اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 المستشرق "مونتيه" وحديثه عن القرآن (2)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99285
المستشرق "مونتيه" وحديثه عن القرآن (2)  Oooo14
المستشرق "مونتيه" وحديثه عن القرآن (2)  User_o10

المستشرق "مونتيه" وحديثه عن القرآن (2)  Empty
مُساهمةموضوع: المستشرق "مونتيه" وحديثه عن القرآن (2)    المستشرق "مونتيه" وحديثه عن القرآن (2)  Emptyالجمعة 10 مايو 2013 - 3:44

ما رأيناه في الجزء الأول من ترجمة "إدوار مونتيه"
الذي عمل أستاذًا للغاتِ الشرقيةِ، وعميدًا شرفيًّا لجامعةِ "جنيف"، والذي
كنا نأمل أن تكون ترجمته مثالاً للجودةِ والدقَّةِ، إلا أننا لم نجد
لهاتين الصفتينِ وجود.. ونستكمل هنا ترجمته لنتبين ما فيها مدى عجزِه عن
فهمِ النص القرآني في أحيانٍ كثيرةٍ.



ولا نحاولُ هنا تتبعَ كلِّ أخطاء الترجمة،
وإلا فلن نَفرُغَ، بل نَكتَفِي بإطلاعه على عيِّنة صغيرة جدًّا، ولمن شاء
أن يرى التشويهَ الفظيع لآياتِ القرآنِ الكريمِ في مواضعَ لا يَسهُل حصرُها
-يُمكِنه أن يرجِع بنفسِه إلى الترجمة.



والآن إلى سورة "العنكبوت"، وسنكتفي بمثالينِ هذه المرة:

فأما الأول، فقوله -تعالى-: ﴿ وَلَا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
﴾ [العنكبوت: 46]؛ الذي يترجِمه بما
مُفاده: "ولا تُجادِلوا أهل الكتاب إلا مع الذين هم أحسنُ، ولكن ليس مع
الذين ظَلَموا منهم، الذين يَقُولُون آمنا بما أُنزِل إلينا وما أُنزِل
إليكم... إلخ" ص540 - هـ3". وكَشِنْشِنَة هذا العبقري لا يكفئ على الخبر
ماجورًا، بل يُضِيف في الهامش -رقم 8 من نفس الصفحة- أن هذه الآيةَ صعبةٌ،
لا صعبة في الترجمة - هكذا يقول - بل صعبةُ الفهمِ.



هل فَهِمت - بالله عليك - شيئًا من هذا الكلام؟

إنها إذا كانت صعبةَ الفهمِ، فكيف -يا تُرَى- يُمكِن ترجمتُها أصلاً، فضلاً عن أن تكونَ سهلةَ الترجمة؟ أما المثالُ الآخرُ، وهو قولُه -تعالى-: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48]؛ فإنه يَنقُله إلى الفَرَنسية بما يعني: "لم يُوحَ إليك من قبل كتابٌ سماويٌّ" ص540 - هـ 10".



فأيُّ تشويهٍ! وأيُّ عبثٍ!
وأيُّ قلبٍ للحجَّة القرآنية الدامغة إلى مصادَرةٍ على المطلوب! إن المعنى
هو أن الرسول -عليه السلام- كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ومن ثَمَّ فلا
عذرَ لمن يتَّهمه بانتحال ما وَرَد في الكتب السماوية السابقة.



أما نفي نزولِ وحيٍ سابق على الرسول -صلي
الله عليه وسلم- فليس بشيءٍ؛ فهم لم يتَّهِموه بالاقتباس من وحيٍ كان قد
نزل عليه من قبل القرآن، وإلا لكان هذا اعترافًا صحيحًا منهم بأنه رسولٌ
يوحَى إليه من السماءِ.



والآن سأَكتَفِي بالإشارة السريعة إلى عدد آخر من الأخطاء، مكرِّرًا في الوقت ذاته أن الترجمة تعجُّ بالمئات من أمثالِها:

إنه يترجِم قوله -تعالى-: ﴿ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ
﴾ [سبأ: 8] - وهو استفهامٌ يَستَنكِر فيه ربُّ العزة تكذيبَ الكفارِ
لرسولِه وتهكُّمَهم بما يخبِرهم به من شؤون القيامةِ والعالم الآخر - على
أنه جملةٌ خبريةٌ تتمة لقولِه قبل ذلك مباشرة: ﴿ وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا
مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
﴾ [سبأ: 7]؛ أي أنه يعدُّ الاستنكارَ الإلهيَّ كلامًا صَدَر عن الكافرين" ص573 - هـ 7".



كما يؤدِّي قولَه -تعالى-: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [فاطر: 22]؛ بمعنى: "أن الله يسْمع مَن يشاء" ص584 - هـ 4".



ويترجِم قولَه -سبحانه-: ﴿ وَإِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ
﴾ [الزمر: 45]؛ بما يعني: "ارتَعدَت من الخوفِ " ص623 ".



وفي سورة الواقعة يترجِم: ﴿ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ﴾ [آية: 13] بـ: "كثيرٍ من الأولين" ص726"، كما يحوِّل الدعاءَ على المنافقينَ في قوله -سبحان-: ﴿ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المنافقون: 4]، إلى جملةٍ خبريةٍ؛ ليصبحَ المعنى: أن الله قد قاتلهم! "ص756".



وعلى هذا النحوِ المفسِد يترجِم: ﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا ﴾ [التحريم: 3] بـ: "وإذ أسرَّ النبيُّ إلى بعض أزواجِه أمرًا وَقَع حديثًا" ص763".



أما: ﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾ [الأعلى: 9]، فيَنقُلُها هكذا: "فذكِّر، إن الذِّكرى تَنفَع" ص836".



كما يؤدِّي الآيةَ التي قبلَ هذه، وهي: ﴿ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴾، بمعنَى: "ونيسِّر لك السهلَ"، ثم يَتَساءَل في الهامشِ: "أَيَلِيق صدورُ هذه الفكرةِ العاديةِ جدًّا من الرسولِ؟ غيرَ دارٍ - طبعًا - أن الذي لا يَلِيق هو هذا العجزُ المُخزِي، الذي تَكشِف عنه ترجمتُه للآيةِ، وإلا فهل يَحتَاجُ السهل إلى تيسيرٍ؟





• • •


والآن، وبعد أن عَرَفنا ضعفَ المترجِم
الشائِن في فهم النص، وفي نقلِه إلى الفَرَنسيةِ نقلاً سليمًا - أُحِبُّ أن
أَنتَقِل إلى جهودِه التفسيريةِ؛ فهو لم يَكتَفِ بأن يكون مترجِمًا سيئًا،
بل أَبَى إلا أن يكونَ أيضًا مفسرًا رديئًا.



وليس معنى ذلك أنه لم يُصِبْ في أيٍّ من
التفسيراتِ التي أَقدَم عليها؛ إذ ليس من المعقولِ - وقد تحصَّن "كما سبق
أن أشرتُ" بالترجماتِ السابقة عليه، وكتبِ التفاسيرِ من قديمةٍ وحديثةٍ،
وبالمعاجمِ، ودوائرِ المعارفِ المتعدِّدة والمتنوعة - أن يُخطِئ في كلِّ
مرَّة حاولَ أن يُقدِّم فيها تفسيرًا لهذه الآيةِ أو تلك.



انظر مثلاً فهمَه لقولِه -تعالى-: ﴿ قُولُوا
آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
﴾ [البقرة: 136]؛ إذ يَمدَح فيه سموَّ الفكرِ، أتدري لماذا؟ لأنه يظنُّ أن الآيةَ تَدعُو المسلمينَ إلى إعلانِ إيمانِهم بكتبِ اليهودِ والنصارى ومساواتِها بالقرآن!" ص96 - هـ 3".



فهل في الآيةِ شيءٌ من هذا؟
إن الله -عز وجل- يدعو المسلمينَ إلى إعلانِ إيمانِهم بما أَنزَل إليهم،
وهو القرآنُ، وما أُنزِل إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ، وما أوتِي موسى وعيسي،
وما أوتِي النبيُّون من ربِّهم؛ يعني: الإيمانَ بكلِّ وحيٍ سماويٍّ نَزَل
على أيِّ نَبِيٍّ، بما في ذلك موسى وعيسي -عليهما السلام- وهذا شيءٌ، وكتبُ
اليهودِ والنصارى شيءٌ آخرُ، فالقرآنُ قد حكَم على هذه الكتبِ بأنها قد
حُرِّفت، وزيِّفت، وحُمِل عليها، واختلط بها ما ليس بوحيٍ سماوي.



ومن أخطائه أيضًا تفسيرِه لكلمةِ: "اللاعنون "في قولِه -تعالى-: ﴿ إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى
مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ
يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ
﴾ [البقرة: 159].



ذلك أنه يفسِّر ﴿ اللَّاعِنُونَ
﴾، بأنهم هم الذين كانت وظيفتُهم اللعنَ، ثم يَمضِي قائلاً: "لقد كان
الشاعرُ في الجزيرةِ العربيةِ قبل الإسلام يُعَدُّ لسانَ القدرةِ الإلهيةِ،
ويصبُّ باسمِ الإلهِ البركاتِ واللعناتِ.



ويبدو أن هذه الآيةَ تُشِير إلى هذه الممارساتِ الوثنيةِ القديمةِ" ص100 - هـ 2".



أرأيتَ عبقريةً في السخفِ كهذه العبقريةِ؟

أكان العربُ يَعُدُّون الشاعرَ منهم لسانَ القدرةِ الإلهيةِ؟ ففيم إذًا كان اتهامُهم للرسولِ -صلي الله عليه وسلم- بأنه شاعرٌ؟
تُرَى أكانوا - ونحن كلَّ هذه القرونِ المتطاولةِ لا نَعرِف - يَقصِدون أن
الرسول كان مُلهَمًا من السماءِ يتحدَّث بلسانِ الله، فإذا بَارَك أو
لَعَن، فإنما يَفعَل ذلك باسمِ اللهِ؟ لا حولَ ولا قوَّة إلا باللهِ!




أليس هذا هو ذوبانَ الذهنِ الذي لا يَدرِي المبلوُّ به أهو يَقرأُ حكاياتِ "بلعام" في كتبِ اليهودِ، أم يقرأُ القرآنَ الكريمَ؟ أرجو كذلكَ أن يَلتَفِت القارئُ إلى الوخزةِ المسمومةِ في قولِ هذا المستشرق: "فهذه الآيةُ - فيما يبدو - تُشِير إلى هذه الممارساتِ الوثنيةِ القديمةِ"؛ أي: أن القرآنَ حين يَلعَن أهلَ الكتابِ لكتمانِهم الوحيَ السماويَّ، فإنما يُحيِي ممارساتٍ وثنيةً قديمةً!




وهو يعدُّ قولَه -تعالى-: ﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ في الآية الكريمة: ﴿ آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
﴾ [البقرة: 285] متعارضًا تمامَ التعارضِ مع قولِه -سبحانه وتعالى- في نفس السورة: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
﴾ [البقرة: 253]؛ إذ هو يَفهَم من قولِ المؤمنينَ بأنهم لا يفرِّقون بين
أحدٍ من رسلِه، أنهم لا يَرَون لأحدٍ من الرسلِ فضلاً على آخرَ، مع أن
المعنى واضح، وهو: أنهم يؤمنون بهم جميعًا، وليسوا كاليهود والنصارى مثلاً،
يؤمنونَ ببعضِ الرسلِ ويَكفُرون ببعضٍ.



ألم يقرأ قولَه -عز وجل-: ﴿ إِنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ
وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا
* أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا
﴾ [النساء: 150، 151]؟



وهو يتخبَّط في تفسيرِ قولِه -تعالى-
للمسلمينَ عن الدرسِ الذي يَنبَغِي أن يتعلَّموه من انتكاسةِ أُحُدٍ؛ إذ
كانت الحربُ في بدايتِها تَسِير في صالحِهم إلى أن فَشِل فريقٌ منهم،
وتَنَازَعوا، وعَصَوا بذلك أمرَ الرسولِ -صلي الله عليه وسلم-: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ﴾ [آل عمران: 152]؛ أي: تقتلونهم، وكان ذلك في أول المعركة قبل أن يَعصِيَ فريقٌ من المسلمينَ أوامرَ نبيِّهم، ﴿ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 152].



إن صدقَ اللهِ وعْدَه للمسلمينَ مقصودٌ به
عند هذا المستشرقِ انتصارُ بدرٍ، والفشلُ فشلُ أحدٍ، وتنازعُ المسلمينَ
إنما هو تنازعُهم حولَ انتكاسةِ أحدٍ" ص146 - هـ 7 ".



فمن أين له بهذا الفهمِ الأمشاجِ، الذي لا يُمسِك بعضُه ببعضٍ، إلا كما تتلاصقُ فقَّاعات الهواء؟




وكيف يكونُ تنازعُ المسلمينَ بشأنِ الهزيمةِ -ومثلُ هذا التنازعِ يَقتَضِي أن تكونَ الهزيمةُ قد وَقَعت فعلاً، وانتَهى الأمر- هو السببَ في الهزيمةِ؟




وهو يرى في قولِه -تعالى-: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء: 171]، شهادةً قرآنيةً "بأن المسيحَ يرجِع إلى أصل إلهي"
ص183 - هـ 9 "، وفَاتَه أن هذه الآيةَ لا تقرِّر للمسيحِ -عليه السلام-
شيئًا آخرَ غير الذي يقرِّره القرآنُ لكل البشرِ؛ فإنهم جميعًا فيهم من
روحِ اللهِ.



يقول الحق - تبارك و تعالى -: ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [ص: 71، 72]، بل إن الآيةَ ذاتَها لصريحةُ الدلالةِ في أنه ليس أكثرَ من رسولٍ، والقرآنُ يقولُ بالنص عنه -عليه السلام-: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الزخرف: 59]، ومثلُ ذلك في القرآنِ كثيرٌ، ومعناه من الوضوحِ بحيث لا يتركُ مقدارَ سنِّ إبرةٍ من الشكِّ.



إن هذا المستشرقَ دائمُ المسارعةِ -إذا لم
يُسعِفه فهمُه- إلى اتهامِ القرآنِ بالتعارضِ، ولقد رَأَينا فيما مرَّ
بعضَ الأمثلةِ على هذا التورُّط، وهذه واحدةٌ أخرى من أغاليطِه الشنيعةِ؛
إذ يَرَى قولَه -سبحانه-: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ والنصارى مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
﴾ [المائدة: 69]، متعارضًا مع آياتٍ أخرى
تقرِّر أنه لا نجاةَ إلا في الإسلامِ، وأن مَن يَبْتغِ غيرَ الإسلامِ دينًا
فلن يُقبلَ منه، ثم يَزِيد فيتَّهم ما يسمِّيه بـ "نظرية النَّسخ "
بأنها من صنعِ خيالِ العلماءِ المسلمين، ثم يقدِّم رأيَه الذي يتلخَّص في
أن هذه الآياتِ المتعارضةَ - في رأيه - إنما تبيِّن كيفَ أن العقيدةَ
الإسلاميةَ قد مرَّت بأدوارٍ من التطوُّر قبل أن تصلَ إلى صياغتِها
النهائيةِ" ص198 - هـ 8 ".



فهل يوجَد حقًّا بين هذه الآيةِ والآياتِ الأخرى التي يُشِير إليها هذا المستشرقُ أيُّ تعارضٍ؟

أرجو من القارئِ
أن يرجِع إلى الآياتِ السابقةِ واللاحقةِ على هذه الآيةِ؛ حيث يَصِمُ
اللهُ اليهودَ والنصارى بالطغيانِ، والكفرِ، وانعدامِ التقوى، والخروج على
ما أَمَرتْهم به التوراةُ والإنجيلُ -الصحيحان لا المحرَّفان- وعندئذٍ سوف
يرى ألا شيءَ مما زعمَه ذلك المستشرقُ صحيحٌ؛ فإن القرآنَ يَشتَرِط للنجاةِ
الإيمانَ باللهِ واليومِ الآخرِ، وهو ما لا يتحقَّق في أهلِ الكتابِ الذين
يكفرون باللهِ وبرسولِه عاصينَ بذلك أوامرَ اللهِ بالإيمانِ بكلِّ مَن
يبعثهم من رسلٍ.



وإن آيتي سورة النساءِ: ﴿ إِنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ
وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا
* أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا
﴾[النساء: 150، 151].



وكذلك آيةُ سورةِ التوبة: ﴿ قَاتِلُوا
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ
الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
﴾ [التوبة: 29].



وأيضًا آيةُ سورةِ الأنعام:﴿ وَهَذَا
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ
﴾ [الأنعام: 92].



ومثلُها آيتا سورةِ الأعراف [ 156 – 157 ]، وهما جوابٌ على دعاءِ موسى -عليه السلام- لربه أن ﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [الأعراف: 156]؛ إذ قال -سبحانه-: ﴿ عَذَابِي
أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ
هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
﴾ [الأعراف: 156].



أرجو من القارئِ التنبهَ هنا جيدًا: ﴿ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
﴾ [الأعراف:
157]، كلُّ هذه الآياتِ وغيرها كثيرٌ، تبيِّن - جليًّا - أنهم لا يؤمنونَ
باللهِ ولا باليومِ الآخرِ، وأنهم من ثَمَّ ليسوا ممن لا خوفٌ عليهم ولا هم
يحزنونَ، وهو أيضًا يَرَى أن قولَه -تعالى-:﴿ لَتَجِدَنَّ
أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نصارَى
﴾ [المائدة: 82]، لا يتوافقُ مع ما
تصبُّه هذه السورةُ نفسُها من هجومٍ وتثريبٍ على النصارى، إلا إذا ثَبَت
أنها منحولةٌ" ص200 - هـ 9".



والحقيقةُ أنه لا تعارضَ ألبتةَ بين هذه
الآيةِ وما يَتلُوها من آياتٍ، وبين تسفيهِ القرآنِ لشركِ النصارى
واعتقادِهم بألوهيةِ المسيحِ أو بنوَّته لربِّ العالمين؛ فهذه الآياتُ
تَمدَح فريقًا بعينه من النصارى كان قد وَرَد على النبي -صلي الله عليه
وسلم- وفيه القساوسةُ والرهبانُ، وكان هذا الفريقُ من النصارى يتحلَّى:
برقَّة القلبِ، والتواضعِ للحقِّ، والإسراعِ إلى إعلانِ الإيمانِ به عند
ظهوره له، أما الآياتُ التي تُهَاجِم النصارى، فهي تَدِينُ أصحابَ القلوبِ
القاسيةِ والمعتقداتِ الباطلة المفتراة.



وهذا موقفُ القرآنِ أيضًا من اليهودِ، فهو
- على رغمِ ما قاله فيهم مما يستحقُّونه، وأعنف منه أضعافًا مضاعفةً -
حريصٌ على أن يستَثنِي منهم أهلَ الحقِّ الذين لم يَكتُموا ما جاءَ في
التوراةِ عن الرسول -صلي الله عليه وسلم- فآمَنوا به واتَّبعوه.



لكن المستشرق اللوذعيَّ لا يَستَطِيع هنا أيضًا أن يبصرَ الأمرَ الواضح الجلِيَّ، فيدَّعي أن في قولِ الحقِّ -سبحانه-: ﴿ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
﴾ [الأعراف: 159]، تناقضًا مع ما يشنُّه القرآنُ من هجومٍ على بني
إسرائيلَ " ص255 - هـ1"، عاميًا عن أن يلمَح حرف الجر "من"، الذي يدلُّ على
أن هؤلاءِ أفرادٌ مُستَثنَون من الحكمِ القرآنِي على بنِي إسرائيلَ
عامَّة.



وهو في تعليقِه على قصة نوحٍ وولدِه -في سورة "هود"-
يرى أن من المحتملِ أن تكونَ هذه القصةُ قد أوحاها إلى محمدٍ ما وَرَد في
التوراةِ عن سُكْر نوحٍ وتعرِّيه ورؤية ابنِه عورتَه، ثم لَعْنه لولدِه
وذريَّته بعد ما أفاق وعلم بما وقَع" ص320 - هـ 2".



والسؤال هو: "أفي القصةِ القرآنيةِ إشارةٌ إلى شيءٍ من هذا؟
ودعنا الآن من أن القرآنَ لا يجوِّز على الأنبياء أن يسكروا ويَنحدِروا في
سُكْرِهم إلى هذا القاع، فِعْلَ الأوباش حين تسورُ بأمخاخِهم سَورَة
الخمر، وكيف يكون الأمرُ كما قال المترجِم، ونوحٌ نفسه - كما جاء في القرآن
- قد ابتهَل إلى ربِّه متألمًا لما آل إليه مصيرُ ابنِه: ﴿ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ﴾ [هود: 45]؟



أتجد -أيها القارئ الكريم- من آصرةٍ بين هذه اللوعةِ الأَبَويَّة وبين اللعنةِ الموهومةِ التي رَمَى بها نوحٌ ابنَه وكلَّ ذريتِه من بعدِه؟ وعلى ماذا؟
على ذنبٍ -إن صحَّت هذه الخرافة الإسرائيلية، وهي بالقطع غيرُ صحيحةٍ- هو
الذي اجترحه؛ إذ لو لم يسكر على هذا النحوِ المقزِّز لما رأى ابنُه عورتَه.



ليس ذلك فقط، بل يرى "مونتيه" أن قول الله -تعالى- تعليقًا على هلاكِ قومِ نوحٍ: ﴿ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44] يتعاكَس مع قولِه -سبحانه- قبل ذلك لنوحٍ: ﴿ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾ [هود: 37].



ولا نَدرِي أين التعاكسُ بين القولينِ؛ فقومُ نوحٍ قد هَلَكوا، وعند ذلك قيل -ما معناه بلغتنا المعاصرة -: "في ألف داهية!"، إلا أن الأستاذَ ٍالعميدَ يترجِم ﴿ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44]، بما مفادُه: "ابعدوا من هنا أيها القوم الظالمون"؛ أي: إنه يستغرب كيف يكون أولئك القومُ الظالمونَ الذين هَلَكوا ما زالوا أحياءً يَقِفُون أمام نوحٍ، فيَضِيق نوحٌ بوقفتِهم تلك، ويَصِيح بهم: امشوا من هنا!




وهذا المستشرقُ
يَقرَأ قولَه -تعالى- حكايةً عن غضبِ موسى من أخيه هارونَ؛ إذ نقَض بنو
إسرائيل العهدَ حين تركَهم ومضى إلى الجبلِ، فاتَّخذوا العجلَ: ﴿ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي
﴾ [طه: 92 - 94]؛ فيَفهَم منه أن أخْذَ موسى بلحيةِ هارونَ ورأسِه هو
تحيةٌ على الطريقةِ التي كانت شائعةً في آسيا الشرقيةِ في الزمنِ القديمِ؛
رمزًا على المودَّة والإخاءِ، ثم يُحِيل القارئَ إلى النص التالي في
الأصحاح العشرين من سفْرِ "صمويل الثاني"، فقال "يوءاب لعماسا": أسالِم أنت يا أخي؟ وأمسكت يدُ "يوءاب" اليمنى بلحيةِ "عماسا" ليقبِّله، جاعلاً من هذه الإشارةِ السريعةِ في قصةِ "يوءاب" و"عماسا" - لا أدري كيف، ولا على أي أساسٍ؟ - طريقةً في التحيةِ كانت شائعةً في آسيا الشرقيةِ.



ولا نَدرِي ما حكايةُ آسيا الشرقيةِ هذه! ثم فلتكن إشارةُ التوراةِ ما تكونُ، فأيُّ عَلاقةٍ بينها وبين ما جاء في القرآنِ من أن موسى قد أخَذ بلحيةِ هارونَ ورأسِه؟ أمعنى هذا أن هارونَ حين قال له: ﴿ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ﴾ [طه: 94]، كان يَطلُب منه ألا يحيِّيَه؛ لأنه هو الغضبانُ من موسى لا العكس.



ولكن لماذا؟

سنَفتَرِض جدلاً أن هذا النص غيرُ واضحٍ، أفلم يقرأ هذا المستشرقُ ما جاءَ في سورةِ الأعراف:

﴿ وَلَمَّا
رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا
خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى
الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ
أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا
تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ
﴾ [الأعراف: 150]؟



أم تراه أيضًا سيطلع علينا بأن جرَّ الناسِ بعضهم بعضًا من رؤوسِهم كان -في آسيا الشرقية في الزمنِ القديمِ- دلالةً على شدَّة الحبِّ؟ أليس من الحبِّ ما قتل؟




لا جرم إذًا أن يقول: إن قوله -تعالى-: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ
﴾ [الأنبياء: 34]، صعبُ الفهمِ؛ ذلك أنه يَرَى أن هذه الآيةَ ربما كانت
منحولةً، وأنها على أيَّة حالٍ لم تسلَم من العبثِ، ومعناها يصعبُ الوصولُ
إليه، وفيم كلُّ هذا؟ لقد اكتَشَف أن هذه الآيةَ تضادُّ العقيدةَ القرآنيةَ التي تقرِّر أن البشرَ يخلَّدون في الجنةِ أو في النارِ.



ليس هذا فقط، بل إنه من حَيرتِه البالغةِ أمام هذه الآية يتساءَل: أيقصدُ محمدٌ أن يقولَ: إن الله قد احتَفَظ له بمكانٍ خاصٍّ في الحياةِ الأبديةِ؟ يشير بهذا إلى الجزءِ الأولِ من الآية.



ثم يستمرُّ قائلاً: "يَبدُو أن النبِيَّ كان يَجهَل ما تقوله التوراةُ عن "إخنوخ" من أنه سار مع الله إلى آخرِ عمرِه، ثم اختفى لأن الله أخَذه".



لكن كيف
كان يَجهَل النبي -صلي الله عليه وسلم- هذا يا ترى، وهو متَّهمٌ من هؤلاءِ
المستشرقينَ بأنه كان يقرأ هذه التوراة ويسرق منها؟
ما علينا، إنما السؤالُ هو: ما عَلاقة هذا بذاك؟ وما وجهُ المقارَنةِ بين "إخنوخ" - الذي اختفى لأن الله أخَذه - وبين إعلان القرآنِ أن محمدًا سيموتُ، مثَله مَثَلُ البشرِ جميعًا؟ ثم
يُضِيف هذا المستشرقُ أن النبي -صلي الله عليه وسلم- فيما يبدو، لم يكن
على درايةٍ بما جاءَ في التوراةِ [الملوك الثاني 11] عن رفع إيليا للسماء
"ص449 - هـ 1 ".



يريدُ أن يقولَ إن النبي -صلي الله عليه
وسلم- إن أراد أن يدَّعي أن الله قد احتَفَظ له بمكانٍ خاصٍّ في الحياةِ
الأبدية، فها هو ذا "إيليا" قد رفَعه الله إليه، يعني أنه خالدٌ أيضًا عند الله، فهل قال القرآنُ: إن محمدًا -صلي الله عليه وسلم- خالدٌ، وغيرَه من الناس ميِّتون؟
قد يَرَى بعضٌ أن من تضييعِ الوقتِ مناقشةَ مثلِ هذا الكلامِ، ولكن ما
حيلتُنا وهؤلاءِ الناسُ هم أئمةُ قومِهم في فهمِ الإسلامِ؟ يقولون فيسمعون
لقولِهم، إن هذا المستشرقَ قد أثار معركةً حاميةَ اللهيبِ في غير طائلٍ،
فأدنى إنسانٍ حظًّا من الفهمِ لا يفوتُه هنا أن الله يُعلِن أن الناسَ
جميعًا - محمدًا وقومَه وسابقيهم واللاحقين - ميِّتون.



أما خلودُ الجنةِ والنارِ، فهذا موضوعٌ
آخرُ لا تتعرَّض له الآية ُالكريمةُ بشيءٍ، وهو على كل حالٍ لا يتحقَّق إلا
بأن يموتَ الإنسان أولاً، ثم يُبعَث ليخلَّد.



وانظر أيضًا
هذه الآيةَ التي يردُّ فيها ربُّ العزةِ على اعتراضاتِ الكفَّار بأن
الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان يَأكُل الطعامَ ويَرتَاد الأسواقَ،
وعلى اقتراحِهم عليه - إن كان صادقًا - أن يُلقِي الله إليه كنزًا،أو تكونَ
له جنةٌ يأكلُ منها، فيقولُ -سبحانه-: ﴿ تَبَارَكَ
الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا
﴾ [الفرقان: 10]، فما الذي يفهمُه ذوو العقولِ من قوله -تعالى-: ﴿ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ ﴾؟ أليس المقصودُ: "خيرًا مما يَقتَرحُونه عليك من كنزٍ يُلقَى إليك، أو جنة تأكُل منها؟ "، بيدَ أن صاحبَنا يَفهَمُها هكذا: "خيرًا من جميعِ الأموالِ التي يُمكِن أن يُعطِيَكها الناسُ" ص488 - هـ 3".



أيُّ ناسٍ؟ وأيُّ أموالٍ؟ أليس ذلك أمرًا مخجلاً؟




وتأمَّل كيف يوجِّه ضميرَ المخاطَبين في قوله -تعالى-: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ
[فاطر: 39]؛ إذ يَرَى أن المقصودَ بالخطابِ هنا هم القادةُ الدِّينيُّون
من كلِّ أمةٍ "ص586 - هـ 2"، مع أن الآيةَ قد وَرَدت في سياقِ الحديثِ عما
سيَلقَاه الكفَّار في نارِ جهنَّم، فلا هم بمَقضيٍّ عليهم فيموتوا
ويستريحوا، ولا عذابُها بمخفَّف عنهم.



فإذا كان لا بدَّ أن تكونَ الآيةُ موجَّهة
إلى ناسٍ بعينِهم، فهم هؤلاءِ الكفرةُ الذين جعلهم الله خلائفَ في الأرضِ،
فلم يَقُومُوا بالأمانةِ التي حملها الإنسانُ؛ فاستحقُّوا عذابَ الجحيمِ،
وبخاصَّةٍ أن الآيةَ تَقتَصِر على إنذارِ الكفَّار ولا تتحدَّث عن الغفرانِ
الإلهي، مثلما تفعل الآيةُ الأخرى المشابهةُ في سورة "الأنعام"[آية 165]، التي تتوجَّه إلى الناس جميعًا، ومن ثَمَّ تهدِّد بالعقابِ السريعِ، وتبشِّر بالغفران والرحمة في آنٍ.



أما حكايةُ القادةِ هذه، فليست إلا من اختراعِ المترجِم.



أما قاصمة الظهرِ، فهي تفسيرُ المترجِم لقوله -تعالى-: ﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ﴾ [الصافات: 49]، بأنه تشبيهٌ للعيونِ بالبَيْضِ "ص599 - هـ 1".



إن الآية لا تتحدَّث ألبتةَ عن العيونِ،
بل عن الحُورِ العِين، فهن المشبَّهات إذًا بالبيضِ المكنونِ، الذي يفسِّره
المترجِم: "بأنه "بَيضٌ من النوع الفاخر": "des oeufs de choix ".



ومع ذلك
فلنغضَّ الطرفَ عن هذا، ولنركِّز القولَ على فسادِ الذوقِ الذي يرى أن
العيونَ الجميلةَ يُمكِن تشبيهُها بالبَيضِ، فهل مَن يَستَطِيع أن يتخيَّل
عينًا تشبهُ البَيضةَ، إلا أن تكون عينًا جاحظةً قد ذهبت حدقتُها ولم يبقَ إلا بياضُها؟ وهل هذه إلا عيونُ بعضِ العميانِ؟ وكأن هذا الخلطَ غيرُ كافٍ، فنَجِد المترجِم يؤكِّد أن تشبيهَ العيونِ بالبَيضِ موجودٌ في الشعرِ الشرقي.



نعم الشعر الشرقي، هكذا بإطلاق! يا لله لهذا الجهلِ الذي لا يَعرِف الحياءَ! تُرَى أين ذلك الشعرُ إلا في عقولِ المخبولينَ؟




إنني في اختياري لهذه الأخطاء إنما
أتعمَّد أن أختارَها من ترجمةِ مستشرقِنا للآيات الشديدةِ الوضوح، وأكرِّر
أني أَكتَفِي بأمثلةٍ قليلةٍ جدًّا جدًّا من هذه الأخطاءِ.



أيَرَى القارئُ مثلاً صعوبةً في معرفةِ أن النصفَ الأوَّل من سورةِ "الواقعة"يتحدَّث عن طوائفَ من الناسِ ثلاثٍ يومَ القيامةِ: هم السابقون المقرَّبون، وأصحابُ اليمينِ، وأصحابُ الشمالِ؟
ذلك واضحٌ تمام الوضوح، وواضحٌ مثله أن السابقينَ المقرَّبين سيَكُونُون
ثلَّة من الأولينَ وقليلاً من الآخرينَ، إلا أن المترجِم يَضطَرِب اضطرابًا
مضحكًا لا مسوِّغ له، فيقولُ: إن الذين سيكونونَ ثلَّة من الأوَّلين
وقليلاً من الآخرينَ، إنما هم أصحابُ اليمينِ؛ إذ هو لا يَفطِن إلى
الطائفةِ الأولى، طائفةِ السابقين المقرَّبين" ص726 - هـ 1".



من أجل ذلك، فعندما يَصِل إلى قولِه -تعالى-: ﴿ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ *... * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ﴾ [الواقعة: 27 - 40]



يَرَى في الكلام تناقضًا؛ إذ كيف يصحُّ أن يكونَ ﴿ أَصْحَابُ الْيَمِينِ ﴾ مرَّة ثلةً من الأولينَ وقليلاً من الآخرينَ، ومرَّة ثانيةً ثلةً من الأولينَ وثلةً من الآخرينَ؟ ثم يتساءل: أثَمَّة خطأٌ من الناسخِ؟ ويُجِيب: محتملٌ جدًّا "ص727 - هـ 9".



وإننا - بدورِنا - لنتساءلُ: ألا يعرفُ مثلُ هذا المستشرقِ كيف يراجِع نفسَه - ولو مرَّة - قبل أن يرمِي بهذه الأحكامِ المتهوِّرة؟




ومثالٌ آخرُ على هذا الفهمِ العجيبِ، هو: تفسيرُه لقولِه -تعالى-:﴿ هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ
كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
﴾ [الجمعة: 2، 3]؛ فالأميُّون عنده هم الوَثَنِيُّون، والكتاب هو التوراةُ، ومن ثَمَّ فالكلامُ عن اليهودِ.



أما قولُه: ﴿ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴾ [الجمعة: 3]، فهو عبارةٌ غامضةٌ معترَضةٌ، ربما تُشِير إلى دخولِ اليهودِ في الإسلام، ثم يَختِم هذه التخبُّطات بقولِه: "إن المعنَى قد يَكُون كالآتِي: إذا كان ثَمَّة يهودٌ لم يَدخُلوا الدينَ الجديدَ، فإن يهودًا آخرينَ قد قَبِلوه" ص753 - هـ 5 – 6".



ويتعجَّب الإنسانُ من هذا المستشرقِ الذي يرى أن الآيةَ الواحدةَ تُشِير في الوقتِ ذاتِه إلى الوثنينَ واليهودِ، ولا يَعرِف أن ﴿ لَمَّا
﴾ تَعنِي أن الفعلَ التالِي لها لم يتحقَّق بعدُ، على عكسِ ما فَهِم هو من
أنها تُشِير إلى دخولِ طوائفَ من اليهودِ فعلاً في الإسلامِ.



إن الآيةَ مشرقةُ المعنَى تمامًا، وهي
تقرِّر أن الله قد بَعَث من العربِ رسولاً يعلِّمهم الكتابَ وما فيه من
حكمةٍ، بعدَ أن كانوا في ضلالٍ من قبلُ مبينٍ، ويعلِّم أيضًا أجيالاً سوف
تَلحَق بهم في الإيمانِ به فيما يُستَقبَل من الزمانِ.



وآخرُ ما أحبُّ أن أَختِم به تفسيراتِ هذا المترجِم المُضحِكة، هو تفسيرُه لكلمةِ "رَجيم
التي كثيرًا ما يَصِف بها القرآنُ الشيطانَ، إنه يَرَى فيها إلمامًا إلى
شريعةِ الرَّجمِ في الحجِّ؛ فالشيطانُ في نظرِه رجيمٌ؛ لأن الحجَّاج
يَرجُمُونه بالحجارةِ، ويَعْمَى عن أن القرآن يَحكِي قولَ الله -عز وجل-
للشيطانِ في بَدْءِ الخَلْقِ عندما أمر ملائكتَه أن يَسجُدوا لآدمِ،
فَسَجدوا إلا إبليس: ﴿ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾ [الحجر: 34].



فالشيطانُ إذًا "رجيمٌ"
منذ البَدْءِ، وليس لأن الحجَّاج يَرجُمُونه إحياءً -كما يقولُ- لذكرى
إبراهيمَ -عليه السلام- حين أخَذ يَرجُمُه بالحجارةِ؛ لأنه كان يُحَاوِل
إغراءه بعصيانِ ربِّه وعدمِ التضحيةِ بابنِه إسحاقَ! "ص822 - هـ 13".



ترى ما الذي كان المترجِم سيَخسَره لو كان اكتَفَى بالترجمةِ، ولم يتدخَّل فيما لا يَستَطِيع الاضطلاع به؟ ثم إنه لم يكتفِ بإثباتِ هذا التعليقِ مرَّة واحدةً، بل سجَّله بطريقةٍ مطَّردةٍ في كلِّ مرةٍ يأتي فيها ذكرُ الشيطانِ الرَّجِيم.




• • •


القضيةُ الثانية التي تُثِيرها هذه الترجمةُ، هي اتِّهامُ هذا المستشرقِ للقرآنِ بوقوعِ العبثِ في نصه:

وقد مرَّ بنا كيف يُسَارِع في كلِّ مرةٍ
-لا يُسعِفه فيها الفَهم- إلى اتِّهام النص القرآنِيِّ بوجودٍ خطأ أو
أخطاءٍ ترجِع إلى النسَّاخ، على أنه في مواضعَ أخرى يرجم - بلا أدنى
تثبُّتٍ، وبلا دعامةٍ من أوهى دليل - بأن هذه الآيةَ أو تلك الآياتِ قد
سقَطَت من النص أو لم تكن فيه ثم أُضِيفت إليه، فهو -على سبيلِ المثالِ-
يرى أن قولَه -سبحانه-: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة: 106]، وكذلك قولَه -عزَّ من قائلٍ-: ﴿ وَإِذَا
بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

﴾ [النحل: 101]، ربما لم يكونا موجودَينِ في الأصلِ، بل أضَافَهما - فيما
بعدُ - العلماءُ المسلمون، الذين اختَرَعوا نظريةَ الناسخِ والمنسوخِ؛
لتسويغِ ما فيه من آياتٍ متضارِبةٍ" ص91 - هـ 1".



هكذا بجرأةٍ مستهترةٍ بغير أن يكلِّف نفسَه أن يوردَ ولو دليلاً واحدًا، أيَّ دليلٍ.



ولا أَدرِي ما وجهُ الغرابةِ في أن يَمضِيَ الدينُ الجديدُ بأتباعِه خطوةً خطوةً في مدارجِ تربيَّتِهم وترقيتِهم؟ ومثالُ الخمرِ وتحريمها على درجاتٍ هو أوضحُ مثالٍ لهذا التطورِ الذي يَستَتبِع في جانبٍ منه وجودَ ناسخٍ ومنسوخٍ.



وفي تعليقٍ له على قولِه -تعالى-: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾، في الآيتين التاليتين: ﴿ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ [آل عمران: 87، 88]، يقولُ: "إن المقصودَ أنهم رازحونَ تحت اللعنةِ الإلهيةِ" - حتى الآن معقول، ثم يضيف قائلاً -: "ومن الممكنِ كذلكَ، أن آيةً عن النارِ كانت موجودةً هنا ثم سَقَطت" ص139 - هـ 5 ".



ذلك أنه يعزُّ عليه أن يَجِد عبارة ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾، من غيرِ أن تَسبِقَها كلمةُ

"النار" أو "جهنَّم"، كما هو الحال في آيات قرآنيةٍ أخرى، مع أن المعنى واضحٌ، وقد شَرَحه هو نفسُه.



كذلك يدَّعِي أن الآيتينِ [65 – 66 من سورة "الأنفال]: ﴿ يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ
﴾ [الأنفال: 65، 66]، هما - فيما يبدو - روايتانِ لآيةٍ واحدةٍ كانت موجودةٍ وضاعت.



والسؤال: أين؟ ولماذا؟
ثم كيف تكون هاتانِ الآيتانِ اللتانِ تصوِّران ما كان منتظرًا من
المسلمينَ في أوائلِ اصطدامِهم بجحافلِ الشركِ حين كان عددُهم قليلاً
وظروفُهم صعبةً، ثم لما عزَّت شوكةُ الإسلامِ وكَثُر جنودُه خفَّف الله
عنهم، وإن ظلَّ يُرِيد منهم أن يكونَ أحدُهم في صبرِه وطاقتِه باثنينِ من
الكفَّار - هما في الأصلِ آيةٌ واحدةٌ؟




ويبلُغ بمستشرقِنا تهوُّرُه أن يؤكِّد أن قصةَ شُعيبٍ في سورةِ "هود"
يَنبَغِي منطقيًّا أن تَتلُوَ قصةَ صالِحٍ -عليهما السلام- وهو ما يُفِيد -
حسبَ منطقِه الفريدِ في عبقريتِه - أن قصةَ إبراهيمَ ولوطٍ -عليهما
السلام- ليس مكانَها هناك بين القصتينِ المذكورتينِ، لماذا؟
لأن الآيةَ التي تذكر سلسلةَ الأممِ التي أَهلَكها الله قبلَ شعيبٍ -
والتي يذكرُهم بها شعيبٌ عسى أن يتَّعِظوا ويطرحوا عنادَهم وكفرَهم - ليس
فيها أدنى ذكرٍ لقصةِ إبراهيمَ؛ إذ لا تشير إلا إلى نوحٍ وهودٍ وصالحٍ،
وهذا يدلُّ على أن الآياتِ التي تَحكِي قصةَ إبراهيمَ ولوطٍ لم تكن في
الأصلِ جزءًا من هذه السورةِ" ص314 - هـ 1".



فلنأتِ إلى الآيةِ التي يدَّعي هذا الرجل أنها لا تَخلُو من كلِّ ذكرٍ لإبراهيمَ، وقد تعمَّد أن يقولَ "إبراهيم"، لا "لوط
مع أن القصة تدورُ في الأساسِ حولَ إهلاكِ قوم لوطٍ، وجاء ذكرُ إبراهيمَ
فيهما بمناسبةِ مرورِ الملائكةِ به، وإخبارِهم إيَّاه أنهم مُرسَلون إلى
القضاءِ على أولئك القومِ؛ فهي تقولُ على لسان شعيبٍ: ﴿ وَيَا
قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ
قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ
مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ
﴾ [هود: 89].



إذًا فالآيةُ تذكُر أيضًا لوطًا، بل
تُفرِده وقومَه في جملةٍ على حدةٍ؛ لأنهم كانوا أقربَ الهالكينَ إلى أقوامِ
نوحٍ، وهودٍ، وصالِحٍ.



فأين هذا من ادِّعائه: أنها لا تذكُر سوى نوحٍ وهودٍ وصالحٍ؟
هذا ما يقولُه الكاتب في الهامشِ الذي جعَله تمهيدًا للسورةِ، فإذا بلَغ
هذه الآيةَ الأخيرةَ التي يبرزُ فيها اسمُ لوطٍ وقومِه بروزًا شديدًا،
أكَّد أن عبارةَ: ﴿ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ
﴾، هي عبارةٌ أضيفَت في وقتٍ لاحقٍ بقصدِ التغطيةِ على ما في النص من
تناقضٍ كما بيَّنه في الهامشِ التمهيدي المشار إليه" ص326 - هـ 3"، إن قصةَ
لوطٍ عنده هي قصةٌ مدسوسةٌ على السورةِ، لماذا؟
لأنه لم يردْ للوطٍ ولا لقومِه ذكرٌ على لسانِ شعيبٍ، لكن شعيبًا قد ذكر
لوطًا وقومَه! فلا يكونُ جوابُ هذا المستشرقِ إلا أن هذه جملةٌ لم يَقلْها
شعيبٌ، بل دسَّها المسلمون -فيما بعدُ- للتغطيةِ على التناقضِ الموجودِ في
السورة، ولكن أيُّ تناقضٍ؟ لا جواب.



فلنتابعِ المترجِم، ولنسقِط هذه الجملةَ من الآية المذكورةِ، فكيفَ ستكونُ تقفيةُ الآيةِ؟




إن الآيةَ في هذه الحالةِ ستَنتَهِي بكلمة "صالحفهل يا تُرَى تَنسَجِم هذه مع بقيةِ فواصل السورة؟

إن مَن له أدنى حسٍّ بموسيقا الفواصل القرآنية، ليَجزِم بأنها ليست فقط ناشزةً بين فواصلِ سورةِ "هود
بل بين فواصلِ القرآنِ كلِّها، ثم إن هذه القصصَ الأربعَ قد وَرَدت في
ثلاثةِ مواضعَ أخرى من القرآن على الأقلِّ بهذا الترتيب السردي [الأعراف 59
- 93، والحج 42 - 44، والشعراء 105 - 191]، فلِمَ سكَت المترجِم في هذه المواضعِ ولم يعقِّب؟ وأين كانت تشكيكاتُه واتهاماتُه؟




وهو في تعقيبِه على الآية التاليةِ: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ
﴾ [الكهف: 50]، يقول: إن هذه هي المرةُ الوحيدةُ التي يُقَال فيها عن
إبليسَ إنه من الجنِّ، ثم يَمضِي مؤكدًا ألا مشاحةَ في أن هذه غلطةٌ من
الناسخِ ترجِع إلى المخطوطةِ الأولى للقرآنِ؛ لأن العبارةَ - مع وصفِ
إبليسَ بأنه من الجنِّ - تُصبِح في رأيه غيرَ مفهومةٍ.



إن الله -كما يقرِّر هذا المستشرقُ- قد أصدر أمرًا للملائكةِ، فعَصَى الأمرَ واحدٌ فقط هو إبليسُ،" ص409 - هـ 3 ".



يُرِيد أن يقولَ:
إن الأمرَ كان صادرًا للملائكةِ، فمعنى عصيانِ إبليسَ أنه واحدٌ منهم؛ إذ
كيف يَعصِي أمرًا لم يكن ضمنَ المقصودين به؟ فهل صحيحٌ أن عقيدةَ القرآنِ
في إبليسَ - الذي هذا المستشرقُ واحدٌ من تلامذتِه النجباءِ - هي أنه
مَلَكٌ من الملائكةِ؟ إن الآيتينِ [11 – 12 من سورة الأعراف] تلقيانِ ضوءًا
على هذه المسألةِ، فماذا تقولانِ؟ لنقرأ: ﴿ وَلَقَدْ
خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ
اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ
السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ
﴾ [الأعراف:11، 12].



إن إبليسَ هنا يتبجَّح بأنه مخلوقٌ من نار، وانظر أيضًا: سورة ص [71 – 76]، وفي سورة "الحجر" [26 - 27] نقرأ: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ﴾ [الحجر: 26، 27]، وانظر كذلك سورة "الرحمن" [14 – 15].



فإذا كانت سورتا "الأعراف" و "ص" تَقُولانِ إن إبليس مخلوقٌ من نارٍ، وكانت سورتا "الحجر" و"الرحمنِ" تقرِّران أن النارَ هي العنصر الذي خُلِق منه الجنُّ، فما معنَى ذلك إلا أن إبليسَ يَنتَمِي إلى الجنِّ لا إلى الملائكةِ؟ وهناك سِمَةٌ أخرى فارقةٌ بين الملائكةِ وإبليسَ، فبقيةُ آيةِ سورةِ "الكهف"
- التي يدَّعي المترجِم أن فيها غلطةٌ من الناسخِ - تحذِّر البشرَ من
إبليسَ وذريتِه؛ أي: إن إبليسَ بنص القرآنِ له ذريةٌ،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
المستشرق "مونتيه" وحديثه عن القرآن (2)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» المستشرق "مونتيه[1]" وحديثه عن القرآن (1)
» المستشرق "مونتيه" وحديثه عن المضمون القرآني (2)[*] (تكوُّن القرآن، محمد والقرآن)
» المستشرق "مونتيه" وحديثه عن المضمون القرآني*
» المستشرق "بلاشير" وحديثه عن القرآن (4)
» المستشرق " بلاشير " وحديثه عن القرآن (3)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: