اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 القَدَر سرُّ الله في خلقه

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99315
القَدَر سرُّ الله في خلقه Oooo14
القَدَر سرُّ الله في خلقه User_o10

القَدَر سرُّ الله في خلقه Empty
مُساهمةموضوع: القَدَر سرُّ الله في خلقه   القَدَر سرُّ الله في خلقه Emptyالأحد 2 يونيو 2013 - 15:32

القَدَر سرُّ الله في خلقه

ملخَّص الخطبة:
1- الكون يدلُّ بتناسقه على حكمة الله الحكيم وقدرته.
2- استسلام المؤمن لقضاء الله وقدره مع عجزها عن الإحاطة به.
3- من الكفر اعتراض البعض على قضاء الله.
4- من عظيم قَدَر الله: خفاء حكمته عن البشر، حتى الخير سببًا للشرِّ، والشرّ سببًا للخير.
5- انتشار شركات التَّأمين مظهرٌ من ضعف الإيمان بالقضاء والقَدَر.
6- الإيمان بالقَدَر لا يعني تَرْك الأسباب.
7- الإيمان بالقَدَر يبعد المؤمن عن أكل الحرام.
8- الإيمان بالقَدَر جعل سلفنا الكرام أشمع النَّاس.
9- سادس أركان الإيمان: الإيمان بالقضاء والقَدَر.
-------------------------
الخطبة الأولى
أمَّا بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - فهي عماد المؤمن في الدُّنيا، وأنيسه في قبره، ودليله في الأخرى - يوم يلقى الله - إلى جنات النعيم.
أيُّها النَّاس:
لقد خلق الله السماوات والأرض وبنى الأجسام والعوالم بناءً متقنًا دالاً على حكمته وكمال علمه وقدرته، لا يعزب عنه مثقالُ ذرَّةٍ في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، خَلَقَ كلَّ شيءٍ فأحسن خَلْقَه، وقدَّر كلَّ شيءٍ تقديرًا، خلق الثَّقَلَيْن الجنَّ والإنس، فجعل منهم كافرًا وجعل منهم مؤمنًا، قدَّر مقادير الخلائق فلم يُبْقِ ولم يَذَرْ، وأجرى مقاديره حتى على غرز الإبر، أعجز العقول والأفهام عن إدراكه، أو الإحاطة به علمًا، تجلَّت عظمة الله في القضاء والقَدَر، وعجزت العقول المسلمة عن تعليله؛ فبقيت مبهوتةً عالمةً قصورها عن دَرَكِ جميع الأمور، فأذعنت مقرَّةً بالعجز، مؤمنةً بأنَّ الكلَّ من عند الله، وأنَّ الله قد أحاط بكلِّ شيءٍ علمًا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].

سلموا لله في أفعاله، وعلموا أنَّه حكيمٌ ومالكٌ، وأنَّه لا يقدِّر عَبَثًا، فإن خفيت عليهم حكمة فعله نسبوا الجهلَ إلى نفوسهم، وسلَّموا للحكيم المالك.
وإنَّ أقوامًا نظروا إلى قضاء الله وقَدَرِه بمجرَّد عقولهم، فرأوها كما لو صَدَرَت من مخلوقٍ، نسبت إلى ضدِّ الحكمة؛ فنسبوا الخالق إلى ذلك - تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا - وهذا هو الكفر المحض والجنون البارد.
وأوَّل مَنْ فعل ذلك إبليس - عليه لعائن الله - فإنَّه قد رأى ربَّه فضَّل جنسَ الطِّين على جنس النَّار؛ فأبى واستكبر وقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12].

واعترض أبو جهل على الخالق وحكمته، حينما قال في نبوَّة محمَّدٍ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: "تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشَّرفَ، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الرُّكَب، وكنَّا كفَرَسَيْ رِهانٍ، قالوا: منَّا نبيٌّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدِّقه".
{وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحياةِ الدُّنيا} [الزخرف: 31-32].

واعترض ابن الرَّاوندي، الذَّكي المشهور في القرن الثالث الهجري - اعترض على قضاء الله وقدره، وعطَّل حكمته، واستنكف عن قسمته ورزقه؛ فقد جاع يومًا واشتدَّ جوعه، فجلس على الجسر وقد أمضَّه الجوع، فمرَّت خيلٌ مزيَّنةٌ بالحرير والدِّيباج؛ فقال: لمَنْ هذه؟ فقالوا لعليِّ بن بُلْتُق، غلام الخليفة. فمر به رجلٌ، فرآه وعليه أثر الضُّرِّ؛ فرمى إليه رغيفَيْن، فأخذهما ورمى بهما وقال: هذه الأشياء لعلي بن بُلْتُق، وهذان لي؟! فنسي هذا الجاهل الأحمق، أنه بما يقول ويعترض ويفعل أهلٌ لهذه المجاعة. قال الذهبيُّ - رحمه الله -: "فلعن الله الذَّكاء بلا إيمان، ورضيَ الله عن البلادة مع التَّقوى".

عباد الله:
إنَّ تطبيق مقاييس البَشَر ومفاهيمهم على قضاء الله وقَدَرِه هو مَكْمَنُ الخطر، واعتراض ضعاف النفوس على قسمة الله ورزقه؛ حيث جعل هذا مؤمنًا وذاك كافرًا، وذاك غنيًّا وهذا فقيرًا، وأخذه للشابِّ في شبابه، وما بلغ بنيانه بعض المقصود، وأخذه الطِّفل من أكفِّ أبوَيْه يتململان، والله الغنيُّ عن أخذه، وأبواه أشدُّ الخَلْق فقرًا إلى بقائه، وإبقائه لهرمٍ، لا يدري معنى البقاء، كلُّ ذلك يجد الشَّيطان به طريقًا للوسواس، ويبتدئ بالقَدْح في حكمة الله وقَدَره. ولو ملئت قلوب أولاء بالإيمان واليقين، والرِّضا بالله ربًّا - لما كان للشيطان مَسْلَكٌ ولا مستقرٌّ في أفئدتهم، ولأيقنوا أنَّ الله لم يقدِّر شيئًا إلا لحكمة، وأنَّ الحكمة قد يعلمها الإنسان وقد تختفي عنه وَفْقَ إرادة العزيز الحكيم.

ألا ترون - أيُّها المسلمون - أنَّ الاعتداء على السفينة بخَرْقِها يعدُّ ظلمًا واعتداءً؟ ومع ذلك فقد يظهر لكم أنَّ ذلك الخَرْقُ كان طريقًا للنجاة من هَلَكَةٍ! وهذا ما وقع للخَضِر مع موسى - عليه السَّلام -: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79].

وانظروا - حفظكم الله - إلى يوسف - عليه السَّلام - لما اتُّهم بالفاحشة وسجن بها؛ ليكون ذلك السجن سبيلاً إلى جعله على خزائن الأرض حفيظًا عليمًا.
ويعيش محمَّدٌ يتيمَ الأبوين، معذَّبًا في أهله وماله ونفسه، توصد الأبواب دونه، ويُرمَى بالحجارة، ويُلقَى عليه سَلا الجَزُور، ثم هو بعد ذلك سيِّد ولد آدم، ومَنْ لم يحبَّه كفر بالله وبما أنزل على محمَّدٍ – صلَّى الله عليه وسلَّم.

أيُّها المسلمون:
مضت سنَّة الله في خَلْقِه بأنَّ للأعمال القلبيَّة سلطانًا على الأعمال البدنيَّة، فما يكون في الأعمال من صلاحٍ وفسادٍ فإنَّما مرجعه فساد القلب وصلاحه، فطمأنينة فؤاد المسلم وركونه إلى ربِّه بعد أن يؤدِّي ما عليه من واجب، إنما هو إيمانٌ منه بأنَّ زمام الأمور كلِّها تحت مشيئة الله النَّافذة، فهو يتوكَّل على ربِّه دون توتُّرٍ ولا قلقٍ؛ ومن ثََمَّ فإنَّه يستقبل الدُّنيا بشجاعةٍ ويقين، ولسان حاله يقول ما قاله عليُّ بن أبي طالب – رضيَ الله عنه -:
أَيُّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أَفِرُّ يَوْمَ لا يُقْدَرُ أَوْ يَوْمٌ قُدِرْ
يَوْمَ لا يُقْدَرُ لا أَحْذَرُهُ وَمِنَ الْمَقْدُورِ لا يَنْجُو الْحَذَرْ
إنَّ قلقَ كثيرٍ من النَّاس، وخواء أفئدتهم من الإيمان بقضاء الله وقَدَره، وفزعهم من المستقبل، والشُّعور بالوَهَن عن حمل المصائب - هو سرُّ قيام التَّدجيل والتكهُّن والعرافة والتَّنجيم، وهو سرُّ تعلُّق عددٍ من المجتمعات - ليس بالقليل - بما يسمَّى (شركات التَّأمين)، التي قرَّر حرمتها علماءُ الملَّة، والتي تؤمِّن على المال والأرواح والأعراض، الذي استولت من خلاله على قناطيرَ مقنطرةٍ من الذَّهب والفضَّة، استقطبتها من هلع المذعورين وخشية الخوَّافين على أعمارهم حينًا، وعلى أموالهم حينًا آخَر، ومن الفَرَق الذي استحوذ على الجبناء عندما يدفعهم الشكُّ إلى ترقُّب الموت كامنًا في كلِّ أفقٍ؛ فيفزعون من الهمس، ويألمون من اللَّمس.

ولن تَقِرَّ نفوس هؤلاء إلاَّ إذا خالطها الإيمانُ بالله والتَّسليم له والرِّضا بقضائه وقَدَره؛ قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ذاقَ طعمَ الإيمان مَنْ رضيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّدٍ رسولاً))؛ رواه التِّرمذيُّ[1].
وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: ((لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقَدَر خيره وشرِّه، وحتى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه))؛ رواه التِّرمذيُّ[2].

عباد الله:
إنَّ شأن النَّاس مع القَدَر عجيبٌ، فذاك تاجرٌ يؤرِّقه السُّهود؛ لأنَّه من خوفه على رزقه يتوجَّس انهيارَ تجارته بين الحين والآخر، وآخَر غَطَّ في نومٍ عميقٍ؛ فهو لا يتجشَّم مؤونة سعيٍ؛ لأنَّ الأرزاق مقسومةٌ. والحقيقة كلُّها، في التوسُّط بين الطرفَيْن، فالمسلم يؤدِّي العملَ المطلوب؛ فيعقل ويتوكَّل، وينفي الرَّيْب عن فؤاده بعد أن يؤدِّي ما عليه؛ عملاً بقول المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اعملوا؛ فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له))؛ متَّفقٌ عليه[3].

ولذا فإنَّ أحاديث القَدَر علاجٌ للقلق والتشاؤم، وليست ذريعةَ كسلٍ أو خمول؛ إذ ما عساكَ - أيُّها المسلم - أن تفعل إذا أصابكَ ما تكره؟ إن كان تغيير المكروه في مقدوركَ فالصَّبر عليه بلادة، والرِّضا به حُمْقٌ. وإن كان ما عراكَ فوق ما تُطيق، فهل هناك حيلةٌ أفضل من الاتِّزان ورباطة الجأش؟ وهل هناك مسلكٌ أرْشَد من الرِّضا والتَّسليم للخالِق الذي يحوِّل الدَّاء دواءً، والمحنة منحةً؟ {أَحَسِبَ النَّاس أَنْ يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2-3].

أيُّها النَّاس:
إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قسم المعاش وقدَّر الأرزاق، والنَّاس أجمع لا يملكون عطاءً ولا منعًا، وإنما النَّاس وسائط، فما أعطوك فهو بقَدَر الله، وما منعوك فهو بقَدَر الله، وما كان لكَ فسوف يأتيكَ على ضعفكَ، وما كان لغيركَ فلن تناله بقوَّتكَ، وما عليك إلاَّ أن تَجِدَّ وتعمل، وتضرب في آفاق الأرض، وتأخذ بأسباب الرزق؛ فمَنْ جَدَّ وَجَدَ، ومَنْ زَرَعَ حَصَدَ، فلا كَسْبَ بلا عمل، ولا حصادَ بلا زَرْع، ومسألة الرِّزق أدقُّ من أن تُدْرَكَ، وأبعدُ من أن تُنالَ. وانظروا إلى النَّاس: ترون منهم الغوَّاصين الذين جعل الله رزقهم في أعماق البحار، والطيَّارين الذين جعل الله معاشهم في بحار الهواء بين السَّماء والأرض، وأصحاب المناجم يجدون خبزهم مخبوءًا في الصَّخر الأصمِّ، فلا ينالونه إلا بتكسيره. ومُروِّضُ[4] الأسود والفِيَلَة الذي يترصَّده الموتُ كلَّ حينٍ يجد مصدر رزقه بين أنياب الأسود أو تحت أَرْجُلِ الفِيَلَة!
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحياةِ الدُّنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32].

فلا تجزعوا من الفقر - عباد الله - فإنَّ الفقر قد يسمو كما سما فقر المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا تغترُّوا بالغنى؛ فإن الغنى قد يدنو كما دنى غنى قارون وأبي جهل.
واجعلوا الفقر والغنى مطيَّتَيْن، لا تبالون أيهما ركبتم، إن كان الفقر فإنَّ فيه الصَّبر، وإن كان الغِنى فإنَّ فيه البَذْل، وأبشروا بقول المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ روحَ القُدُس نَفَثَ في رَوْعي أنَّ نفسًا لن تموت حتى تستكمل أَجَلَها وتستوعب رزقها، فاتَّقوا الله وأَجْمِلُوا في الطَّلَب، ولا يحملنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإنَّ الله تعالى لا يُنالُ ما عنده إلاَّ بطاعته))؛ أخرجه ابن حبَّان وأبو نُعيم في "الحلية"[5].

أيُّها المسلمون:
إنَّ الإيمان بالقضاء والقَدَر يُثمر الإقدامَ وخُلُقَ الشَّجاعة والتَّسليم بأقدار اليوم والغد، وهذا ما ذكره الله - سبحانه وتعالى - في قوله: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا} [التوبة: 51]، وقوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52]؛ يعنون بذلك كسب المعركة بالنَّصر، أو الموت دون الظفر بها، وهو حسنٌ كذلك؛ لأنَّ ما عند الله خيرٌ وأبقى.

أمَّا الذين لا إيمان لهم؛ فهم إن انتصروا أو انهزموا، بين عذابَيْن؛ آجلٍ وعاجلٍ: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52]؛ فهم يحيون بفؤادٍ هواءٍ تلعب به الأحداث والظنون وأشباح الموت والمصائب.
إنَّ الذي يعتقد أنَّ الأجل محدودٌ، والرِّزق مكفولٌ، والأشياء بيد الله يصرِّفها كيف يشاء، كيف يرهب الموت والبِلَى؟! وكيف يخشى الفقر والفاقَة ممَّا ينفق من ماله؟!
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173-174].

ومن هنا اندفع السَّلف الصَّالح إلى الممالك والأقطار يفتحونها؛ فأدهشوا العقول، وحيَّروا الألباب، وقهروا الأمم؛ فكسَّروا كسرى، وقصَّروا قيصر، ودمَّروا بلادًا، ودكدكوا أطوادًا، وسحقوا رؤوس الجبال تحت حوافر جيادهم. أرجفوا كلَّ قلب، وأرعدوا كلَّ فريصة، وقائدهم في ذلك كله الإيمانُ بالله وبقضائه وقَدَره.
بهذا الاعتقاد لمعت سيوفهم بالمشرق، وانقضَّت شُهُبُهَا على الحيارى من أهل المغرب، فالله أكبر، ما أعظم الإيمان بالقَدَر! والله أكبر، ما أعظمه من مطهِّرٍ للنُّفوس من رذيلة الخَوَر والدِّعَة العائقين عن بلوغ الرّشد والدَّرجات العُلَى!

اللهم إنَّا نسألك إيمانًا بك، وبملائكتك، وكتبك، ورسلك، واليوم الآخِر، وبقَدَرك خيره وشرّه، إنَّك قريبٌ مجيب الدَّعوات.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثَّانية
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ.

أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ الإيمان بالقضاء والقَدَر دِعامةٌ من دِعامات هذا الدِّين؛ فهو الرُّكن السَّادس من أركان الإيمان؛ ضلَّ فيه مَنْ ضلَّ ممَّن حُرِمَ هدايةَ الله، ولم يوفَّق للتَّوحيد الذي هو حقُّ الله على العبيد، والمخالِفون في القَدَر، بين الغالي فيه والجافي عنه، والقول الحقُّ هو الوَسَط؛ قول أهل السُّنة والجماعة، بين الغالي فيه والجافي عنه - كما قال بعض أهل العلم - من بين فَرَثٍ ودمٍ لبنًا خالصًا سائغًا للشَّاربين!

وأهل السُّنة والجماعة يقولون: إنَّ على العبد أن يعلم أنَّ الله قد سبق علمه في كلِّ كائنٍ من خَلْقِه، فقدَّر ذلك تقديرًا مُحكمًا مبرمًا، ليس فيه ناقضٌ ولا معقِّبٌ، ولا مزيلٌ ولا مغيِّرٌ، ولا زائدٌ ولا ناقصٌ من خَلْقِه، في سماواته وأرضه، وأنَّ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنَّ للعبد مشيئةً وإرادةً تحت مشيئة الله وإرادته: {وَمَا تَشَاؤونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، وقال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كتب الله مقاديرَ الخلائق قبل أن يخلق السَّماوات والأرض بخمسين ألف سنة))؛ رواه مسلم[6].

والفرقة الناجية - أهل السُّنة والجماعة - تؤمن بالقَدَر خيرُه وشرُّه، ويقولون: إنَّ أصل القَدَر سرُّ الله في خَلْقِه، لم يطَّلع على ذلك مَلَكٌ مقرَّبٌ، ولا نبيٌّ مُرْسَلٌ، والتعمُّق والنظر في ذلك ذريعةُ الخذلان وسُلَّم الحرمان، فالحذر كلّ الحذر من ذلك، نظرًا وفكرًا ووسوسةً؛ فإنَّ الله تعالى طوى علم القَدَر على أنامه ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ} [الأنبياء: 23]، فمَنْ سأل: لم فَعَلَ؟ فقد ردَّ حكم الكتاب، ومَنْ رَدَّ حكم الكتاب كان من الكافرين.

هذا، وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البَريَّة وأفضل البشريَّة، خاتم النبيِّين وإمام المرسلين، فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين، فقال جلَّ مِن قائلٍ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
وقال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَنْ صلَّى عليَّ واحدةً؛ صلَّى الله عليه بها عَشْرًا)).
اللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّد، كما صلَّيْتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ. وبارِك على محمَّد وعلى آل محمَّد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ.

وارضَ اللَّهمَّ عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء؛ أبي بكر الصدِّيق، وعمر الفاروق، وذي النورَيْن عثمان، وأبي السِّبْطَيْن علىَّ، وعن آل بيت نبيِّك الطيِّبين الطَّاهرين، وعن أزواجه أمَّهات المؤمنين، وعن الصَّحابة أجمعين، والتَّابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

ـــــــــــــــــــــ
[1] سنن الترمذي ح (2623) وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضًا مسلم ح (34).
[2] سنن الترمذي ح (2144)، وقال عنه: حديث غريب. وصححه الألباني. السلسلة الصحيحة (2439).
[3] أخرجه البخاري ح (4949)، ومسلم ح (2647).
[4] المروض: المذلِّل.
[5] لم أجده في صحيح ابن حبان بعد طول البحث، وأخرجه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (10/26- 27)، وهو صحيحٌ بشواهده.
[6] صحيح مسلم ح (2653).


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
القَدَر سرُّ الله في خلقه
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: