اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

  جريمة حرمان الأم من أولادها

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99310
 جريمة حرمان الأم من أولادها Oooo14
 جريمة حرمان الأم من أولادها User_o10

 جريمة حرمان الأم من أولادها Empty
مُساهمةموضوع: جريمة حرمان الأم من أولادها    جريمة حرمان الأم من أولادها Emptyالسبت 4 مايو 2013 - 16:04

الحمدُ لله ربِّ العالَمين، الرحمن الرَّحيم؛ زرَع الرحمة في قلوب الأمَّهات على أولادهنَّ، وجعَل فقدَهم أعظمَ مُصابِهنَّ، ورَزَقهنَّ الصبرَ على حملهِم وولادتِهم، ورَضاعهم وحَضانتهم، فلا يَصبِر على ذلك كلِّه غيرُهُنَّ، نحْمَده على هِدايته وكفايته، ونشْكُره على فضْله ورِعايته، ونسأله الثباتَ على الحقِّ إلى الممات، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له؛ حرَّم الظلمَ على نفْسه، وجعَلَه محرَّمًا بين عباده، ورفَع دعوة المظلوم، فليس بينها وبيْن الله - تعالى - حِجاب، ووعَد بالانتصار لها ولو بعدَ حِين، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله؛ حرَّج على أمَّته حقَّ الضعيفين: المرأة واليتيم؛ لضعفِهما عن استيفاء حقوقِهما، وعجزِهما عنِ الانتصار ممَّن يظلمهما، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وأصحابه، وأتْباعه إلى يوم الدِّين.



أمَّا بعدُ:

فاتَّقوا الله - تعالى - وأطِيعوه، واحْذروا الظلمَ؛ فإنَّه ظلماتٌ يومَ القيامة، وإذا كان مِن قريبٍ فهو أشدُّ جُرْمًا، وأعظم إثمًا، وأنْكى جرحًا؛ لأنَّه ظلمٌ وقطيعة، وقطيعةُ الرحِم من كبائر الذنوب؛ ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد: 22 - 23].



أيها الناس:

اتَّصفَ الله - تعالى - بالرحمة، وأمَر عبادَه بها، ووعَد الرُّحماءَ منهم برحمته، جاء ذلك في أحاديثَ صحيحةٍ كثيرة، منها: قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وإنَّما يَرحَمُ اللهُ من عِبادِه الرُّحَماءَ))، وقوله - عليه الصلاة والسلام - ((مَن لا يَرحَم لا يُرحَم))، وفي رواية: ((لا يَرحَمُ الله مَن لا يَرحَمُ الناس))، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلا من شَقِيٍّ)).



وكلَّما كان المخلوقُ أضعْفَ كان بالرحمةِ أوْلى؛ لأنَّ القويَّ ينتزع حقَّه بقوَّتِه، والولَدُ سببٌ في ضَعْف الوالدين، يُورثهما البُخلَ والجُبن؛ لحنوِّ قلبهما عليه، ومبالغتِهما في مُراعاةِ مصلحته، وقدْ قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الولَدَ مَبخَلةٌ مَجبَنَةٌ))؛ رواه ابن ماجه.



والأمُّ أضْعَفُ الوالدَيْن، وأكثرهما رحمةً بالولَد؛ لمَا جبَلها الله - تعالى - عليه مِن العَطْف والرِّقة، والرحمة والحنان؛ ولأنَّ ولدَها مضغةٌ منها، خرَج من بطنِها، ورَضع لَبَنها، ونام في حجْرِها، ووجَد حنانها ودِفْأَها، ولا يَفهم الولدَ وطباعَه حقَّ الفهم إلا أمُّه، ولو كانت أُميَّةً لا تقرأ ولا تكتب، ويَكفي دليلاً على رحمة الأم بولدها أنَّ الرضيع إذا جاعَ دَرَّ لبنُ أمِّه ولو كان بعيدًا عنها!



إنَّ تعلُّقَ الأمِّ بولدِها، ورحمتَها به، وحنوَّها عليه، والسعيَ في رعاية مصلحته - فِطرةٌ فطَر الله - تعالى - عليها المخلوقاتِ من بشَرٍ وحيوان، ووحْش وطير وحشرات؛ ليُحفظَ النَّسْل، ويَبقى الخَلْق إلى ما شاء الله - تعالى - ولولا ما غرَسَه الله - تعالى - في قلْب الأمِّ من الرحمة والمحبَّة والحنان على ولدِها لقتلتْه مِن شدَّة ما تجد من ألَم حمْله، ومخاضِه وولادته، وما تُعانيه من جوعٍ وتعَب؛ لأجْلِ رَضاعته والقيامِ عليه، إنَّها حِكمة الحكيم العليم، ورحمةٌ من رحماتِ أرحمِ الراحمين.



وأشدُّ شيءٍ على الأمِّ أن يُحال بينها وبين ولدها بشَرًا كانتْ أم غيرَ بشَر، فالناقة لا تَعقِل لكنَّها تبكي وترزُم إذا حِيل بينها وبين فَصِيلها، فإذا ذُبِح أمامها ولِهَتْ عليه، فهزُلتْ ولربَّما ماتتْ مِن شدَّة وجْدِها عليه.



والطير تنتفض وتفرِش بجناحيها إذا فقدَتْ صغيرَها كما ورَد أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - نزَل منزلاً فأخَذَ رجلٌ بيْضَ حُمَّرَة فجاءتْ ترفُّ على رأسِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((أيُّكم فجَّع هذه بيضتَها))، فقال رجلٌ: يا رسولَ الله، أنا أخذتُ بيضتها، فقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اردُدْه رحمةً لها))؛ رواه البخاريُّ في الأدب المفرد.



وفي إثباتِ رحمة الله - تعالى - ضرَب النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأمثالَ عليها برحمة الأمِّ لولدها؛ ممَّا يدلُّ على أنَّه لا أرحمَ في الخَلْق من قلْب الأم، قال عُمَرُ بن الخَطَّابِ - رضي الله عنه -: "قُدِمَ على رسولِ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بِسَبْيٍ، فإذا امرأةٌ مِن السَّبْيِ تبتغي، إذا وَجَدَتْ صَبِيًّا في السَّبْيِ أخذَتْهُ فألصقَتْه بِبَطْنِها وأرضَعَتْه، فقال لنا رسولُ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أترَوْن هذه المرأةَ طارِحَةً ولدَها في النارِ؟)) قُلْنا: لا واللهِ، وهي تَقْدِرُ على ألاَّ تَطْرَحَه، فقال رسولُ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((للهُ أرحَمُ بعبادِه من هذه بِوَلَدِها))؛ رواه الشيخان.



وفي حديثِ أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رَسولَ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ للهِ مائةَ رحمَةٍ، أَنْزَلَ منها رَحْمَةً واحدَةً بين الجِنِّ وَالإِنسِ والبَهائِمِ والهَوامِّ فبِها يتَعاطَفونَ وبِها يَتَراحَمونَ، وبها تَعْطِفُ الوَحشُ على ولَدِها))، وفي رواية: ((حتى تَرْفَعَ الفَرَسُ حافِرَها عن ولَدِها؛ خَشْيَةَ أنْ تُصِيبَه))؛ رواه الشيخان.



والشَّريعة الربانيَّة قد جاءتْ بما يوائِم الفِطرة، فأَغلقتْ كلَّ طريق يُحال فيه بين الولد وأمِّه؛ رحمةً بهما، فالولد يحتاج إلى حضانةِ أمِّه، والأمُّ يتمزَّق قلبُها إنْ حِيل بينها وبين ولدِها، فإذا قدَّر الله - تعالى - فِراقًا بين الزوجين، كانتِ الأمُّ أحقَّ بحضانة الأطفال، وإنما كانتِ الحضانة للأمِّ لأنَّها أقربُ وأشفق، ولا يُشاركها في قُرْبها إلا الأب، وليس له شفقتُها، وهو لا يلي الحضانة بنفسه.



هذا حقٌّ لها ما لم تتزوَّج؛ لأنَّها إذا تزوجت شُغِلت بالزوج عن حضانته، وأَمْرُها بيد زوجِها لا بيدها، وقد يُؤذي زوجُها ولدَها ولا تستطيع منعَه، والشَّرْع الحكيم كما راعَى مصلحةَ الجمْع بين الأم ووليدها، راعى كذلك مصلحةَ الطفل إذا تزوَّجتْ أمُّه وشُغِلت عنه.



والأصل في ذلك: حديث عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه: أنَّ امرَأةً قالت: يا رَسولَ الله، إنَّ ابْنِي هذا كان بَطْنِي له وِعاءً، وثَدْيِي له سِقاءً، وحِجْرِي له حِواءً، وإنَّ أباهُ طَلَّقَنِي وأرادَ أَنْ يَنْتَزِعَه منِّي، فقال لها رسولُ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أنْتِ أحَقُّ به ما لم تَنْكِحِي))؛ رواه أبو داود.



ولمَّا خاصَم عُمَرُ - رضي الله عنه - امرأتَه أمَّ عاصم في ابنِه منها إلى أبي بكر - رضي الله عنه - قضَى أبو بكر بالولدِ لأمِّه، وقال: "رِيحها وشَمُّها ولُطفُها خيرٌ له منك".



قال ابنُ عبدالبر - رحمه الله تعالى -: "لا أعلم خِلافًا بين السلف من العلماءِ في المرأةِ المطلَّقة إذا لم تتزوَّجْ أنها أحقُّ بولدها مِن أبيه، ما دام طفلاً صغيرًا لا يميِّز شيئًا"؛ ا.هـ.



والرِّقُ ذلٌّ سببُه الكفر، ويَفقد صاحبُه الحريةَ بسبب إصراره على كُفْره، ومع ذلك فإنَّ الشريعةَ راعتْ عدم التفرقةِ بين الأمهات وأولادهنَّ حالَ سبيهنَّ في الحروب، وقضتْ بوجوب الجمْع بين الأم وولدِها في البيوع؛ رحمةً بها، ومراعاةً لمصلحة ولدها، وأصل ذلك ما رواه أبو عبدالرحمن الْحُبُلِيُّ قال: "كنَّا في البَحْرِ وعَلَيْنا عبدُاللهِ بن قَيْسٍ الفزاري، ومعنا أبو أيُّوبَ الأنصاريُّ، فمَرَّ بصاحبِ المَقاسِمِ وقد أقامَ السبي، فإذا امْرَأَةٌ تَبكي، فقال: ما شَأْنُ هذه؟ قالوا: فرَّقُوا بيْنها وبيْن ولَدِها، قال: فأَخَذَ بِيَدِ ولدِها حتى وضَعَه في يدِها، فانْطَلَقَ صاحِبُ المَقاسِمِ إلى عبدِاللهِ بن قيْسٍ فأخْبَرَه، فأَرْسَلَ إلى أبي أَيُّوبَ، فقال: ما حمَلَكَ على ما صَنَعْتَ؟ قال: سمعتُ رَسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن فَرَّقَ بيْن والِدَةٍ وولدِها فَرَّقَ اللهُ بيْنَه وبيْنَ الأحِبَّةِ يومَ القيامَة))؛ رواه الترمذي وقال: حسن غريب، ثم قال - رحمه الله تعالى -: "والعَمَلُ على هذا عندَ أهْلِ العِلْم مِن أصْحابِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وغيْرِهِم؛ كَرِهوا التَّفْريقَ بين السَّبْي بين الوالِدَةِ ووَلدِها...".



وقال ابنُ قُدامةَ - رحمه الله تعالى -: "أجْمَع أهلُ العِلم على أنَّ التفريقَ بين الأم وولدِها الطفلِ غيرُ جائز"؛ ا.هـ.



بل إنَّ العلماء جعَلوا التفريق بين الأم وولدها مِن المضارَّةِ في البيع، كما قال ابنُ رجب - رحمه الله تعالى -: "ومِن أنواع الضُّرِّ في البيوع التفريقُ بين الوالدة وولدها في البيع، فإنْ كان صغيرًا حرُم بالاتِّفاق"؛ ا.هـ.



وهذا الحُكْم المُحكَم في الجمْع بين الأمِّ وولدها كان حاضرًا في تقعيدِ العلماء للقواعد، فذكروا تَقَدُّمَ النساء على الرِّجال في الحضانة؛ لأنهنَّ أعرفُ بالتربية وأشفقُ على الأطفال، وقرَّروا تَقَدُّمَ الأمِّ الجاهِلة بأحكامِ الحضانة على العَمَّة العالِمة بأحكامها؛ لأنَّ طبْع الأمِّ يحثُّها على معرفةِ مصالح الطفل، وعلى القيام بها، وحثُّ الطبع أقْوى من حثِّ الشرع.



وفي تحذيرِ العُلَماء من التحايل على الحُكمِ لإسقاطه يُمثِّلون بسفَر الأبِ عن بلد الأمِّ لإسقاط حقِّها في الحضانة، ويُبطلون حيلتَه في ذلك، قال ابنُ القيم - رحمه الله تعالى -: "ومِن الحيل الباطِلة المحرَّمة ما لو أراد الأبُ إسقاطَ حضانة الأمِّ - أنْ يُسافِر إلى غيرِ بلدها فيتبعه الولَد، وهذه الحِيلةُ مناقضةٌ لمَا قصَده الشارع، فإنه جعَل الأمَّ أحقَّ بالولد مِن الأب مع قُرْب الدار وإمكان اللِّقاء كلَّ وقتٍ لو قَضَى به للأب، وقَضَى ألاَّ تُوَلَّه والدةٌ على ولدها... ومَنَع أن تُباع الأمُّ دون ولدِها والولدُ دونها، وإنْ كانَا في بلدٍ واحد، فكيف يجوز مع هذا التحيُّل على التفريق بينها وبيْن ولدها تفريقًا تعزُّ معه رؤيتُه ولقاؤه، ويعزُّ عليها الصَّبْر عنه وفقْدُه؟!"، ثم بيَّن - رحمه الله تعالى -: "أنَّ الوَلدَ للأُمِّ: سافَرَ الْأَبُ أو أقامَ، ما لم تتزوَّج".



كل هذه الأحكام التي تَرِدُ في أبوابِ الحضانة والرِّقِّ، والحِيل والبيوع، والقضاء وغيرها مِن كُتب الفقه - غايتُها الجمْعُ بين الأم وولدها ما أمكن ذلك، ومَنْع ما يؤدِّي إلى تفرُّقهما.



فتأمَّلوا - رحمكم الله تعالى - العدلَ والرحمةَ في الشريعة الربَّانية، وموافقتَها لما فُطِرتْ عليه قلوبُ الأمهات مِن محبَّة الأولاد؛ لنعلمَ أنَّها شريعةُ عدلٍ ورحمة، لو أخَذ الناس بها، ولم يَحْتالوا على أحكامها ليُسقطوها.



وقد عَمِل صلاحُ الدين - رحمه الله تعالى - في بعضِ مغازيه بما قرَّرتْه الشريعة من جمْع الأمِّ بولدها؛ فقد سبَى المسلمون صَبِيَّةً من الصليبيِّين بِيعت في السوق، فذهبتْ أمُّها إلى ملوكِ النصارى تستنجد بهم وتَبكي، فأشاروا عليها أن تَذهبَ لصلاحِ الدِّين، وأخبروها أنه رقيقُ القلْب، فخرجَتْ إلى عسكرِ المسلمين تطلب صلاحَ الدين، وهي شديدةُ التخوُّف، كثيرة البكاء، متواتِرة الدقِّ على صدرِها، حتى أُتِي بها لصلاحِ الدِّين فشَكَتْ فقدانَ ابنتها، وقالت: لا أعرِفُ ابنتي إلاَّ مِنك، فَرَقَّ لها صلاحُ الدين، ودمعتْ عينُه، وحرَّكه دِينُه ومروءتُه، فأمَر مَن يبحَث عمَّن اشتَراها فيشتريها منه؛ قال القاضي ابنُ شدَّاد - رحمه الله تعالى -: "فما مضَتْ ساعةٌ حتى وصَل الفارسُ والصغيرة على كَتِفه، فما كان إلا أنْ وقَع نظرُ أمِّها عليها فخرَّتْ إلى الأرض تُعَفِّر وجهَها في التراب، والناس يبكون على ما نالها وهِي ترفع طَرْفَها إلى السماء ولا نَعْلَم ما تقول، فسُلِّمتِ ابنتُها إليها، وحُمِلَتْ حتى أعيدتْ إلى عسْكَر الصليبيِّين".



فما أرْحَمَ اللهَ - تعالى - بعبادِه حين شرَع الشرائع لهم، وألْزَمهم بها! ولو وكَلَهم إلى أنفسِهم لضلُّوا وأَضَلُّوا، وظَلَمُوا وظُلِمُوا، فالحمدُ لله الذي هَدانا لشريعتِه، ونسأله - سبحانه - أن يُعيننا على الاستسلامِ لها، والعملِ بها، والدعوةِ إليها؛ ﴿ صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾ [البقرة: 138]، ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].



بارَك الله لي ولَكم في القُرآن.



الخُطبة الثانية


الحمدُ لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مُبارَكًا فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويَرْضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك على عبدِه ورسولِه محمَّد، وعلى آله وأصحابه، وأتباعه إلى يومِ الدِّين.



أمَّا بعدُ:

فاتَّقوا الله - تعالى - وأطيعوه، ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].



أيها الناس:

مبْنَى الأُسْرة في الإسلامِ على المودَّة والرَّحْمة، فإذا عُدِمت المودَّة والمَيل القلبي، فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان، ولا يَحِلُّ لأيٍّ مِن الزوجين أو ذويهما أن يُضمِرَ الانتقامَ والإضرار، وإلا كان ذلك غيرَ إحسان.



تأمَّلوا معي قولَ الله - تعالى - في المُطلَّقة غيرِ المدخول بها حين قرَّر - سبحانه - لها نِصفَ المهر، ثم قال - سبحانه - بعدَ بيان الحُكم: ﴿ وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 237]، فإذا نَهَى الله - تعالى - عن نِسيانِ الفَضْل بين زوْجين في زواجٍ انفصمتْ عُراه قبلَ دخولِ الزوج بزوجتِه، فكيف بعدَ الدخول إذًا؟! بل وكيف إذا كانَ بينهما أطْفال؟!



إنَّ أكبرَ ضحية للطلاق هم الأولاد، وإذا كانَ الطلاقُ عن نِزاع - وهو الأغلب - عاش الأطفالُ ذلك النِّزاعَ بين أبويهم بفصُولِه، واكْتَووا بنارِه، وتأثَّرت نفسيَّاتُهم بسببه، فيحتارون إلى مَن يَصيرون، ومع مَن يكونون؟ وهاجِس المستقبل بعدَ الطلاق يُؤرِّقهم، ولا سيَّما حين يَقْتسمهم الوالِدان.



إنَّ أعظمَ جريمةٍ تُرتكب في حقِّ الأولاد وأمِّهم بعدَ ترمُّلِها، أو طلاقِها - أن يُتَّخذوا سلاحًا لإضعافها والانتقام منها، فيَنتزع الأبُ أو ذووه أولادَها منها بالقوَّة، ويحبسهم عن أمِّهم؛ لتصفيةِ حِساباتٍ سابِقة، أو لإثباتِ أنَّه أقوى، أو لغيرِ ذلك، فيُحرق قلْبَ أطفاله على أمِّهم لإطفاءِ نِيران قلْبه المشتعِل بالضغائنِ والأحقاد، نعوذ بالله - تعالى - مِن قلوبٍ لا تعرِف الرحمة.



إنَّ الشريعةَ قد حرَّمتْ منْعَ الأمِّ مِن أولادها، وحبْسَهم عنها لأيِّ سبب كان، فإنْ كانوا في فترةِ الحضانة فهي أولى بهم مِن أبيهم إلاَّ أن تتزوَّج، فإنْ تزوَّجت وانتَقلتْ حضانتُهم لغيرها، لم يُمنعوا منها، ولا يَحِلُّ الانتقام منها؛ لأنَّها تزوَّجت، بل يُمكَّنون مِن زيارتها والجلوسِ معها بيْن حينٍ وآخَر، ويجب على الزَّوْج أنْ يُعينهم على بِرِّ أمِّهم ولو كانتْ طليقتَه، ولا يُؤلِّبهم عليها، أو يُشوِّه صورتَها في أذهانهم، فإنَّ ذلك كلَّه يُنافي الفراقَ بإحسان، ويعود بالسَّلبِ على أولاده، فإمَّا أن يكرهوه لكثرةِ كلامه في أمِّهم، وإمَّا أن يكرهوا أمَّهم، وفي كِلتا الحالتين لن يكونَ ذلك خيرًا له ولا لهم.



إنَّ على الآباء والأمَّهات أنْ يَسْعَوا بعدَ طلاقهم فيما يعود بالصلاحِ على أولادهم، وإنَّ على الآباءِ أن يَعْلَموا أنهم حين يستخدمون أولادَهم سِلاحًا للانتقام مِن طليقاتهم فإنَّهم يَنتقِمون مِن أولادهم.



إنَّ السجونَ ودُورَ الأحداث ومستشفيات الأمَل مليئةٌ بشباب وفتيات وقَعوا فيما وقَعوا فيه مِن المخالفات والمخدِّرات؛ بسببِ عدم الاستقرار الأُسَري، بسبب نِزاع بين آبائهم وأمهاتهم، حتى وقَع الطلاق بسبب تقاذُفِ آبائهم وذويهم لهم، واتِّخاذهم وسائلَ في معاركَ لا خاسِرَ فيها مثلهم، حتى ملُّوا وضاعوا، وهرَب الأبناء مع رُفقاءِ السوء، وصاحَبَ البناتُ رفيقاتِ الشر، فقادوهم جميعًا إلى الإجرامِ والمخدِّرات والضياع.



إنَّهم أولادٌ أسوياءُ لو وجَدوا بيوتًا آمِنة، يأمنون فيها على أنفسهم، وتُشبَع فيها عواطفُهم، إنَّهم هرَبوا مِن بيوتِ آبائهم وأمَّهاتهم؛ لأنَّهم لم يَجِدوا فيها ما ينشدونه مِن الأمْن والاستقرار فافترستْهم عصاباتُ الإجرام، ففقدهم آباؤهم وأمهاتُهم والأُمَّةُ بأَسْرِها.



إنَّ الله - تعالى - حين أباح الطلاقَ خلاصًا مِن زواج سُدِّت فيه طرقُ الرحمة والمودَّة والاستقرار؛ أتْبَع ذلك بأحكامٍ تَحْفَظ الأولادَ من الضياع، وحرَّم على الآباء أن يجعلوهم ورقةَ ضغط وابتزاز للأمَّهات.



فليتَّقِ اللهَ - تعالى - كلُّ مُعَلِّقٍ أو مُطلِّق أن يَظلمَ طليقتَه وولدَه بحِرمانها من أولادها لمالٍ يرجوه، أو لإسقاطِ نفقتهم عنه وهم أولادُه، أو لغيرِ ذلك مِن الأغراض الدنيئة التي يعفُّ عنها كِرامُ الرجال، ولا يَنتحلها إلا الأراذلُ مِنهم.



وليتَّقِ اللهَ ذَوُو مُعلِّق أو مُطلِّق أن يُعينوه على ظُلمِه في حِرْمان ولدِه من أمِّهم، بل الواجب عليهم أن يُنكِروا عليه فعْلَه وأن يُنصِفوا ولدَه وطليقتَه مِن ظُلْمه وبغْيه.



وعلى الناس إنْ رأوا باغيًا على طليقتِه وولدِه يَحْرمهم مِن بعْض أن يُنكِروا ذلك عليه، ويَعِظوه بالكتاب والسُّنَّة، ويَسْعوا بكلِّ الوسائل الممكِنة للجمْع بين الأم وأولادها، وقد قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّه لا قُدِّسَتْ أُمَّة لا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فيها حَقَّهُ غيرَ مُتَعْتَعٍ))؛ رواه ابن ماجه.



وأيُّ حقٍّ لمخلوقٍ أعظم مِن حقِّ أمٍّ في رؤية ولدِها، وتقبيله ومعانقته والجلوسِ معه، والاستئناس به، فكيف يُمْنَع هو منها، وتُمنع هي منه؟!



ألاَ وصَلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم...


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
جريمة حرمان الأم من أولادها
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  من حقوق الأم على أولادها
»  حرمان من الميراث
» حرمان النساء من الميراث
»  خطر جريمة الزنا
» أولادها لا يسمعون كلامها فـ ماذا تفعل ؟

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: