده على الدين، فقَرَّب كثيرًا من الأزهريين إلى اللاّدِينِيِّينَ خُطُوات، ولم يُقَرِّب اللاّدِينيِّينَ إلى الدين خطوة، وهو الذي أَدْخَل الماسونيَّة في الأزهر بواسطة شيخه جمال الدين الأفغاني؛ كما أنه هو الذي شَجَّعَ قاسم أمين على تَرْويج السُّفُور في مصر".

"فالشيخ بدلاً من أن يَتَغَلَّبَ على مُناظِرِه[68]، ويَهْزِمَ جُيوش المُتَفَرْنِجِينَ الكامنينَ وراءَهُ، هزم جيش عُلماءِ الدين الذي هو جيشه هو نفسُه، بطول ما رماهم به من وصْمَة الجمود، وبفضل ذلك حاز مكانةً عظيمة عند المُتفرنِجِينَ طبعًا، وعند المنهزِمِينَ تبعًا".

"وكان من مضارِّ الشيخ بالإسلام وعلمائه الناشئين بعده أن حملة الأقلام بمصر، المُنْحرِفينَ عن الثقافة الإسلاميَّة، لما أكبروا الشيخ وآراءه الشاذَّة - التي انْتَقَدْتُها في هذا الكتاب - أَوْجَدُوا له من السُّمْعَة العلميَّة السامية ما لا يزال طَنِينُه في أُذُن الشرق الإسلامي - ولا شكَّ في تأييد القُوَّة الماسونيَّة له - كان ذلك حثًّا للذين يُحِبُّون الشهرة والظهور من شباب العلماء وكُهُولهم، على نَيْل ما أرادوه بواسطة الشذوذ على الرأي، والتَّزَلُّف إلى الكُتَّاب المُتَفرنجينَ، بلِ الانتماء إلى الماسونيَّة". (ج 1 ص: 133 - 134).

ويقول مصطفى صبري في موضع آخر من كتابه[69]:
"فلعل الشيخ محمد عبده وصديقه أو شيخه جمال الدين أرادا أن يَلْعبَا في الإسلام دور لُوثَر وكِلْفن زَعِيمَي البروتستانت في المسيحية، فلمْ يَتَسَنَّ لهما الأمر لتأسيس دين حديث للمُسلمين، وإنما اقتصر سَعْيُهُما على مُساعدة الإلحاد المُقَنَّعِ بالنُّهُوض والتجديد".

ويقول في هامش هذه الصفحة:
"يدلُّ على رُجْحَان إستانبول بعلماء دينها الراسِخِينَ في مبادئهم العلميَّة أمران:
الأول: أنَّ الشيخ جمال الدين الأفغانيَّ لم يستطِع أن يَسْحَرَهُم برسالته التي أَنْجَحَها في مصر، فخرج من بين علمائها من يَشُدُّ أَزْرَه، ويشترك في أمره، ثم يلعبُ دَوْرًا في هَدْمِ الأزْهَر بزحزحته عن نَهْجه القديم القويم، والأمر الثاني: وَبَاء الماسونيَّة لم يجدْ بيئةً صالحة للانتشار بين رجال الدين في الأستانة؛ كما وجدها بين أقطاب الأزهر، وهذا على الرغم من أنَّ مصر كانت في الماضي البعيد مركزًا كبيرًا للعُلوم الإسلامية قبل دُخول الإسلام في إستانْبُول".
وهذا الحديث عن الدور الذي قام به محمد عبده ومدرسته في التقريب بين الإسلام وبين الحضارة الغربية وقيمها، يعود بنا إلى الحديث عن التيَّار الثاني الذي أَشَرْتُ إليه من قبل، والذي كان ساسة الغرب يَرْسُمُون خُطَطَهُ، ويَسْهَرُون على تنفيذها، وهي الخُطَط التي مَرَّ بنا الإشارة إليها في كلام كرومر وبلَنْت، والتي اعتمدتْ جهود الاستعمار فيها على دِراسات علميَّة دقيقة قام بها المُسْتشرقونَ)).

انتهى كلام الدكتور محمد حسين –رحمه الله- ورفع درجته -.

(الإسلام والحضارة الغربية، ص41 - 100).
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] راجع تصوير السير ثيودور موريسون لهذه الثورة في كتاب "حاضر العالم الإسلامي" 1 : 162.
[2] "الاتجاهات الوطنية": 221:1 - 222 طبعة بيروت.
[3] Arabic Thought . p. 59

[4] المرجع السابق ص 95
[5] المرجع نفسه 96.
[6] ص 60، 61 من المرجع نفسه.
[7] المرجع السابق ص 100.
[8] ص 102 من المرجع نفسه.
[9] المرجع السابق ص 95.
[10] ص 97 من المرجع السابق.
[11] ص 245 من المرجع نفسه.
[12] ص 248، 249، 255، من المرجع السابق.
[13] ص 246، 247 من المرجع السابق.
[14] 2 : 104 ط. بيروت - ص 30 من كتاب "جمال الدين الأسد بادي"، والمقال بتاريخ 22 شوال 1301 (14/8/1884 م).
[15] "جمال الدين الأسد بادي" ص 63، "خاطرات جمال الدين" للمخزومي باشا 44.
[16] "تاريخ الأستاذ الإمام" 1 : 75.
[17] "جمال الدين الأسد بادي" ص 61.
[18] "تاريخ الأستاذ الإمام" 1 : 283، 380، 2 : 553 - 558.
[19] "جمال الدين الأفغاني" لمحمود قاسم ص 23.
[20] "تاريخ الأستاذ الإمام" 1 : 45.
[21] "جمال الدين الأسد بادي" ص 7، 113، 116 - "تاريخ الأستاذ الإمام" 1 : 45.
[22] "تاريخ الأستاذ الإمام" 1 : 74.
[23] "تاريخ الأستاذ الإمام" 1 : 72.
[24] "تاريخ الأستاذ الإمام" 1 : 93.
[25] المرجع السابق 1 : 817.
[26] "خاطرات جمال الدين" للمخزومي باشا ص 41 - 50، وتراجع في ذلك اللوحتان المصورتان رقم 40، 41 من كتاب "مجموع أسناد ومدارك جاب نشده درباره جمال الدين مشهور به أفغاني". واللوحة الأولى صورة خطية للطلب المقدم بخط جمال الدين الأفغاني إلى المحفل الماسوني طالبًا الالتحاق به. وقد قدم نفسه في أوله بقوله: "مدرس العلوم الفلسفية بمصر المحروسة جمال الدين الكابلي الذي مضى من عمره سبع وثلاثون سنة"، وتاريخه في أسفله 1292 ربيع الثاني يوم الخميس 22. أما اللوحة الثانية فهي صورة خطية للخطاب المرسل إليه من محفل كوكب الشرق في القاهرة بمصر في 7 جنايو 1878 / 5878 (والتاريخ الثاني هو التاريخ اليهودي الذي يستعمله الماسون. ولست أدري إن كان المقصود بجنايو هو يناير أو يونيو) والخطاب الذي يحدد (يوم الجمعة 11 الجاري الساعة 2 عربي بعد الغروب لاستلام القادوم وتكريس الأفغاني رئيسا للمحفل).
[27] "تاريخ الأستاذ الإمام" 1 : 90.
[28] المرجع السابق 1 : 39.
[29] المرجع السابق 1 : 43.
[30] المرجع السابق 1 : 92 - 93، مع ملاحظة أن فارس نمر باشا صاحب "المقطم" كان من كبار الماسون، وكذلك كان صهره شاهين مكاريوس صاحب "اللطائف المصورة".
[31] المرجع السابق 1 : 79 - 80.
[32] "تاريخ الأستاذ الإمام" 1 : 85.
[33] نقلاً عن وثيقة مصورة بخط محمد عبده (تصوير 134 - 137) في كتاب "مجموعة أسناد ومدارك جاب نشده درباره جمال الدين مشهور به أفغاني"، الذي نشرته جامعة طهران تحت رقم 841، والمحتوي على الوثائق التي عثر عليها عند جمال الدين الأفغاني. وفي أسفلها توقيع باسم (خادمكم محمد عبده). وقد نشر رشيد رضا هذه الرسالة في كتابه "تاريخ الأستاذ الإمام" "ج 2 ص 299" وقدم لها بقوله:
"ومن كتاب له إلى السيد جمال الدين عقب النفي من مصر إلى بيروت، وهو أغرب كتبه؛ بل هو الشاذ، فيما وصف به أستاذه السيد، مما يشبه كلام صوفية الحقائق والقائلين بوحدة الوجود التي كان ينكرها عليهم بالمعنى المشهور عنهم. وفيه من الإغراق والغلو في السيد ما يستغرب صدوره عنه، وإن كان من قبيل الشعريات. وكذا ما وصف به نفسه بالتبع لأستاذه من الدعوى التي لم تعهد منه ألبتة".
[34] "تاريخ الأستاذ الإمام" 1 : 282. وهو يقصد بالعارف خادمه أبا تراب.
[35] اللوحات المصورة رقم 106 - 117 من كتاب "مجموعة أسناد ومدارك جاب نشده درباره جمال الدين مشهور به أفغاني" السابق ذكره.
[36] "تاريخ الأستاذ الإمام" 1 : 30 - 31.
[37] "تاريخ الأستاذ الإمام" 2: 553.
[38] المرجع السابق 2: 556.
[39] المرجع السابق 2 : 565.
[40] كرومر يعني بهذه الجماعة: الحزب الذي ظهر بعد كتابة هذا التقرير بعام واحد، وسمي: "حزب الأمة".
[41] (Modern Egypt 2:599 London 1911)، وكرومر يقصد بالجملة الأخيرة تسميتهم له بالحكيم. وكذلك كان رشيد رضا يشير إليه، وإلى أستاذه الأفغاني، إذا ذكرهما أو أشار إليهما.

[42] My (Diaries) 1:346 - 28 Jan, 1900

[43] (Arabic Thought in The Liberal Age 141 - 143)

[44] "التاريخ السري" 1 : 131 - 143 ط اخترنا لك.
[45] المرجع السابق 2: 164.
[46] "تاريخ الأستاذ الإمام" 2: 568، 582 - 585، 1 : 817 - 830.
[47] المرجع المذكور ص 144 - 145.
[48] "تاريخ الأستاذ الإمام" 1 : 283، 380، 2 : 553 - 558.
[49] سَجَّل اللورد كرومر في تقريره السنوي لسنة 1905، الذي كتبه بمناسبة وفاة محمد عبده، قلةَ أتباعه في ذلك الوقت. وتقارير كرومر معروفة بدقتها في تحري الصدق؛ لأنها تُرفع إلى الحكومة الإنجليزية لتبني عليها سياستها. يقول اللورد في الفِقْرة رقم 7 من تقرير ذلك العام ما ترجمته:
"وأتباع الشيخ محمد عبده في مصر، إن كانوا ممتازين بذكائهم، فهم نفر قليل. ويمكن أن نسميهم جيرونديي الحركة الوطنية المصريةGirondists Of The Egyption National Movement وهم بما يستحدثونه مِن بِدَعٍ يجعلون أنفسهم موضع الريبة، بحيث لا يستطيعون أن يجتذبوا إلى صفوفهم جماعة المحافظين من المسلمين، الذي يتمسكون بالأساليب القديمة في كل شأن من الشؤون، ويصرون على ذلك، كما أنهم - من ناحية أخرى - تفصلهم هُوَّةٌ واسعة عن ذلك النفر من المتفرنجين، الذين لم يبقَ لهم من إسلامهم إلا الأسماءُ. ومِن ذلك نرى أنهم يقفون في منتصف الطريق بين الطرفين المتناقضين، وهم بذلك يتعرضون للنقد والتجريح من الطرفين كليهما، كما هو الشأن في السياسيين الذين يسلكون مسلكًا وسطًا. ولكني أحب أن أضيف إلى ذلك أن المعارضةَ التي تَصدُر عن المحافظين أكثرُ أهميةً إلى مدى بعيد من تلك التي تَصدُر عن المتفرنجين في المجتمع المصري، وهي معارضة لم تَعُدْ تُسمع في الأيام الأخيرة إلا قليلاً".
"والأيام وحدها هي التي ستكشف عما إذا كانت الآراء التي تعتنقها المدرسة التي تزعَّمها الشيخ محمد عبده، سوف تستطيع التسرب إلى المجتمع الإسلامي. وأنا شديد الرجاء في أن تنجح في اكتساب الأنصار تدريجيًّا، فلا ريب أن مستقبل الإصلاح الإسلامي في صورته الصحيحة المبشرة بالآمال، يكمن في هذا الطريق، الذي رسمه الشيخ محمد عبده، وإن أتباعه لَيستحقون أن يُعاوَنوا بكل ما هو مستطاع من عطف الأوربي وتشجيعه".
ويدل كذلك على ضعف نفوذ محمد عبده في الأزهر، وكثرةِ المعارضين له من رجاله، ضيقُه الشديد به، حتى لقد كان إذا ذَكَره لا يَذْكُره - كما يروي رشيد رضا - إلا بقوله: (الإصطبل) و(المارستان) و(المخروب) "تاريخ الأستاذ الإمام" 1 : 495.
[50] نسبة إلى (جَنْبيه) وهي قرية في إقليم (البحيرة)، الذي ينتمي محمد عبده إلى قرية أخرى فيه. وهو من علماء الأزهر المعروفين بالصلاح والتقوى، وهو والد عبدالعزيز باشا محمد رئيس محكمة النقض ووزير الأوقاف. وكان الشيخ الشِّنْقِيطي متزوجًا أختَه. امتد به العمر إلى أكثر من عشرين عامًا بعد وفاة محمد عبده سنة 1904. وله عدة مؤلفات من بينها "الرزايا العصرية" و"بَلايا بُوزا" وهو الكتاب الذي أنقل عنه ما أسوق من نصوص. وقد كتبه سنة 1926 م بعد أن ألف طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي". وثارت حوله ضجة وصُودِرتْ نُسخُه.
[51] لَقَّبَه الجنبيهي بالغرابلي؛ لأن أهله من (الغَجَر) الذين يُسمَّوْن في بعض البلاد العربية (النَّوَر) أو (الصَّلَب)، وهم يسكنون خيامًا رثة من (الخيش)، ويمتهنون صناعات صغيرة، منها صناعة الغرابيل، التي تُتخذ سُيورها من جلود الحيوانات الميتة كالحمير.
[52] يقول ذلك على عادة أهل الصلاح والتقوى في سوء ظنهم بأنفسهم وبأعمالهم.
[53] يرى المؤلف أن عرابي كان خائنًا، وأنه كان يُمثِّل الجناح الحربي في مدرسة الأفغاني، بينما كان محمد عبده يمثل الجناح الفكري، ويستدل على ذلك بصلتهما المشتركة، وصلة أستاذهما الأفغاني مِن قَبلُ بالمستر بلانت، الذي كان يعمل على تمزيق الدولة الإسلامية. فالمستر بلانت - كما هو معروف - هو الذي تولى الدفاع عن عرابي في محاكمته، وهو الذي أصدر بيانًا باسم الثورة العرابية، نشره في جريدة "التيمز"، يصف فيه الحزب الوطني الذي أعد للثورة بأنه (حزب سياسي لا ديني) ("الاتجاهات الوطنية" 1 : 154). أما صلة بلانت بمحمد عبده فهي مشهورة معروفة. وقد صدر كتاب بلانت المشهور "التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر" بالاشتراك مع محمد عبده. فقد راجع نسختَه العربية التي تم طبعها وظهورها قبل النسخة الإنجليزية (The Secret History of the British Occupation of Egypt ). أما صلة بلانت بالأفغاني، فهي ثابتة من مجموع الوثائق التي أصدرتها جامعة طهران. وفيها صور لرسائل خطية تبادلها الأفغاني والمستر بلانت وزوجته (عانا بلانت) راجع اللوحات المصورة رقم 130، 131، 132 من كتاب "سيد جمال الدين مشهور به أفغاني" رقم 841 من مطبوعات جامعة طهران. ويرى الجنبيهي كذلك أن عزل الخديوي إسماعيل كان مخطَّطًا، بالإيقاع بينه وبين الدولة العثمانية، لأنه كان يقف عقبة في طريق الأفغاني، ولأن ابنه (الخديوي توفيق) الذي حل محله كان على ولاء للأفغاني، الذي نجح في ضمه للمحافل الماسونية. وذلك بالرغم من أنه هو الذي أمر بنفيه فيما بعد وإبعاده عن مصر، حين تبيَّن له خطرُه. (ص 48 - 50).
[54] راجع "الاتجاهات الوطنية" 1: 25 في سعي بلانت لإنشاء خلافة إسلامية عربية حليفة لإنجلترا، ورد مصطفى كامل عليه.
[55] لمزيد من التفصيل حول هذا الموضوع يراجع "الاتجاهات الوطنية" 1 : 337 وما بعدها، 2 : 305 وما بعدها.
[56] وهي تتلخص في محاربة الدين الإسلامي، وإضعاف نفوذه وسلطته في المجتمع.
[57] "قصر الدوبارة" مقر كرومر، و"قصر عابدين" مقر الخديوي.
[58] يشير إلى الفِقْرة (7) من تقرير سنة 1905، التي ترجمت شطرًا منها في الهامش رقم 1 ص 80.
[59] مؤلف "تحرير المرأة" هو قاسم أمين أحد تلاميذ محمد عبده. وصاحب مجلة "المنار" الشهرية هو رشيد رضا أبرز تلاميذ محمد عبده، وأكثرهم تعصبًا له.
[60] يوسف بن إسماعيل بن يوسف النبهاني (1265 - 1350 هـ 1849 - 1932 م) جاء في معجم "الأعلام" للزركلي: "شاعر أديب من رجال القضاء" نسبته إلى (بني نبهان) من عرب البادية بفِلَسطين، استوطنوا إِجْزِمْ - بصيغة الأمر - التابعة لحيفا في شمالي فِلَسطين. وبها ولد ونشأ. وتعلم بالأزهر بمصر (1283 - 1289 هـ). وذهب إلى الأستانة فعمل في تحرير جريدة "الجوائب"، وتصحيح ما يطبع في مطبعتها، ورجع إلى بلاد الشام (1296) فتنقل في أعمال القضاء إلى أن صار رئيسًا لمحكمة الحقوق ببيروت (1305)، وأقام بها زيادة على عشرين سنة، وسافر إلى (المدينة) مجاورًا، ونشبت الحرب العالمية الأولى، فعاد إلى قريته وتوفي بها".
[61] ص 34 وما بعدها من كتاب "العقود اللؤلؤية في المدائح النبوية".
[62] اجتمع به في سنة 1326 هـ (وهي توافق 1908) كما جاء في قصيدته (الرائية الصغرى) حيث قال:

وَمِنْ نَحْوِ عَامٍ جَاءَنِي فَنَصَحْتُهُ كَمَا تَنْصَحُ الثُّعْبَانَ أَوْ تَنْصَحُ الْفَأْرَا
وَذَاكَرْتُهُ فِي شَيْخِهِ وَهْوَ عَبْدُهُ تَمَلَّكَهُ الشَّيْطَانُ عَنْ قَوْمِهِ قَسْرَا

وقد جاء في ص 400 من كتابه "العقود اللؤلؤية" أنه أنشأ هذه القصيدة سنة 1327 هـ.
[63] "العقود اللؤلؤية" ص 400.
[64] الاستبراء: أن يتربص الإنسان إذا بال بعد البول؛ حتى يتحقق انقطاعه، ويعتقد براءته منه.
[65] راجع الفتوى والظروف التي أحاطت بها في "تاريخ الأستاذ الإمام" 1 : 668 - 716.
[66] قال الشاعر في هامش هذه الأبيات "العقود اللؤلؤية ص 370":
"الذي أَعْلَمُه من حال الشيخ محمد عبده - وكل مَن عَرَفه يعلمه كذلك - أنَّه حينما كان في بيروت منفيًّا كان كثير المخالطة للنصارى، والزيارة لهم في بيوتهم، والاختلاط مع نسائهم بدون تستُّر. هذا مما يعلمه كل مَن عرف حاله في هذه البلاد، فضلاً عن أسفاره المشهورة إلى بلاد أوروبا، واختلاطه بنساء الإفرنج، وارتكابه المنكرات؛ من شرب الخمر وترك الصلوات. ولم يَدَّعِ هو نفسه الصلاح، ولا أحد توهَّمه فيه. فكيف يكون قدوة وإمامًا في دين الإسلام؟!! نعم، هو إمام للفساق والمراق مثله. ولذلك تراهم على شاكلته، لا حج ولا صلاة ولا صيام ولا غيرها من شرائع الإسلام" وقال بعد ذلك:
"دعاني رجل من أهل جبل لبنان سنة 1305 هـ (أقول وهي توافق 1888 م) إلى بيته، فتوجهتُ معه، فوجدتُ هناك الشيخ محمد عبده. فتصاحبنا من الصباح إلى المساء لم أفارقه نهارًا كاملاً. فصلَّيْتُ الظهر والعصر، ولم يصلِّ ظهرًا ولا عصرًا. ولم يكن به علة، ولا عذر له إلا خوفه من أنه إذا صلى بحضوري، يقول أولئك الحاضرون الذين كان لا يصلي أمامهم: إنه يرائي في هذه الصلاة لأجلي، فغلب عليه شيطانُه، وأصرَّ على عدم الصلاة، وإلا فقدْ بلغني عنه أنه كان يصلي تارة، ويترك تارة، والترك أكثر".
وذكر أيضًا مثل ذلك في الأفغاني، فقال: "إنه اجتمع به سنة 1287 هـ في مصر حين كان مجاورًا بالأزهر، ولاَزَمَهُ من قبل الغروب إلى قبل العشاء فلم يصلِّ المغرب".
[67] راجع تعريفًا لمصطفى صبري ومؤلفاته في "الاتجاهات الوطنية"، ج 2 ص 75 - 85، 343 - 348.
[68] المقصود هو فرح أنطون صاحب مجلة "الجامعة العثمانية" في المناظرة التي جرت بينه وبين الشيخ محمد عبده في أول هذا القرن، في سِتّ مقالات، تبادلها الطرفان، وجمعها فرح أنطون بعد ذلك في باب الردود من كتابه "فلسفة ابن رشد". وقد ثارت المناقشة بمناسبة مقالٍ نشره فرح أنطون في مجلته عن "فلسفة ابن رشد"، وأشار فيه إلى أنَّ المسيحيَّة أكثر تَسامُحًا مع الفلسفة من الإسلام.
[69] "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين" (4 أجزاء) ج 1 ص 144، وقد بَسَط النبهاني هذه الفكرة في "العقود اللُّؤْلؤيَّة" ص 400.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الشيخ محمد محمد حسين رحمه الله (ترجمته وأعماله)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: