اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 حقيقة الخلاف بين الصحابة (الجزء الثانى)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99300
حقيقة الخلاف بين الصحابة (الجزء الثانى) Oooo14
حقيقة الخلاف بين الصحابة (الجزء الثانى) User_o10

حقيقة الخلاف بين الصحابة (الجزء الثانى) Empty
مُساهمةموضوع: حقيقة الخلاف بين الصحابة (الجزء الثانى)   حقيقة الخلاف بين الصحابة (الجزء الثانى) Emptyالسبت 10 نوفمبر 2012 - 17:37

حقيقة الخلاف بين الصحابة
(الجزء الثانى)

الكاتب: د./ علي محمد الصلابي

اختلاف الصحابة في الطريقة التي يؤخذ بها القصاص من قتلة عثمان -رضي الله عنه-:
إن الخلاف الذي نشأ بين أمير المؤمنين على من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة من جهة أخرى، ثم بعد ذلك بين على ومعاوية لم يكن سببه ومنشؤه أن هؤلاء كانوا يقدحون في خلافة أمير المؤمنين علي وإمامته وأحقيته بالخلافة والولاية على المسلمين، فقد كان هذا محل إجماع بينهم.

قال ابن حزم: ولم ينكر معاوية قط فضل علىّ واستحقاقه الخلافة، ولكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان -رضي الله عنه- على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان(1).

وقال ابن تيمية: ومعاوية لم يدّع الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل عليًا، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا عليًا وأصحابه بالقتال، ولا فعلوا(2)...وقال أيضًا:...وكل فرقة من المتشيعين مقرّة مع ذلك بأن معاوية ليس كفئًا لعلى بالخلافة، ولا يكون خليفة مع إمكان استخلاف على، فإن فضل على وسابقته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله كانت عندهم ظاهرة معلومة كفضل إخوانه أبى بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم(3).

إن منشأ الخلاف لم يكن قدحًا في خلافة أمير المؤمنين علىّ -رضي الله عنه- وإنما اختلافهم في قضية الاقتصاص من قتلة عثمان، ولم يكن خلافهم في أصل المسألة، وإنما كان في الطريقة التي تعالج بها هذه القضية، إذ كان أمير المؤمنين علىّ موافقًا من حيث المبدأ على وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان، وإنما كان رأيه أن يرجئ الاقتصاص من هؤلاء إلى حين استقرار الأوضاع، وهدوء الأمور، واجتماع الكلمة(4).

قال النووي: واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم، وصاروا ثلاثة أقسام: قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته، وقتال الباغي فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده، وقسم عكس هؤلاء: ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدتهم وقتال الباغي عليه، وقسم ثالث: اشتبهت عليهم القضية، وتحيروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين، فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم؛ لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين، وأن الحق معه، لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه(5).

خروج الزبير وطلحة وعائشة ومن معهم إلى البصرة للإصلاح:
قدم طلحة والزبير إلى مكة ولقيا عائشة -رضي الله عنهم جميعًا- وكان وصولهما إلى مكة بعد أربعة أشهر من مقتل عثمان تقريبًا، أي في ربيع الآخر من عام36هـ (6)، ثم بدأ التفاوض في مكة مع عائشة -رضي الله عنها- للخروج، وقد كانت هناك ضغوط نفسية كبيرة على أعصاب الذين وجدوا أنفسهم لم يفعلوا شيئًا لإيقاف عملية قتل الخليفة المظلوم؛ فقد اتهموا أنفسهم بأنهم خذلوا الخليفة، وأنه لا تكفير لذنبهم هذا-حسب قولهم- إلا الخروج للمطالبة بدمه، علمًا بأن عثمان هو الذي نهى كل من أراد أن يدافع عنه في حياته تضحية في سبيل الله، فعائشة تقول: إن عثمان قُتل مظلومًا، والله لأطالبن بدمه (7), وطلحة يقول: إنه كان منى في عثمان شيء ليس توبتي إلا أن يسفك دمي في طلب دمه(Cool, والزبير يقول: نُنهض الناس فيدرك بهذا الدم لئلا يَبْطل، فإن في إبطاله توهين سلطان الله بيننا أبدًا، إذا لم يُفطم الناس عن أمثالها لم يبق إمام إلا قتله هذا الضرب(9).

فهذا الإحساس الضاغط على الأعصاب والنفوس كان كفيلاً بأن يحرك الناس ويخرجهم من راحتهم واستقرارهم، بل كانوا يخرجون وهم يدركون أنهم يخرجون إلى أهوال قادمة مجهولة، فكل واحد منهم خرج من بيته وهو غير متوقع العودة مرة أخرى؛ فشيعه أولاده بالبكاء، وسمي يوم خروجهم من مكة نحو البصرة بيوم النحيب، فلم يُرَ يوم كان أكثر باكيًا على الإسلام، أو باكيًا له من ذلك اليوم(10).

لقد توافرت مجموعة من العوامل في مكة جعلتهم يفكرون في طريقة جادة لتحقيق مطلبهم، ومن هذه العوامل: أن بنى أمية قد هربوا من المدينة، واستقروا في مكة، ومنها: أن عبد الله بن عامر -أمير البصرة في عهد عثمان- كان في مكة، وهو يحث على الخروج ويعرض المعونة المادية، ومنها: أن يعلى بن أمية الذي خرج من اليمن لإعانة الخليفة عثمان وصل إلى مكة، وقد قتل الخليفة، ومعه من المال والسلاح والدواب شيء لا بأس به، فعرض كل ذلك للمساعدة في قتل عثمان، فكان هذا كفيلاً لتشجيع الباحثين عن طريقه لمطاردة قتلة عثمان، وما دامت العوامل قد توافرت لجمع قوة تطالب بدم عثمان فمن أين يبدءون؟

دار حوار بينهم حول الجهة التي يتوجهون إليها فقال بعضهم -على رأسهم السيدة عائشة-: إن المدينة هي وجهتهم، وظهر رأى آخر يطلب التوجه إلى الشام ليتجمعوا معًا ضد قتلة عثمان، وبعد نظر طويل قرَّ رأيهم على البصرة؛ لأن المدينة فيها كثرة، ولا يقدرون على مواجهتهم لقلتهم؛ ولأن الشام صار مضمونًا لوجود معاوية، ومن ثم يكون دخولهم البصرة أولى في هذه الخطة؛ لأنها أقل البلدان قوة وسلطة، ويستطيعون من خلالها تحقيق خطتهم(11), وكانت خطتهم ومهمتهم واضحة سواء قبل خروجهم، أو أثناء طريقهم، أو عند وصولهم إلى البصرة وهي: المطالبة بدم عثمان، والإصلاح، وإعلام الناس بما فعل الغوغاء، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر(12), وأن هذا المطلب هو لإقامة حد من حدود الله(13), وأنه إذا لم يؤخذ على أيدي قتلة عثمان -رضي الله عنه- فسيكون كل إمام معرضًا للقتل من أمثال هؤلاء(14), وأما الطريقة التي تصوروها فهي الدخول إلى البصرة ثم الكوفة، والاستعانة بأهلها على قتلة عثمان منهم أو من غيرهم، ثم يدعون أهل الأمصار الأخرى لذلك حتى يُضيقوا الخناق على قاتلي عثمان الموجودين في جيش علىّ، فيأخذونهم بأقل قدر ممكن من الضحايا(15).

لم يكن الخروج إلى البصرة والغضب الذي حرك الصحابة من البساطة التي ظهرت للناس كثأر لعثمان -رضي الله عنه- وكأنه رجل من عوام الناس قُتل، فخرجت الجيوش في الطلب له بثأره، رغم كونه حدًا من حدود الله يستوجب الغضب ويستدعى حدوث ذلك، ولكن مكانة عثمان وشخصيته ومكانته المعنوية كخليفة، وقتله بالصورة التي تمت، كان فوق ذلك، ومعه اغتيال لصفة شرعية هي "الخلافة" التي يفهمها المسلمون: نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين، وسياسة الدنيا به(16)؛ فالاعتداء عليها دون وجه حق اعتداء على صاحب الشرع وتوهين لسلطانه، وضياع لنظام المسلمين(17).

كانت السيدة عائشة والزبير وطلحة ومن معهم يسعون لإيجاد رأى إسلامي عام في مواجهة الطغمة السبئية التي قتلت عثمان، وأصبحت ذات شوكة لا يستهان بها، وذلك من خلال تعريف المسلمين بما أتى هؤلاء السبئيون والغوغاء من أهل الأمصار ونزّاع القبائل، ومن ظاهرهم من الأعراب والعبيد، فلقد بات واضحًا عند الصحابة من الفريق الذي كان يرى رأي عائشة -رضي الله عنها- أن الغوغاء والسبئيين لهم وجود في جيش علىّ، وأنه لأجل ذلك فإن عليًا - رضي الله عنه - يصعب عليه مواجهتهم؛ خشية منه على أهل المدينة، ومن ثم فإنه ينبغي عليهم أن يحاولوا السعي لإفهام المسلمين، وتقوية الجانب المطالب بإقامة الحدود، لتتم إقامتها بأقل الخسائر في دماء الأبرياء، وهو هدف لا نشك أن عليًا كان يسعى إليه، ويحاوله، بل إن الروايات التي مرت معنا في المحاورة بين الزبير وطلحة وعلىّ تدل على ذلك. ثم إن هذا السلوك منهم، وهذه النية في تعريف الناس، وتوضيح الأمور لهم، دليل على وعى تام منهم بأساليب السبئية في اللعب بأفكار العامة، وتوجيهها على النحو الذي ينخر في الأمة حتى لا تستقر على حال، فكان لابد من مواجهتها في ميدان الأفكار؛ لإبطال عملها، ولقد تبين هذا العمل واضحًا وصريحًا في الروايات الصحيحة(18) التي تحدثت فيها السيدة عائشة -رضي الله عنها- عن أهداف هذا الخروج، فروى الطبري أن عثمان بن حنيف -وهو والى البصرة من قبل أمير المؤمنين على بن أبى طالب- أرسل إلى عائشة -رضي الله عنها- عند قدومها البصرة يسألها عن سبب قدومها، فقال: والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم، ولا يغطى لبنية الخبر، إن الغوغاء من أهل الأمصار، ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحدثوا فيه الأحداث، وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر؛ فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، ومزقوا الأعراض والجنود، وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم، ضارين مضرين، غير نافعين ولا متقين، ولا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت في المسلمين أُعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا، وقرأت :" لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ" [النساء:114]، فنهض في الإصلاح ممن أمر الله -عز وجل- وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصغير والكبير والذكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به وتحضكم عليه، ومنكر ننهاكم عنه ونحثكم على تغييره(19). وروى ابن حبان أن عائشة -رضي الله عنها- كتبت إلى أبى موسى الأشعري -والى علىّ على الكوفة-: فإنه قد كان من قتل عثمان ما قد علمت، وقد خرجت مصلحة بين الناس، فمر من قبلك بالقرار في منازلهم، والرضا بالعافية حتى يأتيهم ما يحبون من صلاح أمر المسلمين(20). ولما أرسل علىُّ القعقاع بن عمرو لعائشة ومن كان معها يسألها عن سبب قدومها، دخل عليها القعقاع فسلم عليها، وقال: أي أُمه، ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بنى، إصلاح بين الناس(21).

وبعد انتهاء الحرب يوم الجمل جاء علىٌّ إلى عائشة -رضي الله عنها- فقال لها: غفر الله لك. قالت: ولك، ما أردت إلا الإصلاح(22). فتقرر أنها ما خرجت إلا للإصلاح بين الناس، وفيه رد على من طعن في عائشة -رضي الله عنها- من الشيعة الرافض في قولهم: إنها خرجت من بيتها وقد أمرها الله بالاستقرار فيه في قوله: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى" [الأحزاب:33]، فإن سفر الطاعة لا ينافي القرار في البيت، وعدم الخروج منه إجماعًا، وهذا ما كانت تراه أم المؤمنين -عائشة- في خروجها للإصلاح للمسلمين، وكان معها محرمها ابن أختها عبد الله بن الزبير(23).

قال ابن تيمية في الرد على الرافضة في هذه المسألة: فهي -رضي الله عنها- لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافى الخروج لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجت للحج والعمرة، أو خرجت مع زوجها في سفره، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد سافر بهن رسول الله بعد ذلك، كما سافر في حجة الوداع بعائشة -رضي الله عنها- وغيرها، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه، وأعمرها من التنعيم، وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي بأقل من ثلاثة أشهر، بعد نزول هذه الآية، ولهذا كان أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يحججن بعده في خلافة عمر -رضي الله عنه- وغيره، وكان عمر يوكل بقطارهن عثمان، أو عبد الرحمن بن عوف، وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزًا، فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين فتأولت في ذلك(24). ويقول ابن العربي: وأما خروجها إلى حرب الجمل، فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس، ورجوا بركتها في الإصلاح، وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت للخلق، وظنت هي ذلك، فخرجت مقتدية بالله في قوله: "لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]. والأمر بالإصلاح، مخاطب به جميع الناس من ذكر أو أنثى حر أو عبد(25).

وهذه بعض الأمور المهمة في خروجها:

أولاً: هل أُكرهت السيدة عائشة على الخروج؟
زعم اليعقوبي أن الزبير بن العوام أكره السيدة عائشة على الخروج(26), وقال بهذا القول صاحب الإمامة والسياسة(27), وابن أبى الحديد(28), وكذلك فعل الدينورى(29), وألمحت الرواية التي ذكرها الذهبي بأن المتسلط عليها هو عبد الله بن الزبير(30) - ابن أختها أسماء- وسار على هذه الروايات كثير من الباحثين، كمحمد سيد الوكيل(31)؛ فقد زعم أن الزبير وطلحة شجعا عائشة على الخروج، وزاهية قدورة(32) وغيرهما، وهذا غير صحيح؛ فقد قامت السيدة عائشة بالمطالبة بثأر عثمان منذ اللحظة التي علمت فيها بمقتله - رضي الله عنه- وقبل أن يصل الزبير وطلحة وغيرهما من كبار الصحابة إلى مكة؛ ذلك أنه قد روى أنها لما انصرفت راجعة إلى مكة أتاها عبد الله بن عامر الحضرمي فقال: ما ردك يا أم المؤمنين؟ قالت: ردّني أن عثمان قُتل مظلومًا، وأن الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر، فاطلبوا دم عثمان تعزُّوا الإسلام. فكان عبد الله أول من أجابها(33), ولم يكن طلحة والزبير قد خرجا من المدينة، وإنما خرجا منها بعدما مر على مقتل عثمان أربعة أشهر(34).

ثانيًا: هل كانت متسلطة على من معها؟
كان فيمن خرج معها - رضي الله عنها- جمع من الصحابة(35), ولم تكن السيدة عائشة المرأة المتسلطة التي تحرك الناس حيث شاءت -كما زعم بروكلمان(36), ولقد أكدت روايات الطبري تأييد أمهات المؤمنين لها، ولمن معها في السعي للإصلاح، بل وتأييد عدد غير قليل من أهل البصرة لها(37), وكان هذا العدد غير القليل ممن لا يستهان بهم، فلقد وصفهم طلحة والزبير بأنهم خيار أهل البصرة ونجباؤهم(38), ووصفتهم السيدة عائشة بأنهم الصالحون(39), وما كان خروج هذا العدد من الصالحين إلا عن اعتقاد راسخ بجدوى هذا الخروج وصواب مقصده، وكان أمير المؤمنين يعلم هذا، ويرد الزعم الذي زعمه البعض من أن الخارجين مع السيدة عائشة كانوا جموعًا من السفهاء والغوغاء والأوباش(40), فلقد وقف أمير المؤمنين بعد معركة الجمل بين القتلى من فريق عائشة، يترحم عليهم ويذكر فضلهم(41). وسيأتي بيان ذلك أنه لم يكن خروجًا غوغائيًا، تحكمت فيه السيدة عائشة في أناس غير راشدين، بل كان خروجًا واعيًا شارك فيه بعض الصحابة الكبار(42).

ثالثًا: موقف أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من الخروج للطلب بدم عثمان:
كانت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خرجن إلى الحج في هذا العام فرارًا من الفتنة، فلما بلغ الناس بمكة أن عثمان قد قُتل أقمن بمكة، وكن قد خرجن منها فرجعن إليها، وجعلن ينتظرون ما يصنع الناس ويتحسسن الأخبار، فلما بويع علىّ خرج عدد من الصحابة من المدينة كارهين المقام بها بسبب الغوغاء من أهل الأمصار، فاجتمع بمكة منهم خلق كثير من الصحابة وأمهات المؤمنين(43), وكانت بقية أمهات المؤمنين قد وافقن عائشة على السير إلى المدينة، فلما اتفق رأى عائشة ومن معها من الصحابة على السير إلى البصرة، رجعن عن ذلك وقلن: لا نسير إلى غير المدينة(44). كان الخروج في أمر عثمان إذن غير مختلف عليه بين أمهات المؤمنين، لكنهن اختلفن حين تغيرت الوجهة من المدينة إلى البصرة، غير أن أم المؤمنين حفصة بنت عمر - رضي الله عنها- وافقت عائشة على السير إلى البصرة، وإنما عزم(45) عليها أخوها عبد الله كي لا تخرج، فلم يكن عدم خروجها ناتجًا عن اقتناع منها(46), وقالت لعائشة: إن عبد الله حال بيني وبين الخروج، وأرسلت إلى عائشة بعذرها(47).

وتكاد الروايات الشائعة تبدى أن أم سلمه -رضي الله عنها- لم تكن ترى رأى عائشة ومن معها في الخروج إلى البصرة، وأنها كانت ترى ما يراه على(48), غير أن أقرب الروايات إلى الصحة هي أنها أرسلت إلى علىًّ ابنها عمر بن أبى سلمه قائلة: والله لهو أعز على من نفسي، يخرج معك فيشهد مشاهدك. فخرج فلم يزل معه(49). وهي رواية عند التحقيق لا يتبين لنا منها أن هذا الإرسال لابنها يعنى أنها كانت تخالف أمهات المؤمنين في القول بالإصلاح بين المسلمين، فعائشة نفسها ومن معها لم يكونوا يرون أنهم بهذا الخروج يخالفون عليًا -رضي الله عنه- أو يخرجون على خلافته كما رأينا، وكما سوف تؤكد لنا الأحداث، كما أننا لم نجد في الروايات الصحيحة ما يدل على خروجها على إجماع أمهات المؤمنين في أهمية السعي للإصلاح(50).

وكانت أمهات المؤمنين يعلمن أن هذا الخروج في الإصلاح بين المسلمين مما يدخل في معنى الفرض الكفائى، والضابط فيه أن الطلب فيه ليس متوجهًا إلى جميع المكلفين، بل هو إلى ما فيه أهلية القيام به، لا على الجميع عمومًا، ولقد كانت أهلية القيام بهذا الإصلاح بين المسلمين متوافرة تمامًا في السيدة عائشة: مكانة وسنًا وعلمًا وقدرة، وكانت عائشة أكثرهن فقهًا بإجماع جمهور المسلمين(51), كما أنها كانت تهتم بالأمور العامة؛ فكانت صاحبة شخصية ثقافية واسعة، تكونت منذ نشأتها في بيت أبى بكر العالم بأيام العرب وأنسابهم، ومن عيشها في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي خرجت منه أسس سياسة الدولة الإسلامية، ثم هي بنت الخليفة الأول للمسلمين.

وقد أكد العلماء هذه المكانة للسيدة عائشة؛ فقد قال عروة بن الزبير: لقد صحبت عائشة، فما رأيت أحدًا قط كان أعلم بآية أنزلت، ولا بفريضة ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب، ولا بكذا، ولا بكذا..ولا بقضاء، ولا بطب منها(52). وكان الشعبي يذكرها فيتعجب من فقهها وعلمها، ثم يقول: ما ظنكم بأدب النبوة؟! وكان عطاء يقول: كانت عائشة أفقه الناس، وأحسن الناس رأيًا في العامة(53). وكان الأحنف بن قيس سيد بنى تميم، وأحد بلغاء العرب يقول: سمعت خطبة أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، والخلفاء بعدهم..فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم، ولا أحسن منه في عائشة. وكان معاوية يقول مثل هذا(54).

هذا وقد خرج أمهات المؤمنين مودعات للسيدة عائشة حين خرجت للبصرة، وفي ذلك معنى من معاني المعاونة والتشجيع لها على أمرها(55).

رابعًا: مرور السيدة عائشة على ماء الحوأب:
ثبت مرور السيدة عائشة على ماء الحوأب من طرق صحيحة؛ فعن يحيى بن سعيد بن القطان، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس ابن حازم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأزواجه: "كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب"(56). ومن طريق شعبة عن إسماعيل ولفظ شعبة: أن عائشة لما أتت على الحوأب سمعت نباح الكلاب، فقالت: ما أظنني إلا راجعة، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لنا: أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب. فقال لها الزبير: أترجعين؟ عسى الله -عز وجل- أن يُصلح بك بين الناس(57). وبهذا اللفظ أخرجه يعلى بن عبيد عن إسماعيل، وهو عند الحاكم(58), وقال الألباني: إسناده صحيح جدًا وقال: صححه من كبار أئمة الحديث: ابن حبان، والذهبي، وابن كثير، وابن حجر(59). فهذه الروايات الصحيحة، ليس فيها شيء من شهادة الزور أو التدليس الذي يتنزه عنه مقام الصحابة، والذي زعمته الروايات الضعيفة(60) التي سيأتي بيانها.

إن المتأمل لهذه الروايات التي صححها العلماء لا يجد في أي منها ما يدل على نهى عن شيء، أو أمر بشيء لتفعله السيدة عائشة، بل إن ما يفهم منها هو تساؤله عن أيتهن التي يحدث أن تمر على ماء الحوأب؟ والروايات الدالة على النهى، والتي بها لفظة إياك في الأثر الوارد: "إياك أن تكوني يا حميراء"(61) لم يصححها العلماء، وإنما ضعفت، ومن هنا فإن الصحيح الذي نذهب إليه هو أن مرور السيدة عائشة على ماء الحوأب لم يكن له الأثر السلبي الذي افتعلته الروايات الموضوعة، ولم يكن له الأثر البعيد على السيدة عائشة نفسها بحيث تفكر جديًّا في الرجوع عما خرجت له من إصلاح بين المسلمين، وسعى لتسديد خطاهم، ولم يعد الأمر أن يكون "ظنًا" منها في احتمال الرجوع، وهذا هو ما عبرت عنه حين قالت: ما أظنني إلا راجعة، وهو ظن لم يتلبث إلا يسيرًا، ثم عاد هدفها واضحًا بعدما ذكرها الزبير بما عسى الله أن يجريه على يديها من إصلاح بين المسلمين(62), لقد كانت وما زالت مسألة ماء الحوأب(63) والأحاديث المذكورة فيها مجالاً خصبًا للشيعة وغيرهم يطعنون بها على أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ويدينون بها خروجها في شأن الطلب بدم عثمان، حتى انتهى بهم الأمر إلى نفى صفة الاجتهاد عنها، بدعوى مخالفتها -في زعمهم- لنهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها عن أن ترد ماء الحوأب.

وقد ذكرت المصادر التاريخية هذه القصة؛ فقد جاءت عند الطبري في رواية طويلة، يرويها إسماعيل بن موسى الفزاري قال عنه ابن عدى: أنكروا منه الغلو والتشيع(64). ويروى الفزارى هذا الخبر عن على بن عابس الأزرق، وهو ضعيف قاله ابن حجر والنسائي(65), وهو يروى هذا الخبر عن الخطاب الهجري وهو مجهول(66), وهذا الهجري المجهول، يرويه عن مجهول آخر هو صفوان بن قبيعة الأحمسى(67), ثم أخيرًا عن شخصية أشد جهالة هي شخصية العزنى صاحب الجمل، وما هو بصاحب الجمل، وإنما صاحبه هو يعلى بن أمية(68).

وفي متن هذه الرواية ما يجد القارئ من رائحة التشيع والرفض الواضحة في آخر الرواية؛ حيث تزعم على لسان علىًّ أنه كان -رضي الله عنه- يرى أحقيته بالخلافة على أبى بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- والصحيح الثابت من الروايات المحققة يدل على خلا ذلك تمامًا(69).

وعلى أساس كل ما سبق يتضح لنا أن هذه الرواية غير صحيحة(70), وهناك روايات أخرى وردت في هذا الموضوع، كلها باطلة سندًا ومتنًا، ومغزى هذه الروايات وهدفها هو الطعن على كبار الصحابة وفضلائهم، وبيان أن مقصدهم من خروجهم هذا هو تحقيق مطامع دنيوية شخصية من مال ورئاسة وغيرها، وأن الغاية تبرر الوسيلة، وأنهم لا يتورعون في سبيل ذلك عن إشعال الحرب والفتنة بين المسلمين، وتركز الروايات على الصحابيين الجليلين طلحة والزبير -رضي الله عنهما -(71), كما يريد مفتري هذه الروايات أن يبين ويؤكد أن هذين الصحابيين ومن معهما من أفراد المعسكر يتجرؤن على انتهاك حرمات الله؛ فهم يقسمون ويحلفون لأم المؤمنين بأيمان مغلظة أن هذا ليس ماء الحوأب، وزيادة على ذلك أتوا بسبعين نفسًا -وفي رواية بخمسين نفسًا- يشهدون على صدق قولهم، فكان هذا العمل -كما افترى المسعودي الشيعي الرافضي- أول شهادة زور في الإسلام(72).

وتحاول هذه الروايات أن تظهر أن طلحة والزبير وأم المؤمنين -رضي الله عنهم- ليسوا على شيء من صفاء القلوب والاجتماع على هدف واحد، وتحاول أن تظهر أن عائشة -رضي الله عنها- بجانب طلحة -رضي الله عنه- وفي قرارة نفسها أن يتولى هو الخلافة؛ وذلك لأنه تيمي مثلها. كما تظهر هذه الروايات أن هناك تنافسًا داخليًا بين طلحة والزبير، وحرصًا من كل واحد منهما أن يتولى الإمارة، وهذه الروايات لا تخلو من ضعف قوى، فبعضها منقطع السند أو فيها مجاهيل لا يعرفون، أو فيها كلا العيبين الفادحين(73). ولقد تأثر كثير من الكتاب والمؤرخين بهذه الروايات، واعتمدوا عليها، وأسهموا في نشرها، وهي لا أساس لها، كالعقاد في عبقرية على، وطه حسين في على وبنوه(74), وغيرهما من الكتاب المعاصرين.

خامسًا: أعمالهم في البصرة:
عندما وصل طلحة والزبير وعائشة -رضي الله عنهم- ومن معهم إلى البصرة نزلوا جانب الخريبة(75), ومن هناك أرسلوا إلى أعيان وأشراف القبائل يستعينون بهم على قتلة عثمان، كان كثير من المسلمين في البصرة وغيرها، يودون ويرغبون في القود من قتلة عثمان -رضي الله عنه- إلا أن بعض هؤلاء يرون أن هذا من اختصاص الخليفة وحده، وأن الخروج في هذا الأمر بدون أمره وطاعته معصية، ولكن خروج هؤلاء الصحابة المشهود لهم بالجنة، وأعضاء الشورى ومعهم أم المؤمنين عائشة حبيبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفقه النساء مطلقًا، ومطلبهم الشرعي لا غبار عليه، ولا ينكره صحابي واحد، جعل الكثير من البصريين على اختلاف قبائلهم ينضمون إليهم، وأرسل الزبير إلى الأحنف بن قيس السعدي التميمي يستنصره على الطلب بدم عثمان، والأحنف من رؤساء تميم وكلمته مسموعة، يقول الأحنف واصفًا هول الموقف:..فأتاني أفظع أمر أتاني قط فقلت: إن خذلاني هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لشديد(76) إلا أنه اختار الاعتزال، فاعتزل معه ستة آلاف ممن أطاعه من قومه، وعصاه في هذا الأمر كثير منهم، ودخلوا في طاعة طلحة والزبير وأم المؤمنين(77).

ويذكر الزهري أن عامة أهل البصرة تبعوهم(78), وهكذا انضم إلى طلحة والزبير وعائشة ومن معهم أنصار جدد لقضيتهم التي خرجوا من أجلها. وقد حاول ابن حنيف تهدئه الأمور والإصلاح قدر المستطاع، إلا أن الأمور خرجت من يده حتى قال أحدهم عن البصرة: قطعة من أهل الشام نزلت بين أظهرنا(79). وحتى إن معاوية فيما بعد حاول الاستيلاء عليها بمساعدة أهلها(80). وتذكر بعض المصادر غير الموثقة أن عثمان بن حنيف رخص لحكيم بن جبلة في القتال، وهذا لا يثبت، والمصادر الصحيحة لم تثبت ذلك(81).

سادسًا: مقتل حُكَيم بن جبلة ومن معه من الغوغاء:
أقبل حُكَيم بن جبلة بعدما خطبت عائشة -رضي الله عنها- في أهل البصرة، فأنشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة وطلحة والزبير -رضي الله عنهم- رماحهم وأمسكوا ليمسكوا، فلم ينته حكيم ومن معه، ولم يثن، وظل يقاتلهم، وطلحة والزبير كافُّون إلا ما دافعوا عن أنفسهم، وحكيم يذمر(82) خيله ويركبهم بها(83), وعلى الرغم من ذلك، فإن عائشة -رضي الله عنها- ظلت حريصة على عدم إنشاب القتال، فأمرت أصحابها أن يتيامنوا بعيدًا عن المقاتلين، وظلوا على ذلك حتى حجز الليل بينهم(84), حتى إذا كان الصباح جاء حكيم بن جبلة وهو يبربر، وفي يده الرمح، وفي طريقه إلى حيث عائشة - رضي الله عنها- ومن معها، وجعل حكيم لا يمر برجل أو امرأة ينكر عليه أن يسب عائشة إلا قتله(85), وعندئذ غضبت عبد القيس إلا من كان اغتُمر(86) منهم، فقالوا لحكيم: فعلت بالأمس وعدت لمثل ذلك اليوم، والله لا نَدَعُك حتى يقيدك الله(87), فرجعوا وتركوه، ومضى حكيم بن جبلة فيمن غزا معه عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وحصره من نزاع القبائل كلها، فلقد كانوا قد عرفوا أن لا مقام لهم بالبصرة، فاجتمعوا إليه، ووافقوا أصحاب عائشة، فاقتتلوا قتالاً شديدًا(88), وظل منادى عائشة -رضي الله عنها- يناديهم ويدعوهم إلى الكفّ فيأبون(89), وجعلت -رضي الله عنها- تقول: لا تقتلوا إلا من قاتلكم. لكن حكيمًا لم يُرَع(90) للمنادى، وظل يُسَعَّر القتال، عندئذ وبعد ما تبينت للزبير وطلحة -رضي الله عنهما- طبيعة هؤلاء الذين يقاتلون، وأنهم لا يتورعون ولا ينتهون عن حرمة، وأن لهم هدفًا في إنشاب القتال، قالا: الحمد لله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة، اللهم لا تبق منهم أحدًا، وأقد منهم اليوم، فاقتلهم، فجادُّوهم القتال، ونادوا: من لم يكن من قتلة عثمان -رضي الله عنه- فليكفف عنا، فإننا لا نريد إلا قتلة عثمان، ولا نبدأ أحدًا، فاقتتلوا أشد القتال(91), فلم يفلت من قتلة عثمان من أهل البصرة إلا واحد، وكان منادى الزبير وطلحة قد نادى: ألا من كان فيكم من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم(92). وكان فريق من هؤلاء الجهال والغوغاء -كما قالت عائشة- قد غادوها في بيتها في الغَلَس ليقتلوها، وكانوا قد ذهبوا حتى سُدَّة بيتها، ومعهم الدليل، إلا أن الله دفع عنها بنفر من المسلمين كانوا قد أحاطوا بيتها -رضي الله عنها- فدارت عليهم الرحى، وأطاف بهم المسلمون فقتلوهم(93).

استطاع الزبير وطلحة ومن معهم أن يسيطروا على البصرة، وكانوا بحاجة إلى طعام ومؤنة غذائية، وقد مرت عليهم أسابيع، وهم ليسوا في ضيافة أحد، فتوجه جيش الزبير إلى دار الإمارة ومن ثم إلى بيت المال ليرزقوا أصحابهم، وأخلى سبيل عثمان بن حنيف واتجه إلى على(94)، وبذلك تمت سيطرة طلحة والزبير وأم المؤمنين -رضي الله عنهم- على البصرة وقتلوا عددًا كبيرًا ممن شارك في الهجوم على المدينة، قدر بسبعين رجلاً من أبرزهم زعيم ثوار البصرة حكيم بن جبلة، والذي كان حريصًا على القتال، وإشعال الحرب، وكان الزبير أمير المؤمنين؛ فقد بويع على ذلك(95).

سابعًا: رسائل السيدة عائشة إلى الأمصار الأخرى:
كانت السيدة عائشة - رضي الله عنها- حريصة على إيضاح وجه الحق فيما حدث من قتال مع أهل البصرة، فكتبت إلى أهل الشام والكوفة واليمامة، وكتبت إلى أهل المدينة أيضًَا تخبرهم بما صنعوا وصاروا إليه، وكان فيما كتبت به لأهل الشام: إنا خرجنا لوضع الحرب، وإقامة كتاب الله -عز وجل- هو الذي يردُّنا عن ذلك، فبايعَنا خيار أهل البصرة ونجباؤهم، وخالفنا شرارهم ونُزَّاعهم، فردُّونا بالسلاح، وقالوا فيما قالوا: نأخذ أم المؤمنين رهينة أن أمرتهم بالحق، وحثتهم عليه، فأعطاهم الله -عز وجل- سنة المسلمين مرة بعد مرة، حتى إذا لم يبق حجة ولا عذر استبسل قتلة عثمان أمير المؤمنين، فلم يفلت منهم إلا حُرْقُوص بن زهير والله مقيده. وإنّا نناشدكم الله -سبحانه- في أنفسكم إلا ما نهضتم بمثل ما نهضنا به، فنلقى الله -عز وجل- وتلقونه، وقد أعذرنا وقضينا الذي علينا(96).

ثامنًا: الخلاف بين عثمان بن حنيف وجيش عائشة والزبير وطلحة:
روى الطبري عن أبى مخنف عن يوسف بن يزيد، عن سهل بن سعد قال: لما أخذوا عثمان بن حنيف أرسلوا أبان ابن عثمان بن عفان إلى عائشة يستشيرونها في أمره، قالت: اقتلوه، فقالت لها امراة: نشدتك الله يا أم المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول الله، قالت: ردوا أبانًا، فردُّوه، فقالت: احبسوه ولا تقتلوه. قال: لو علمت أنك تدعينني لهذا لم أرجع. فقال لهم مجاشع بن مسعود: اضربوه وانتفوا شعر لحيته، فضربوه أربعين سوطًا، ونتفوا شعر لحيته ورأسه وحاجبيه وأشفار عينيه وحبسوه(97)، وفي سند هذه الرواية أبو مخنف وهو شيعي رافضي محترق، وهذه الرواية لم تثبت من طريق صحيح يمكن أن يعول عليه، والصحابة الكرام ينزهون عن مثل هذه المثلة القبيحة.

والذي يفهم من رواية سيف أن الغوغاء هم الذين فعلوا ذلك، وأن طلحة والزبير -رضي الله عنهما- استشنعاه، واستعظماه، وبعثا بالخبر إلى عائشة فقالت: خلوا سبيله وليذهب حيث شاء(98), وهذه الرواية عارضت تفصيلات أبى مخنف؛ فهي لم تذكر الأمر بقتله أو حبسه أو الأمر بنتف شعر وجهه، وقد اختار هذه الرواية النويرى وابن كثير(99), وذكر الذهبي أن مجاشع بن مسعود قد قتل قبل دخول دار عثمان بن حنيف(100), وحتى لو فرض عدم قتل مجاشع بن مسعود؛ فليست إليه القيادة حتى يصدر هذه الأوامر(101).
ـــــــــــــــــــــ
(1) الفصل في المل والأهواء والنحل (4 /160).
(2) مجموع الفتاوى (35 / 72).
(3) مجموع الفتاوى (35 / 72).
(4) أحداث وأحاديث فتنة الهرج ص158.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم (15 / 149).
(6) تاريخ الطبري (5 / 469).
(7) تاريخ الطبري (5 / 485).
(Cool سير أعلام النبلاء (1 / 34).
(9) تاريخ الطبري (5 / 487).
(10) تاريخ الطبري (5 / 487)، دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة للشجاع: ص(417).
(11) تاريخ الطبري (5 / 476)، دراسات في عهد النبوة: ص(418).
(12) تاريخ الطبري (5 / 489).
(13) دراسات في عهد النبوة: ص(419).
(14) تاريخ الطبري (5 / 487).
(15) دراسات في عهد النبوة: ص(419).
(16) مقدمة ابن خلدون: ص(191).
(17) دور المرأة السياسي: ص(391).
(18) دور المرأة السياسي: ص(394).
(19) تاريخ الطبري (5 / 489).
(20) الثقات لابن حبان (2 / 282).
(21) تاريخ الطبري (5 / 520).
(22) شذرات الذهب (1 / 42).
(23) الانتصار للصحب والآل: ص(444).
(24) منهاج السنة (4 / 317- 570).
(25) أحكام القرآن (3 / 569، 570).
(26) تاريخ اليعقوبي (2 / 180، 209).
(27) الإمامة والسياسة (1 / 58، 69).
(28) شرح نهج البلاغة (9 / 18).
(29) الأخبار الطوال: ص(145).
(30) سير أعلام النبلاء (2 / 193).
(31) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين: ص (526).
(32) عائشة أم المؤمنين: ص (184).
(33) تاريخ الطبري (5 / 475).
(34) دور المرأة السياسي: ص (383)، تاريخ الطبري (5 / 469).
(35) المصدر نفسه: ص(384).
(36) تاريخ الشعوب الإسلامية: ص (111، 114، 117).
(37) تاريخ الطبري (5 / 475).
(38) تاريخ الطبري نقلاً عن دور المرأة السياسي: ص(385).
(39) تاريخ الطبري نقلا عن دور المرأة السياسي: ص(385).
(40) انظر ما قاله صاحب الإمامة والسياسة (1 / 57).
(41) تاريخ الطبري (5 / 574).
(42) دور المرأة السياسي: ص(385).
(43) البداية والنهاية (7 / 241).
(44) البداية والنهاية (7 / 241).
(45) عزم عليها: أقسم عليها.
(46) دور المرأة السياسي: ص (386).
(47) تاريخ الطبري (5 / 487).
(48) أنساب الأشراف (4 / 224).
(49) أسد الغابة (4 / 169)، الإصابة (4 / 487)، دور المرأة السياسي ص (387)، المستدرك مرويات أبى مخنف: ص (257).
(50) دور المرأة السياسي: ص(387).
(51) سير أعلام النبلاء (2 / 183).
(52) سير أعلام النبلاء (2 / 183).
(53) المصدر نفسه (2 / 185).
(54) المصدر نفسه (2 / 183).
(55) دور المرأة السياسي: ص(389).
(56) مسند أحمد (6 / 97).
(57) مسند أحمد (6 / 97).
(58) المستدرك (3 / 120).
(59) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1 / 767) رقم 474.
(60) دور المرأة السياسي: ص(405).
(61) قال الذهبي: كل حديث فيه يا حميراء لا يصح، سير أعلام النبلاء (2 / 167، 168).
(62) دور المرأة السياسي: ص(406).
(63) الحوأب: من مياه العرب على طريق البصرة قريب منها على طريق مكة إليها.
(64) الكامل في ضعفاء الرجال (1 / 528)، ميزان الاعتدال (1 / 413).
(65) تقريب التهذيب (1 / 697).
(66) تقريب التهذيب (2 / 392)، دور المرأة السياسي: ص(400).
(67) ميزان الاعتدال (3 / 434)، لسان الميزان (3 / 225).
(68) أسد الغابة (5 / 486)، دور المرأة السياسي: ص(400).
(69) دور المرأة السياسي: ص(402).
(70) تاريخ الطبري (5 / 483).
(71) مصنف ابن أبى شيبة (15 / 283) ضعيفة السند منقطعة، وأنساب الأشراف من (2 / 47) نفس الطريق وهذه الروايات تخالف الصحيح الثابت.
(72) مروج الذهب (2 / 367).
(73) تاريخ الطبري وفي إسنادها مجهولان، خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد: ص(133).
(74) خلافة على بن أبى طالب: ص(132).
(75) موقع جانب البصرة، انظر: خطط البصرة ومنطقها 114- 122العلمي.
(76) خلافة على بن أبى طالب, عبد الحميد: ص (133).
(77) طبقات ابن سعد (5 / 456) له شواهد تقويه.
(78) مصنف عبد الرزاق (5 / 456) بسند صحيح إلى الزهري مرسلاً.
(79) الطبقات (6 / 333).
(80) فتح الباري (13 / 26)، خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد: ص(137).
(81) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد: ص (137، 138).
(82) يذمر الخيل: يحضها ويشجعها.
(83) تاريخ الطبري (5 / 494).
(84) تاريخ الطبري (5 / 494).
(85) المصدر نفسه (5 / 495).
(86) اغتمر: اغتمس.
(87) يقيدك الله: القَوَد: القصاص، وقتل القاتل بالقتيل.
(88) تاريخ الطبري (5 / 499).
(89) تاريخ الطبري (5 / 499).
(90) لم يرع: لم يبال.
(91) تاريخ الطبري (5 / 499).
(92) المصدر نفسه (5 / 501).
(93) المصدر نفسه (5 / 503).
(94) تاريخ الطبري (5 / 43)، خلافة على، عبد الحميد: ص (138).
(95) أنساب الأشراف (2 / 93) بسند حسن، خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد: ص (139).
(965) تاريخ الطبري (5 / 501).
(97) تاريخ الطبري (5 / 497).
(98) تاريخ الطبري (5 / 497).
(99) نهاية الأرب (20 / 38)، البداية والنهاية (7 / 233).
(100) تاريخ الإسلام للذهبي، مرويات أبى مخنف في تاريخ الطبري: ص (359).
(101) مرويات أبى مخنف في تاريخ الطبري: ص(259).
==========
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
حقيقة الخلاف بين الصحابة (الجزء الثانى)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: