اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 فرية "قبول الآخر" في الخطاب العلماني

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99310
فرية "قبول الآخر" في الخطاب العلماني Oooo14
فرية "قبول الآخر" في الخطاب العلماني User_o10

فرية "قبول الآخر" في الخطاب العلماني Empty
مُساهمةموضوع: فرية "قبول الآخر" في الخطاب العلماني   فرية "قبول الآخر" في الخطاب العلماني Emptyالخميس 9 مايو 2013 - 16:08

فرية "قبول الآخر" في الخطاب العلماني


يَظهر مفهوم "الآخَر" في الخطاب العلماني المعاصر أحيانًا بمظهر "المُخالف لنا في الرأي"، ويُبنى على ذلك أن اختلافنا مع هذا "الآخَر" في "الدِّين" أو "العقيدة" أو "الانتماء" لا ينبغي أن يؤدي إلى "عدم قبوله"، وإلى انعدام المودة والمحبَّة والأُخوَّة والتآلف بينَنا، وهذا القياس في حقيقته باطل؛ لأنَّ هذا "الآخَر" المخالف في "الدِّين" أو "العَقيدة" أو "الانتماء" ليس مُخالفًا في مجرد "الرأي" أو "الفكر"، ممَّا يُمكِن ألا يَمسَّ منطقةَ المودَّة والأُلفة والمشاعر عمومًا؛ وإنما هو مخالف في الفكر والمشاعر والرغبات والطموحات والمنهج والأهداف، فكل هذه الشؤون الحيوية الهامة، والتي تَحكُم عالَمَ المشاعر والعواطف تجاه الناس وعلاقاتهم، مبنيَّةٌ بشكل أساسي على الدِّين والعقيدة والانتماء.



ولنأخذ نموذجًا صارخًا يؤكِّد هذه الحقيقة، ويُكذِّب كلَّ ادِّعاءٍ علمانيٍّ أجوف، مهما زيَّنه أصحابه بمعسول الكلام وموسيقا العبارة: فهذا الذي يُسميه الناس "شبِّيحًا"، هو "آخَر" مُختلِف في تلك الحسابات، واختلافه في "الانتماء"؛ فهو يَنتمي بشكلٍ صارخ إلى نظام مُجرِم ذي عقيدة استبدادية لا إنسانية، تَكرهُ كل معنى للحرية والكرامة والرحمة والعدل، وتكاد تؤلِّه فرعونها الذي يقف على رأس هرم النظام، وبِناءً على هذا الانتماء تنبعثُ مِن "الشبِّيح" مشاعرُ الكره والعدائية تجاه "الآخَر" المُعارِض للنظام، وتُبنى عليها "سلوكيات" إجرامية في حقِّ هذا الآخَر، فهل يُقال هنا: إنَّ الاختلاف بيننا في العقيدة أو الدِّين أو الانتماء لا يَنبغي أن يؤدي إلى "عدم قبوله" أو إلى البُغض وانعدام المودَّة والأُخوَّة؟!



نعم؛ إنه قد يُقال ذلك مع أخي الذي أنسجم معه في دين وعقيدة وانتماء واحد، تتَشابك في هذا الانسجام أهدافُنا وطموحاتُنا وآمالُنا وأسلوبُ حياتنا، فتأتلفُ بعمق، ويَنتج عن ذلك - بداهةً - محبَّةٌ ومودَّةٌ تجمَع القلوبَ وتَصهرُها، ولكنِّي قد أَختلِف مع أخي هذا في بعض الأمور في الفِكر والحياة، فما نتَّفق فيه هو العوامل البشرية الحقيقية التي تجمع بني البشر على مشاعرَ واحدةٍ مِن المحبَّة والتآلف، وما نختلف فيه لا يَنبغي أن يؤدِّي إلى عدم تقبُّل أحدنا للآخَر، وإلى انعدام المودَّة والائتلاف، ومِن ثمَّ إلى المُفاصَلة والافتراق!



وحتى في قضية "الزواج"، التي تكاد تكون بعيدةً عن مشكلة اختلاف الدِّين والانتماء، فإن أحد أهمِّ الشروط لبناء علاقة الزواج ونجاحها، وليتمَّ "القَبول" مِن كِلا الطرفَين، هو الائتلاف في المشاعر والطموحات، والانسجام في الكليات، وإلا فإنَّه غالبًا ما تَفشل هذه العلاقة، وتؤول إلى الانفصال؛ وذلك لفِقدان هذه الأواصر الحيوية والضرورية لبناء علاقة زواج ناجِحة، هذا وقد يكون الاثنان من نفس الدِّين والعقيدة والانتماء!



فإن صحَّ ذلك واقعًا في العلاقة الزوجية، فإنّه مِن المُبرَّر - مع الفارق - وجود هذه "المُفاصَلة الشعورية" بين المختلفين في الدِّين والعقيدة والانتماء، ومِن المُبرَّر والطبيعي جدًّا أن يؤدي هذا الاختلاف في الدين والعقيدة والانتماء إلى "عدم قبول"، ومِن ثمَّ إلى انعدام المودَّة والتآلف في الحياة الواقعية، وهذا مشاهدٌ محسوسٌ في علاقاتنا الاجتماعية.



وعلى المستوى الشخصي، فإنَّه ليس لي في حياتي أيُّ صديق مُقرَّب ممن أختلف معهم في الدين أو العقيدة أو الانتماء، ليس لي صديق "مُلحِد" أو "علماني"، ولا "شيوعي" أو "ماركسي" مقرَّب؛ لأنَّني ببساطة لا أنسجم مع هذه العقلية المغايرة لعقليَّتي بـ 180 درجة! ولأنَّني أجدُ الإسلام في نفسي عقيدةً دافعةً، ومنهجًا ضابطًا، وأهدافًا عُليا لبناء الحياة الإنسانية، ولأنَّني أجدُ هذه العوامل طاغية على شعوري، وعلى أسلوب حياتي كلِّه، وليس على مستوى الأفكار فحسْب، فلا أنسجم مع هذا "الآخَر" المختلف معي في مواقفه ومشاعره تجاه الأحداث وفي أسلوب حياته.



إنَّ مشاعر المرء هي المحدِّد الأول لبناء الصداقات والعلاقات الاجتماعية، وكما أنَّه مِن المبرر والمقبول مجتمعيًّا أن يَختار أحدنا أصدقاءه بناءً على انسجامه معهم في الشخصية والطبع والآمال والتوجُّهات (ممّا يُردِّده الناس في كلام اجتماعي روتيني)، فإنه يجب أن يكون مقبولاً أيضًا أن يختار المرء أصدقاءه، ويتَّفق مع بعضهم ويقبلهم، وينفصل عن آخرين ولا يقبلهم ولا ينسجم معهم؛ بناءً على الاختلاف في الدِّين والعقيدة والانتماء؛ لأنَّ الاختلاف في الدِّين بطبيعته يؤدي إلى اختلافٍ في العقلية والوجدان والآمال والتوجُّهات، وهي هي نفس العوامل التي يتقبَّل بعضُ الناس مِن العلمانيين وغيرهم أن تكون سببًا في الافتراق وعدم الانسجام بين الأفراد، حين لا تكون مُنبثِقةً عن "دين" أو "عقيدة"، فإذا ما اقترنت بدِين أو عقيدة أو انتماء، فإنها تصبح بذلك "تطرُّفًا" و"تعصُّبًا" "وانغلاقًا" وسائر الأوصاف المنفِّرة، فسُبحان الله!



♦♦♦♦

ومِن هنا أصِلُ إلى نقطة مهمَّة جدًّا، عليَّ أن أبيِّنها ببساطة شديدة؛ منعًا لأيِّ التِباس: فهذا الخطابُ الواردُ في الفقرة أعلاه ليس دعوةً صريحة لبَعثِ لغة الكراهية والعدائية والعنف، كما يحلو لبعض الزملاء "العلمانيِّين" أن يُروِّج، فإنَّ وجود الاختلاف "الشعوري" - إن صحَّ التعبير - المُنبثِق عن الاختلاف الديني أو العقَدي أو في الانتماء - إنَّ وجود هذا الاختلاف "الشعوري"، ونتائجه الطبيعية؛ من عدم القبول، والانفصال والافتراق، والتباعُد في العلاقات والأواصر المُجتمعيَّة - هو ظاهرة صحيَّة ومتوقَّعة، ولا يَنبغي أن يُبنى على هذا الانفصال الشعوري أيُّ عداء وعنف واقعي، سواء على المستوى القولي أو الفعلي، تجاه هذا "الآخَر" المُختلف معنا دينيًّا أو اعتقاديًّا أو انتمائيًّا، ما دام هذا الآخَر مُلتزمًا في الواقع بمسالمتنا، وكافًّا أذاهُ عنّا، فهذا مرفوض تمامًا.



إنَّ الإنسان السويَّ الذي يريده الإسلامُ متسامحٌ ومسالمٌ بطبعه، حاملٌ لكلِّ معاني البِرِّ والرحمة والخير للبشريَّة، مُعبِّرًا بذلك عن مضمون الرسالة الإسلامية كما جاءت من عند الله، فهي رسالة لكل البشر، وتلك هي مستلزمات الداعية الناجح، ويرادُ للمسلم أن يكون داعيًا لدينه ولو على أبسط المستويات، ولكنَّه حين يَبعثُ في سلوكه وخطابه أريجَ التسامُح والرحمة والبرِّ مع المُخالِفين له في الدِّين والعقيدة، ممَّن لا يعادونه ولا يؤذونه ولا يسعَوْنَ إلى البطش به، فإنَّه يحملُ في قلبه تجاههم موقفًا شعوريًّا مُفاصِلاً يَنطلِقُ بشكل تلقائي، وموقفه الشعوري هذا ليس موجَّهًا إلى "الكيان الجبري" مِن هؤلاء المُخالِفين، ليس موجَّهًا إلى قوميَّتهم أو عِرقهم أو وطنهم أو شكلهم أو لونهم أو طباعهم... إلى آخِر الخصائص الجَبرية؛ وإنما هو موقفٌ موجَّه إلى "الكيان الاختياري" مِن هذا الآخَر المُختلف دينيًّا أو عقديًّا، فيؤدِّي الاختلاف في الدين والعقيدة والانتماء إلى اختلاف في المنطلقات والأهداف والمشاعر وأسلوب الحياة، ومِن ثَم إلى "عدم تقبُّلهم"، وإلى انعدام المودَّة والتآلف والانسجام معهم تلقائيًّا، وهذه هي طبيعة موقف "المفاصلة الشعورية" معهم، وهذا هو المحكُّ في القضيَّة!



إنَّ توضيح القضيَّة على هذا النحو يُزيل أي لَبْسٍ أو تحريفٍ مقصود لحقيقة الموقف الشعوري المبنيِّ على اختلاف الدِّين والعقيدة عند المسلم؛ لأنَّ الدِّين والعقيدة والمشاعر المبنيَّة عليهما مرتبطة بشكل وثيق بـ "الكيان الاختياري" في النفْس البشرية، وكل العقائد والأديان والفلسفات، سواء كانت ربانيَّةً أو مِن وضع البشر، توجِّه خطابها بتعابير "إنشائيَّة" لا بمجرَّد تعابير "خبرية"؛ (مثل: جمل الطلب والأمر، وليس فقط الجمل التي تُخبر عن غيبيَّات أو معلومات معيَّنة)، وهو ما يؤكِّد طبيعة توجيهها للإرادة الحرَّة المُريدة التي تملك الاختيار في نفس الإنسان، ولولا ذلك لَما كان الإنسان هو الإنسان!



إنَّ مشكلة الخطاب العَلماني تَكمُن في عدم التفريق بين "الكيان الاختياري" و"الكيان الجَبريِّ" في النفس الإنسانية؛ فحين يدعو إلى ما يُسمِّيه "قبول الآخَر"، يَتذرَّع بأن وجود هذا الآخَر على هذا الشكل هو "مشيئة ربانية"، وعدم قبوله على هذه الهيئة التي خلقه الله بها هو مساس بهذه المشيئة الإلهية واحتقار لخَلق الله! ومن هنا يَسحبون ذلك على قبول "أفكار" و"معتقدات" و"انتماءات" هذا الآخَر، بل وقبول مواقفه الشعورية، وهنا يكمن اللَّبْس والخَلط والتحريف؛ فالمواقف الفِكرية والعقدية والشعورية هي بطبيعتها "مواقف"؛ أي: إنَّها نابعة مِن الإرادة الحرة المختارة للإنسان، وليس بالضرورة أن تكون هي ما يُريده الله - عزَّ وجلَّ - منه! فالكفرُ والبغي على الناس بغير الحق وقتل الأطفال - كلُّها سلوكيّات مبنيَّة على مواقف شعورية، فهل "نَقبلُها" انسياقًا مع هذا التعميم لدعوى "قَبول الآخَر"؟! أم إنَّ رفضها هو أمر طبيعي؛ إذ إنَّنا هنا نرفض "مواقف" ولا نرفض "الطبيعة البشرية" التي نشأت منها تلك المواقف؟! بل إنَّ عدم قبولنا لهذه المواقف مِن الآخَر ورفضنا لها - هو موقف إيجابي يحثُّ على الإصلاح والتغيير، وقبولنا بها يكون هو الجريمة بحقِّ الإنسانية، وبحقِّ كل القيم الدينية! فقَبول "الكفر" جريمة، وقَبول "البغي" جريمة، وقَبول "قتل الأطفال" جريمة، وإنَّ عدم تقبُّلي لشخصية الآخَر الذي يقوم بحمل هذه المشاعر والأفكار والمواقف - ليس رفضًا لكيانه البشري الذي خلقه الله؛ وإنَّما هو رفض لما اختاره من حِيادٍ عن قانون الفطرة والكون والإنسان، وهو ما عبَّرتُ عنه بـ "الكيان الاختياري" للإنسان.



♦♦♦♦

وثمَّة تلبيسٌ آخر يَشوبُ هذا الخطابَ حين يُدخِلون في مفهوم الآخَر الواجبِ تقبُّلُه مَن هو في عداد ذوي الاحتياجات الخاصة، كالضرير والأصمِّ والأبكم وضعيف السمع والمُقعَد، وغيرهم، فيُطلِقون توصيف "الآخَر" على هذه الشرائح أيضًا؛ ممّا يزيد من التعاطُف مع فكرة "قَبول الآخَر" على إطلاقها كما يَطرحونها! وهو لعبٌ على العواطف لا مكان له أمام التوصيف الموضوعي؛ فلا أدري ما الذي يجعل هؤلاء في عداد "الآخَر"! ولماذا نزجُّ بهم في هذه الخانة ما دُمْنا قادرين على التعامُل معهم بأنَّنا وإيَّاهم شيء واحد لا اختلاف بيننا، وأنَّ العائق الخَلْقي ليس سببًا لنزجَّ بهم في خانة "الآخَر"! وهذا هو الخيار الأسلم معنويًّا، وقد جرَّبتُه بنفسي في صداقة قديمة مع أخٍ حبيب ضرير؛ حيث كان التعامل معه بشكل طبيعي دون دفعه للإحساس بأنَّه "مختلف" وبأنّه "آخَر" - هو التعاملَ الشعوري الأليَق والأفضل لرفع معنوياته عاليًا.



♦♦♦♦

وممّا يَلفتُ النظرَ كذلك أنَّ دعوى "قَبول" الآخَر في الخطاب العلماني تقفُ وتتعثَّرُ حين يكون هذا الآخر مُسلمًا داعيًا لِما يُخالف المبادئ العلمانية واللبرالية، حاملاً لفِكر إسلامي يُخالف الأساس المَعرفيَّ الذي يَبني عليه العلمانيُّون نظرتَهم للحياة والأشياء والأحداث، فيوصم بأوصاف "التخلُّف" و"الانغلاق" و"التحجُّر"، تنكُّرًا لمبدأ "حريَّة الفِكر" الذي يوهبُ على طبَق مِن ذهب للمُلحد المُتعصِّب لإلحاده وفجوره، ويُحرَم منه هذا المسلمُ المُخالف لهم!



أو يكون هذا الآخَر فتيات ونساء اقتنعن بفرضية "النقاب" استنادًا إلى فهم إسلامي شرعي، فنَسمعُ حينها الصرخات الشائهة المطالبة برفض "النقاب" في بلاد المسلمين، ولا يَقتصر الأمر على إبداء الرأي الرافض للنقاب؛ بل العمل على تفعيل إجراءات قانونيَّة وتَنفيذيّة تُجرِّم هذا الخيار في اللباس، دون أن يوصف هذا التصرُّف العلماني - الذي هو أشبه بتصرُّفات الكنيسة الأوروبية في العصور المُظلِمة - بأنَّه مسَّ بالحريَّة الشخصية لشريحة واسعة مِن المُجتمَع! بل يتنكَّر العلمانيُّون لمبادئهم وأفكارهم، ويكون الحقدُ على كلِّ ما هو ديني وإسلامي سيِّدَ الموقف في مثل هذه الحالات!



♦♦♦♦

إنَّ المشكلة في الخطاب العَلماني حول "قَبول الآخَر" تَكمُن في أنَّه يُعطِّل مضمون الدعوة إلى الله؛ فالدعوة إلى الله ناشئة بشكل أساسي مِن عدم قَبول ما عليه الآخَرون؛ مفهوماتهم وأعمالهم على السواء، ومِن إرادة تغيير هذه المفهومات والأعمال كيْ تَنضبِط وفق مراد الله مِن خلقه، وهو أن يعبدوهُ ولا يُشركوا به شيئًا.



وقد يُقال:

إنَّهم على هذا الحال بمشيئة الله تعالى، وإنَّه سبحانه لو أراد لهداهم، وهذا صحيح في ذاته؛ ولكن بتفصيل؛ إذ إنَّ النتيجة التي يَبنيها هؤلاء على هذا الكلام ليست صحيحة، فهم يقولون: ما دام الإنسان على هذا الحال من العقائد والأعمال بإرادة الله، غير خارج عنها، فليس لأحد أن يَعترِض ويَرفُض حاله؛ لأنه ليس هو الذي يَهديه!



والحقُّ أنَّ هداية الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له هي بِيَدِ الله أولاً وآخرًا، ولكن ثمَّة نوع آخَر من الهداية كلَّفنا الله - عزَّ وجلَّ - به في كتابه وعلى لسان رسوله، بل ورتَّب العقاب على التقصير فيه، ويُمكننا أن نُطلِق على هذا النوع اسم "هداية الإرشاد"، وهو الذي جاء على لسان أحد المؤمنين في كتاب الله في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 38]، وهذه الهداية واجب أساسي في رسالة الأمة للبشريَّة أجمع، وقد تأكَّد هذا الواجب في عشرات من الآيات والأحاديث النبوية، وهو شديد الوضوح في الإسلام ممّا يُغنينا عن التدليل عليه، بل إنَّ سيرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وسيرَ الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - كلُّها نماذج صارخة تدلُّ على حقيقةٍ لا يُمكن إنكارُها، وهي أنَّ غاية رسالة الإسلام تَكمُن في هداية الناس إلى عبادة ربِّهم - سبحانه وتعالى - وأنَّ وسيلة ذلك هي "إرشادهم" (لا إجبارهم) إلى حقيقة الله، وحقيقة العالم مِن حولهم، وحقيقة أنفسهم، وطريق نجاتهم في الدنيا والآخِرة، إنَّ هذا الجهد الضخم الذي بذله الأنبياءُ وأتباعهم ناشئٌ بشكل أساسيٍّ مِن عدم قبول ما عليه الناس مِن ضلال وكفر وشِرك وبغي، ومِن إرادة تغيير أحوالهم بالقدوة والحُجَّة والبرهان، وسائر أساليب الدعوة إلى الله.



♦♦♦♦

بعد بيان هذه الطبيعة الأساسية لرسالة الإسلام، نتساءل: كيف يَجوز لنا أن نقبَل تلك الدعوةَ الخَدّاعة إلى "قَبول الآخَر" كما هو بأفكاره ومعتقداته ونمط حياته المبني عليهما، هكذا على الإطلاق، وبضمنها المعتقدات الضالَّة، والسلوكيَّات المخالفة لدينِنا، دون أن يكون لنا الحقُّ في التعبير عن رفضنا لها؟!



وإنَّما تؤدِّي مثل هذه الدعوات المضطربة إلى تشجيع نموِّ النماذج النافرة عن دين الله، بل عن طبيعة الفطرة الإنسانية، كالإلحاد الذي يُسمُّونه "حرية رأي"، والشذوذ الذي يُسمُّونه "مِثْليَّة"، دون أن يكون هناك أيُّ "رفض" مجتمعي صحِّي لهذه الظواهر النافرة وغيرها، ولو على مستوى "التعبير" و"الخطاب"! فتشيعُ المنكرات والاستعلانُ بها حين يعلو صوتُ هذه الدعوات، النابعة أساسًا مِن تضخُّم النزعة "الفردية"، وهو ما تؤسِّس له معرفيًّا النظرياتُ اللبراليَّة الغربيَّة، ويتجرَّعها المثقَّفون عندنا في غفلة منهم عن مخاطرها، ويؤصِّلون لها في أبحاثهم وخطاباتهم ونشاطاتهم الاجتماعية.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
فرية "قبول الآخر" في الخطاب العلماني
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  رجعية الفكر العلماني
»  فشل المشروع العلماني (حوار الأديان نموذجًا)
»  أزمة الطَّرح العلماني واللعبة المكشوفة!
» التيار العلماني في الجزائر وعداوته للإسلام والعربية
» أخطاء تمنع من قبول الدعاء

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: