من عقلاء الشيعة إلى مراجعهم .. أسئلة تحتاج إلى أجوبة
(1)
عندما يتحرر العقل من التعصب، ويصفو الذهن من أباطيل الخرافات وأوهام الأساطير، فإن ما يحصل له من سعة الأفق، وحرية التفكير، وسلامة النظرة؛ تجعله يقف متسائلاً عما يشكل عليه، معترضاً على ما يضاد فطرته، مناهضاً لما يخالف المنطق والحجة.
أردت بهذه المقدمة المقتضبة أن أشير إلى فائدة الجدل العقلي للمتناقضات، ونجاعة التحليل المنطقي للمتضادات في تحرير الأفهام من قيود الخرافات والأوهام، مُبدياً في الوقت نفسه إعجابي بجملة من التساؤلات التي أثارها بعض عقلاء الشيعة، وهي إلزامات عقلية، وإشكالات منطقية؛ تجعل إجابة المرجعيات عليها ملحة، لرفع الإشكال، وتجريد الحق، الأمر الذي يجعل فرص الالتقاء والتقارب والتفاهم متاحة ومتوفرة؛ لوجود من يسعى إلى معرفة الصواب، بعيداً عن قيود التعصب، وحبال التبعية العمياء.
وسأسعى في هذا المقال، وما سيتلوه من مقالات بإذن الله تعالى:
أولاً: إلى أن أسلط الضوء على بعضها، مقتصراً على زبدة ما يعترض به هؤلاء العقلاء على مرجعياتهم، ناقلاً اعتراضاتهم والتي منها:
أولاً: ما اشتهر عن السيد السيستاني وكبار المراجع القدامى والمعاصرين أنهم أفتوا بتكفير من لم يقل بإمامة علي وذريته من بعده عليهم السلام. وقد تلقى الشيعة هذه الفتوى على أنها من المسلمات التي لا ينبغي النقاش فيها، أو الاعتراض عليها، حتى صارت من أصول العقيدة، لكن جدار الثقة والهالة المقدسة التي عادة ما تحيط بأمثال هذه الفتاوى اهتزت وتلاشت، وتلاشت معها قناعة الكثيرين بوجوب اتباعها، بعد اطلاعهم على ما ثبت عن الإمام علي عليه السلام أنه استعفى من الخلافة عندما عرضت عليه قائلاً: "دعوني والتمسوا غيري" [كما في كتاب نهج البلاغة (ص136)]، وما تواتر واشتهر من تنازل الإمام الحسن عليه السلام عن الخلافة لمعاوية.
الإمام علي وابنه الحسن يتنازلون عن الخلافة، والمراجع يقولون بكفر من أنكر الإمامة؛ لأنها منصب إلهي كالنبوة [كما في كتاب أصل الشيعة وأصولها (ص 58)]؛ فكيف يسوغ لهما فعل ذلك؟!
ألا يؤكد هذا الفعل من المعصومَيْن على أنه لا وجود لعقيدة الإمامة البتة؟
وما هو الدليل على صحة هذه العقيدة؟ ومن الذي أثبتها ورسخها بعد أن ازورَّ عنها الإمام علي، وتنازل عنها ابنه الحسن عليهما السلام؟
وهل يسعنا أن نحذو حذوهما بإيثار الجماعة على الفرقة، والوحدة على التشرذم؛ بالتخلي عن هذه الفتوى التكفيرية وأمثالها من الفتاوى التي لا تزيد الأمة إلا وهناً وضعفاً؟
ثانياً: تفاوتت أقوال المذهب بين تكفير أبي بكر وعمر ونفاقهما وفسقهما، بل وصل الأمر بأحد المراجع الكبار إلى أن تجرأ على القول بأنه يكفر بالله وبرسول الله إن كان الله ورسوله رضيا خلافة أبي بكر!! [كما في الأنوار النعمانية (2/278)]: "إنا لا نجتمع معهم - أهل السنة - على إله ولا على نبي ولا على إمام، وذلك أنهم يقولون: إن ربهم الذي كان محمد نبيّه، خليفته بعده أبو بكر، ونحن لا نقول بذلك الرب ولا بذلك النبي، بل نقول: إن الرب الذي خلق خليفة نبيه أبا بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا".
فهل يعقل أن يبلغ كره الصديق بالبعض مبلغاً يؤدي بصاحبه إلى الكفر بالله وبرسوله إذا رضيا بخلافته؟
نتمنى أن لا يوجد من يحتج بهذا الكتاب.
وماذا لو ثبت أن الله تعالى رضي بخلافة أبي بكر؟!
إن العقل ليحار في التوفيق بين هذا الكلام وبين فعل الإمام علي عليه السلام الذي بايع الصديق على الخلافة، ثم بايع عمر، ثم بايع عثمان، وكان لهم وزيراً ناصحاً، ومستشاراً أميناً، ولم يخرج عليهم، أو يدعو أحداً إلى ذلك!!
فهل يعقل أن يبايع الإمام المعصوم الكفار، ويسلم شؤون الأمة إليهم ليعيثوا فيها كفراً وفساداً؟
وهل كفر الإمام علي عليه السلام بإقراره بخلافتهم طيلة هذه المدة؟
ولماذا استجاز الإمام علي لنفسه أن يزوج ابنته أمَّ كلثوم شقيقة الحسن والحسين عليهم السلام من عمر بن الخطاب إذا كان كافراً؟
هل أخطأ - وهو المعصوم - أم أن ما فعله من البيعة والتزويج هو عين الصواب؟!
كلام المراجع في الصحابة لا ينسجم البتة مع ما ثبت عنه عليه السلام من مدح المهاجرين بقوله: "فاز أهل السبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم [كما ورد في نهج البلاغة (ص 383)].
ومدح الأنصار من أصحاب محمد عليه السلام بقوله: "هم والله رَبَّوُا الإسلام كما يربى الفلو..." [المصدر السابق557].
ولا ينسجم أيضاً مع ما ثبت عن الإمام جعفر بن محمد أنه كان يتولاهما، ليس ذلك فحسب بل كان يأمر بتوليهما أيضاً، فعندما سألته امرأة عنهما (أي أبى بكر وعمر) قال لها: توليهما، قالت: فأقول لربي إذا لقيته: إنك أمرتني بولايتهما؟ قال: نعم. [والقصة بتمامها في كتاب الروضة من الكافي(8/101)].
فأي المذهبين نتبع: سبيل الإمام علي والإمام جعفر بن محمد عليهما السلام في الثناء على الخليفتين وتوليهما، أم مذهب من كفَّرهما وتبرأ منهما وسبهما؟!!
ثالثاً: لقد استقر في عقيد كثير منا جيلاً بعد جيل أن أهل البيت كانوا يكرهون الصحابة، وأن الصحابة يكرهون أهل البيت، لكننا لم نستطع فهم ذلك على ضوء ما ثبت عن الإمام الأول عليه السلام أنه سمى أحد أبنائه أبا بكر [كما في كتاب الإرشاد للمفيد (ص 186)، وأكد ذلك المؤرخ اليعقوبي في تاريخه(2/ 213)] بقوله: "وكان له من الولد الذكور أربعة عشر، وذكر الحسن والحسين ... وعبيد الله وأبو بكر لا عقب لهما أمهما يعلى بنت مسعود الحنظلية من بني تيم".
وهنا سؤال محير ينتظر الإجابة الصريحة الواضحة: ألا يدل هذا الفعل من الإمام علي عليه السلام على مدى الحب والتقدير الذي كان يحمله في قلبه للصديق حتى سمى أحد أولاده بكنيته؟
وكذلك فعل الإمام الثاني الحسن بن علي عليهما السلام فسمى أحد أبنائه باسم الخليفة الأول أبي بكر، وكان ممن قتل في كربلاء مع الحسين قتله عقبة الغنوي [كما في مقاتل الطالبيين. (ص 87)].
والحسين بن علي أيضاً سمى أحد أبنائه أبا بكر، وكان ممن قتلوا معه عليهم السلام كما يذكر المؤرخ المسعودي في التنبيه والإشراف (ص263).وزين العابدين بن الحسن كان يكنى أبا بكر أيضاً، كما في كتاب كشف الغمة (2/74).
وسمى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب إحدى بناته عائشة؛ فهل يجوز لنا أن نتبع أئمتنا بأن نسمي أبناءنا أبا بكر وعمر، وأن نسمي بناتنا عائشة، أم أن سبهم وشتمهم بات ركيزة من ركائز التشيع، وضرورة من ضرورات المذهب؟
رابعاً: ما هو الموقف السليم مما ذكرته المصادر التاريخية المعتمدة أن الصحابة وأبناءهم قد تصاهروا مع أئمة أهل البيت؛ حيث تزوج عمر من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتزوج مروان بن أبان بن عثمان من أم القاسم بنت الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وتزوج زيد بن عمر بن عثمان من سكينة بنت الحسين، وتزوج عبد الله بن عمر بن عثمان من فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب؟!
فهل يعقل أن أهل البيت المعصومين يزوجون بناتهم من الصحابة وأبنائهم إذا كانوا يكفرونهم ويلعنونهم ويتبرؤون منهم؟!!
ألا يمكن أن نتعايش مع أهل السنة بسلام وأمان، وأن نتزوج منهم ويتزوجوا منا بعيداً عن الحقد والبغضاء كما فعل أئمتنا الذين ندين الله بتوليهم واتباعهم وحبهم؟
خامساً: إن حب آل البيت من صميم عقيدتنا، وعلى رأسهم أمير المؤمنين عليه السلام والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وكذلك الطاهرة البتول فاطمة الزهراء، فهي سيدة نساء أهل الجنة، ريحانة النبي وقرة عينه، صاحبة الخلق الرفيع، والأدب الجم، تربت في حجر النبوة؛ فكيف يسوغ وصفها بأنها تشاجر الخلفاء وتعارضهم حتى أحرقوا بيتها، وضُربت ووجع جنبها، وكسر ضلعها، وألقت جنينها من بطنها، وماتت في مثل هذه الظروف، ونتيجة هذه الصدمات [كما ورد في كتاب سليم بن قيس (84ص،85)].
وهل يليق هذا الوصف بمن كانت في هذه المكانة؟
بل هل يليق بمن هن دونها في التقوى وحسن الديانة؟
وأين كان زوجها الإمام الكرار الفرار الشجاع عليه السلام؟
وهل كان تقاعسه عن نصرتها تقيةً وجبناً، أم كان عن ذلة وضعف؟ حاشاه عليه السلام.
إذا كانت الإجابة بالنفي فلم يبق حينئذ إلا أن البيان الصريح الواضح بعدم صحة هذه الروايات، وإلا لماذا رضي أبناؤها وأحفادها أن يسموا أبناءهم بأبي بكر وعمر وعثمان إذا كانوا قد ظلموا فاطمة وضروبها وكسروا أضلاعها، وكان ذلك الضرب سبباً في موتها؟!
شكراً جزيلاً لعقلاء الشيعة على تجردهم للحق الذي يرضي الله عز وجل، وليس لأجل سواد عيون أهل السنة أو الشيعة.
(2)
دعوة السنة والشيعة إلى التجرد للحق وتصحيح الموروث:
أشكر أخي الشيخ حسن الصفار على استجابته وبيانه لما طرحته من تساؤلات في ملحق الرسالة (ولو كان في نظري المتواضع لا يكفي جواباً) لما سألته عنه، وسرني خلقه النبيل، وعبارته المفعمة باللطف والأدب، والحرص على الوحدة، ونبذ الكراهية، وإشاعة الحوار، ونبذ التقليد الأعمى، واحترام العقل، ولست اليوم بصدد مناقشة رده على ما كتبتُ، حيث لا زلت بانتظار رفع الحجب الموجود على بعض روابط المواقع التابعة للمرجع السيستاني المتضمنة لفتاواه حول الإمامة والأحكام المتعلقة بها، مع أنها لم تكن محجوبة من قبل، وإن كان هذا لن يضيف جديداً من حيث ثبوت الفتوى عن المرجع السيستاني على موقعه الرسمي، حيث تليت بعد تحديث موقعه، وأبرزت على الشاشة في السجال المباشر على فضائية المستقلة بين د/ محمد السيد الدغيم ود/الموسوي، فلم ينكرها الموسوي، وإنما تأولها وفسرها بفهم منه لا يتفق مع فهم عموم المشاهدين والقراء، وعلى أية حال سأنشر حواري مع أخي حسن الصفار مفصلاً على حلقات متسلسلة على منبر الرسالة في العدد القادم إن شاء الله.
وقبل أن أفيض في موضوع اليوم أمازح أخي الشيخ حسن الصفار حيال اعتذاره عن استمرار السجال مذكراً بقول الشاعر:
وحلفت ألا أبتديك مودعاً *** حتى أهيء موعداً للقاء
ولن أرضى منه بكفارة المجلس قبل الدخول فيه، فلا بد من الحوار ولو طال، متجردين للحق في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأدلف إلى موضوع الزاوية اليوم مستهلاً بكلمة المرجع الشيعي أحد الموصوفين بالاعتدال آية الله العظمى محمد حسن فضل الله حيث يقول: "لا بد من الخروج من أقبية الذات والخصوصيات والحسابات الضيقة، وعلينا أن نواجه قضايانا وأفكارنا وحتى عقيدتنا بالنقد والشجاعة والجرأة قبل أن ينتقدها الآخرون؛ لأننا نملك كـَمّـاً غير قليل من الموروث الذي تركه لنا الأقدمون، والذي ينبغي النظر إليه بعين النقد والتحليل حتى لا نكون مصداقاً للآية الكريمة: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف:23].
آية الله العظمي محمد حسين فضل الله والكلمة له منقولة من كتاب أعلام التصحيح والاعتدال مناهجهم وآراؤهم [تأليف الشيخ الفاضل خالد بن محمد البديوي صفحة 382 - الطبعة الأولى 1427هـ - 2006م].
لقد وقفتُ غيرَ مرَّة قبل كتابة هذه الكلمات، انتظارَ كلماتٍ طيباتٍ استفتح الحديث بها، وأوجه عبرها هذا النداء بعد الحمد والثناء على الله تعالى، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ ووُفِقـْـتُ إلى هذه الكلمات من هذا المرجع المعروف والتي تدعم عنوان هذه الدعوة المخلصة:
إلى عقلاء الشيعة ومراجعها ... دعوة إلى التصحيح ،والاعتدال ولكني أضيف إليها: والنقد والتجرد والجرأة والمواجهة، وأقول: إن الآخرين لا ينتقدون في أوهام الاعتقاد والأفكار والموروث إلا لأنهم يؤمنون بأن هناك من يحمل عقلاً يفكر، ويدعو إلى التصحيح.
إننا نجدُ في الموروث عند الشيعة: القولَ بعصمة علي رضي الله عنه، ونجد كذلك في المقابل أن هذا الإمام المعصوم - علي رضي الله عنه وأرضاه - يزوج ابنته أمَّ كلثوم شقيقة الحسن والحسين رضي الله عنهما من عمر بن الخطاب رضي الله عنه [الكليني في الكافي في الفروع المجلد السادس ص 115، وتهذيب الأحكام للطوسي والاستبصار].
ونجد في الموروث: أن عمرَ رضي الله عنه كان مرتداً كافراً!!
ندعو إلى مواجهة هذا الأمر بالحجة العقلية وليس بالجدل حول كتبنا وكتبهم؛ وهو عصمة الإمام علي رضي الله عنهـ وتزويجه ابنته من عمر رضي الله عنه والقول: إن عمر كان كافراً مرتداً - وحاشاه رضي الله عنه - ألا يدعونا هذا إلى التساؤل والبحث والتحليل والدراسة عن أمرين اثنين لا ثالث لهما:
الأمر الأول: أن علياً رضي الله عنه غير معصوم لكونه أخطأ خطأً فادحاً؛ لأنه زوج ابنته من كافر، وهذا يتناقض مع أساسيات المذهب والعصمة؛ ويترتب عليه نفي العصمة عن غيره من الائمة؟
والعصمةُ تعني عدم الوقوع في الخطأ، وأي خطأ أكبر من تزويجه، ابنته أمُّ كُلثوم من عمر الكافر المرتد؟
حاشاه أمير المؤمنين شهيد المحراب، وليس بمعصوم رضي الله عنه.
والأمر الثاني: إسلامُ عمرَ؛ إذ أنَّ علياً رضي الله عنه رضِيَ نسبه وزوجه.
ونؤكدُ على أن علياً رضي الله عنه قد رضي دينه وخلقه، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه».
ألا يحق لهذه القضية أن تطرح بِتجرُّد وإنكار ذات وشجاعة للوقوف عندما جاء به الأولون الأقدمون: أن علياً رضي الله عنه لم يكن ليرمي بنته وفلذة كبده إلى رجل كافر مرتد؛ فلم يبق إلا أن يكون عمر مرضياً في دينه وخلقه؛ بل مبجلاً مجللاً بالنسب الشريف من آل البيت عليهم السلام.
قد حان الوقت لكي يجلس عقلاءُ الشيعة مع أنفسهم، ويحاوروا أنفسهم بأنفسهم، ويعرضوا ما تشابه مما ورد من الموروث القديم مع ما وافق الحقَ منه؛ فإن في موروث الشيعة الشيءَ الكثير الذي يحتاج إلى دراسته دراسةً نقدية بحجج العقل ومنطقه، وهو لا يخرج إما أن يكون موافقاً الحقَ فيردون إليه ما خالفه، وإما أن يكون مخالفاً العقل، والذي نقول بأن في الشيعة والسُّنَّة من هو جدير بفحصه ومراجعته؛ ومن ثم رده والتبرؤ منه، كما فعل عقلاء الشيعة من قبل وتبرأوا من الأباطيل التي لا يسندها عقل ولا نقل صحيح؛ فلا خوف على الأصحاب رضي الله عنهم، ولا حزن مِنْ سَبِّ مَنْ سَبَهُمْ، وطَعْنِ مَن لَمَزَهُم، وتكفير من أخرجهم من الملة وهم الذين قامت الملة بعد الله تعالى وجهاد وإبلاغ رسوله صلى الله عليه وسلم على يدهم وإخلاصهم وصدقهم، وليس لنا قولٌ ولا شهادةٌ بعد شهادته تعالى لهم: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح:18]؛ فهل نكفر ونفسق ونحكم بالنفاق على من رضي الله عنهم بصريح القرآن؟!
دونكم العقل والحكمة فأعْمِلوها في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وأرضاهم، وهل يخفاه سبحانه حالهم فرضي عنهم ولم يعلم سبحانه أنهم سيرتدون بعد موت نبيه؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. أم أن الله يعلمُ حالَهم وكفرَهم ورِدتَهم ومع ذلك يرضى عنهم وينزل الوحي فيهم بذلك؟!
وإذا كان علي رضي الله عنه معصوماً فالأمرُ ذاته يقال عند تكفير الشيعة لأبي بكر وعثمان رضي الله عنهم، ألم يكن علي رضي الله عنه معصوماً حين بايعهما، ورضي بخلافتهما، وسمع وأطاع لهما، وبقي تحت إمرتهما، وجاهد وقاتل معهم (ثلاثتهم)، ألا تشفع هذه (العصمة العلوية) لأعظم الرجال، وأكمل الناس إيماناً بعد نبينا حتى تطالهم سهام التكفير والردة؟
ألا نرى أنه من الضروريات الملحة الإجابة على هذه المتناقضات بالبراءة منها؛ إذ كيف يبقى عليٌّ المعصوم رضي الله عنه تحت ظل حكَّام ظلمة كفرة مرتدين ولديه من الكرامات والعصمة التي تمكنه من نزع الحكم منهم وردعهم وقتالهم وجهادهم والخروج عليهم! وأمرُ الكفر والردة أمر لا يخفى بل ظاهر للعيان؛ فلا يمكن السكوت عليه، وأقله الإنكار والهجرة من المدينة، أو أن يعتزلهم طالما هم كفّار. رضي الله عنهم وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وجمعنا بهم في الجنة.
بل إن منطق العقل لا يقبل القول أن الله جعل الأمر بعد موت نبيه في يد المرتدين والكفرة من بعده، وأسأل نفسي وكل يسأل نفسه: لو كانوا مرتدين؛ فما الذي حملهم على نشر الإسلام في الأرض والجهاد في سبيل الله؟
ونازلة أخرى: هل كانت أسماء هؤلاء الثلاثة (أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم) في قائمة أسماء المنافقين التي كانت عند حذيفة رضي الله عنه، وحذيفة هو صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم، ألا يحق أن يناقش وتطرح في مائدة المراجعة والتحليل العقلي؟! ولو كانوا منافقين فكيف يشهد لهم النبي بالجنة، وهل كان الله عز وجل ليسلم أمر دينه إلى هؤلاء الثلاثة الذين هم مرتدون كما تقول بعض مصادر الموروث؟!
وكيف وصل الدين وانتشر إلى ربوع الدنيا في زمن الثلاثة رضي عنهم وهم كفار مرتدين، وأين جهادهم مع رسول الله وجهادهم لنشر الإسلام بعد موته؛ فهل كانوا يعقدون رايات الجهاد ويغزون في سبيل الله وهم مرتدون منافقون؟!
لقد آن الأوان لعقلاء الشيعة ومرجعياتها أن يراجعوا موروثهم!
وهذا قول معتدل آخر يتيح الفرصة، ويسن السنة الحسنة لعقلاء الشيعة ومرجعيتها ليقوموا بالإصلاح والمراجعة، يقول أحمد مير قاسم بن مير أحمد الكسروي - وقد قرَّرتُ كتابه التشيع والشيعة مرجعاً لمادة المذاهب من الفرقة في كلية المعلمين بالرياض منذ قرابة أربعة عشر عاماً - وهو من أسرة يعود نسبها إلى أهل البيت، وبلغ مرتبة في التشيُع إلى أن صار المدعي العام في طهران، وقد قتل عام 1946م على يد المخالفين له. يقول في رده على الإمامية في سبهم الصَّحابة رضي الله عنهم: "فإن أصحابَ النَبِّي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار صدَّقوا النبي حين كذَّبه الآخرون، ونصروه بأقوالهم وأنفسهم، فكانوا كِراماً عند النبي صلى الله عليه وسلم ولا سِيّما الشيخين الصديق والفاروق، وما نسبوه إليهم من مخالفة وَصِّيةِ النبي ونزع الخلافة من يد علي وغير ذلك؛ فلم يكن إلا زوراً وبُهْتاناً [التَشيُّع 137].
ونقول: إن أول الغيث قطرةٌ، فالذي أوصل رجالاً مثل هؤلاء من الشيعة بعد تبحرهم وتبصرهم في التَشَيُّعِ؛ ليخلُصُوا إلى القول بضرورة المراجعة، ثم يقولون بمدح الصحابة وتبرئتهم؛ برغم ما في الموروث من هنَّات وأقوال لا تزال تحتاج إلى مراجعةٍ.
ونقول: على ذات الدَّرب وعلى ذات المذهب الذي وصلوا به إلى القول بتبرئة الصحابة بما فيهم الخليفتين؛ فليكُنِ البحثُ عن تبرئة سائر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم نتيجةً حتميَّة لا مناص لعقل ولا عاقل أن يحيد عنها، أو يتناقض مع نفسه حول التسليم بها.
نعود لنقول - والحق يقال - أن في الشيعة وعلمائها ومراجعها عدد لا يستهان به من العقلاء، وكثير من الأقوال المعتدلة والشهادات الواضحة على إمكانية الوصول إلى تهذيب و(تَصْفِيةِ) هذا المذهب وتنقيته، وهو مذهب له مرجعيته التي يحترمها ويصدر عن رأيها، وهذا في حدِّ ذاته مَحْمَدةٌ ما كانت تسلم بالإذعان للوحي المعصوم كتاب الله وسنة رسوله، تجرداً للحق، وطاعة لله، ويقيناً بأن المتقدمين لا يُحَاسَبُونَ يوم القِيامة بالنيابة عن المتأخرين.
ندعو عقلاء الشيعة ومراجعَها إلى ميزان العدل والإنصاف والسَّلامة من مقالةِ أقوام قالوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف:23]، كما قال المرجع محمد حسين فضل الله.
(3)
الأخ حسن الصفار أحدنا مخطئ السيستاني أو أنا وأنت!
عندما يكون الهدف من السجال الإعلامي هو بيان الحق، وتجلية ما التبس من الأمور، وإزالة سحب الضباب عن المواقف؛ فإن هذا النقاش يعتبر ظاهرة صحية، ودليل عافية على شيوع روح الحوار والتواصل بين أطرافه، مجللة بثوب الأدب القشيب، والاحترام المتبادل. وهذا ما كان بيني وبين الأخ حسن الصفار.
فقبل أسبوعين طلبتُ إيضاح أمر مشكل يتطلب البيان حيال ما تكرر على لسان فضيلته بأن مرجعيته ترتبط بالسيد السيستاني، فكان لا بد من بيان حدود هذه المرجعية أو عمومها، لا سيما إذا كانت فتاوى ومواقف المرجعيات لا تصب في مصلحة الوطن كما هو الحال في العراق، ولبَّى مشكوراً تلك الدعوة وأصدر بياناً أعلن فيه بصراحة رفضه تدخل أي مرجع في الشؤون السياسية الداخلية لوطنه.
مع أني أقرر أنه لا يمتحن الناس في الولاء إلا من صدر منه ما يوهم أمراً آخر، فهو أولى الناس بتفسيره، ويقبل قوله على نيته، ولا نتكلف غير ذلك، ومشروعية إزالة الوهم، ورفع الريبة مقررة بقول النبي للصحابيين: «على رسلكما إنها صفية».
ولكن فاجأني الإنكار الجازم والصارم لأخي الشيخ حسن الصفار بعدم معرفته بفتوى أو رأي للمرجع السيستاني في تكفير أهل السنة إذا لم يعتقدوا بوجوب إمامة علي وذريته من بعده، مبدياً في الوقت نفسه استغرابه الشديد من إرسالي الاتهام للمرجع السيستاني بتكفير من لم يقل بإمامة علي وذريته من بعده إرسال المسلمات دون أن أذكر كلام السيد السيستاني ولا مصدر فتواه المزعومة!!
عجبتُ من هذا الادعاء؛ لأني كنت قد ذكرت في المقال السابق أن الفتوى كانت في موقع المرجع السيستاني الالكتروني (
WWW.SISTANI.ORG)، وقد سحبت منه؛ فهل ما في هذا الموقع من فتاوى ومقالات ومؤلفات هي مراسيل لا صحة في ثبوتها عنه، أم هي صادرة عنه ونسبتها إليه ثابتة بما لا يدع مجالاً للشك، سيما وأن عبارة الموقع الرسمي لآية الله العظمى السيستاني تحتل أعلى الصفحة الرئيسية من الموقع وباللغة الإنجليزية؟!!
وإذا كان هذا الموقع كما يقول الشيخ علي الكوراني هو واحد من خمسين موقعاً كلها تتكلم باسم السيستاني دون أن تحصل على تخويل رسمي منه؛ فلماذا لم يتبرأ السيستاني من فتوى التكفير التي نشرت في الموقع المذكور، وهذا أحب إلينا وأحب إليه إن كان لا يرى ذلك/ وينتهي الجدل والتأويل بالبيان الصريح بعدم كفر من لا يرى إمامة علي وذريته من بعده، مع وجوب محبتهم وإجلالهم دون الغلو فيهم، والقول بعصمتهم.
وإذا كان لصوص الانترنت هم الذين دسوا هذه الفتوى في موقعه كما يقول المشرفون على الموقع، فلماذا لم يصدر بياناً للأمة ببراءته مما نسب إليه من تكفير من لم يقل بإمامة علي وعصمته وتضليلها حفاظاً على الوحدة التي يحرص عليها عبر البيانات التي يصدرها؟!
ذكرت في مقالتي السابقة أن الفتوى كانت موجودة في موقع السيد السيستاني لكنها سحبت منه، وأزيد هنا لأبين أن سبب سحبها من موقع السيستاني الرسمي هو قيام قناة المستقلة بمناقشة هذه الفتوى يوم الإثنين 8 يناير في ندوة مباشرة.
وقد عرض د/ الهاشمي على ضيوف الندوة فتوى المرجع السيستاني التي جاءت جواباً على السؤال: هل مذهب الإباضية على حق أم باطل؟ فأجاب المرجع السيستاني: كل ما خالف مذهب الإمامية الاثنا عشرية فهو باطل.
والباطل - كما هو معلوم - لا يعني خلاف الأولى، ولا يعني القول المرجوح مقابل الراجح، بل يعني: ضد الحق ونقيضه، ولذا قال تعالى في سورة محمد: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ﴾ [محمد:3]، وقال في سورة الأنفال: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الأنفال:8].
وقد أفسح د/ الهاشمي المجال للضيوف لقراءة الفتوى من موقع المرجع السيستاني، وأُعطي كل منهما نسخة منها، وبدأ النقاش بعد أن تأكدا وأكدا للمشاهدين أنها منشورة في موقع المرجع السيستاني. وفي صباح يوم الأربعاء 10 يناير، فوجئ رواد موقع السيستاني بإغلاق ركن الأسئلة والأجوبة، ثم أعيد فتحه أمام المتصفحين يوم الخميس 11 يناير، لكن بعد سحب الفتوى منه.
لم أكن أتوقع من الأخ الصفار أن ينفي علمه بهذه الفتوى، والتي علم بها الملايين من عامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها عبر قناة المستقلة؛ فهل يعقل أن تخفى على رؤوس مقلديه في المملكة كالأخ الصفار؟! اللهم إلا إذا كان سبب إنكاره هو تأويل كلمة باطل بخلاف ما عليه لغة العرب، وما نص عليه كتاب الله كما ذكرته آنفاً، وعموماً فإن عدم العلم ليس علماً بالعدم كما يقول الأصوليون.
وبرغم حرصي على ألا أجعل هذه الزاوية منبراً للاتهام ومحاكمة الآخرين؛ لأن الهدف الأساس منها هو نشر الوسطية والاعتدال، ومحاربة ثقافة الكراهية والتعصب المقيت بهدي الكتاب وصحيح السنة وإجماع الصحابة، ومناقشة ما يسهم في رقي أمتنا ومجتمعنا نحو السؤدد والكمال، لكني إزالة للبس الموجود أجدني مضطراً لنقل بعض فتاوى المرجع السيستاني والتي تؤيد في فحواها الفتوى المسحوبة، وقبل أن أذكرها بنصها ومصدرها، أشير إلى فتوى بين يدي الآن صريحة في التكفير، وهي بالطبع غير موجودة في الموقع، لكن عندي صورة منها ممهورة بختم مكتب المرجع السيستاني، وأنا على استعداد لإرسالها للأخ الصفار إذا لم تكن موجودة عنده! ولعل أخي د/ عبد العزيز القاسم لا يمانع من نشرها كما هي، وتحريرها مطبوعة، وأتمنى ألا تكون صحيحة؛ إذ المسلم لا يفرح بالخطأ أو الضلال على أحد أبداً.
تقول الفتوى رداً على السؤال: هل يعتبر مسلم من لم يؤمن بأحد الأئمة الاثنا عشر عليهم السلام؟ فأجاب: إذا استلزم إنكاره تكذيب النبي فيما بلغه عن الله في الأئمة فهو كافر. اهـ. وصورة الفتوى منشورة مع المقالة.
(4)
السؤال هو: ماذا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عن الله في الأئمة غير ما قاله عليه الصلاة والسلام وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: «أذكركم الله في أهل بيتي»؟ وما شهده يوم خيبر لعلي رضي الله عنه بأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كما عند البخاري ومسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»، ومعلوم أنه ليس في هذا الحديث ما يدل على أن عليًا أحق بالخلافة، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يوصِ بالخلافة لأحد، وإنما أشار إشارات في أبي بكر الصديق، وهي قوله لعائشة رضي الله عنها: «ادعي لي أباك وأخاك حتّى أكتب كتابًا؛ فإنّي أخاف أن يتمنّى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر».
إنما المقصود هو ولاء الإسلام كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة:55]، وكقوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71].
فإن قال قائل: فلمَ خصّ علي؟
فالجواب: أن خصوصية علي دليل على منْزلته الرفيعة، وفرق بين علو المنْزلة وبين استحقاق الخلافة، وقال صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: «فاطمة سيدة نساء أهل الجنة»، وقال لها رضي الله عنها: «ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الأمّة، أو نساء المؤمنين» [رواه الإمام أحمد].
وروى الترمذي عن البراء بن عازب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر حسناً وحسيناً فقال: «اللهم إني أحبهما فأحبهما».
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».
وفي صحيح البخاري: أن رجلاً سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن دم البعوض إذا قتله الشخص وهو محرم فأصابه الدم، فقال: ممّن أنت؟ فقال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسمعت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «هما ريحانتاي من الدّنيا».
وأقوال علماء أهل السنة في بقية أهل البيت معلومة مستفيضة لا يتسع المقام لذكرها.
فإذا كان هذا هو المقصود فكلنا نؤمن به، وإن كان غير ذلك فما الذي بلغه الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام عن الأئمة مما يعلمه ويعرفه السيد السيستاني ولا يعلمه علماء السنة الكبار، وهذا محل النزاع، ومسرح التزاور والمراغمة؟
أليس هذا تصريحاً واضحاً بتكفير من لم يؤمن بما يرويه الشيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأئمة، سيما أن معظم هذه الروايات لم تثبت عند أئمة الجرح والتعديل من أهل السنة، ولو ثبتت لعملوا بها ديانة وقربى لله عز وجل، ولفرحوا بها أشد الفرح؛ لعظيم محبة ومكانة أهل البيت في نفوسهم؟! ولا يخفاك أن دواوين السنة طافحة بالأبواب والفصول المفردة في وجوب محبة آل البيت وبيان حقوقهم، وقد ذكرت طرفاً يسيراً منها.
وإذا لم يكن هذا تكفيراً صريحاً فماذا تعني هذه الفتوى؟
ألم يكن الأحوط للمرجع السيستناني - وهو الذي غالباً ما يفتي بالأحوط في المسائل الفقهية الفرعية في الطهارة والنكاح وغيرها - أن يحتاط في الحكم على جمهور الأمة بالكفر مقيداً ذلك بتكذيب ما أجمعت عليه الأمة كلها - سنة وشيعة - في صحة الروايات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأئمة، تاركاً المجال لاجتهادات المجتهدين من أهل الحديث والإسناد، ومراعياً اختلاف فهم العلماء للنصوص؟!
وفي السياق ذاته أفتى السيد السيستاني بحرمة زواج الشيعية من السني، خوفاً عليها من الضلال!! وذلك عندما سألته شيعية عن حكم زواجها زواجاً مؤقتاً من سني؟
فأجابها بما نصه: لا يجوز لك الزواج من رجل سني لا دائماً ولا متعة للخوف من الضلال ... . والفتوى لا زالت منشورة في موقعه الرسمي في زاوية الأسئلة والأجوبة [الزواج المؤقت، برقم 114].
والسيد السيستاني لا يجيز صلاة الإمامي خلف غير الإمامي، إلا إذا خاف على نفسه الضرر، فيجوز عندها أن يصلي خلفه - تقية ومداراة - وذلك عندما سئل: هل يجوز الاقتداء بغير الإمامي، وإن كان جائزاً هل تطبق على الصلاة جماعة معهم أحكام صلاة الجماعة في مذهبنا؟
فأجاب: يجوز للمداراة!! وتقرأ لنفسك، ولا مانع من قصد الائتمام مع عدم ترتيب أحكام الجماعة عليها، والفتوى منشورة في موقع المرجع السيستاني الرسمي في زاوية الأسئلة والأجوبة [صلاة الجماعة ـ برقم 48، ومثلها الفتوى رقم 14 في نفس الزاوية].
فهل يوجد بعد هذا أي التباس في موقف المرجع السيستاني من مخالفيه من أهل السنة الذين لا يعتقدون ما يعتقده الشيعة في الإمامة؟
والسيستاني ليس أول من وقف هذا الموقف من أهل السنة، بل سبقه كثيرون، منهم ابن بابويه القمي الملقب بالصدوق في رسالة الاعتقادات [كما في بحار الأنوار للمجلسي(27/61-62)] حيث قال: "واعتقادنا في من جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من بعده عليهم السلام أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء. واعتقادنا في من أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحداً من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله".
وقال الفيض الكاشاني في منهاج النجاة: "ومن جحد إمامة أحدهم - أي الأئمة الاثنا عشر - فهو بمنزلة من جحد نبوة جميع الأنبياء عليهم السلام".
وبرر الحلي في كتابه الألفين سبب هذا الاعتقاد: "بأن الإمامة لطف عام، والنبوة لطف خاص، ومنكر اللطف العام - أي الإمامة - شر من إنكار اللطف الخاص".
وقال المجلسي [في بحار الأنوار (23/390)]: "اعلم أن إطلاق لفظ الشرك والكفر على من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم السلام وفضل عليهم غيرهم يدل أنهم مخلدون في النار".
وليس هؤلاء فقط هم من قال بكفر من خالف الشيعة في مسألة الإمامة، فقد نقل الشيخ محمد حسن النجفي [في كتاب جواهر الكلام (6/62)] إجماع الشيعة على كفر منكري الإمامة، فقال: "والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا، كالمحكي عن الفاضل محمد صالح في شرح أصول الكافي، بل والشريف القاضي نور الله في إحقاق الحق من الحكم بكفر منكري الولاية؛ لأنها أصل من أصول الدين".
إذاً: لا خلاف عند من ذكرت أقوالهم في كفر أهل السنة إذا أنكروا الإمامة؛ فما هو رأي أخي الشيخ الصفار والسيد السيستاني من هؤلاء، هل نسمع قريباً أو نقرأ البيان الصريح بالبراءة من قول من قال بكفر من لم يقل بالإمامة؟! وهذه شجاعة أرى أخي حسن الصفار حقيق بها وقادر عليها بتوفيق الله له، وليس بدعاً من علماء الشيعة ومراجعهم الكبار من أنكر هذه المقالات وتبرأ منها.
وأود أن أنبه هنا على بيانات الوحدة والتحذير من الفرقة والفتنة التي يصدرها المرجع السيستاني، التي تتناقض بشكل صارخ مع فتاواه في تكفير أهل السنة.
فهل يعتمد المرجع السيستاني ازدواجية الخطاب؛ فيصدر بيانات عامة عن الوحدة والتآلف موجهة للعامة - أي أهل السنة - وخطاب آخر خاص للشيعة مليء بالتكفير والتضليل والتحذير من الكفار؟!!
وإذا كان المرجع السيستاني حريصاً على وحدة الأمة، فعليه أن يصدر فتاوى صريحة تنقض فتاواه وفتاوى من سبقه التكفيرية.
المرجع السيستاني إمامي اثنا عشري متبع لأهل البيت، فلم لم يسلك سلوك الإمام علي مع الصحابة رضي الله عنهم الذي تعامل معهم بكل انفتاح، فكان لهم مستشاراً ووزيراً وناصحاً من أجل حفظ الإسلام والمسلمين، كما قال المرجع الشيعي المعتدل الشيخ محمد حسين فضل في ملحق الرسالة الأسبوع الماضي، والذي أضاف: "لا يجوز تحت أي اعتبار من الاعتبارات أن نسبّ الصحابة أو أن نُسيء إليهم؛ لأنهم عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعملوا معه، وجاهدوا معه. وكما قلنا: إن علينا أن نتعامل معهم كما تعامل الإمام علي، ولذلك فنحن نطالب علماء المسلمين جميعاً، ولا سيما علماء المسلمين الشيعة، بأن يثقفوا قاعدتهم الشعبية باحترام صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يعملوا على أساس دراسة الاختلاف الذي حدث بين الصحابة، وأن يقدموه في دراسة علمية موضوعية، وأن لا يتحركوا بالطريقة السلبية؛ لأن هذا يؤدي إلى نتائج سلبية على مستوى واقع العلاقة بين المسلمين والوحدة بينهم.
هذا الاتجاه التصحيحي المعتدل الذي يدعو إليه المرجع فضل الله، والذي نحث عليه بقوة، نهجه بعض المعاصرين من الشيعة، منهم الشيخ حسين الراضي الذي عكف على دراسة أصل متن زيارة عاشوراء الموجودة في كتاب مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي، ووفقاً لأبحاث معمقة قام بها - بحسب شبكة راصد الإخبارية - فقد توصل إلى حصول التزوير في الزيارة، وقد ركز في أبحاثه على المقطع الأخير من الزيارة: (اللهم خص أنت أول ظالم باللعن مني، وابدأ به أولاً، ثم العن الثاني والثالث والرابع ...)، الذي طالما أثار النقاش والنزاع بين الشيعة والسنة على مدى مئات السنين، وأثار الفتن المذهبية بينهما.
ويرى الراضي أن المسؤولية تقع بشكل أكبر على المحققين في العصر الحاضر، فمسؤولياتهم أكبر وأعظم، وما عملية التحقيق والتلفيق بين النسخ، وأن يختار من كل نسخة ما يحلو له إلا نوع من التدليس والتزوير.
وقد أيد الشيخ الراضي وقبله العلامة فضل الله ومن سبقهما كثير من الشيعة، وذلك في الاستفتاء الذي أجرته شبكة راصد الإخبارية في موقعها الالكتروني ونصه:
هل تعتقد بضرورة قيام المتخصصين بتنقيح كتب التراث المذهبي في الوقت الراهن؟
وكانت النتيجة مذهلة ومفاجئة للجميع:
نعم (69.36%)
لا (26.4%)
لا أدري (4%)
هذه النتيجة كانت قبيل إرسال هذا المقال للجريدة، ولا شك أنها ستتغير بين وقت وآخر، خصوصاً وأن مدة التصويت تمتد لفترة شهر تنتهي في 10/ 3/ 2007 م.
لا بد للسيد السيستناني أن ينزع عنه جلباب الصمت، ويفتي بالصوت العالي، وبالعبارة الواضحة الصريحة، بحرمة قتل الشيعة للسنة في العراق وغيره، وبتجريم ما تقوم به فرق الموت وكتائب التعذيب في العراق، والتي تتفنن في التمثيل بالضحايا بفقأ الأعين، وخلع الأسنان، وسلخ جلد الوجه، واستعمال أدوات الثقب في تفتيت الجماجم قبل أن يلفظ أصحابها أنفاسهم الأخيرة، ويسلموا أرواحهم إلى بارئها!!
فلماذا الصمت عن هذه الجرائم المروعة التي ضج العالم شرقاً وغرباً منها؟
هل هو إفساح أكبر قدر من المجال لإبادة ما أمكن من أهل السنة؟
وما سر هذا السكوت في الوقت الذي سمعنا فيه علماء السنة مراراً وتكراراً يحذرون من سفك الدماء، وهتك الحرمات، واستباحة النفس تحت ذريعة الخلاف المذهبي؟!
الأخ الشيخ حسن الصفار - وفقه الله - صرح بأنه لا يقبل بمرجع تكفيري، وهذا دليل عقل وخير؛ فهل نرى رسالة منه - حفظه الله - تبدد الالتباس، وتجمع الأمة يكتبها للسيد السيستاني يطلب فيها كشف الخفاء، وإزالة الاحتمال والإيهام؟
وما هو موقفه من عشرات الفتاوى التكفيرية التي أصدرها مراجع الشيعة القدامى، والتي تنص على تكفير من لم يعتقد إمامة الأئمة - كما بينت آنفاً - والتي لا تحتاج سوى سطرين أو ثلاثة للبراءة من قول من قال بها؟
فهل نؤيد هذه الفتاوى التكفيرية أم نتبرأ منها ببيان صريح لا لبس فيه؟
أم سنتنصل منها بحجة أنها فتاوى أموات، وفتاوى الأموات لا يعمل بها، فهذا قول مردود كما تعلم؛ لأن فتاوى الأموات التي لا يعمل بها هي فيما ساغ فيه التقليد، وهو الأحكام الفرعية العملية كما في تعليق السيستاني على كتاب العروة الوثقى المسألة (67) الذي أشرت إليه في مقالك، أما في أصول الدين فلا تقليد، ومسألة الإمامة كما هو معلوم هي لبُّ المذهب.
أعجبني قول أخي الشيخ حسن في معرض اعتذاره عن الدخول فيما سماه جدال أو سجال مذهبي، بأن هذا السجال يضر بوحدتنا الإسلامية والوطنية، وأشكره على حرصه على هذه الوحدة، لكني تحقيقاً لحرصه هذا؛ فإني أطالبه بموقف واضح من فتاوى تكفير شعب المملكة؛ لأنهم لم يعتقدوا ما يعتقده الشيعة في الإمامة، ومما أورده الكليني في كفر أهل أقدس مدينتين عند المسلمين وأحبهما إلى قلوبهم مكة والمدينة، حيث أورد [في الكافي 2/ 301] ما نصه: "إن أهل مكة ليكفرون بالله جهرة، وإن أهل المدينة أخبث من أهل مكة؛ أخبث منهم سبعين ضعفاً".
فما رأيك في هذه الفتاوى التي تكفر أهل المملكة خلا الشيعة؟
وهل هذه الفتاوى تخدم موضوع الوحدة الوطنية أم تنسفه من أساسه؟
أليس الأولى أن نتبرأ من هذه الفتاوى، ونتفرغ لمواجهة التحدّي الكبير الذي يطعن في عقيدة الإسلام، ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، وثقافة الإسلام، وأن نكون أمة واحدة تواجه التحديات الكبرى على مستوى قضايا العالم الإسلامي؟!
التحميل