اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 المستشرق " بلاشير " وحديثه عن القرآن (3)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99285
المستشرق " بلاشير " وحديثه عن القرآن (3) Oooo14
المستشرق " بلاشير " وحديثه عن القرآن (3) User_o10

المستشرق " بلاشير " وحديثه عن القرآن (3) Empty
مُساهمةموضوع: المستشرق " بلاشير " وحديثه عن القرآن (3)   المستشرق " بلاشير " وحديثه عن القرآن (3) Emptyالخميس 9 مايو 2013 - 17:11

المستشرق " بلاشير " وحديثه عن القرآن (3)


رأينا في الحلقتين السابقتين؛ كيف أن المستشرق "بلاشير" لا يَحتَرِم أمانةَ العلمِ فيما يختصُّ بالنص القرآني الذي بين يديه؛ وشاهدنا عبَثه - أحيانًا كثيرة - بتقسيمِ الآياتِ على حسبِ هواه؛ وضربنا على ذلك الأمثلة والبراهين؛ والآن إلى اجتهاداتِه النَّحْوِية والأسلوبية.


إن هذا المستشرقَ يدَّعي أن آيةَ: ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148]، قد أُقحِمت في موضعِها، بسببِ فهمِ المسلمينَ لكلمةِ ﴿ وِجْهَةٌ ﴾ بمعنى "قِبْلة"، فأُقحِمت هذه الآيةُ من ثَمَّ بين الآياتِ التي تتَناوَلُ موضوعَ القِبْلَة، وفي رأيه أن هذه الكلمةَ تَعنِي "وِجْهَةَ الحياةِ" ص49 - هـ الآية 143".


فلنَفتَرِضْ أن تفسيرَه هو التفسيرُ الصحيحُ، فأين النبوُّ عن السياقِ هنا؟

ألا تتحدَّث السورةُ من أوَّلِها، وبخاصة عند قوله - تعالى -:﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا ﴾ [البقرة: 109] - عن هذا الاختلافِ بين البشرِ: كفَّارًا، وأهلَ كتابٍ، ومنافقينَ، ومؤمنينَ، وأن على المسلمين أن يشمروا عن ساعد الاجتهاد ويعملوا على إرضاء ربهم باستباق الخيرات؟ فأين النبو عن السياق؟ وأين الدليلُ من ثَمَّ على أن الآيةَ مقحمةٌ في موضعِها هذا؟


وهو يَزعُم أن الأسلوبَ من أولِ قولِه - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 153]، قد تغيَّر، وأن الآياتِ قد أصبَحَت أقصرَ "ص50 - هـ الآية 148".



والحقيقةُ أن الأسلوبَ عند هذه الآيةِ لم يتغيَّر، فالآياتُ من أوَّلِ السورةِ تتراوحُ بين الطولِ والقصرِ: فآيةُ: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ [البقرة: 102]، تَبلُغ نحوَ سبعةِ أسطرٍ "في طبعة المصحف ذي الخمسةَ عشرَ سطرًا في الصفحةِ"، وآيةُ: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]، لا تَكَادُ تَستَغرِق سطرًا واحدًا، وليلاحِظ القارئُ الكريمُ أن هذه الآيةَ الأخيرةَ تَسبِقُ الآيةَ التي يدَّعي هذا المستشرقُ أن الآياتِ عندها قد أصبحت أقصرَ.



والتي هي - مع ذلك - أطولُ من هذه الآيةِ ومن آياتٍ أخرى سابقةٍ، كآيةِ:

• ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ [البقرة: 138].



• ومن آية: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ﴾ [البقرة: 131، وهي أقصر من هذه].



ومثلها في القصرِ:

• آية: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 117].



• وآية: ﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ [البقرة: 99].



وآية: ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ [البقرة: 88].



وأقصر من ذلك:

• آية: ﴿ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ﴾ [البقرة: 77].



• وآية: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾ [البقرة: 56].



• وآية: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ﴾ [البقرة: 12].



ثم فلنفتَرِض أن ملاحظتَه صحيحةٌ، فما دلالتُها؟

وهو يَرَى أن آيةَ: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 158]، في موضعها الذي هي فيه تُثِير مشكلةً؛ إذ كان من المتوقَّعِ - في نظرِه - أن تكونَ مع الآياتِ التي تتعرَّض لشعيرةِ الحجِّ، وهي (الآية 196 وما بعدها) " ص50 - هـ الآية 153".



والذي أحبُّ أن أعلِّق به هنا:

أن الآياتِ من أوِّل قولِه - تعالى -: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ﴾ [البقرة: 125]؛ أي: من قبل آية: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ... ﴾ بثلاثٍ وثلاثينَ آيةً حَتَّاها تتحدَّث عن الكعبةِ، ومقامِ إبراهيمَ، وأنه وإسماعيلَ - عليهما السلام - قد بَنَيَاها ليَطُوفَ بها الحجيجُ... إلخ، وأن الصلاةَ بعد التحوُّل عن بيتِ المقدِس يَنبَغِي أن تكونَ إليها؛ فأنت تَرَى أن ذكرَ التَّطوَافِ بالصفا والمروة هنا - وهو داخلٌ في الحجِّ والعمرةِ - غيرُ نابٍ عن السياقِ.



وهو يَقتَرِح أن تُقرأ ﴿ يَنْعِقُ ﴾ في قوله - تعالى -: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ﴾ [البقرة: 171]، بالبناء للمجهولِ "يُنْعَقُ "على اعتبارِ أن التشبيهَ هنا هو بين الذين كفروا والبهائمِ، زاعمًا أن تفسيرَ البيضاويِّ للآيةِ يزكِّي هذا الاقتراحَ، " ص52 - هـ الآية 166 ".



والحقيقةُ أنْ ليس في كلامِ البيضاويِّ في شرحِ هذه الآية ما يعضِّد هذا الاقتراحَ، ولا من بابِ التوهُّم البعيدِ؛ فالبيضاويُّ يقدِّر مضافًا محذوفًا، فيكونُ معنى الكلامِ: "ومَثَل داعِي الذينَ كَفَروا كمثلِ الذي يَنعِق..."، كما أنه يُورِد تفسيرًا آخر، مفادُه: أنهم في دعائهم الأصنامَ كمثلِ الذي ينعقُ بالبهائمِ، فالمشبَّه بالبهائمِ هنا هو الأصنامُ، ولكنه يُسارِع، فيقولُ: "ولكن لا يُساعِد على هذا التفسيرِ قولُه: ﴿ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ﴾؛ لأن الأصنامَ لا تَسمَع، إلا أن يَجعَل ذلك من بابِ التمثيلِ المركَّب"، فأين كلامُ البيضاويُّ الذي يزكِّي هذا الاقتراحَ العجيبَ؟ ثم إن اللغةَ تَعرِف: "فلان يَنعِق ببهائمِه" مثلاً، ولا تَعرِف: "فلانٌ يَنعِق بهائمَه بالدعاءِ"، حتى يُمكِن أن يُبْنَي الفعلُ على المجهول كما يقترح هو.



إن هذه رطانةٌ أعجميةٌ، والقرآنُ لم يَنْزِل برطاناتِ المستشرِقينَ.



ثم كيف غَفَل هذا الإحصائيُّ عن إحصاءِ الآياتِ التي تَبتَدِئ بـ "مثلهم" "كَمَثَل..."؛ ليَرَى بأمِّ عينيه أن ذلك أسلوبٌ قرآنِيٌّ؟ فالله - سبحانه - يقولُ مثلاً في هذه السورة في صفة المنافقين: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * ... * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [البقرة:17 - 19]، وبالطبعِ لم يَقصِد إلى تشبيهِهم هم أنفسِهم بالصيِّب؛ أي: "المطر"، بل إني لأَرَي أنه لم يَقصِد تشبيهَهم بالذي استَوقَد نارًا؛ لأن الذي استَوقَد نارًا - فيما أرى - هو الرسولُ - عليه السلام - والذين ذَهَب الله بنورِهم وحَرَمهم من الإبصارِ هم المنافقون.



وعلى ذلك، فلا حاجةَ للقولِ بالالتفاتِ في الضمير "هم" في "نورهم".



وفي هذه السورةِ أيضًا يقولُ المولى - جلَّ شأنُه -: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ... ﴾ [البقرة: 261]، وليس معقولاً أن يكونَ التشبيهُ معقودًا بين ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، وبين "الحبَّة التي أَنبَتت سبعَ سنابلَ"، بل هو معقودٌ بين إنفاقِهم وبين هذه الحبَّة المبارَكة.



ومثل ذلك يقالُ في الآيةِ الكريمةِ التاليةِ: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ﴾ [البقرة: 265].



وفي الآية المباركةِ الآتيةِ: ﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ﴾ [آل عمران: 117]؛ إذ ليس المقصودُ هو تشبيهَ ما يُنفِقون في الدنيا بالريحِ التي فيها صِرٌّ، بل القولُ بأن ما يُنفِقُونه هو الحرثُ الذي أهلَكَته هذه الريحُ، وهذه يُقَابِلها كفرُهم بالله ومحاربتُهم لدينِه ورسولِه...، وهكذا مما لا يَدخُل في طوقِ الإحصائيين؛ فإن المسألةَ أوسعُ من مجرَّد الإحصاءِ الذي لا يُحسِن كثيرٌ من هؤلاءِ المستشرقين غيرَه، إنها مسألةُ الذوقِ الأدبِيِّ، والبصرِ بتركيبِ الكلامِ البليغِ.



إن كلَّ اعتراضاتِ "بلاشير" على أسلوبِ القرآن الكريمِ، وتركيبِ جُمَلِه؛ لَتَدُلُّ دلالةً قاطعةً على أن فهمَه وذوقَه في هذا المجال لم يتجاوزا المرحلةَ الأوليَّة؛ فهو يُخَطِّئ كلَّ عِبارةٍ لم يَجْرِ ترتيبُ الكلامِ فيها على العادي المألوفِ جدًّا، الذي يأتي فيه مثلاً: الفعلُ أولاً، وبعده فاعلُه، ثم المفعولُ، ثم المفعولُ المطلَق... وهكذا. وإذا كان هناك حوارٌ مثلاً، ثم قَاطَع أحدُ المتحاورِين الآخرَ، فلا بدَّ أن يقالَ بصريحِ العبارةِ: "وَقَاطَعه قائلاً:... "، فإذا جاء الأسلوبُ خاطفًا، أو تغيَّر ترتيبُ الكلامِ لمقتضًى بلاغِيٍّ ضَرَب البروفسور الفَرَنسي أخماسًا في أسداس، ثم عاد فاتَّهم القرآنَ بالخطأ.



إنه مثلاً لا يَرَى أيَّة عَلاقةٍ نَحْوِية بين قولِه - تعالى -: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾ [آل عمران: 48] وما سبقه، وكان يُرِيد أن يضعَه بعد قولِه - سبحانه -: ﴿ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران 48- 45 على الترتيب]، لولا أن المشكلةَ ستَظَلُّ قائمةً هناك أيضًا.



كذلك فهو يرى أن النص القرآني الآتي:﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [آل عمران: 49]، يَنبَغِي تصحيحُه بإضافةِ هذه العبارة: "j' ai ete envoye " في أوَّله؛ ليكونَ الكلام هكذا: "وقد بُعِثتُ رسولاً إلى بَنِي إسرائيلَ: أنِّي قد جئتُكم..."؛ إذ هو يَزعُم أن السردَ القصصي ابتداءً من هذه الآيةِ لا عَلاقةَ نَحْوِية بينه وبين ما سَبَق "82 - هـ الآية 43".



والحقيقةُ أن المسألةَ أبسطُ من هذا كلِّه؛ فالكلامُ إذا حَصَرنا أنفسَنا في الآياتِ التي أمامنا مباشرة يبدأ بمخاطبةِ الملائكةِ مريمَ، قائلين:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 45 - 46]، وهنا لا تتمالكُ مريمُ نفسَها، فتُقَاطِع الملائكةَ ضارعةً إلى ربِّها مستفسرةً فزعةً: ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 47]، وبعد هذه المقاطعةِ من جانبِ مريمَ يعودُ كلامُ الملائكةِ فيتَّصِل ثانيةً: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [آل عمران: 48-49].



أظنُّ أن الأمرَ قد أضحى واضحًا وضوحَ الشمسِ الآن، ويَبقَى أن نوجِّه تركيبَ الكلامِ في الآياتِ نَحْوِيَّا: فأما قولُه - سبحانه -: ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ... قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 47]، فقد عَرَفنا أنه معترضٌ في سياقِ كلامِ الملائكة، وإذًا فقد بَانَت العَلاقةُ النَّحْوِية بينه وبين ما سَبَقه وما تلاه، أم تُرَى إيرادَ جملةٍ اعتراضيةٍ أو أكثر خطأ نَحْوِيَّا عند سادتِنا المستشرقين؟


وأما قوله - تعالى -: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ... ﴾ [آل عمران: 48]، فهو معطوفٌ على مجموعةِ الأحوالِ التي تبدأ بقوله - عز وجل -: ﴿ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ [آل عمران: 45]، وتستمرُّ هكذا: ﴿ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾، ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ﴾، ﴿ وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾، ﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾، وهي - كما ترى - أحوالٌ: بعضُها مفردٌ، وبعضُها جملةٌ فعلُها مضارعٌ، وبعضُها شبهُ جملةٍ، وصاحبُ هذه الأحوالِ جميعًا هو المسيحُ.



فأين المشكلة هنا إذًا؟

إن الأمرَ لا يَحتَاجُ إلى هذا السخفِ الذي أضافه "بلاشير" إلى النص القرآني؛ ليُصَحِّح - بزعمِه - ما فيه من خطأ؛ فإن عبارةَ ﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ ليست من كلامِ المسيح - عليه السلام - بل من كلامِ الملائكةِ كما مرَّ للتوِّ بيانه، وإنما يبدأُ كلامُ المسيحِ بُعَيدَ ذلك بـ: ﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾... إلخ"، على تقديرِ: "معلنًا لقومِه: أنِّي قد جئتُكم..."، وفي الكلامِ التفاتٌ؛ إذ انتقل الضميرُ من الغائبِ إلى المتكلِّم كما لا يَخفَى، وهي طريقةٌ قرآنيةٌ تَجِد لها شبهًا في طريقةِ الحوارِ في قَصَص "فرجينيا"، و"ولف"، وزملائها، ومَن يُشَايعُهم على أسلوبِهم في كتابةِ القصةِ.



ومن جرأةِ هذا الرجلِ أيضًا في الهجوم على القرآن وتخطئتِه تأكيدُه أن عبارةَ: ﴿ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ قَلِقَةٌ في موضعِها من قولِه - تعالى -: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97]، مع أنها - كما هو واضحٌ - بدلٌ من الناسِ، فما وجهُ الاعتراضِ إذًا؟


وهو أيضًا يَرَى أن آيةَ: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ... ﴾ [النساء: 129] تقطعُ تسلسلَ الكلامِ المتَّصِل بين الآيةِ السابقةِ والأخرى اللاحقةِ " ص124 - هـ الآية 128"، مع أن الواقعَ خلافُ ذلك؛ فإن قوله: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ﴾ [النساء: 129] - هو إشارةٌ إلى إساءةٍ أخرى من الإساءاتِ التي قد تَقَعُ من الزوجِ نحو زوجتِه، والتي ذَكَرت الآيةُ السابقةُ اثنتين منها، وهما: النشوزُ والإعراضُ، ثم تَجِيء آيةُ: ﴿ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ... ﴾ [النساء: 130] التاليةُ معقِّبةً على جميعِ هذه الإساءاتِ، التي ربَّما لا يُفلِح معها الصلحُ الموصَى به في الآيتينِ كلتيهما، فيكون التفرُّق في هذه الحالة أصلحَ من عِشْرةٍ تقوم على التنكيدِ والإيلامِ.



فالآياتُ الثلاثُ يَقفُو بعضُها بعضًا على غاية الإحكام والترابط.



ومن هذا الوادي كذلك، نفيُه وجودَ رابطٍ نَحْوِي بين آيةِ: ﴿ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، والآيةِ السابقةِ عليها: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ... ﴾ [النساء: 163]، انظر: ص129 - هـ الآية 162"، مع أنها جاريةٌ على أسلوبِ الاشتغالِ، فبدلاً من "وقد قَصَصنا عليك رسلاً من قبلُ..."، جَاءَت الآيةُ الكريمةُ على ما جَاءَت عليه.



ويُمكِن الرجوعُ إلى هذا التركيبِ في بابِ "الاشتغال".



ويَرَى النَّحْوِيون أن نصبَ الاسمِ المتقدِّم على فعلِ الاشتغالِ في مثل هذا التركيب أرجحُ من رفعِه؛ لأن الجملةَ - برغمِ بَدْئها باسمٍ - معطوفةٌ على جملٍ أخرى فعليةٍ: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا... وَأَوْحَيْنَا... وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ﴾.



والغريبُ الشاذُّ أن "بلاشير" يَرَى في تركيبِ العبارة التالية: ﴿ كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ﴾ [المائدة: 8] غرابةً وشذوذًا، قائلاً: "إنه كان يتوقَّع أن يُستخدَم ذات التركيبِ الموجودِ في الآيةِ: ﴿ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ﴾ [النساء: 135]؛ إذ يستغرب أن "يَشهَد" إنسانٌ ما على "القسطِ"، حيث يُتَرجِمها هكذا: "teimoins de lequite " "انظر: ص134 - هـ الآية 11"، وهو استغرابٌ لا محلَّ له ولا معنَى.



فمَن ذا الذي يَستَطِيع أن يَفرِضَ على غيرِه أن يستخدمَ عبارةً سَبَق له استعمالُها من غيرِ أدنى تعديلٍ فيها؟

إن القرآنَ قد يكرِّر بين الحين والآخر عبارةً استخدمها من قبلُ، وعندئذٍ قد يُورِدُها كما هي، وقد يُجْرِي عليها بعضَ التحويرِ، وهذا شائعٌ معروف، فلماذا الاستغرابُ هنا؟ وإذا كان القرآنُ قد قال في سورة النساء: ﴿ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ﴾؛ فما الذي يَمنَع أن يُعِيد هذه العبارةَ في سورةِ "المائدة" على هذا النحو الجديد: ﴿ كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ﴾؟



إن القيامَ والشهادةَ - كما تقولُ الآيتانِ - يَنبَغِي أن يكونا للهِ، وأن يتمَّا على أساسٍ من القسطِ، فعلامَ هذي الضجة الكبرى؟ علامَ؟ وربما كان الأجدى أن نتساءلَ عن السرِّ في ذلك.



ويبدو لي - والله أعلم - أن القسطَ "وهو العدل" قد قُدِّم في آيةِ سورةِ "النساءِ"؛ ليكون أقربَ إلى ما سَبَق من تحذيرِ اللهِ للمؤمنينَ من "عدم العدل" بين الزوجتين، بينما أُخِّر في آيةِ سورة "المائدة"؛ لأن تحذيرَ اللهِ - سبحانه - للمؤمنينَ من "الجَوْر" عن "القسطِ" في التعاملِ مع الأعداء، قد تلا الآيةَ ولم يَسبِقها، فأُخِّر ذكرُ القسطِ؛ ليكونَ قريبًا من ذلك.



ومستشرقُنا يجهدُ كلَّ الجهدِ في التهجُّم على القرآن والتشكيكِ في تاريخه، انظر كيف يتَّهم الآيةَ الكريمةَ التاليةَ: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ... ﴾ [الأنعام: 25]، بأنها - فيما يبدو - قد خَضَعت للتنقيحِ، ودليلُه على ذلك أنها تَختَلِف عن سابقاتِها أسلوبيًّا" ص154 - هـ الآية 125".



ولا بدَّ لِي من الاعترافِ بأني لا أَدرِي أي اختلاف أسلوبِيٍّ هذا الذي يتحدَّث عنه، وكيف عُرِف هو أن ها هنا اختلافًا في بناءِ الكلام إن كان؟

أيقصدُ أن الآيةَ أطولُ مما سَبقَها من آياتٍ؟ لكن الآيةَ السادسةَ من السورة نفسِها أطولُ منها، وأطولُ منها أيضًا الآيةُ التاسعةَ عشرةَ.



لقد سبق إلى ذهني أنه ربما قَصَد اختلافَ طولِ الآياتِ، فهذا هو قُصَارى جهدِه في فهمِ الاختلاف الأسلوبي، ولنسلِّم له أن ها هنا اختلافًا في منحى الأسلوبِ، فهل هذا دليلٌ على أن الآيةَ ربما أعيدت صياغتُها؟ ومَن ذا الذي قام بالتنقيحِ يا تُرَى؟ آلرسولُ، الذي يُحاوِل هذا المستشرقِ أن يوهِم بأنه هو مؤلِّف القرآن؟ أم الصحابة؟ أم التابعون؟ أم تابعو التابعين؟



فليكن المنقِّح من يكون، فالمهمُّ أين الدليل؟ وإذا كان القرآنُ قد مرَّ بعمليات تنقيح كما يدعي هذا المستشرق في أكثرَ من مناسبةٍ، فلماذا يا تُرَى لا يزال يَحوِي كلُّ هذا الكمِّ من الأخطاء النَّحْوِية والأسلوبية التي يأخذُها عليه؟



وهو يَعتَرِض على قولِ المفسِّرين: إن الضميرَ "هم" في ﴿ يَحْشُرُهُمْ ﴾ من قوله - تعالى -: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ﴾ [الأنعام: 128] - يعودُ على الجنِّ والإنسِ، قائلاً: "إنه إذا صحَّ هذا، يُصبِح الكلامُ بغيرِ رابطٍ حقيقي يَربِطه بما قبله" ص167 - هـ الآية 128".



ولنا هنا سؤالانِ:

فأما أولهما، فهو: إذا لم يَكُن المقصودُ بهذا الضميرِ هو معشرَ الجنِّ والإنسِ، فمَن المقصود إذًا؟

وهل ثَمَّة في الآيةِ إلا الجن والإنس يُحشَرون؟ وكيف عَمِي هذا الرجلُ عن الحوارِ في الآيةِ بين الله - سبحانه - وبين الجنِّ والإنس، وذلك عَقِيبَ قولِه: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ﴾؛ مما يدلُّ على أن الحشرَ إنما ينصبُّ على هذينِ الفريقينِ؟



أما السؤال الثاني، فهو: ألا تدورُ الآياتُ السابقة من أولِ قولِه - تعالى -: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ... ﴾ [الأنعام: 100]، مرورًا بقوله: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ... ﴾ [الأنعام: 112]، وقوله: ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ... ﴾ [الأنعام: 121] - على أن ما يَربِط شياطينَ الجنِّ وشياطينَ الإنسِ في الدنيا من عنادٍ وكفرانٍ لن يَنفعَهم شَرْوَى نقيرٍ يوم القيامة، يومَ يُحشَرون إلى ربهم، فيبكِّتهم، ويُحَاسِبهم، ويَأمُر بهم، فيُقذَفون في قرارةِ الجحيم، كما تبيِّن الآيةُ موضعُ البحثِ؟



وهذه الجرأةُ في تقطيعِ أوصالِ النص القرآني نَجِدُها في فصلِه للآياتِ التي تبدأ بقوله - سبحانه -:﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ... ﴾ [الأنعام: 151] عما قبلها؛ إذ يَضَع لها عنوانًا جانبيًّا هو "وصايا للمؤمنين" ص171 "، مع أن الكلامَ مازال موجَّهًا إلى المشركينَ الذين حرَّموا ما لم يُحرِّمه الله، وأحلُّوا ما حرَّمه، فقَتَلوا أولادَهم، وحرَّموا ظهورَ بعضِ الأنعامِ، ولحومَ بعضِها الآخرِ على الإناثِ... ثم هم بعد ذلك كلِّه يتبجَّحون قائلين: ﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 148]؛ فيقرعهم الله بقوله: ﴿ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ﴾ [الأنعام: 148]، ويتحدَّاهم أن يأتوا بأيِّ إنسان يشهدُ أن اللهَ حرَّم هذا [150]، وهنا نَسمَع صوت الحقِّ - عز وجل - صادعًا: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ... ﴾ [الأنعام: 151]، فهل يقالُ بعد ذلك كلِّه: إن الكلام هنا موجَّه للمؤمنينَ على أساس أنه وصايا لهم؟



ثم بعد أن يَنتهِيَ تَعدادُ ما حرَّم الله، يبيِّن - سبحانه - أن القرآنَ في هذه الأوامرِ والنواهي ليس بدعًا؛ فها هو ذا موسَى قد أُوتِي كتابًا فيه تفصيلُ كلِّ شيءٍ، وأن هذه التحريماتِ والوصايا قد وَرَدت في التوراة.



ثم يعقب - عز وجل - قائلاً:

﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ﴾ [الأنعام: 155 - 157].



فهذا - وما بعده - يدلُّ على أن الكلامَ هنا موجَّه إلى المشركين، ويؤكِّده أيضًا ما يتلُو ذلك من تهديدٍ في قولِ ربِّ العزةِ:

﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴾ [الأنعام: 158]؛ فتأمَّل كيف أن هذا المستشرقَ بعد ذلك كلِّه يَعْمَى عن اتجاهِ الكلامِ ولا يَدرِي لمن يساقُ.



إنني مضطرٌّ إلى القفزِ فوق كثيرٍ من الادعاءات "البلاشيرية"، وإلا فلن أفرغَ.



والآن إلى أواخرِ سورةِ "الأعراف"؛ حيث يزعم أن آيةَ: ﴿ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ﴾ [الأعراف: 161]، لا ترتبط نَحْوِيَّا بشيءٍ، وإنما هي إعادةٌ للآية [58 من سورة "البقرة"] ص195 - هـ الآية 161"، مع أن الآيةَ في هذا الموضعِ هي حلقةٌ في سلسلةِ التذكيراتِ التي بدأها الله - سبحانه - بقولِه: ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ﴾ [الأعراف: 137]، والتي يمنُّ فيها - سبحانه - عليهم بما غَمَرهم به من نعمٍ، وينبِّههم إلى ما ارتكبوه من معاصٍ برغم تتالي النُّذُر والعقوباتِ، وقد مرَّ استعمالَ "إِذْ" قبل ذلك مرتين:

• في قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ [الأعراف: 141].



• وفي قوله - سبحانه -: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ... ﴾[الأعراف: 160].



ووردت أيضًا عدَّة مراتٍ بعد ذلك:

• في قولِه - عز وجل -: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا... ﴾ [الأعراف: 164]، وفي قوله: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ... ﴾ [الأعراف: 167].



• وفي قوله: ﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ... ﴾ [الأعراف: 171].



• ثم في قوله: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ... ﴾ [الأعراف: 172]، وإن كان الكلام في الآيةِ الأخيرةِ عن بنِي آدمَ بعامَّة، وليس عن بني إسرائيلَ وحدهم، وأظنُّ أنه بعدَ كلِّ هذا التوضيحِ قد بَدَا عُوارُ مَزعَم "بلاشير".



ومن بين سقطاتِه الكثيرةِ في اتهامِه لهذه الآيةِ أو تلك من سورة "الأنفال" بأنها لا ترتبط نَحْوِيَّا بما قبلها - نَختَار هذه السقطة:

إنه يدَّعي أن قولَه - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا *... * وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا... ﴾ [ الأنفال: 45 - 46]، لا يرتبط نَحْوِيًّا بما قبله " ص207 - هـ الآية 47".



ومرَّة أخرى لا أَدرِي ماذا يَقصِد بقولِه هذا؟


أهو يُشِير إلى انتقالِ الأسلوب من الخبرِ في الآيات السابقة إلى الإنشاءِ في هاتين الآيتين؟



وهل مثلُ هذا الانتقالِ يسوِّغ اتهامَ الآيتينِ بأنهما لا تَرتَبِطان نَحْوِيَّا بما قبلهما؟



إن الآيتينِ امتدادٌ للآياتِ السابقة التي يبيِّن فيها - سبحانه - للمؤمنينَ أنه قد جَمَعهم والمشركينَ على غيرِ ميعادٍ - وإلا ما التقوا - وجَعَل النبِيَّ يَرَى عددَ المشركين في منامِه قليلاً حتى لا يَفشَل المؤمنون ويَتَنازَعوا في الأمرِ، فإذا جاءت آيتانا هاتانِ وحضَّتا على الثباتِ في قتالِ القومِ وحذَّرتاهم من التنازع والفشل حتى لا تذهبَ ريحُهم، أَفَيصحُّ أن يُقَالَ حينئذٍ: إنهما لا ترتبطان نَحْوِيَّا بما قبلهما؟ كيف ذلك؟


ومن "الأنفال" إلى "يونس"؛ حيث نتوقَّف عند محاولة "بلاشير" العثورَ على الاسمِ الظاهر الذي يعودُ عليه الضميرُ في ﴿ جَرَيْنَ ﴾ من قوله - تعالى -: ﴿ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ... ﴾ [يونس: 22]، وكأنها مشكلةُ المشاكلِ، فهو يَرَى أنه لا بدَّ من إضافة عبارةِ "هذه السفن: ces bateaux، قبل قولِه: ﴿ جَرَيْنَ بِهِمْ ﴾؛ لتجد نون النسوة في ﴿ جَرَيْنَ ﴾ ما تعود عليه، "انظر ص234 - هـ الآيتين 22 - 23 أ، ب ".



وسرُّ اضطرابِه وعجزِه هنا - وإن ظن أنه قد أتى بالذئبِ من ذيلِه - هو فَهْمه لعبارةِ: ﴿ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ﴾ بمعنى: "إلى أن تكونوا في الفلك" - ووَهْمُه أن الجملةَ تَنتَهِي هنا - وعدمُ استطاعتِه أن يُدرِك أن "الفلك" هنا جمعٌ لا مفردٌ، فلو أنه لم يَسقُط هذه السقطةَ الفاحشةَ، حين وهم أن الجملةَ تنتهي بقولِه: ﴿ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ﴾، ولو أنه لم يعاند المفسِّرين الذين شرحوا "الفلكَ" بأنها "السفنُ"؛ لما أَقحَم نفسَه في هذا المأزِق.



ومن أوَّل "يونس" إلى نهايتِها، فماذا نَجِد؟ إنه يَرَى أن آيةَ: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 103] - لا تَرتَبِط بما قبلها: لا من ناحيةِ المعنى، ولا من ناحيةِ تركيبِ الكلام. وكالعادةِ يَترُكُنا من غيرِ أن يوضِّح ماذا يَقصِد بعدمِ ارتباطِها بما قبلها من جهةِ تركيبِ الكلامِ "ص244 - هـ الآية 103".



أَيَقصِد أن الآيتينِ السابقتينِ عليها تقومانِ على جُمَلٍ إنشائيةٍ: استفهامًا، وأمرًا، بينما هي مكوَّنة من جملتينِ خبريتينِ؟ لكن هل هذا مسوِّغٌ لمثلِ هذا الحكمِ؟


إن جودةَ الأسلوبِ قد تَقتَضِي التنويعَ بين الخبر والإنشاء بألوانِهما المختلفة، أما من ناحيةِ المعنى، فإن الله - سبحانه - بعد أن هدَّد الكفَّار المعاندينَ بأنهم إن لم يُسَارِعوا إلى الإيمانِ، فإن عذابًا رهيبًا ينتظرُهم، يعقِّب على ذلك بأنه حينئذٍ سوف ينجِّي رسلَه وأولياءه، وهو معنًى شديدُ الوضوحِ.



ولأن كثيرًا من اعتراضاتِ ذلك المستشرق لا جديدَ فيها، ومن ثَمَّ فإن الردَّ عليها سيكون مجرَّد تكرير لما فات، فإننا نجدُ أنفسَنا مضطرِّين إلى أن نقفزَ فوق عددٍ من السورِ حتى نصلَ إلى الآيةِ العاشرةِ من سورة "الحجِّ"؛ حيث نجدُه يستعرضُ ذكاءه في ضبطِ بعض "الجراثيم الأسلوبية"، وهي تَنتَقِل بالعدوى من سورة "آل عمران" [ الآية 182 ] إلى سورة "الحج"؛ مما جَعَل الرسول - الذي هو طبعًا مؤلِّف القرآن في زعم "بلاشير" وأمثاله - بدلاً من أن يقولَ بعدَ: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ... ﴾ [الحج: 11]، ﴿ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [الحج: 9]: "ذلك بما قدَّمت أَيدِيهم... "، يقولُ: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ... ﴾ [الحج: 10]"انظر ص358 - هـ الآية 10 ".



وهذا السخفُ يوجِب علينا أن نتريَّث هنا قليلاً، فقد تَرجَم "بلاشير": ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ... ﴾ [الحج: 11]؛ بحيث تكون: "ومن الناسَ مَن يعبدونَ اللهَ على حرفٍ، فإن أصابَهم خيرٌ... إلخ"؛ مما جعَله يقولُ: "ذلك بما قدَّمت أيديهم"، كما لا بدَّ أن القارئ قد لاحظ.



ثم إنه لا يَقدِر على التفرقةِ بين هذا الكلام العادي وبين أسلوبٍ تتحوَّل المسألة به من خبرٍ يُحكَى إلى موقفٍ يَحدُث تحت أبصارِنا في اللحظة الراهنة، فندركه مباشرةً بدلاً من أن تتمَّ معرفتُنا به عن طريقِ الروايةِ.



وقد سَبَق أن أشرتُ إلى أن هذا الأسلوبَ يَجرِي عليه كثيرٌ من كتَّاب القصةِ في العصرِ الحديث، بعد أن مهَّده لهم قصَّاصو تيارِ الوعي.



ثم إن هذا الأسلوبَ قد استُخدِم في هذه السورةِ مرةً أخرى، وقد كان المتوقَّع أن يعلِّق "بلاشير" عليه، لكنه لم ينبس ببنت شفةٍ "انظر ترجمتَه: [للآية 22] من هذه السورة ".



ولست بحاجةٍ إلى أن أوردَ أمثلةً أخرى؛ لأبرهنَ على أن هذا أسلوبٌ قرآني أصيلٌ، لا مسألةُ عدوى كما يقول!



والملاحظ أن عبارةَ سورةِ "الحج"، هي: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ﴾.



أما عبارة "آل عمران"، فهي: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ [آل عمران: 182]؛ أي: إن الضميرَ هناك مفردٌ، وهنا جمعٌ، ولكن "بلاشير" - فيما يبدو - يُشِير إلى انتقالِ الضميرِ في الحالتين من الغَيبة إلى الخطاب.



وهو يتابعُ "باريت" في: أنه يَنبَغِي تصحيحُ قولِه - تعالى -: ﴿ لِلَّهِ ﴾ في: ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ... ﴾ [المؤمنون: 86 - 89]، بحذفِ اللام منها " ص373 - هـ الآية 89"؛ ليكونَ الكلامُ هكذا: "قُلْ: مَن ربُّ السمواتِ...؟ * سيقولون: اللهُ... * قُلْ: مَن بيدِه ملكوتُ كلِّ شيء...؟ * سيقولونَ: اللهُ... إلخ".



والحقيقةُ أن ثَمَّة قراءةً بهذا - وهي قراءة أبي عمرو ويعقوب، وهي متواترة. (الحجة في القراءات السبع. ص285) - بيدَ أن الصياغةَ الحالية - فيما أرى - تشتملُ على نكتةٍ لطيفةٍ لا تَستَطِيع القراءةُ الأخرى اقتناصَها، وهي: أن الله - سبحانه - ربما أرادَ الإشارةَ إلى أن المشركينَ لا يشاحُّون في وجودِه، ولذلكَ سوف يَعْدِلون في إجابتِهم عن قولهم: "الله" - الذي يوحِي بأنهم كان يُمكِنهم إنكارُ وجودِه - إلى قولِهم: "لله"، الذي يُوحِي بأنه موجودٌ، وأن الأمرَ الذي يَنحَصِر فيه السؤالُ، هو: أهذه السموات والأرض والملكوت... له أم لغيره؟



مرة أخرى: فكأنَّ صيغةَ السؤالينِ الثاني والثالث، يُرَاد بها إحراجُهم بمحاولةِ استدراجِهم إلى إنكارِ وجود الله، الذي لا يُنكِرونه أصلاً، فيَقَعُون حينئذٍ في التناقضِ، وكأنهم تنبَّهوا إلى هذا، فلم يُجِيبوا عليه، بل قالوا: "وهل هناك شكٌّ في وجودِه؟ إن هذه السمواتِ والعرشَ والملكوتَ... كلٌّ ذلك للهِ".



والذي أوحى لي بهذا أن القرآن ينصُّ على أنهم لم يكونوا يُنكِرون وجودَ الله - عز وجل - فهم يقولون عن الأصنامِ: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3]، والله - سبحانه - يقول لرسولِه - عليه أزكي الصلاة والسلام -: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [العنكبوت: 61].



ولنفتَرِضْ أن هذا التوجيهَ غيرُ صحيحٍ، فإنَ الآيةَ لن تحتاجَ إلى أيِّ تصحيح عندئذٍ؛ إذ ليس شرطًا أن تأتي الإجابةُ دائمًا على ما نتوقَّع، فإنَّ ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ الأولى، معناها: "سيقولونَ: إن السمواتِ السبعَ والعرشَ للهِ"، ومثلُها: ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ الثانية، كما لا بدَّ أن القارئَ الكريمَ قد حَزَر من خلالِ التوجيهِ السابق، وتكونُ الإجابةُ على هذا النحوِ قد قُصدَت قصدًا لإضفاءِ جدةٍ على الكلامِ، ولَفْتِ الانتباه.



لحظة

وأحبُّ أن أقفَ هنا لحظةً؛ لأبوحَ للقارئِ بأني - رغم ضيقي الشديدِ بمزاعمِ كثيرٍ من المستشرقين في كتاباتهم عن لغتِنا وآدابِنا ودينِنا - أجدُ متعةً لا تُحدُّ ولا توصفُ في قراءةِ كتاباتِهم؛ إذ تَفتَح لنا أبوابًا في فهم تراثِنا: اللغوي، والأدبي، والديني، وتطلعُنا على أشياءَ فيه لولا هي ما كنَّا لنفكِّر فيها.



خذ مثلاً قولَه - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً *... * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [ النور - 39 - 40 ].



إن "بلاشير" يرى في عدمِ وجودِ اسمٍ ظاهرٍ يعودُ عليه الضميرُ في ﴿ أَخْرَجَ يَدَهُ ﴾ - مشكلةً متعذِّرةَ الحلِّ " ص382 - هـ الآية 41 ".



وإني لأسألُ القرَّاء ممن قرأوا هذه الآيةَ عشراتِ المراتِ بل مئاتِها: أوَقَد لاحظ أيٌّ منهم أنَّ الآيةَ ينقصُها شيءٌ، أيُّ شيءٍ؟


لقد كان الضميرُ يرجِع في ذهني تلقائيًّا إلى شخص ألقَت به الأقدارُ في قلبِ هذه الظلماتِ المتراكبة، حتى وصَلت إليَّ ترجمةُ "بلاشير" لهذه الآيةِ واعتراضُه على تركيبِها، وقد خَالجنِي أن أهملَ مناقشةَ هذا الاعتراض؛ لأني لم أجدْ له معنًى سوي أن صاحبَه أعجمي، وفضلاً عن ذلك فهو مدخولُ النيةِ يَنْكُش عن أيِّ شيءٍ يستطيع أن يسمِّيَه خطأً بمنكاش.



ثم إنه ليس من خطتي مناقشةُ كلِّ مزاعمِ هذا المستشرق وأمثاله، إلا أن هاتفًا هَتَف لي من داخلِ نفسي أن أَعِدْ قراءةَ الآياتِ، وإذا بتعليلٍ ينقدح في ذهني فيما يشبه الإلهامَ بأن الله - سبحانه وتعالى - ربما قَصَد من حذفِ الاسمِ الظاهر الذي كان يُمكِن أن يعودَ عليه الضميرُ في قوله: ﴿ أَخْرَجَ يَدَهُ ﴾ إلى الإيحاء بمدى تكاثفِ هذه الظلماتِ حتى إننا نحن الذين نشاهدُ هذا المنظرَ، لا نستطيعُ أن نُبصِر فيه شخص ذلك الذي قَذَفت به يدُ المقاديرِ في وسط هذا الهولِ الحالكِ، ومن ثَمَّ، فإن الله - عز وجل - قد ضَرَب عن ذكرِه صفحًا، اللهم إلا حين تناوَل الموقف من وجهةِ ذلك الشخصِ نفسِه عندما أحسَّ بيدِه حين أخرجها؛ إذ ليست الظلماتُ المتراكبةُ بمانعةٍ من ذاك، ولكنه مع هذا لم يستطعْ أن يراها: ﴿ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾، فعند ذلك استَعمَل الضميرَ الذي تَرَكنا حيث نحن نتساءل: ومَن يكون ذاك؟ ومَن الذي ألقى به هناك؟



وكعادتِنا في إهمالِ كثيرٍ من هُراءِ هذا المستشرق وغيرِه، نضرب صفحًا عن مناقشة ما ورد بعد ذلك من تخطآتٍ تدلُّ على الجهلِ الفاحشِ، إلى أن نبلغَ ملاحظتَه الغربيةَ عن عدمِ ارتباطِ قولِه - تعالى -: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الشعراء: 192 - 196]، بما قبله من جهةِ النحوِ ومن جهةِ المعنى " ص402 - هـ الآية 192 ".



والحقُّ أنني لا أدري كيف غَفَل عن أن هذه الآياتِ مع مقدِّمة السورة يكوِّنان - بالنسبة لموضوع السورة - ما يُشبِه الصدَفتين، وحتى يتضحَ مقصدي من هذا الكلامِ أقولُ: إن أولَ السورةِ يتحدَّث عن: عنادِ المشركينَ، وتكذيبِهم، واستهزائهم بما يُنَزِّلُه الله على نبيِّه، ثم تَمضِي السورةُ، فتهدِّدهم بوبيلِ العاقبةِ وتذكِّرهم بما وقَع لأمثالِهم من الأممِ المكذِّبة السابقة، حتى إذا فرغتْ من ذلك عَادَت لتتحدَّث عن القرآنِ وأنه ﴿ تنزيل ربِّ العالمين * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *... ﴾، وكأن تلك المقدِّمةَ وهذه الخاتمةَ هما القشرتانِ اللتان تنضمَّانِ انضمامًا لطيفًا ومُحكَمًا في ذاتِ الوقت على ما بداخلِهما؛ فالهاء إذًا في: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، تعود على ما ساقته هذه السورة من قصصِ المكذِّبين الهالكين، وهو ما عبَّرت عنه مقدِّمة السورة في هذه الآياتِ: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الشعراء: 2 - 6].



ويشبهُ - هذا إلى حدٍّ بعيد - قولُ ربِّ العزة: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [يس: 69-70]، الذي يتَّهمه "بلاشير" بأنه لا عَلاقةَ له بما قبله " ص473 - هـ الآية 69 ".



مع أن هذه العَلاقة واضحةٌ لمن كانت له عينانِ، وأرجو من القارئِ الكريم أن يرجِع إلى فاتحةِ السورة؛ ليرى أنها تشبهُ مقدِّمة سورةِ "الشعراء"، حتى إذا بلغت السورةُ منتهاها أراد الله - سبحانه - أن يُعْذِر من نفسه.

بأن قال ما مُفاده:

أن ما ينذرُكم به عبدي ورسولي، وما يذكِّركم به من نعمي، وما يصوِّره مما ادَّخرته لعبادي الصالحين من أطايب جنتي إنما هو الجِدُّ كل الجِدِّ، وليس تهاويلَ شاعرٍ.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
المستشرق " بلاشير " وحديثه عن القرآن (3)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ Known to the islam ۩✖ :: شبهـات حــول الاسـلام-
انتقل الى: