اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 أبو بكر حمزة وحديثه عن القرآن[1]

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99300
أبو بكر حمزة وحديثه عن القرآن[1] Oooo14
أبو بكر حمزة وحديثه عن القرآن[1] User_o10

أبو بكر حمزة وحديثه عن القرآن[1] Empty
مُساهمةموضوع: أبو بكر حمزة وحديثه عن القرآن[1]   أبو بكر حمزة وحديثه عن القرآن[1] Emptyالخميس 9 مايو 2013 - 17:06

أبو بكر حمزة وحديثه عن القرآن[1]


المفهوم أن الترجمةَ تعكسُ فهمَ صاحبِها للنصِّ الذي يترجِمه، ومن ثَمَّ فترجمةُ القرآنِ هي عملٌ تفسيريٌّ.



ومما يُحمَد للشيخِ "أبو بكر حمزة" أنه كان - في معظمِ الحالاتِ - يترجِم الآيةَ على حسب ما يَتَراءَى له أنه أصحُّ فهمٍ لها، ثم يُتبِعُها في الهامشِ بترجمةٍ أخرى أو أكثر للآيةِ ذاتِها وفقَ تفسيرِ هذا المفسِّر أو ذاك.



ولكنه على رغمِ كثرةِ التفاسير والتراجمِ القرآنيةِ التي رجَع إليها، فإن قائمةَ مراجعِه - للأسفِ الشديدِ - لا تضمُّ مثلاً "في ظلال القرآن" لسيد قطب - رحمه الله - وهو عمل رائدٌ في حقلِه، وكان بوسعِه أن يُعِين الأستاذَ المترجِم على فهمٍ أصحَّ لكثيرٍ من الآيات، وعلى رؤيةٍ أوضحَ لبناءِ السور.



وكذلك من محاسنِ هذه الترجمةِ: أن المترجِم قد قدَّم لبعضِ السورِ بمقدماتٍ يعالِج فيها - بالتفصيلِ - الموضوعَ الرئيسيَّ الذي تعرَّضت له السورةُ المذكورةُ. وربما كانت أطولُ هذه المقدِّمات هي مقدمةُ سورةِ "محمد"، التي تقع في أكثرَ من أربعَ عشرةَ صفحةً.



ورغم محاسنِ الترجمةِ - ورغمَ الجهدِ الضخمِ الذي تحمَّله المترجِم؛ لينقلَ القرآنَ الكريمَ إلى اللغة الفرنسية - فإن بعضَ المسائلِ التي أثارها عند ترجمةِ هذه الآيةِ أو تلك، أو في مقدِّمة هذه السورة أو غيرها، جديرةٌ بوقفةٍ.



ومن ذلك أنه "ج 1 - ص361 - 362" يرى أن الآيةَ الرابعةَ والخمسينَ من سورةِ "الأنفال" هي تكرارٌ للآيةِ الثانيةِ والخمسينَ من السورةِ نفسِها، وهو ما يثيرُ استغرابَه؛ فيَمضِي محاولاً تفسيرَ هذا التكرارِ، مؤكدًا أن الرازي هو المفسِّر الذي حاول ذلك من قبل، وكان رأيَه أنها تكملةٌ للآيةِ السابقةِ، ثم يعقِّب قائلاً إنه لا يفهمُ كيف يكونُ هذا التكميلُ، بل الأحرى في نظره: أن يكونَ أعضاءُ اللجنةِ التي اضطلعت على عهدِ عثمانَ - رضي الله عنه - بكتابةِ نسخةٍ رسميةٍ للمصحفِ قد وصلَتهم روايتانِ مختلفتانِ لآيةٍ واحدةٍ؛ فاحتفظوا بدافعٍ من تحرُّجهم الدينِي بالروايتين معًا.



ثم يَختِم تعقيبَه هذا بالإشارةِ إلى أن الزمخشري يرى في الآيةِ الثانيةِ من الآيتينِ السالفتي الذكر تكريرًا أُرِيد به التأكيدُ.



إن كاتبَ هذه السطورِ لا يستطيعُ أن يرى ما يوجِب الاستغرابَ أو الحيرةَ في الآيةِ الرابعةِ والخمسين من سورةِ "الأنفال"، وهي - بكلِّ تأكيدٍ - ليست تكرارًا للآية الثانية والخمسين من نفسِ السورةِ، برغم احتوائها على بعضِ الألفاظ الواردة فيها، وحتى لو سلَّمنا جدلاً بأنها تكرارٌ لها؛ فإني لا أَدرِي كيف يُمكِن أن يؤدِّي ذلك إلى هذا التخريجِ العجيبِ الذي لا يَنهَض على أساسٍ تاريخي؛ إذ لم يَصِلنا شيءٌ عن الروايتينِ المختلفتينِ المزعومتين، وإلا لكان المترجِم نفسُه أولَ مَن يُورِد ذلك، ولا على أساسٍ من النقد الأدبي؛ فإن التكرارَ في هذه الآية - إن سلَّمنا به - ليس بدعًا في أسلوبِ القرآن الكريم، وإلا فما بالُ الأستاذِ المترجِم لم يتحيَّر أمام آيتي: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 8-9]، وقد تكرَّرتا سبعَ مرَّاتٍ في سورة "الشعراء".



• أو أمام آيتي: ﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 21-22]، وقد وردتا بضعَ مراتٍ في سورةِ "القمر".



• أو آيةِ: ﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [الرحمن: 13]، التي تكرَّرت في سورة "الرحمن" ثلاثينَ مرَّة؟



لقد كانت حيرةُ المترجِم تكون مفهومةً لو لم يكن هذا التكرارُ مَلْمَحًا أسلوبيًّا قرآنيًّا، إن الرازي والزمخشري قد أصابا الحقَّ حين أكَّد الأولُ أن الآيةَ الثانيةَ من الآيتينِ المشارِ إليهما مكملةٌ للآيةِ السابقةِ عليها، ورأى الثانِي فيها تأكيدًا للآية الثانية والخمسين.



وقبل أن أوضِّح رأيي في هذه المسألةِ، لا بدَّ أن أوردَ الآيتينِ في سياقِهما، وهو: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [الأنفال: 50 - 54].



ومن هذا السياقِ يتَّضحُ أن الآيةَ الرابعةَ والخمسين مرتبطةٌ بالآيةِ السابقةِ عليها ارتباطَ الثانيةِ والخمسين بما قبلها؛ فهي تؤكِّد أن ما أصاب الكفَّار العربَ إنما هو من صنعِ أيديهم، تمامًا كما أن ما وقَع لآلِ فرعونَ ومَن قبلَهم إنما جنَوه هم على أنفسِهم.



ثم تأتي الآيةُ الثالثةُ والخمسونَ لتلمِسَ جانبًا آخر من القضية، وهو أن النعمَ التي تتقلَّب فيها أمةٌ من الأممِ لا تزولُ عنها ما قامت بواجبِ الشكرِ عليها، فأما إذا كَفَرتْها وجَحَدت يدَ المُنعِم المتفضِّل - سبحانه - فلا تلومنَّ ساعتئذٍ إلا نفسَها، وهو ما حَدَث لآل فرعون ومَن قبلهم، "انظر: الآية الرابعة والخمسين".



ومقارنةٌ بين الآيتينِ [51 - 53] تبيَّن أن الأخيرةَ تفصِّل ما أجمَلت الأولَى، وتُلقِي - كما سَلَف القول - الضوءَ على جانبٍ آخرَ من القضيةِ.



كما أن المقارنةَ بين الآيتين [53 - 54] توضِّح أن الثانيةَ تفصيلٌ وإضافةٌ للأولى، وليست - كما زعم المترجِم - مجرَّد تكرارٍ لها.



وحتى نفهمَ مرمى الآيتين [53 - 54]، أحبُّ أن أشيرَ إلى:

• الآيةِ السابعةِ والستين من سورةِ "العنكبوت": ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴾ [العنكبوت: 67].



• وإلى سورةِ "قريش" كلِّها؛ حيث يَمُنُّ الله - سبحانه - على قريشٍ بما يسَّر لهم من رحلتي الشتاء والصيف، ويَلفِتُهم إلى ما يَجِب عليهم تُجَاه هذه النعمةِ.



• وكذلك إلى الآيتين [57 - 58] من سورة "الشعراء"، اللتين تحكيانِ كيف تحوَّلت النعمُ الإلهية عن فرعونَ وقومِه حين كذَّبوا بآيات ربهم: ﴿ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴾ [الشعراء: 57-58]، وإذا كانت لفظةُ "النعمةِ" لم تُذْكر بنصها في هاتينِ الآيتينِ؛ فإننا نجدها في الآيات [25 - 28] من سورةِ "الدُّخَانِ"، التي تتحدَّث عن نفسِ الموضوعِ: ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ﴾ [الدخان: 25 - 28]، وفي سورة "المزمل" نجد المقابلةَ ذاتَها بين تكذيبِ الكفَّار بآياتِ الله وما ينتظرُهم من عقابٍ مُهِين، وبين عصيانِ فرعونَ وقومِه لرسولِهم والوبالِ الذي صبَّه الله عليهم [الآيات 11 - 16].



والذي يَلِفت النظرَ في هذه الآياتِ - فيما نحن بصددِه - هو هذا التهديدُ بزوال النعمةِ في قوله - تعالى -: ﴿ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ﴾ [المزمل: 11]، هذا التهديدُ الذي شرع يتحقَّق منذ غزوةِ بدرٍ، وهو ما تناولته صراحةً الآيتانِ [53 - 54] من سورةِ "الأنفال".



وغَنِيٌّ عن القولِ أن هذه المقابلةَ قد عُولِجَت في أكثرَ من سورةٍ أخرى.



وفي موضعٍ آخرَ يدَّعي المترجِم أن الآيةَ الرابعةَ والأربعين من سورةِ "هود": ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44]، كان يَنبَغِي أن تتلوَ الآيةَ السابعةَ والأربعين من السورةِ ذاتِها، وهي: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47]، بيد أنها قد بَقِيت في مكانِها الحالي؛ احترامًا لترتيبِ الآيات في المصحف العثمانِي.



ونظرةٌ واحدةٌ إلى هذه الآية - في موضعِها الحالي - تبيِّن أن ادِّعاءَ المترجِم هو ادِّعاءٌ يفتقرُ إلى أساسٍ يقومُ عليه، فليس شرطًا أن يأتِيَ بَلْعُ الأرضِ ماءها، وإقلاعُ السماءِ، واستواءُ الفلكِ على الجُودِيِّ في نهايةِ القصةِ؛ إذ يُمكِن أن يكونَ ذلك قد وقَع أولاً، ثم نادى نوحٌ ربَّه بعد ذلك: ﴿ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي... ﴾ [هود: 45]؛ فبيَّن الله له أنه ليس من أهلِه، ووَعَظه وربأ به أن يكونَ من الجاهلينَ، فاستغفره نوح - عليه السلام - وعندئذٍ أتى النداءُ الإلهيُّ بأن يهبطَ نوحٌ بسلامٍ من اللهِ وبركاتٍ عليه وعلى أممٍ ممن معه.



ذلك ممكن جدًّا، وذلك هو الذي يُفهَم من ظاهر الآياتِ الذي لا مسوِّغ لتجاهلِه وافتراضِ ترتيبٍ للأحداثِ مختلفٍ، فإن أيًّا منا لم يكن مع نوحٍ في الفلكِ؛ كي يؤكِّد أن ترتيبَ الوقائعِ في هذه القصة هو على خلافِ الظاهر.



وحتى لو افترضنا أن انقطاعَ هطولِ المطرِ، وتوقفَ الأرضِ عن التفجُّر بالماء - قد سبقا مباشرةً هبوطَ نوحٍ - عليه السلام - من الفلك، فليس هذا أيضًا شرطًا لأن تأتِي الواقعتانِ على هذا الترتيبِ في الروايةِ القرآنيةِ حتى يُمكِننا الادعاءُ بأنه: لولا احترامُ المسلمين لترتيبِ المصحفِ العثمانِي؛ لكان من الواجبِ أن تَتَوالَى الآيتانِ على هذا النحوِ؛ فقد يَرَى راوي قصةٍ ما تَقدِيم واقعةٍ في السردِ لدواعٍ فنيةٍ على أخرى قد سبقتها، وإذًا فإن صحَّ أن وقائعَ قصةِ نوح - عليه السلام - قد حدثت على الترتيبِ الذي يدَّعيه المترجِم؛ فإن القرآنَ يكونُ قد عالَج هاتينِ الواقعتينِ كلاًّ على انفرادٍ، حتى إذا ما فَرَغ من الأولَى وصوَّر نتائجَها.



انتقل إلى الثانيةِ بدورِها وأبرز عواقبها:

فأما الواقعةُ الأولَى، فهي عصيانُ ابنِ نوحٍ، واغترارُه بأن الجبلَ يَعصِمه من الماء، ثم حيلولةُ الموجِ بينه وبين أبيه؛ فكان من المُغْرَقِين.



وأما الثانيةُ، فهي أن نوحًا حَزِن على ما آلَ إليه مصيرُ ابنِه، فدعا ربَّه، فكان ما كان من ردِّ المولى عليه، ثم استغفاره - عليه السلام - ربَّه، فندائه - سبحانه - له: أن ﴿ اهْبِطْ بِسَلَامٍ ﴾، ويكون القرآنُ - لأمرٍ ما - لم يشأ أن يوالى بين الواقعتينِ؛ إذ ربما أراد الإيحاءَ مثلاً بأن الابنَ العاصي قد أصبحَ ذكرى بعيدةً، يَنبَغِي ألا تَشغَل الأذهانَ، أو ربما قَصَد إلى إبراز المصيرِ الرهيب الذي آلَ إليه الابنُ الكافر، وتركيز الضوءِ عليه بدلاً من تشتيتِ الانتباهِ بينه وبين الحزن الأَبَوي الذي تحرَّك في قلب نوحٍ - عليه السلام - ومناجاته ربَّه إلى أن استطاع أن يسيطرَ على هذه المشاعرِ التلقائيةِ، ويُفِيق إلى حكمةِ اللهِ.



ونَسْجُ وقائعِ القصة على هذا المنوالِ ليس أسلوبًا غريبًا على القرآن الكريم، وتحضرني الآن الآياتُ التي تناولت قصةَ سبأ وما أفاء اللهُ عليهم من نعمٍ، ثم كفرانَهم بها، وما عَقَب ذلك من انتقامٍ إلهي، فكيف عالج القرآن هذه القصة؟ لقد قسَّمها إلى جزأينِ، متناولاً كلاًّ على حدَةٍ؛ إذ تناولت الآيات [15 – 17] من تلك السورةِ تصويرَ خصبِ أرضِهم، والجنانِ التي كانوا يتمتَّعون بخيراتِها، والشكر الذي كان يَنبَغِي عليهم أن يؤدُّوه لله، فلما أَعرَضوا أَرسَل عليهم سَيْلَ العَرِمِ وبدَّلهم بجنَّتيهم أشجارًا ذاتَ أُكُلٍ خَمْطٍ وأَثْلاً وقليلاً من أشجارِ السِّدْرِ، ثم تعودُ الآيتانِ [18 - 19] من السورةِ نفسها إلى الحديثِ عن جانبٍ آخرَ من النعم، وهو الجانب التِّجاري، وكيف انتقم الله منهم هنا أيضًا حين ظلموا أنفسَهم؛ فجعلهم أحاديثَ، ومزَّقهم كلَّ مُمَزَّق، فهل يُفْهم من هذا أن الله قد بدَّلهم بخص بِ جنانِهم شوكًا وعوسجًا، ثم عاد - عز وجل - فوسَّع عليهم في تجارتِهم ويسَّر لهم أسفارَ قوافلِهم؟ ذلك بعيدٌ، والأرجح أن العقوبتينِ قد تزامنتا. ونلاحظ أن أداةَ الربطِ بين جزأي القصةِ هي حرف "الواو" أول حرفٍ في الآيةِ الثامنةَ عشرةَ"، وهو نفسه أداةُ الربطِ بين الواقعتين اللتين سلفت الإشارة إليهما من قصةِ نوحٍ وولدِه في سورة "هود".



وهذا الحرف - كما هو معروف - لا يفيد ترتيبًا، بل مطلق الجمعِ، فلا حرجَ من تقديمِ واقعةٍ على أخرى قد سبقتها أو حَدَثت معها في وقت واحد، والربطُ بينهما بهذه الأداةِ التي لا يلزمُ أن تفيدَ ترتيبًا بعينِه.



إن وجهَ الخطورةِ - فيما قاله المترجِم - هو ما يُفهم منه من أن القرآن - كما نقرؤه اليوم - قد حدث فيه بعضُ التغيير.



أقول: إن هذا هو ما يفهمُ مما قاله المترجِم، ولا أظنني متجنيًا عليه ولا محمِّلاً كلامَه ما لا يَحتَمِل، وإذا كان عند القارئِ أدنَى ريبٍ؛ فليَرجِع إلى الجزء الثاني من هذه الترجمة - ص1279 - ف 2؛ حيث يقرِّر الشيخ حمزة أن بعضَ الآياتِ قد نُقِلت عن مواضعِها أثناءَ ولايةِ سيدنا عثمان - رضي الله عنه - إذ لم يكن معروفًا إلى أيِّ سورةٍ تنتمي ولا في أي موضع يَنبَغِي أن تُكتب، وهو هنا يُحِيل القارئ على ص26 - 35 من المقدمة التي صدَّر بها الأستاذ محمد حميد الله ترجمتَه للقرآن الكريم "ط. باريس - 1959 م".



ومعنى ذلك أن بعض الآيات قد وُضِعت كيفما اتفق لجهلِ نسَّاخ المصحف على عهد عثمانَ بموضعِها الحقيقي، فضلاً عن أن آيةً أخرى - على الأقلِّ - كان يَنبَغِي أن يكتبوها في موضعٍ آخرَ غيرِ موضعِها الحالي هي آيةُ سورةِ "هود"، بالإضافةِ إلى أنهم - تحت ضغطٍ من شدَّة تحرُّجهم - قد زادوا على القرآنِ آيةً لم تكن فيه، هي آيةُ سورةِ "الأنفال".



إن السؤالَ هو: أين كان مصحفُ أبِي بكرٍ في ذلك الوقت؟ ألم يكن هو عمدةَ هؤلاءِ ِالنُّسَّاخ؟ أم إن هذا المصحفَ أيضًا كان يُعانِي من الاضطرابِ ذاتِه؟ ثم كيف يَستَقِيم هذا الادِّعاء مع الإيمانِ بأن الله قد تكفَّل بحفظ القرآن؛ إذ قال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، لقد كنتُ أتوقَّع أن يعلِّق الشيخ "أبو بكر حمزة" على هذه الآيةِ الكريمة بما يُلقِي ضوءًا على ما زَعَمه في آيتِي سورةِ "الأنفال" وسورة "هود"، ولكنه - للأسف - لم يفعل، بل اكتفى بترجمتِها على النحوِ التالي: "C'est nous , en verite , qui t'avons communiqué rememoration et , certes , c'est nous qui en sommes les gardiens "جـ 1 - ص519".



إنه لو لم يكن مسلمًا، بل أحدَ كبار المسؤولينَ المسلمينَ في فرنسا، لكان موقفُه مفهومًا.



كذلك كيف يُمكِن التوفيقُ بين ما زَعَمه من وقوع بعضِ الاضطرابِ في القرآنِ - وعلى عهدِ مَن؟ على عهدِ عثمانَ! - وبيَّن ما يؤكِّده هو نفسُه "جـ 2 - ص1268 - ف 2" من أن تكذيبَ النبي - عليه الصلاة والسلام - أو إنكارَ أيِّ شيءٍ من القرآنِ هو بمثابةِ الشكِّ في القرآن كلِّه والوقوعِ من ثَمَّ في الكفر؟



ومما يؤخَذ عليه أيضًا، أنه ينقل قوله - تعالى -: ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا .. ﴾. إلخ [الرحمن: 33]، على النحو التالي: "O peoples des demons et des hommes "جـ 2 - ص1065"، ومعناه: "يا معشرَ الشياطينِ والإنس". وليس في الهامشِ المخصَّص لهذه الآيةِ "ص1066"؛ أي: تعليق يُمكِن أن يُلقِي ولو بصيصًا ضئيلاً من الضوء على السببِ الذي دَفَعه إلى ترجمةِ لفظةِ "الجن" هنا بـ "demons" بدلاً من "jinns"، التي استخدمها في ترجمةِ عنوانِ سورةِ "الجن" وآياتها "ص1146 وما بعدها".



والغريبُ مع ذلك أنه في مقدِّمة هذه السورة "ص1149" يقرِّر أن الجنَّ هم ذريةُ إبليسَ، فهل هذا صحيح؟ إن القرآنَ يقرِّر أن إبليسَ كان من الجنِّ، وليس فيه قط ما يُشِير إلى أنه كان لهم كآدمَ للبشرِ. وحين يُشِير القرآنُ الكريمُ إلى إبليسَ وذريتِه، فالمفهوم أنه يُشِير إلى الشياطين لا إلى الجنِّ بعامة؛ إذ إنه في سورة "الجن" ينص على لسانِ الجنِّ أنفسِهم بما لا يدعُ مجالاً للَبْسٍ أنهم طرائقُ قِدَدٌ، وأنَّ منهم القاسطين ومنهم المسلمين، والمترجِم نفسُه يشير إلى هذا في الفقرة السابقة مباشرة.



ومما يحيِّر كذلك قولُه في الفقرةِ الأخيرةِ من المقدِّمة التي مهَّد بها لسورة "الجن" "جـ 2 - ص1150"، ما مفاده: أننا لن نَعرِف الإسلامَ على حقيقتِه، إذا جَهِلنا أن عقلانِّييه وكبارَ مفكِّريه قد أَنكَروا بعد الدراسة المتعمقة وجودَ الجنِّ، ثم يَذكُر من هؤلاءِ: المعتزلةَ، وابنَ رشدٍ، وكذلك ابنَ خلدون، الذي ينقل عنه أن ما جاء في القرآن عن الجنِّ إنما هو allegories، وهذه اللفظةُ تعني "القصص الرمزي"، إلا أن المترجِم قد استَعمَلها في ترجمةِ كلمةِ "متشابهات"، التي استخدمها ابن خلدون، مع أن المتشابهَ هو ما استأثر الله بعلمه؛ أي: إن المتشابهات شيءٌ، والقصص الرمزي شيءٌ آخرُ مختلفٌ تمامًا، ثم مادام الله - سبحانه - قد أكَّد وجودَ الجنِّ، وأفاض القولَ فيهم، بل سمى إحدى سوره باسمهم، فما معنى أن يؤكِّد المترجِم في مقدِّمته لهذه السورةِ أن من الجهلِ بالإسلامِ ألا نعرف أن مفكِّريه الكبارَ قد أنكروا وجودَ الجنِّ؟ إن مفكِّري الإسلامِ الكبارَ ليسوا إلا بشرًا من البشرِ، أَفَنصدِّقُهم - حتى لو صح ما نسبه المترجِم إليهم - في أمرٍ من أمورِ الغيبِ الذي لا يَعلَمُه إلا الله، ونردُّ قولَ عالِم الغيبِ والشهادة؟ إن المترجِم طبعًا لم يقل هذا، لكن الطريقة التي عَرَض بها الأمر، والموضَعَ الذي عرَضَه فيه يُوحِيان بالكثيرِ.



إن أفضلَ شيءٍ نَفعَله هو أن نَقِف عندَ ما جاء في القرآنِ عن الجنِّ، ولا نَعدُوه إلى ما ورائه؛ فإنه لا طائلَ تحته، ولْنفوِّض إلى الله العلمَ بمرادِه، فلا أظنُّنا بِغَانِمي شيءٍ من أمثالِ هذه الشطحات.



كذلك من الجزمِ في غيرِ موضعِه أن يؤكِّد المترجِم أن متعَ الجنة - كما فصَّلها القرآن - يَنبَغِي ألا تؤخَذ على ظاهرِها، وأنه إذا كان القرآن قد تحدَّث عن: الحور العِين، والفاكهة، واللحم؛ فقد كانت عينُه على العربِ الحسيِّين الأجلافِ المتضوِّرين جوعًا، والذين كان شعراؤهم أنفسُهم كثيرًا ما يشتكونَ الجوعَ في قصائدهم، ونادرًا ما كانوا يتحدَّثون عن العطشِ "جـ 2 - ص1042 - الآية 22 من سورة "الطور".



إن هذا الكلامَ يُثِير أكثرَ من سؤالٍ:

1- هل الإسلامُ دينٌ عربِيٌّ جاء إلى العربِ وحدَهم؛ حتى يعملَ القرآن لهم كلَّ هذا الحسابِ، فيصوِّر الجنة وفقَ مرادِهم؟ فكيف دَخَلت كلُّ هذه الأجناس الأخرى في الإسلام إذًا؟



2- وهل العربُ يتفرَّدون من بينِ الأممِ بحبِّ الطعامِ الشهيِّ والمرأةِ الجميلة؟ إن هذه هي دعوى بعض المستشرقينَ، الذين يُرِيدون أن يقولوا إن أممَهم أرقى من أمةِ العرب... إلى آخر هذه السخافاتِ التي يَطْلعون علينا بها بين الحين والحين، فهل يوجَد من بين هؤلاءِ المستشرقينِ أو أممِهم واحدٌ - واحد فقط - ينفرُ من أكلةٍ أو شهية، أو يتقزَّز من امرأة جميلة؟ إن السعارَ وراء هذه المتع لَعلى أشدِّه في هذه المجتمعاتِ، فلم إذًا الاستعلاءُ على المتعِ التي وعد الله بها عباده المتقين في جنات عَدْنٍ؟



إنني أفهمُ أن يقولَ إنسانٌ: إن هذه اللذات - على حالتِها التي هي عليها في هذه الدنيا - لها جانبُها المنفِّر: فالطعامُ مثلاً قد يسبِّب لنا مغصًا، وهو بعد أن نشبعَ منه لا تعودُ له الجاذبيةُ الأولى، ثم إنه إذا تُرِك فترةً طويلة يتعفَّن، فهذه ملاحظةٌ لها وجاهتُها، ولكن مَن قال إن متعَ الجنةِ ستكونُ كمتعِ هذه الدنيا؟ إنها - كما يؤكِّد القرآن والحديث - سوف تكون متعا خالصة مصفّاة. إننا لا يُمكِننا أن نعرف طبيعة هذه المتع لسبب بسيط هو أن القرآن الكريم يذكر أنه سوف تُبدّل الأرض غير الأرض والسموات، أي أن الكون سوف يتخذ وضعًا جديدًا، وسوف يجري على قوانين أخرى غير التي نعهدُها الآن.



أما أن نجزم بأن الجنة هي متع روحية فقط فهذا، مرة أخري، رجم بالغيب.



3- كذلك لا أظن الأستاذ المترجِم إلا مُوقنا بأن الذين آمنوا بالرسول - عليه الصلاة والسلام - هم أفضل أخلاقًا وأرقي وأزكي نفوسًا ممن أصروا على عنادهم وماتوا على الكفر. لكن توجيهه هذا للآيات التي تصف نعيم الجنة يعني أن الذين آمنوا به - عليه السلام - كانوا أكثرَ حسيةً وأسعى وراء متع الطعام والنساء، وأن الكفرة الذين لم تغرَّهم لذائذُ الجنةِ كانوا أضبطَ لشهواتهم؟ ألا يجرُّ هذا التوجيه - كما نرى - إلى نتائج عجيبة؟



4- ثم إن كلامَ المترجِم يُوحِي بما معناه أن القرآن قد اهتم بوصف طعام أهل الجنة ولم يهتم بوصف مشاربها، فشعراءُ الجاهليةِ - وهم شهودٌ على قومهم - كانوا كثيرًا ما يشتكونَ الجوع في قصائدِهم، ونادرًا ما اشتكوا العطشَ كما قال، وفاته أن القرآن قد فصَّل القولَ في مشاربِ أهل الجنةِ في مواضع عدة من: خمر، وعسل، ولبن، وماء مَعِين.



ورغم ذلك، فليس معنى كلامي أن متعَ الجنةِ ستكونُ مقصورةً على هذه اللذائذِ وحدَها:

فثمَّة رضوانُ اللهِ، وثمَّة السلامُ الشاملُ الذي ستتقلَّب فيه نفوسُ الصالحين، وثَمَّة وجهُ الله ذو الجلالِ والإكرامِ.



وأيًّا ما يكن الأمرُ، فلا مسوِّغ لكلِّ هذه الحساسيةِ التي يَشعُر بها بعضُ المسلمينَ كلَّما تحدَّثوا عن دينِهم إلى الغَربِيِّين، فإنك لا تَهدِي مَن أحببتَ، وليس من المعقولِ أن ندعوَ الناسَ إلى دينِ اللهِ بأسلوبٍ يُشْتَمُّ منه رائحةُ الاعتذارِ عن اللهِ، واللهُ على كلٍّ حالٍ غَنِىٌّ عن العالمين، وهو - سبحانه - لا يحبُّ النفاق ولا المنافقين الذين يُظهِرون التأفُّف مما هم غارقونَ فيه إلى ذقونِهم، بل إلى قمَّة رؤوسِهم، كذلك يَلفِت النظرَ أن المترجِم - في تعليقِه على آياتِ سورةِ "ص" التي تَحكِي قصةَ الخص م الذين تسوَّروا المحراب ودَخَلوا على داود ففزع منهم - يؤكِّد أن هذه القصةَ إنما تُشِير إلى حكاية "أوريا"، كما وردت في كتب اليهود" انظر ج 2 - ص918 - هـ الآية 21 من سورة "ص"؛ أي: ما يدَّعونه على داود - عليه السلام - من أنه طَمِع في زوجةِ أحدِ قوَّاده، وأنه زَنَى بها؛ فحَبَلت منه، وأنه تحيَّل حتى تخلَّص من زوجِها، وأخذها بعد ذلك لنفسِه، فهل هذا مما يتَّفق وعقيدةَ الإسلامِ في الرسل من أنهم مُثُل عليا للبشر، أو ما يصف القرآن به داود نفسه، وبخاصة قُبَيل هذه الآيات، من أن الله قد سخَّر الجبال معه يسبِّحن بالعشي والإشراقِ، والطيرَ محشورةً كلٌّ له أوابٌ، وأنه قد آتاه الحكمةَ وفصلَ الخطابِ؟ وهل يَفتَرِق تصرُّف داودَ على هذا النحوِ - حسبَ روايةِ اليهودِ الأنجاس - عن سلوكِ أيِّ شهوانِيٍّ لئيمٍ؟ قد يقالُ إن الرسلَ هم قبلَ كلِّ شيءٍ بشرٌ، والبشر يخطئون، لكننا لا بدَّ أن ندركَ أن ثَمَّة فرقًا بين خطأ تافهٍ يُمكِن أن يقعَ فيه النبِيُّ والرسولُ، وخطيئةٍ كهذه الخطيئةِ الشنيعة التي ينسبها اليهود - عليهم لعنات الله - إلى هذا النبي الكريم.



وأيًّا ما يكن مقطعُ الحقِّ في هذه القصة، فإن الآياتِ المشارَ إليها يُمكِن فهمُها على نحوٍ آخرَ لا يَتَصادَم مع ظاهرِ النص ولا مع روحه، وهو أن داود - عليه السلام - حين دخَل عليه الخَصْمُ على هذا النحو الغريبِ المباغتِ، وبعد أن استمع إلى أحد الطرفين، سارع إلى إصدار الحكم من غير أن يتريث ليتثبّت مما سمع، واتَّهم الطرفَ الثانِي بالبَغْي والعُدْوَان، ثم تنبَّه إلى هذا؛ فخرَّ راكعًا وأنابَ "انظر: في ظلال القرآن" لسيِّد قطب في تفسير هذه الآيات".



ومع ذلك، فإني لا أستطيعُ الجزمَ بأن هذا هو التفسير الصحيحُ لهذه الآياتِ، إلا أنه أقربُ إلى عقل المسلم وعقيدتِه، بخلاف التفسيرِ الذي أشار إليه الشيخ "أبو بكر حمزة" اعتمادًا على تلفيقاتِ اليهود، فهو تفسير يصادمُ عقيدةَ المسلمِ مصادمةً عنيفةً.



أما في قصَّة موسى - عليه السلام - كما تَروِيها سورةُ "القصصِ"، فإن الأستاذَ المترجِم يُعرِب عن حيرتِه الشديدةِ قائلاً: إن موقفَ موسى، كما يصوِّره القرآنُ والتوراةُ، يبلبلُ العقلُ، فهو يستغرب كيف يقتل موسى - عليه السلام - إنسانًا ويهمُّ بقتلِ الثاني، ثم عندما يحاكمُ غيابيًّا ويطلبونه لتطبيقِ القانونِ عليه، نراه يتِّهم الحكومة بأنها ظالمةٌ "ج 2 - ص797 - هـ الآية 21".



وكذلك يستغربُ المترجِم تصرُّفاتِ موسى - عليه السلام - إزاءَ فرعونَ، الذي أخذه في قصرِه وربَّاه، إذ لم يُبْدِ - على حسبِ تعبيرِه - أيَّة علامةٍ على عرفانِ الجميلِ أو الاحترامِ، "نفس المجلد والصفحة - هـ الآية 15".



فهذا الموقفُ - كما يقولُ - يعلو على مداركِ العقلِ البشري، فهل هذا صحيح؟ إن فرعونَ - كما نعرفُ - كان يريدُ قتلَ موسى - عليه السلام - حين التقطه آلُه وأتَوا به إلى القصر، لولا شفاعة زوجته التي كانت على خلافِه مؤمنةً بالله، فهذه واحدة.



والثانيةُ: أن موسى إنما لَكَز الذي من عدوِّه حين رآه يقتتلُ مع الذي من شيعتِه، كما يقول القرآن الكريم، وإذا كانت اللكزةُ قد قَضَت عليه، فهو لم يقصد ذلك، بل أحسَّ من فورِه بالذنب وتأنيبِ الضمير قائلاً: ﴿ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ﴾ [القصص: 15]، واستغفر ربَّه ووعَد بألا يكونَ ظهيرًا للمجرمين.



ويُمكِن فهمُ انحيازِ موسى - عليه السلام - للذي من شيعتِه في ضوءِ الاستبدادِ الذي كان فرعونُ يصبُّه على أبناءِ طائفتِه وتذبيحِه أطفالَهم، فهو انحيازٌ إلى المظلوم.



والثالثة: هي أن الملأَ لم يُحَاكِموا موسى - عليه السلام - غيابيًّا - كما يقول المترجِم - بل قد ائتمروا به ليَقتلُوه، فجاءَ رجلٌ من أقصى المدينةِ يسعي ناصحًا إيَّاه بالخروجِ من المدينة، فخرج منها خائفًا يترقَّب داعيًا بقولِه: ﴿ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 21].



فما الذي لا يستطيعُ العقلُ البشريُّ أن يفهمَه في موقفِ موسى - عليه السلام - هذا من فرعونَ؟


••••

ذلك وأرجو أن يهتمَّ الناشرُ في الطبعةِ الثانيةِ بتصحيحِ الأخطاءِ المطبعيةِ: وبخاصة في تنقيطِ وتشريطِ الحروف الرومانية التي تؤدِّي بها الكلمات العربية، وفي سقوطِ بعض الآياتِ أو أجزاءٍ منها، مثل: الآية الخامسة من سورةِ "سبأ"، والآية 56 من سورة "يس"؛ مما نزل بعددِ آياتِ الأولى إلى ثلاثٍ وخمسينَ آيةً من أربعٍ وخمسينَ، وآياتِ الثانيةِ إلى اثنتينِ وثمانينَ من ثلاثٍ وثمانينَ.



وأن يراجِع أيضًا ترجمةَ بعضِ الآيات، مثل قولِه - تعالى - في سورة "الزمر" جـ 2 - ص924": ﴿ أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾ [الزمر: 5]، الذي نقله الشيخ حمزة إلى الفرنسية على النحو التالي: "Or ca n'est - il point le puissant le clement ?"، وهو ما يعني: أنه يعدُّ "ألا" في هذه الآيةِ استفهاميةً بمعنى "أليس؟"، مع أنها استفتاحيةٌ.



ومما هو جديرٌ بالذكرِ أن "سافاري"، و"مونتيه"، و"بلاشير" قد ترجموا مثلَ هذه العبارةِ على أنها جملةٌ استفهاميةٌ، لكن كان من المنتظر من "أبو بكر حمزة"، - وهو العربِيُّ المسلم - ألا يقعَ في مثلِ هذا الوهم.

[1] هذه الترجمة قام بها الشيخ أبو بكر حمزة شيخ المعهد الإسلامي التابع لمسجد باريس، وهو عربي من الجزائر، وقد شرع فيها عام 1966م، وصدرت في باريس عام 1972، وتقع في مجلدين كبيرين يبلغ عدد صفحاتهما خمسًا وسبعين ومائتين وألفًا من القطع الكبير، فضلاً عن عدد من الملاحق فيما يزيد على مائة صفحة.

وهي أكبر ترجمة فرنسية وقعت بين يدي حتى الآن، وترجمة بهذه الضخامة تشهد - ولا ريب - بمدى الجهد الذي بذله المترجم، ويشهد معها هذا الحشد من المراجع الذي يشارف الثمانمائة: ما بين عربي، وإنجليزي، وفرنسي، وألماني، وإيطالي، بعضها يبحث في الأديان، وبعضها في التاريخ، وبعضها في السياسة، وبعضها في السحر... إلخ.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
أبو بكر حمزة وحديثه عن القرآن[1]
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: