اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 المستشرق "مونتيه" وحديثه عن المضمون القرآني (2)[*] (تكوُّن القرآن، محمد والقرآن)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99285
المستشرق "مونتيه" وحديثه عن المضمون القرآني (2)[*] (تكوُّن القرآن، محمد والقرآن) Oooo14
المستشرق "مونتيه" وحديثه عن المضمون القرآني (2)[*] (تكوُّن القرآن، محمد والقرآن) User_o10

المستشرق "مونتيه" وحديثه عن المضمون القرآني (2)[*] (تكوُّن القرآن، محمد والقرآن) Empty
مُساهمةموضوع: المستشرق "مونتيه" وحديثه عن المضمون القرآني (2)[*] (تكوُّن القرآن، محمد والقرآن)   المستشرق "مونتيه" وحديثه عن المضمون القرآني (2)[*] (تكوُّن القرآن، محمد والقرآن) Emptyالخميس 9 مايو 2013 - 16:12

المستشرق "مونتيه" وحديثه عن المضمون القرآني (2)[*]
(تكوُّن القرآن، محمد والقرآن)


كان محمدٌ - حسب المرويَّاتِ الإسلاميةِ - يكتبُ نصوصَ الوحيِ التي يتلقَّاها على أولِ شيءٍ يصادفُه: سعفةِ نخلٍ، أو قطعةٍ من الجلدِ، أو كتفِ شاةٍ، أو لوحٍ... إلخ، سواء أكان حقًّا يُوحَي إليه - وكثيرٌ من صفحاتِ القرآن يدلُّ فعلاً على وجودِ الوحي - أم كان يكتبُ النصوصَ التشريعيةَ - وهي كثيرةٌ في النصِّ المقدَّس - عن رويَّة وتفكير.



وكثيرًا ما كان كلامُه - بوصفه نبيًّا للعربِ - يقتصرُ تسجيلُه على ذاكرةِ الحاضرين معه، وقد خلَّف عند وفاتِه مجموعةً من النصوصِ المكتوبةِ على شكلٍ مهوَّشٍ، وكنزًا من الأقوالِ المحفوظةِ التي لم تكن أفضلَ حالاً[1].



فمن المؤكَّد إذًا أنه كان يوجَد في أوائلِ الإسلام بعد وفاةِ النبي - وربما أيضًا أثناء حياتِه في آخر سِنِي دعوته - ما يُمكِنُنا تسميتُه "معرفة شعبية بالقرآن".



جَمْع القرآن:

من المؤكَّد أن نصوصَ القرآنِ المتفرِّقةَ قد جُمِعَتْ في وقتٍ جد مبكِّر بعد وفاةِ محمدٍ، ويبدو من المحتمل جدًّا أنه كان هناك بُعَيد وفاتِه؛ أي: في وقتٍ مبكرٍ جدًّا قبلَ مصحفِ عثمانَ - الذي يُمكِن القول بأنه هو النسخةُ الرسميةُ لهذا الكتابِ المقدَّس - مصاحفُ متنوعةٌ حَاوَل أصحابُها أن يَجمَعوا القرآن؛ إذ استطاع أشخاصٌ مثل علي - صِهْر النبي - وغيره من الصحابة المقرَّبين إلى محمد أن يكتبوا مثلَ هذه المصاحفِ أو يتملَّكوها، وقد بقيت آثارٌ من هذه المصاحفِ القرآنية الأولى.



وحسب الروايات الإسلامية، فإنه في السنةِ الحاديةَ عشرةَ أو الثانيةَ عشرةَ للهجرةِ "632 - 633 م"، وفي معركةِ اليمامة سَقَطَ كثيرٌ من المسلمين الذين كانوا يُوعُون في صدورهم نصوصًا من هذا الكتاب المقدس - فدفَع الخوفُ أبا بكرٍ الخليفةَ الأولَ - بتحريضٍ من عمرَ - إلى أن يكلِّف زيدًا كاتبَ محمدٍ بجمعِ ما كان يشكَّل في ذلك الوقت "633 م" النص القرآني.



الجمع الأول إذًا - حسب هذه الروايات - هو من عملِ زيدٍ.



وفي العشرين عامًا التي انقضت بين وفاةِ محمدٍ وكتابة مصحفِ عثمانَ "651 م" تتابَعَ ظهورُ أربعةِ مصاحفَ، اشتهر كلٌّ منها باسم الشخص الذي اقترن به، وهذه المصاحف هي: مصحف أُبَي بن كعب، ومصحف عبدالله بن مسعود، ومصحف أبي موسى الأشعري، ومصحف المِقْدَاد بن الأسود.



ولا ريب أنه كانت هناك مصاحفُ أخرى اختفت آثارها.



مصحف عثمان:

لقد كان عثمانُ الخليفةُ الثالثُ، هو الذي أمر بكتابة النسخةِ النهائيةِ والرسمية للمصحف، تلك النسخةُ التي تضمُّ نصَّ هذا الكتاب المقدَّس كما نزل[2].



وقد أثارت المصاحفُ القرآنيةُ - التي كانت موجودةً إبَّانَئذٍ - الشكوكَ في عقولِ المسلمين من جرَّاء عدم تطابقِها؛ مما كان من شأنِه أن يزعزعَ إيمانَهم.



وقد وُلِدَتْ بعد ذلك ببضعِ سنواتٍ أولئك الدراساتُ النَّحْوِية للغة القرآنية، وكان أبو الأسودِ - الذي تقولُ الرواياتُ عنه: إنه تعلَّم اللغةَ العربيةَ على الخليفةِ عليٍّ، المنسوب إليه تقسيمُ الكلامِ إلى فعل، واسم، وحرف - هو أولَ مَن فكَّر في أن يكتبَ نحوًا للغة القرآنِ، بعد أن سَمِع في أحد المساجد مَن يقرأ آياتٍ من القرآن قراءةً خاطئةً.



لقد سَمِع أبو الأسود هذا القارئَ يقرأُ الآيةَ الثالثةَ من السورة التاسعة، وهي: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3]، ومعناها: أن الله ورسولَه بريئانِ من المشركين، لكن القارئَ الجاهلَ نَطَقها: "ورسولِهِ" بدلاً من "ورسولُهُ"، فصاح أبو الأسودِ عند سماعِه هذا اللحنَ قائلاً: إنه لم يكن يَظُنُّ أن مثل ذلك يُمكِن أن يقع.



فأخطاءٌ مثلُ هذه - وكذلك اختلافاتُ المصاحفِ فيما بينها - سواء كان ذلك خطأً أم سهوًا من القُرَّاء والنسَّاخ، هي التي دَفَعت إلى كتابةِ مصحفِ عثمانَ.



لقد أصبحت المصاحفُ المختلفةُ الموجودةُ في ذلك الحين مثارَ مناقشاتٍ بين أتباعِ النبي، وبدا أن ثَمَّة خطرًا يهدِّد الإسلامَ الوليدَ، فكان لا بدَّ لسلطةٍ مطلقةٍ أن تحافظَ على الأمنِ في هذه الأرض المقدَّسة، وكان الخليفةُ - لا غيره - هو الذي يُمكِنه هذا.



وتقولُ الرواياتُ الإسلامية:

إن الخليفةَ قد عيَّن لجنةً لحلِّ هذه المشكلةِ، تكوَّنت من: زيدٍ، وثلاثة قرشيين بارزين، هم: عبدُاللهِ بن الزبير، وسعيدُ بن العاص، وعبدُالرحمن بن الحارثِ.



وإلى هؤلاءِ الأشخاصِ يَرجِع الفضلُ في كتابة المصحفِ، الذي أصبحَ هو العمدةَ منذ ذلك الحينِ، أما المصاحفُ السابقةُ، فقد تَمَّ التخلصُ منها.



ويَرجِعُ تاريخُ هذه الأحداثِ إلى السنةِ الثلاثينَ للهجرةِ "650 م"، أو على الأقل إلى ما قبل وفاةِ عثمانَ "35 هـ - 655 م".



ويُمكِنُنا بسهولةٍ أن نتخيَّل ما قَامَت به تلك اللجنةُ، ولسنا بحاجة إلى القولِ:

إن عملَها كان يَفتَقِرُ إلى الحسِّ النقدي افتقارًا تامًّا، بل يبدو أنه كان يتلخَّص في كتابةِ نسخةٍ من المصاحف الموجودة في ذلك الحين، وربما لم يَعْدُ هذا العملُ جَمْعَ كلِّ النصوص المنسوبة إلى النبي، لا الانتفاء من هذه الوثائق الثمينة.



وإن ما نَعرِفه عن مجموعاتِ الأحاديثِ التي كُتِبَتْ في وقتٍ لاحقٍ - يَمِيل بنا إلى الاعتقادِ بأن تسجيلَ أحاديثِ محمدٍ المكتوبةِ قد تَمَّ على النحو ذاته[3]. وباختصارٍ، فإن المصحفَ الذي جَمَعه عثمان ليس نسخةً أصليةً أو جديدة للنصِّ القرآني، بل مجرَّد نسخة أخيرة لهذا الكتاب المقدَّس، لا يُمَيِّزها عن غيرها من النسخ السابقة إلا صبغتُها الرسميةُ؛ حيث إنها كُتِبت بأمرٍ من الخليفة.



أما بالنسبة لترتيب السور في المصحفِ العثماني، فقد قام على أساسِ طولِ السُّوَر لا غيرَ، مبتدئًا بالسورِ الأطولِ ومنتهيًا بالأقصرِ[4].



ولا يشِذُّ عن ذلك إلا السورةُ الأولى التي لا تَعدُو في الواقِع أن تكونَ صلاةً.



أما السور [112، 113، 114] التي تأتِي في ختام المصحف، فإن أُولاها - التي تتحدَّث عن وحدانيةِ الله - هي إعلانٌ للعقيدةِ الإسلامية، كما تعدُّ الأُخْريَان صياغةً نهائيةً للعملِ بأجمعِه، وهما مكتوبتانِ بنفسِ الأسلوبِ، وكلتاهما تتخذُ طابعَ الدعاء.



الترتيب التاريخي للسُّوَر:

في مصحفِ عثمان تَختَلِط السورُ المَكِيَّة - وعددُها تسعون - والسورُ المدنيةُ - وعددها أربعٌ وعشرون - إذ لا يقومُ هذا المصحفُ على أيِّ ترتيبٍ تاريخي.



وهناك رواياتٌ جِدُّ قليلةٍ عن السورِ المدنيةِ، بعضُها من النوع التاريخي، والآخر من النوع التفسيرى، "تعزو هذه السورة أو تلك إلى هذا الحدث أو ذاك، مثل: السورة الثامنة التي تتصلُ بغزوة بدر [آية 6]، إلا أن هذه الرواياتِ عمومًا لا تصدقُ إلا على آياتٍ في أوائل السورة.



وهي من ناحية أخرى، لها في الأغلبِ طابعٌ تفسيري، ومن هنا تقلُّ قيمتُها.



ومن بين القوائمِ الأولى التي يُنْسَب إليها أهميةُ تسجيلِ الترتيبِ التاريخي للسور، تَحتَل قائمة كتاب "الفهرست" مركزًا خاصًّا بوصفِها أهمَّ هذه الوثائق.



ونحن للأسف لا نعرفُ إلا القليلَ جدًّا عن مؤلِّف هذا الكتابِ أبي الفرج محمد ابن إسحاق بن أبي يعقوب النديم الورَّاق "ببغداد"، لكنَّ كتابه المسمَّى بـ"الفهرست"، هو أهم المصادرِ التي بين أيدينا لأقدمِ تاريخٍ للأدب العربي.



وهذا الثبت الضخم، قد تَمَّ تأليفُه في عام 377 هـ "988 م"، وقد مات مؤلِّفه بعد ذلك بثمانِي سنوات في 385 هـ "995 م".



وبناءً على ما جاء في "الفهرست"، هناك خمسٌ وثمانون سورةً مكية، وثمانُ وعشرونَ مدنيةٌ؛ فيكون المجموعُ مائةً وثلاثَ عشرةَ سورة، فمن المحتمل - بناء على هذا العدد - أن السورةَ الأولى التي هي عبارة عن صلاة لا تُعَدُّ سورة.



وقد يصدقُ هذا أيضًا على السورة الأخيرةِ [رقم 114].



وتقوم رواية "الفهرست" الخاصَّة بالترتيبِ التاريخيِّ للسورِ - مثل جميعِ الروياتِ المشابهةِ التي بين أيدينا - على سلسلةٍ من الرواة المشهورين أو المبجَّلين، وهي - على التحقيق - تتعلَّق بخبرٍ رَوَاه الواقدي "747 م - 823 م"، عن مَعْمَر بن راشد عن الزُّهْرِي، عن محمد بن النُّعْمَان بن بشيرٍ.



ولأن من المستحيلِ التوصلَ إلى رأيٍ بشأنِ مثلِ هذه الروايات المتتابعة - وهو ما يصدقُ على جميع الرويات المتعلِّقة بترتيبِ السورِ تاريخيًّا - فإننا لا يُمكِنُنا من الناحيةِ العلمية الوصولُ إلى أيَّةِ نتائجَ محقَّقة لهذه التأكيداتِ الروائية.



وهناك طريقةٌ أضمنُ من هذه الرواياتِ المهتزَّة والمتناقضةِ يُمكِنُنا بها أن نتثبَّتَ - إلى حدٍّ ما - من الترتيب التاريخي للسور، ألا وهي الاعتمادُ على لغة القرآنِ وأسلوبِه، وهو ما استعنَّا به أكثر من مرَّة[5].



وقد اقترح "نولدكه" تصنيفًا تاريخيًّا للسورِ، سوف نَعرِضه، مع التحفُّظ الشديدِ بالنسبةِ لما فيه من تأكيداتٍ؛ لأننا في الواقعِ لا نَعتَقِد في إمكانِ القيامِ بترتيبٍ تاريخيٍّ دقيقٍ للسورِ، بل لا يُمكِن في رأينا الحديثُ - بالنسبةِ لترتيبِ السورِ - إلا عن ترتيب نسبِيٍّ؛ أي: سلسلة مما تشكِّله السور من مجموعات مختلفة، إلا أن "لنولدكه" الفضلَ الأكبرَ في إرساء المبادئِ السليمة لتصنيف القطع القرآنية.



السور المكية:

لقد كان الهدفُ الذي وضعه محمدٌ نصبَ عينيه - كما تَعكسُه السورُ المكيةُ - هو قبلَ كلِّ شيءٍ إدخالُ العربِ الوثنيينَ في حظيرةِ الإيمانِ بإلهٍ واحدٍ، وما يتَّصل بذلك من عقائدَ كالبعث والحساب.



وفي هذا الجزءِ من القرآنِ لا يتَّجه محمدٌ بالكلامِ إلا إلى الوثنيينَ، الذين يُهَاجِم وثنيَّتهم ويهدِّدهم بالعذابِ الأبدي.



وهو لا يتحدَّث إلا نادرًا عن اليهودِ - الذين كانوا مع ذلك أقرب إليه كثيرًا - أما النصارى، فلا يكادونَ يُذكَرون.



وفي هذه القطعِ يعبِّر محمدٌ عن أفكارِه بأسلوب حماسي، ويتألَّق خيالُه بأغنى التصاوير، وبخاصَّة عندما يصفُ نعيمَ الجنةِ وعذابَ الجحيمِ.



ويفرِّق "نولدكه" بين ثلاثِ مجموعاتٍ مختلفة من السور المكية، أقْدَمُها مكتوبٌ بأسلوب عاطفي ملتهبٍ، وأحدثُها يقتربُ في تأليفِه من السورِ المدنية.



ولا جرمَ في هذا؛ فإن السور المدنية - كما سنرى فيما بعد - تَقتَرِن بنضجِ الفكرِ، وبما طَرَأ على الإسلام من تطوُّر، وهو ما يختلفُ بوضوحٍ عن التصوراتِ الأولى المندفعةِ المتحمسةِ لبداياتِ الإصلاح الإسلامي.



المرحلة الأولى من السور المكية:

وهذه السورُ عمومًا متوسطةُ الطولِ، فمن ثمانِ وأربعينَ، هناك ثلاثٌ وعشرونَ آياتُ كلٍّ منها أقلُّ من عشرين آيةً، وأربعَ عشرةَ آياتُ كلٍّ منها أقلُّ من خمسين، وهي أوائلُ ما نَزَل على محمدٍ من الوحي.



وهذه المرحلةُ هي مرحلةُ التحمُّس العاطفي، واللغة الشاعرية الموقَّعة، ذات الصور الفخمة البارعة.



وفي هذه السور نَسمَع الله يتحدَّث - كما هو الحال لدى أنبياء العهد القديم - ويُكْثِر محمدٌ من استخدام صيغِ القَسَم المختلفةِ؛ للبرهنة على صدقِ دعوتِه.



المرحلة الثانية للسور المكية:

وفي هذه السور التي تشكِّل معبرًا بين المرحلتينِ المكية الأولى والثالثةِ، لا نعود نشاهدُ الحماسةَ التي في سورِ المرحلةِ الأولى؛ إذ ننتقلُ من الانفعالِ القديمِ إلى الهدوءِ - الذي كان لا بدَّ أن يتلوَه - وتطولُ الآياتُ، وتقلُّ الشاعريةُ، وتَختَفِي الصيغُ اللغويةُ القديمةُ، ولا يكونُ القَسَم إلا بالقرآنِ والكتابِ.



المرحلة الثالثة للسور المكية:

وفيها يستخدمُ محمدٌ أسلوبًا أكثرَ نثريةً.



وإذا كانت الفواصلُ لا تزالُ موجودةً، فليس معنى ذلك أننا أمامَ نثر مُوقَّع، أما الأسلوبُ، ففيه إهمالٌ وتكرارٌ كثيرٌ[6].



وتشيرُ السورةُ الثالثة والتسعون - وهي آخرُ ما نزَل في هذه المرحلةِ - إلى هذه التكراراتِ: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ﴾ [الزمر: 23].



بل إن قراءةَ النصِّ لَتُصبِح أحيانًا مرهقةً[7].



صحيح أنه لا تزالُ هناك لمحاتٌ من عبقريةِ المصلحِ، لكنها قليلةٌ.



ونحن هنا على عتبةِ المرحلةِ المدنيةِ.



السور المدنية:

وفي هذه السورِ يتحدَّث محمدٌ بوصفِه رئيسًا دينيًّا وسياسيًّا، وفيها أيضًا ينبغي أن نبحثَ عن أصول الخلافةِ؛ إذ تتناولُ المسائلَ المدنيةَ والعبادية.



ولقد كانت الظروفُ مواتيةً لمحمدٍ؛ فاستطاع أن يُصدِرَ القوانينَ الأساسيةَ لما يُمكِن تسميتُه بالدستور الجديدِ للجزيرة العربية[8]، وهذه القوانينُ تذكِّرنا بالحكومةِ الإلهيةِ اليهوديةِ.



أما الأسلوبُ، فهو نفسُ الأسلوبِ في سورِ المرحلةِ المكية الثالثةِ.



وإذا كانت الفاصلةُ لا تزالُ موجودةً، فذلك راجعٌ إلى العادةِ، أما الآياتُ فهي طويلةٌ، بل طويلة جدًّا في بعضِ الأحيانِ.



ويستعملُ محمدٌ ألفاظًا جديدةً للأفكارِ الجديدةِ التي كان يقذفُ بها، والتي كان يعبِّر عنها أيضًا بأسلوبٍ جديدٍ.



فهذه هي الملامح الرئيسية التي يُمكِن استخراجُها من مجموعاتِ السورِ الأربع التي صنَّفها "نولدكه".



وإذا كان واضحًا لنا أن "نولدكه" قد وضَع مسألةَ الترتيبِ التاريخيِّ للسورِ - وهي مسألةٌ صعبةٌ - في موضعها الحقيقي، فليس أقلَّ وضوحًا فيما نعتقدُ أن كثيرًا من الملامحِ قد أُبْرِزَت أكثرَ مما ينبغي، وأن الفوارقَ بين المجموعاتِ المختلفة - ما خلا السورَ المدنيةَ؛ لأنها قائمةٌ برأسِها - هي بالتالي مبالَغ فيها، وأن شيئًا من التعسفِ يُسَيطِر في النهايةِ على هذا التصنيفِ التحكُّمي.



إن ما يقومُ عليه هذا الاعتراضُ، هو أن كثيرًا من السورِ - "كالسور 5، 19، 73... إلخ" - مكوَّن من أجزاءٍ مختلفةٍ تَنتَمِي إلى أكثرَ من مرحلةٍ، وليس هذا بالذي يسهِّل حلَّ المشكلةِ المتعلِّقة بتاريخِ السور، فهذه السورُ التي تَفتَقِر إلى الوحدةِ، والتي تتركَّب كلٌّ منها من أجزاءٍ متنوعةٍ توضِّح لنا - أكثر من أي شيء آخر - سرَّ ما نجدُه في الأفكار من تناقضات، وفي بعض النصوصِ من اضطرابٍ، وأيضًا ما في الأسلوب من تفكُّك[9] مرَّت الإشارة إليه.



لغة القرآن، ونصه، وصياغته الأدبية:

لغةُ القرآنِ هي العربية القديمة، بل يُمكِننا القولُ إلى حدٍّ ما - إذ ينبغي ألا نُغْفِل القصائدَ الجاهليةَ الخالدة -: إن القرآنَ قد ساهم مساهمةً كبيرةً في تثبيتِ اللغة المكتوبة.



والشيء ذاته صحيحٌ لدرجةِ مشابهةٍ بالنسبةِ إلى تثبيتِ بعضِ اللغات الأخرى في علاقتها بدينٍ آخرَ هو النصرانية:

• فبالنسبةِ للألمانية، نجدُ ترجمةَ "لوثر" للكتاب المقدَّس.



• وبالنسبة للفرنسية، نجدُ "القانون النصراني" لكالفن".



• وفي مؤتمر الاستشراق العالمي في الجزائر سنة 1905م يدلِّل "ك. فولزر" في بحثِه الفائق الأهمية، الذي طوَّره فيما بعد وجعله كتابًا عن "اللغة الشعبية المكتوبة في الجزيرة العربية قديمًا" - والذي استشهدنا به من قبل - على الفكرةِ التاليةِ، التي تبدو المفارقةُ فيها في الظاهرِ أكثرَ مما هي في الواقعِ، وهي أن القراءاتِ المتعدِّدة للقرآنِ الكريم تُثبِت أنه لم يكن قطُّ مكتوبًا على النحوِ الذي نقرؤه اليوم، ولكنه في أقدمِ نسخةٍ له كان مكتوبًا بلهجةٍ مشابهةٍ للهجات الحالية.



ومعنى هذا أن القرآنَ هو الذي ثبَّت اللغةَ التي كان يتحدَّث بها محمدٌ وقومُه في مكة كلغةٍ مكتوبةٍ، وهو أيضًا ما نعتقدُه.



أما بالنسبةِ للنصِّ القرآني، فلو قارنَّا الموجودَ من المخطوطاتِ القرآنيةِ لرأينا في الواقعِ - كما رأى "فولزر" من قبل - قراءاتٍ متعدِّدة لكنْ ذات طابعٍ نَحْوِي.



أما القراءاتُ التي يُمكِن أن تؤثِّر في معنى النصِّ ذاتِه، فلا يوجدُ منها إلا عددٌ قليلٌ جدًّا.



أما عن الصيغةِ الأدبيةِ للقرآنِ، فإنها جِدُّ رائعةٍ وجِدُّ متنوعةٍ في آنٍ؛ فهناك قطعٌ ذاتُ فصاحةٍ عالية، وكثيرٌ منها ذو صياغةٍ شعرية آسرةٍ، ينطلقُ فيها خيالُ النبي العبقريِّ على حريتِه.



وهذه الأقوال تَستَولِي على النفسِ بما فيها من حقٍّ وعمق؛ فإن الوحدانيةَ التي يقوم القرآن عليها - والتي يؤكِّدها من أول صفحة فيه إلى آخرِه - قد عُبِّر عنها تعبيرًا قويًّا ورائعًا.



وربما كان القرآنُ هو أكثرَ الكتبِ وحدانيةً؛ بحيث لا يُمكِن أن نقارنَ به من الكتاباتِ الدينية إلا "التثنية" و"إشعياء الثاني" [الأصحاحات 40 - 50] من العهد القديم.



لكن الأسلوب القرآني - الذي يختلف باختلاف مراحل الدعوة - كثيرًا ما يصيبُه الخللُ، ويرجِع هذا بخاصةٍ إلى أنه مؤلَّف من قطعٍ قد نزلت في أوقاتٍ مختلفةٍ، ثم ألصقَها جامعوه بعضها ببعضٍ، كما يرجِع أيضًا إلى الشكل الحواري الذي صِيغت فيه بعضُ الفقرات.



إن المحاورات التي تدور بين بعضِ المبشِّرين والمتحوِّلين إلى النصرانيةِ، والتي نلقاها في نشراتِ الجمعياتِ التبشيريةِ التنصيرية لتتطابقُ حقًّا - وإلى درجةٍ بعيدة - مع هذه القطعِ الحواريةِ في القرآن وتبيِّن لنا منشأها.



وبالنسبةِ للصيغةِ الأدبية نجدُ في القرآن نثرًا شعريًّا مقفّى، ونثرًا عاديًّا "السور المدنية".



نقول: "نثرٌ شعريٌّ"، أما الشعرُ بمعنى الكلمةِ، فغير موجودٍ.



وحسب الروايات الإسلامية، فإن محمدًا لم يَنْظِم طوال حياته إلا هذا البيت الوحيد: "أنا النبي لا كذب: أنا ابن عبد المطلب".



وهو في القرآن يدينُ الشعرَ[10]، ويَنفِي عن نفسِه أنه شاعرٌ، وهو ما كان البعضُ يتَّهِمونه به انتقاصًا لدعوته؛ إذ كان خصومُ الإسلامِ يقولون: إنْ هو إلا شاعر.



فللرد على هؤلاءِ الكفَّار، كتب محمدٌ الآيات التالية:

• ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 69].

• ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ﴾ [الحاقة: 40، 41].



والمعتقد أن النصَّ القرآني يَحتوِي على بعضِ الأبياتِ الشعريةِ؛ إذ استطاع محمدٌ أن يَنطِقَ بالشعرِ في آيةٍ أو أكثرَ على غيرِ إرادةٍ منه، كما وقَع - ويقعُ - لأفضلِ الناثرينَ أن يكتبَ بيتًا إسكندريًّا على سهوٍ منه.



إن النصوصَ القرآنيةَ التي لها سيماءُ الشعرِ، قد كُتبَتْ على هيئةِ نثرٍ مُوقَّع مقفًّى مما يسمِّيه العربُ سجعًا، وهذا المصطلحُ مأخوذٌ من لفظةٍ تعني "هَدِيل الحمام"، ويُقصَد بها النثرُ الموقَّع المقفًّى الذي كان - فيما يبدو - بدايةَ التطورِ النثري للشعرِ العربي.



وفي النثر الشعري الموجودِ في القرآنِ، نجد أن الجُمَل قصيرةٌ، وتنتهي بقوافٍ حرَّة.



وأكثر الفواصل ترددًا في القرآن هي:

"إين"، و"أون"، ثم "إيم"، و"آد"، و"آر"... إلخ، وأقلُّ من ذلك، الفاصلةُ "آ".



كما تتكوَّن الفاصلة أيضًا من مقاطعَ مغلقةٍ؛ أي: منتهية بساكنٍ غيرِ متحركٍ مسبوقٍ بحركةٍ، ويندر وجود الفاصلة "أ".



وهناك سورٌ ثلاثٌ ذاتُ قرارٍ، هي السوَر [54، 55 57].



وأحيانًا ما نجد لعبًا بالسجعِ، كما في المثالين التاليين:

• ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61].



• ﴿ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ﴾ [نوح: 5، 6].



وقد كان الشعراء العبريون - كالنبي "ميخا" مثلاً - يتلذَّذون بهذا التلاعبِ الموسيقيِّ.



إن السورَ الموحاة دفعةً واحدة نادرةٌ، مثلما يُمكِن أن يكونَ الحال مع السورة [12]، بل إن بعضَ السور القصيرةِ التي تبدو للوهلةِ الأولى وكأنها نزلت كاملةً من أول مرَّة مكوَّن من قطعٍ مختلفة.



وأوضحُ مثلٍ على ذلك نجدُه في السورةِ [96]؛ إذ الآيات [1 - 5] أقدم من الآيات الأخرى.



وتبقى مسألةُ السورِ ذاتِ المقاطعِ، وهي مسألةٌ يكثرُ حولها الجدلُ.



ويرى "د. هـ. مولر" أنه يوجد كثيرٌ من هذه السورِ، وهي السور [7، 11، 15، 19، 26، 28، 36، 44، 51، 54، 56، 69، 75، 80، 82، 90، 92].



أما "نولدكه"، فيرى أنه لا يوجَد سوى اثنتينِ فقط هما السورتان [56، 26].



أما أن هناك سورًا مقسَّمة إلى مقاطع، فهذا موضع شكٍّ كبيرٍ، حتى لو اقتصرنا على السورتين اللتين أشار إليهما "نولدكه"؛ إذ ما هو المقطع؟



إنه يعني تقسيمًا منتظمًا؛ أي: مجموعة الأبيات في نسق محدَّد يَنتُج عن اتحادِها وتكرُّرِها وقعٌ تستحبُّه الأذن، فهل يوجد شيءٌ من هذا في السورتينِ: [56، 26]؟ فَلْنُحلِّلهما أولاً:



السورة رقم 56:

القسم الأول:

• المدخل "الآيات: 1 - 9 ": طوائف البشر الثلاث.

• السابقون "الآيات: 10 - 23 "14 آية.

• أصحاب اليمين "الآيات: 24 - 39 "16 آية.

• أصحاب الشمال "الآيات: 40 - 56 "17 آية.



القسم الثاني:

• المدخل "آية 57 "، المسائل الثلاث.

• الإمناء "الآيات: 58 - 62 "5 آيات.

• الحرث "الآيات 63 - 66 "4 آيات.

• الماء "الآيات [67 - 69] "والنار" الآيات [70 - 72] 3 آيات.



وتبقى خارجَ هذه التقسيمِ الآياتُ [73 - 96]، فأين المقاطعُ في هذه السورة؟ ومم تتكوَّن؟



السورة رقم 26:

وإليك تحليلَ هذه السورةِ - حسب ما يرى "نولدكه" - الذي يعطي آياتِها المائةَ والتسعين الأولى عنوانَ "أنبياء الماضي":

• المدخل "الآيات: 1 - 6".

1- موسى "الآيات: 9 - 66"، 58 آية.

2- إبراهيم "الآيات: 69 - 102"، 34 آية.

3- نوح "الآيات: 105 - 120"، 16 آية.

4- هود وعاد "الآيات 123 - 138 "، 16 آية.

5- صالح وثمود "الآيات 141 - 157 "، 17 آية.

6- لوط "الآيات 160 - 163"، 14 آية.

7- شعيب وأهل مَدْين "الآيات 176 - 189"، 14 آية.



وكلٌّ من هذه المقاطعِ المدَّعاة ذات الأطوال المتفاوتة، تنتهي بالصيغةِ التالية "الآيات: 7، 67، 103، 121، 139، 158، 174، 190": ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 67].



وتبقي الآياتُ [191 - 228] التي تعالِج موضوعاتٍ متنوعةً، وتشذُّ بوضوحٍ عن النظامِ المقطعي، الذي قلنا إنه محلُّ شكٍّ جملةً وتفصيلاً.



إن المقطعَ - كما حدَّدناه قبلاً - غيرُ موجودٍ، لا في السورة [56]، ولا في السورة [26].



أمَا أن في هاتينِ السورتينِ تصنيفًا للأفكار معينًا، أو حتى نوعًا من التماثلِ الشكلي بين بعضِ أقسامِها؛ فهذا مما لا شكَّ فيه، ولكن هذا شيءٌ، والنظامُ المقطعي بمعنى الكلمةِ شيءٌ آخر.



كذلك يبدو لنا أن من التعسفِ التأكيدَ بأن في هذه السورةِ مقاطعَ حقيقيةً.



وأيًّا ما يكن القولُ في كثير مما تناولناه من مسائل متعلِّقة بالقرآن، فإن كلَّ مَن لهم معرفةٌ بالقرآن مُجْمِعون على الإشادةِ بجمالِ هذا الكتابِ الديني، وروعةِ صياغتِه التي يَستَحِيل إبرازُها عند ترجمتِه إلى اللغات الأوربية.

[*] هذا الجزء هو ما جاء في الصفحات من 29 فصاعدًا من المقدمة التي مهد بها "إدوار مونتيه" لترجمته التي درسناها في المقالتين "المستشرق "مونتيه" وحديثه عن القرآن (1) و (2)".

[1] الثابت تاريخيًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بتسجيل كل ما نزل من الوحي القرآني؛ بحيث إنه عندما انتقل إلى جوار ربه - عليه صلواته وسلامه - كان القرآن جميعه مكتوبًا، وكانت أعداد كبيرة من الصحابة يحفظونه عن ظهر قلب، مرتبةً آياته على حسب ما بين لهم النبي - عليه السلام.

ومن ذلك الأصل المكتوب أمر أبو بكر بكتابة نسخة مجموعة بين دفتي كتاب بعدما شهد على كل آية فيه اثنان من الصحابة الذين كانوا يحفظونه، فأين التهوش؟

إن لكل عصر وسائله في التسجيل والتدوين والضبط، والعبرة: بالإخلاص، وبذل الجهد، وتحري الدقة.

وفي البلاد المتخلفة أحدث الآلات وأعقدها، ومع ذلك فكثيرًا ما يعجزون عن تحديد أماكن مواسير المجاري مثلاً، وهي تحت أرجلهم!

[2] في هذه المقارنة تجن وافتراء؛ فقد كان الوحي يسجل أولاً بأول، وكان عدد كبير من الصحابة يحفظه عن ظهر قلب.

أما بالنسبة للإنجيل، فإن أحدًا لم يفكر في حفظه عن ظهر قلب، كما هو الحال مع القرآن، ولا سجله أحد كتابةً في حياة المسيح - عليه السلام.

وإنما تشبه الأناجيل السيرة النبوية في أنها كتبت بعد وفاة عيسي - عليه السلام - بعشرات السنين، وفي أنها تحكي قصة حياته، وقد رويت قصة حياة المسيح - عليه السلام - من زوايا مختلفة، على حسب اهتمام كل كاتب، وما وصل إليه من معلومات خاطئة أو صحيحة، ومن هنا كان تعدد الأناجيل واختلافها.

[3] الكاتب هنا لا يراعي للأمانة العلمية حرمةً، انظر التعليق السابق.

[4] لو كان طول السور أساسًا مطردًا - كما يزعم هذا الكاتب -:

• لما جاءت سورة "الأنعام" مثلاً بعد "المائدة" برغم أنها أطول منها، ولا قبل "الأعراف" التي هي بدورها أطول منها.

• ولما جاءت "التوبة" بعد "الأنفال"، مع أنها تزيد على ضعفها طولاً، وهو ما يصدق على "الحجر" و"النحل"، التي تليها أيضًا.

ونفس هذه الملاحظة صحيحة بالنسبة لكثير من قصار السور: فـ "العصر" أقصر من "الهمزة" التي تتلوها، و"قريش" أقصر من "الماعون"، و"الإخلاص" أقصر من "المعوذتين"... وهكذا، وهكذا.

وبرغم ذلك، فليست المسألة على ذلك الجانب من الأهمية التي يوحي بها كلام هذا المستشرق.

[5] هذه مصادرة على المطلوب؛ إذ كيف يستطيع أحد أن يدعي أن الخصائص الفلانية للأسلوب القرآني تنتمي إلى هذه الفترة أو تلك من تاريخ الدعوة النبوية، إلا إذا عرف أسباب نزول النصوص القرآنية وتاريخها، وهو ما يشكك في إمكان الوصول إليه هذا المستشرق.

وفضلاً عن ذلك فمن يصدق أن هذا المستشرق وأمثاله قادرون على مثل هذا التصنيف الأسلوبي، وقد رأينا مبلغ عجزهم عن مجرد فهم النص القرآني في مواضع جد كثيرة، ومدى تهافت ذوقهم الأدبي؟

[6] هذا المستشرق - الذي رأينا عجزه عن فهم النص القرآني في حالات كثيرة جدًا جدًا، والذي لا يتورع عن الادعاء بأن الشعر الشرقي مملوء بتشبيه العيون الحوراء الجميلة بالبيض! - لا يتحرج ذرةً من التحرج عن اتهام أسلوب القرآن بأن فيه إهمالاً.

أما مسألة التكرار فلنعد عنها، ولا داعي لتصديع المخ بمحاولة إثبات البدهيات، وإلا فهل تستغني الحياة والتعليم عن التكرار؟

[7] طبعًا مرهقة لمن لا يتقن اللغة التي نزل بها هذا النص، ولا يحسن تذوقها، ومع ذلك يجد في نفسه الجرأة للتصدي لا لترجمته فحسب، بل أيضًا لتقويمه وتخطئته!

[8] لم ينزل القرآن للعرب وحدهم - وإن اعتمد عليهم بالطبع - لنزوله بلغتهم وعلى نبي من بين أظهرهم، في نشر دعوته في الخافقين.

وهاهم أولاء الأوربيون الآن من العامة والصفوة يتسربون إلى حظيرة الإسلام بعد أن عجزت ديانتهم الموروثة وفلسفات فلاسفتهم أن تريح أرواحهم الحائرة.

ولا يستبعد أن يكون الأوربيون والأمريكان هم حملة الدعوة الإسلامية في المستقبل، بعد أن طال غطيط المسلمين الحاليين في نومهم، واستمراؤهم الترامي على أقدام الغرب، وعدم استيقاظهم برغم تتالي النذر والأخطار.

ولو صح هذا الظن فسيضطلع الأوربيون بالدور الذي اضطلع به العرب والبربر أولاً، ثم الفرس ثانيًا، فالمغول والترك ثالثًا، والأفارقة رابعًا في نشر الإسلام وحمايته والذب عنه، وهو ما يشير بجلاء - من خلال الوقائع التاريخية أيضًا، وليس من خلال النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وحدها - إلى عالمية الإسلام.

كذلك لو صح هذا الظن، فسوف يكون اللقاء السعيد بين قوة الغرب الاقتصادية والعلمية والعسكرية، وبين مبادئ الإسلام السامية التي نرجو أن تقلم عيوب النفسية الغربية، وتساعدها على التخلص مما تتصف به، في علاقتها بالأمم الأخرى، من قسوة وغطرسة وتكفكف من غلوائها في التشبث بالمتع الدنيوية وحدها بدافع الكفر بالله والحياة الأخرى، وما فيها من ثواب جزيل.

[9] قد تبدو بعض السور القرآنية للمتعجل غير المتعمق وكأنها مكونة من موضوعات غير مترابطة، أما بالنسبة للقارئ المتأني الذي لا يأخذ الأمور بظواهرها، فإن كل سورة تبدو ذات بناء محكم.

وللبقاعي، والمودودي، وسيد قطب، في تفاسيرهم محاولات طيبة في تتبع ما تتمتع به السور القرآنية من وحدة في الموضوع والجو النفسي، وللدكتور "دراز" أيضًا في كتابه "النبأ العظيم" محاولة في هذا السبيل، وإن قصرها على سورة "البقرة".

وقد رأى القارئ الكريم اجتهادات المؤلف في هذا الصدد، في أثناء مناقشته للترجمات القرآنية في الباب الأول من هذا الكتاب.

أما التناقض المزعوم، فللرازي في "مسائل الرازي وأجوبتها"، والباقلاني" في: "الانتصار لنقل القرآن"، والزركشي في "البرهان في علوم القرآن" اجتهادات في الرد عليه.

ولكاتب هذه السطور أيضًا - في عرضه للترجمات القرآنية في الباب الأول من هذا الكتاب - اجتهادات في هذا المجال بعضها يتعلق بالأفكار، وبعضها بالأسلوب.

[10] ليس في القرآن أية إدانة للشعر، من حيث هو جنس أدبي، لكنه يحمل على الشعراء الذين يجندون مواهبهم في: الدعوة إلى الباطل، والتنفير من الفضائل، وفي ثلم الأعراض، وتحقير الآخرين، والتحريش بين الناس.

وليس هناك من يعترض مخلصًا على ذلك.

وعلى ضوء هذا، أرجو القارئ الكريم مراجعة آيات سورة "الشعراء"، التي كثيرًا ما يستشهد بها في غير موضعها.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
المستشرق "مونتيه" وحديثه عن المضمون القرآني (2)[*] (تكوُّن القرآن، محمد والقرآن)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: