اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 التوبة على عجل

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99310
التوبة على عجل Oooo14
التوبة على عجل User_o10

التوبة على عجل Empty
مُساهمةموضوع: التوبة على عجل   التوبة على عجل Emptyالسبت 18 مايو 2013 - 17:38

التوبة على عجل
أهم مراسم الاستقبال لغرة الشهور



الحمد لله، يحبُّ التوابين، ويغفر للمستغفرين، ويُقيل عثرةَ النادمين، سبحانه، أعدَّ الجنةَ نُزُلاً كريمًا للسعداء، وجعل النار موعد العصاة والأشقياء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه وحبيبه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.



أما بعد، فيا إخوة الإسلام:

بعد أيامٍ قلائل، ينزل بنا أكرمُ الأضياف من الشهور، شاهدُ خيرٍ، وبشيرُ تقوى وهدايةٍ، إنه شهر رمضان الكريم، الذي جعل الله - تعالى - أولَه رحمةً، وأوسطَه مغفرةً، وآخرَه عتقًا ونجاةً من النار، وفيه تُفتح أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النار، وتُصفَّد الشياطين، حيث يشرق هلالُه السعيد بالبركات على الدنيا في كل عامٍ مرة، منحةً من الله لعبادهِ الصالحين، فلا بُدَّ منْ فاصلٍ زمني يسترِدُّ فيه المؤمن أنفاسَه من لَهَثِ الحياة؛ حتى يكون الإمداد بالرحمة والهدى على قدر استعداد العبد، وحتى يستقبل أمواجَ الخيرات بعزمٍ وقوةٍ، فمن أراد السفر أعد له عُدَّةً، قال الله – تعالى -: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46]، ومن أبقى نفسه حيث كان موضعه الإيماني قولاً وعملاً طول العام، فإنه ذو حظٍّ عاثرٍ، ومقيم بقلبه على مرارة الحرمان.



إن قائد الطائرة يتفحصها، ويختبر قدراتها قبل إقلاعها؛ حتى تسير باعتدالٍ وضبطٍ في جوِّ السماء، ويتذكَّر موعد الإقلاع المحدد بدقيقةٍ معينةٍ، ويضمن لها ما يغلب على ظنِّه أن فيه السلامةَ، ويعلم دقائق الأشياء عند الظروف المفاجئة، ويتفحص طاقمها، مع علمه اليقيني أنه لا مجال عنده أبدًا للخطأ.



وما قلبُ المؤمن الصادق في رمضان، إلا كجناحِ طيرٍ خفَّاقٍ هَائِمٍ حول عرش الرحمن، في رحلاتٍ تدهش اللبَّ وتثير في الوجدان منازِعَ الإخباتِ لربِّ الأكوانِ، وإن ذلك لا يمكن أن يكون إلا إذا تخلص القلب من أوضار الهوى وأثقال المعاصي، وأُعْتِقَ من كل قيود الخطايا، ثم غُسِلَ بماءِ التوبةِ الطهورِ، الذي يكسبه الحياة من جديد، ويكسوهُ ثوبَ العزِّ في طاعةِ الرحمن.



فلا بُدَّ من التوبة، ولا يمكن لمؤمنٍ طامعٍ في ثواب الله أن يستقبل رمضان بلا توبة، ألا وإن أهم مراسم الاستقبال لغُرَّة الشهور هو أن يصطلح العبد مع مولاه بتوبةٍ تُورِثُ القلبَ خشيةً، والنفسَ ندمًا، والعينَ دمعًا.



التَّوْبَةُ المنشودَةُ:
والتوبة ليست كلماتٍ تُقَالُ باللسان كما يظنها كثيرٌ من الناس، فهناك طوائفُ من عباد الله - تعالى - عاشوا على توبة اللسان فقط بالتصريح بأنهم تابوا، ويظنون أنهم قد رستْ بهم مراكبُ الإيمان على سواحل السلامة منذ أزمان، وما أسهلها من توبةٍ! تلك التي قال تائبها بلسانه: "تبتُ إلى الله"، وإذا تابعتَ أفعاله وجدتَها مثل ما كان من سابق الأيام، فهي توبةٌ غير مقرونةٍ بتغيير حالٍ، ورقةِ قلبٍ، وصلاح نفسٍ، وعُلُوِّ همةٍ في الطاعات، إنما هي كلماتٌ قالها وما زال قلبه عاقدَ النيةِ على اجتراح المعاصي، أو التقصير في العمل الصالح، وربما يلوم غيرَه على اقتراف الذنب ويدْعوه للتوبة!



إنها صورةٌ تلخص النكوصَ على الأعقابِ، وحالُ صاحِبِهَا:
كَغَاسِلٍ لِثِيَابِ النَّاسِ يَغْسِلُهَا وَثَوْبُهُ غَارِقٌ فِي الرِّجْسِ وَالنَّجَسِ
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا إِنَّ السَّفِينَةَ لاَ تَجْرِي عَلَى اليَبَسِ
رُكُوبُكَ النَّعْشَ يُنْسِيكَ الرُّكُوبَ عَلَى مَا كُنْتَ تَرْكَبُ مِنْ بَغْلٍ وَمِنْ فَرَسِ
يَوْمَ القِيَامَةِ لاَ مَالٌ وَلاَ وَلَدٌ وَضَمَّةُ القَبْرِ تُنْسِي لَيْلَةَ العُرُسِ

قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]، فما التوبة النصوح؟ ولِمَ سمِّيت بذلك؟



والجواب من الإمام السيوطي - رحمه الله تعالى - في "الدر المنثور"؛ حيث جاء فيه: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سئل عن التوبة النصوح، قال: أن يتوب الرجل من العمل السيئ، ثم لا يعود إليه أبدًا"؛ (الإمام السيوطي، "الدر المنثور" في التفسير بالمأثور، نسخة إلكترونية على موقع روح الإسلام).



وعن سر التسمية بالنصوح، فقد ذكر الإمام القرطبي - رحمه الله تعالى -: "وأصل التوبة النصوح من الخلوص، يقال: هذا عسلٌ ناصحٌ، إذا خلص من الشمع، وقيل: هي مأخوذة من النصاحةِ، وهي الخياطة، وفي أخذها منها وجهان: أحدهما: لأنها توبةٌ قد أحكمت طاعته وأوثقتها، كما يحكم الخياطُ الثوبَ بخياطته ويوثقه، والثاني: لأنها قد جمعتْ بينه وبين أولياء الله وألصقته بهم، كما يجمع الخياط الثوب ويلصق بعضه ببعض"؛ (الإمام القرطبي، "الجامع لأحكام القرآن"، نسخة إلكترونية على موقع روح الإسلام).



فالنصوح هنا بمعنى الخلوص من الذنب، والتعلق بمظانِّ الرحمة من الله الرحمن، وتمامها كما نقله البغوي في تفسيره قوله: "قال القرظي: يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترْك العود بالجنان، ومهاجرة سيئ الإخوان"؛ ("تفسير البغوي"، نسخة إلكترونية على موقع روح الإسلام).



وفوق ذلك يَردُّ المظالمَ التي لا يتسبَّبُ ردُّها في فتنةٍ.



هذه هي التوبة المنشودة والمرجوة من كل مسلمٍ، ليحقق عين يقين معناها، لا أن يقول في اليوم عشرات المرات: تبت ورجعت إلى الله، وهو لم يقف على شروطها المحكمة، التي تصفها بأنها توبةٌ نصوحٌ، إن هذا لم يتب بعدُ إلى ربه بعمله.



التوبة للجميع حتى الأنبياء:
إن كل المسلمين مدعوُّون لهذه التوبة، اسمع إلى قوله - تعالى -: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، جميعًا إلى رضا الله بلا إبطاءٍ سائرون في طريق التوبة، الكبار والصغار، والرجال والنساء، والطائعون والعاصون، إنها دعوةٌ مفروضةٌ على الجميع، حتى الأنبياء المعصومين؛ وذلك لأن التوبة في الإسلام خلقٌ كريم، مع أنها حاجةٌ ماسةٌ، وعلاجٌ ناجعٌ لكل من ألَمَّ بذنبٍ، أو اجترح معصية.



وإننا لسنا أكرمَ على الله - تعالى - من أنبيائه، فقد طلبوا من ربِّهم أن يتوب عليهم مع أنهم معصومون، فهذا رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - الذي ضمن المغفرة من ربه بقوله - تعالى -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، نجده يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثرَ من سبعين مرة))؛ (البخاري، في "الجامع الصحيح"، 6307، بسند صحيح عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه)، وقد أمره الله - تعالى - بالاستغفار وطلب التوبة؛ فقال – تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، والله - تعالى - يقول: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} [التوبة: 117].



نعم، تاب الله على النبي بعدما طلب النبيُّ المغفرة من ربه، فيا من تقول بأن سيدنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هو نبيُّك وقدوتك؛ كم يومًا مضى عليك وأنت لم تقل: تبتُ إلى الله؟! مع أن توبة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - كانت توبةَ قدوةٍ وتربيةٍ، بمعنى أن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - قد طلبها من ربِّه، وأمر الناس بها، وأخبرنا عن توبته الدؤوبة كل يومٍ سبعين مرة، كل ذلك ليعلمنا أن نتوب، ونأخذ الجانب العملي من سيرته بحسن الاتِّباع.



ونبي الله آدم أبو البشر - عليه السلام - طلب التوبة من ربه حين قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].



فهل نحن أكرم على الله - تعالى - من أبي البشر؟!



ونوحٌ - عليه السلام - مَعْلَمُ الصبرِ والشكرِ، يطلب التوبة والمغفرة من الله – تعالى -: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، وقال الله - تعالى - أيضًا على لسان سيدنا نوحٍ - عليه السلام -: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28].



وخليل الرحمن إبراهيم - عليه السلام - أُمَّةُ التسليم واليقين، يطلب التوبة من ربِّه هو وولده النبي الكريم إسماعيل - عليه السلام - قال الله - تعالى - على لسان الخليل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128].



ونبي الله يونس - عليه السلام - الذاكر في ظلماتٍ ثلاثٍ، يناجي ربَّه بتوبة قلبه: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].



ونبي الله الكليم موسى - عليه السلام - يطلبُ المغفرةَ والتوبةَ من طلبه لربه بعدما تيقن أن رؤية الرب العظيم أمرٌ مستحيلٌ: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].



فإذا كان الأنبياء قد تابوا وهم معصومون، فكيف بنا وقد قامت سوقُ حياتنا على بضاعة الذنوب بجميع ألوانها؟!



إمكانية التوبة وعدم استحالتها:
فلا تستصعبْ حالَك مهما كان ذنبُك، وتُبْ إلى الله ولا تستوعر الطريق ولا تقع في بُنَيَّاتِهِ، فمن الناس من ثقُلتْ به مطايا الطاعة حتى صار منها مفلسًا، وقد أرجفتْ عليه دنياه مع الشيطان والهوى، فزاد رصيده من المعاصي حتى إنه ليظن في نفسه أن توبته عين المستحيل، وأن المغفرة ليس له منها أي نصيب، وأنه لن ينال وصفَ التائبين مهما عمل من عملٍ صالح؛ وذلك لكثرة ذنوبه، وهذا ليس من شأن المؤمنين، وإن اليأس أبعدُ الصفات عن أهل الإيمان؛ بل إنه نعتُ مَن لا يؤمن بالله - تعالى - ولا يثق في موعوده المحقَّق؛ قال الله - تعالى -: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

ومن حال السلف الصالح نَسْتلْهم العبرةَ من توبتهم وأوبتهم إلى ربهم، ومنهم "مالك بن دينار"، الذي كان بعيدًا عن حياض النجاة بمراحلَ مُطَوَّلَةٍ، ولكن كانت التوبة قدره السعيد، ولكل شيءٍ سببٌ فأتبع سببًا، يحكي أسبابَ توبته كما أورد المقدسي في "التَّوَّابِينَ" قوله: "كنت شرطيًّا، وكنت منهمكًا على شرب الخمر، ثم إنني اشتريت جاريةً نفيسةً، ووقعت مني أحسن موقع، فولدتْ لي بنتًا، فشغفت بها، فلما دبتْ على الأرض ازدادت في قلبي حبًّا، وألِفتني وألفتها، قال: فكنت إذا وضعت المسكر بين يدي، جاءت إليَّ وجاذبتني عليه، وهرقتهُ من ثوبي، فلما تم لها سنتان ماتت، فأكمدني حزنها، فلما كانت ليلة النِّصف من شعبان - وكانت ليلة الجمعة - بِتُّ ثمَِلاً من الخمر، ولم أصلِّ فيها عشاء الآخرة، فرأيتُ فيما يرى النائم كأن القيامة قد قامتْ، ونُفخ في الصور، وبعثرت القبور، وحشر الخلائق وأنا معهم، فسمعت حسًّا من ورائي فالتفت، فإذا أنا بتنِّين أعظم ما يكون، أسود أزرق، قد فتح فاه مسرعًا نحوي، فمررتُ بين يديه هاربًا فزعًا مرعوبًا، فمررت في طريقي بشيخٍ نقي الثوب، طيب الرائحة، فسلَّمتُ عليه، فردَّ السلام، فقلت: أيها الشيخ، أجرني من هذا التنين، أجارك الله، فبكى الشيخ وقال لي: أنا ضعيف، وهذا أقوى مني وما أقدر عليه.



ولكن مر وأسرع، فلعل الله أن يتيح لك ما ينجيك منه، فوليت هاربًا على وجهي، فصعدت على شَرَفٍ من شرف القيامة، فأشرفت على طبقات النيران، فنظرت إلى هولها وكدت أهوي فيها من فزع التنين، فصاح بي صائح: ارجع، فلستَ من أهلها، فاطمأننت إلى قوله ورجعت، ورجع التنين في طلبي، فأتيت الشيخ فقلت: يا شيخ، سألتك أن تجيرني من هذا التنين فلم تفعل، فبكى الشيخ وقال: أنا ضعيف، ولكن سر إلى هذا الجبل، فإن فيه ودائعَ المسلمين، فإن كان لك فيه وديعة فستنصرك، قال: فنظرت إلى جبل مستدير، من فضة وفيه كوى مخرمة، وستور معلقة، على كل خوخة وكوة مصراعان من الذهب الأحمر مفصلة باليواقيت، مكوكبة بالدر، على كل مصراع ستر من الحرير، فلما نظرت إلى الجبل وليتُ إليه هاربًا والتنين من ورائي، حتى إذا قربتُ منه صاح بعض الملائكة: ارفعوا الستور، وافتحوا المصاريع وأشرفوا؛ فلعل لهذا البائسِ فيكم وديعة تجيره من عدوِّه، فإذا الستور قد رُفعتْ، والمصاريعُ قد فُتحتْ، فأشرف عليَّ من تلك المخرمات أطفالٌ بوجوهٍ كالأقمار، وقرب التنين مني، فتحيرتُ في أمري، فصاح بعض الأطفال: ويحكم أشرفوا كلكم، فقد قرب منه عدوُّه، فأشرفوا فوجًا بعد فوج، وإذا أنا بابنتي التي ماتت قد أشرفت عليَّ معهم، فلما رأتني بكتْ وقالت: أبي والله، ثم وثبتْ في كفة من نور كرمية السهم، حتى مثلت بين يدي، فمدَّتْ يدها الشمال إلى يدي اليمنى، فتعلقت بها، ومدَّتْ يدها اليمنى إلى التنين، فولى هاربًا، ثم أجلستني وقعدت في حجري، وضربت بيدها اليمنى إلى لحيتي وقالت: يا أبت {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]، فبكيتُ وقلتُ: يا بنية، وأنتم تعرفون القرآن؟ فقالت: يا أبت، نحن أعرفُ به منكم، قلت: فأخبريني عن التنين الذي أراد أن يهلكني، قالت: ذلك عملك السوء، قوَّيتَه فأراد أن يغرقك في نار جهنم، قلت: فأخبريني عن الشيخ الذي مررت به في طريقي، قالت: يا أبت، ذلك عملك الصالح، أضعفتَه حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء، قلت: يا بنية، وما تصنعون في هذا الجبل؟ قالت: نحن أطفال المسلمين، قد أسكنا فيه إلى أن تقوم الساعة، ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم.



قال مالك: فانتبهتُ فزعًا، وأصبحت فأرقتُ المسكر، وكسرتُ الآنية، وتبتُ إلى الله - عز وجل - وهذا كان سبب توبتي".



فسبحان الله الذي يسبِّب الأسباب لعباده في سبل الخيرات! فمن كان يظن وهو يتابع حال هذا الرجل أنه سيكون من أعلام الخير، وممن يشار إليهم بالبنان هدايةً وتقوى؟!

إن انتقال العبد إلى معسكر السعداء بعد الشقاوة، ليس بالأمر المستحيل، فمن كان يظن أن عمر بن الخطاب سيصير مسلمًا في يومٍ من الأيام؟! وقد ثارت هذه المقولة عنه: " لو أسلم حمار آل الخطاب، ما أسلم عمر"، والمهم هو الصدق في التوبة، وسلامة النية، ومن ثم تكون المغفرة؛ فعن أبي طويل شطب الممدود: أنه أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أرأيتَ مَن عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئًا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجَّة إلا أتاها، فهل لذلك من توبة؟"، قال: ((فهل أسلمتَ؟))، قال: أما أنا، فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: ((تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيراتٍ كلهن))، قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: ((نعم))، قال: الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى"؛ (الطبراني كما في "مجمع الزوائد" 1/31).



منذ أحد عشر شهرًا وكثيرٌ من الناس في بُعدٍ عن ربهم، غارقين في بحار الدنيا التي شغلتْهم حتى الأذقان، وسوَّل لهم الشيطان، وقادهم الهوى إلى ما يرسم الصورة العامة للبشر وهم يتخبطون في حمأة المعاصي بلا هدى، ولا يُجيرهم ويُصلح شأنَهم إلا توبةٌ بعقدٍ مبرمٍ بنياط القلب مع الله الغفور، ليس للشيطان ولا للهوى فيه نصيب.



وُجُوبُ التَّوْبَةِ مِنْ كِلِّ الأَعْمَالِ:
وقد اهتدى الموفَّقُونَ إلى أن التوبة تكون من كل عملٍ، فإذا أذنب العبد، فأمامه بحورُ التوبة يغسل نفسَه فيها؛ قال الله – تعالى -: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، لكننا نلحظ بُعدًا آخر للتوبة، تلك التي تكون بعد العمل الصالح، حيث تلزم العبد بعده توبةٌ لإنجاح العمل وقَبوله، تأمل قوله - تعالى - في بيان مناسك الحج: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]، وذلك بعد مراحل من العبادات الكريمة التي سبقت، من طوافٍ، وذِكرٍ، وصلاةٍ، وقراءة قرآنٍ، وإنفاقٍ، ووقوفٍ بعرفةٍ، والآية في عمومها إنما جاءتْ قرب إتمام المناسك.



وبعد الصلاة قد سنَّ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستغفر الله؛ فعن ثوبان - رضي الله تعالى عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته، استغفر ثلاثًا، وقال: ((اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام))، قال الوليد: فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله، أستغفر الله"؛ (مسلم في المسند الصحيح، 591، بسندٍ صحيح).



وفي درج الحديث عن قيام الليل، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله - تعالى - والضرب في الأرض لابتغاء الطيبات من الرزق، نجد البيانَ القرآني يختم بالأمر للمسلمين بالاستغفار، مع أن جو الآية كله يدور حول صالح الأعمال؛ قال الله - تعالى -: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20].



وقد قضى رسولُنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - حياتَه المباركةَ في الدعوة إلى ربِّه، وكان انتشار الدين، وهداية الناس إليه، هو هدفَه في هذه الدعوة الغرَّاء، فلما تحقق هذا الهدفُ، وقام بأمانات البلاغ، وأتمَّ الله عليه نعمته؛ قال الله - تعالى - له: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3].



فبعد تحقيق المنى، ماذا يجب على المحبور فعله؟ أيدقُّ الطبولَ، ويقيمُ الليالي الطوالَ بين أيدي القينات والمعازف، كما يفعل كثيرٌ من الناس اليوم؟! فعندما تطرق نعمةُ الفرح أبوابَهم في عرسٍ، أو نجاحٍ، أو عودة غائبٍ، فإن الكثيرين منهم يهرعون إلى موارد الهلكة، بالعصيان والتمرُّد على واهب النِّعم، ويستحلُّون لأنفسهم ما حرَّمه الله ونطقتْ به المحكماتُ من الآيات، ولهم في ذلك جدلٌ عقيمٌ لا يُبقي من حسن التدين شيئًا، والمفروض على العبد أن يستغفر الله - تعالى - إثر الطاعات؛ حتى يجبر نقصها بطلب المغفرة، تمامًا كما أُمر النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - بالتسبيح والاستغفار.



فهذه التوبة المرجوَّة بعد العمل الصالح، إنما تكون تطهيرًا لما ألَمَّ بنيته، أو إتمامًا لنقصٍ لا يجبره إلا هذه التوبةُ، وهي تُماثِلُ في دورها زكاةَ الفطر في كونها طهرةً للصائم لما عسى أن يكون قد وقع فيه من اللغو والرفث، وقد يؤدي العبد العبادة وتصيبه آفاتٌ مانعةٌ من قبولها، كغرور الطاعة، أو بعض الرياء، أو قلة الخشوع والإخبات، فذلك كله مرهونٌ بالتوبة إذا رام العبد لعبادته قبولاً من ربه.



حَصَادُ الذُّنُوبِ من الأُمَمِ السَّابِقَةِ:
إن حصاد الذنوب من الأمم السابقة حملٌُ ثقيلٌ قد حمله أهل المعاصي، كلٌّ في زمانه، وقد أبادهم الله - تعالى – أجمعين؛ {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40]، والمؤسف أن أخلاطًا من الناس في هذا الزمن ورثوا بكل إصرارٍ صورًا من هذه الموبقات، التي استحق فاعلوها ما أنزله الله - تعالى - عليهم من العذاب، وبدلاً من أن يرثوا عِلْمَ وهداية خيرِ البشر - صلى الله عليه وسلم - فقد أورثوا أنفسهم ميراثَ الصادين عن الهدى، ولهم انتماءاتٌ تشرح مسعاهم في هذه الدنيا إلى قوم نوحٍ، أو قوم لوطٍ، أو قوم فرعونَ، أو أهل الجاهلية، فمنهم من هو مصرٌّ على ترك الصلاة، أو منْع الزكاة، أو التعامُل بالربا، أو التجرؤ على الزنا أو اللواط، أو إنقاص الكيل وإخسار الميزان، أو أكل مال اليتيم وأكل أموال الناس بالباطل، ميراثٌ ممن سبقوا ولهم صولاتٌ منكرةٌ في عالم التمرد والعصيان.



فما قيمة العبد إذا ورث مغبَّات أمثال هذه السخائم، وحملها على ظهره، ثم أراد أن يدخل بها إلى رمضان؟! إن أقل فروض التعقل تؤكِّد أنه لا بد من تطهير ساحة أهل الإيمان قبل دخول رمضان من جميع ما اقترفتْه الجوارحُ والقلوب من الذنوب، وإذا زاد رصيدُ العبد من المهلكات من الأوزار، فإنه يسد على نفسه أبوابَ التوفيق، ويسجل اسمه في ديوان المعذبين، إنما جاء رمضان ليحيي فينا ما اندرس من حسن التدين، وليحط الله عنا التبعات قبل الإهلال بالسلامة والرحمة والعتق من النار.



على العاقل أن يرث من الذين سبقوه ما يرفع الله به قدْرَه، وتكون معه السعادة في الدنيا، والنعيم في الآخرة.



امسح أحزان الحياة بفرح التوبة:
إن العبد إذا تاب إلى ربِّه، نادى منادٍ من قِبَل السماء: هنِّئوا فلانًا؛ فقد اصطلح مع الله، فعلى العبد أن يبحث عن أفراح التوبة؛ فإن مذاقها في القلب لا يوصف من جماله، خصوصًا للمحرومين الذين أردتْهم شهواتُهم، وأغرقتْهم الأعوام المتتالية في براثن الأطماع الفانية من هذه الدنيا، دون أن يحققوا معنى التوبة، أو يتعرفوا عليها بحق اليقين.



والله - تعالى - يحبُّ التوبة لعبده؛ قال الله – تعالى -: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27]؛ بل إن الله الحنَّان حبيبُ من تاب وأناب، يمنُّ عليه بالرحمة والمغفرة والهداية بعد ذلك لأقوم السبل؛ قال الله - تعالى -: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، وحتى مع الكبائر من الذنوب، ما لم تصل إلى الشرك بالله؛ قال الله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقال الله - تعالى -: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70].



فهذا التلطُّفُ الإلهي يحفز العبدَ إلى التوبة ويغريه ويقرِّبه بعد أن كان بعيدًا؛ قال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -: ((للهُ أفرحُ بتوبة عبده المؤمن من رجلٍ نزل في أرضٍ دَوِّيَّةٍ مَهلَكةٍ، معه راحلته عليها طعامُه وشرابه، فوضع رأسَه فنام، فاستيقظ وقد ذهبتْ راحلتُه، فطلَبَها حتى إذا اشتدَّ عليه الحر والعطش، أو ما شاء الله - تعالى - قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلتُه عنده عليها زادُه وشرابه، فالله أشدُّ فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته))؛ (البخاري في الجامع الصحيح، 6308، ومسلم في المسند الصحيح، 2744).



فيا من ثقلتْ ذنوبُه، وضاقتْ به نفسُه؛ من فرط سخائمها وبُعدِها عن ربها، أبشِرْ بفرج التوبة وقد أدركتك معه رحمة ربك، ألم يأنِ لك أن ترحم نفسك من كثرة عصيانك؟! ألا ترجو الجنة وتحاذر من النار؟! قف وقفة محاسبة ومعاتبة دائمة لنفسك، ولا تصالحها وتسالمها على حساب دينك، واستأنف السير من جديد إلى الطاعات، وكن كنبي الله موسى - عليه السلام - حين قال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].



لكل مذنبٍ توبة:
قد تتشابه التوبة كلُّها في وصفها الشرعي بشروطها، ولكنها تتباين من شخص إلى آخر؛ فتوبةُ العالم تختلف عن توبة الجاهل، وتوبةُ الحاكم تختلف عن توبة آحاد الرعية؛ وذلك لما يترتب على أفعال كل واحد من تبعات وآثار، فمما يستلزم فهمه في هذا الصدد أن الحاكم الذي يريد أن يتوب، عليه أن يذيق رعيتَه طعمَ العدل إن كان قد حَرَمَهم منه قبل ذلك، ويمنع ظُلمَ جنوده، ويغيِّر من القوانين والأحكام ما كان سببًا في إرهاق الخلق بتجويعهم أو زيادة العنت عليهم، كما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - يفعل، فقد أُثر عنه أنه اشترى مظلمة من أمٍّ لليتامى في زمانه كان الجوعُ قد ألهبها هي وأولادها، وقد أصدر - رضي الله تعالى عنه - مرسومًا يقضي بفرضٍ لكل رضيعٍ في الإسلام، بعد اطِّلاعه على حال رضيع كانت أمُّه تُكرِهه على الفطام؛ رجاءً في العطاء المفروض لكل فطيم، وكان يقول - رضي الله عنه - لنفسه: كم قتلت من أطفال المسلمين!



وتوبة العالم أن يرجع عما أثاره بين الناس من فتاوى أو مقولات، ظهر له منها بَعد قولِها أنها مخالفة لدين الله، وخصوصًا إذا كان قريبًا من السلاطين والحكام؛ حيث يسهل على بعضهم مواءمة الجو العام، والسير مع الموجة؛ بل والسخرية من الآراء المخالفة، والطعن في كل قولٍ لا يروق لهم.



وتوبة الغني المانع للزكاة هي الإنفاق الفوري، وردُّ المظالم إلى أهلها، ودفع الفوائت، والاستغفار إلى الله - تعالى - حتى يقبلها.



وتوبة قاطع الرحم أن يصلها، وتارك الصلاة أن يقيمها، وآكل الحرام أن يمسك عنه، وآكل حقوق الخلق أن يؤديَها إليهم غير منقوصة.



وبهذا نعلم أن التوبة واجبةٌ على كل فردٍ بما فيها من شروط وأحكام، ولكن صورها تختلف من شخصٍ إلى آخر.



وأخيرًا:

على كل عاقلٍ أن يقف مع نفسه وقفة محاسبة ليناجيها بقوله:
يَا نَفْسُ تُوبِي فَإِنَّ المَوْتَ قَدْ حَانَا وَاعْصِي الهَوَى فَالهَوَى مَا زَالَ فَتَّانَا
فِي كُلِّ يَوْمٍ لَنَا مَيْتٌ نُشَيِّعُهُ نُحْيِي بِمَصْرَعِهِ آثَارَ مَوْتَانَا
يَا نَفْسُ مَا لِي وَللأَمْوَالِ أَجْمَعُهَا خَلْفِي وَأَخْرُجُ مِنْ دُنْيَايَ عُرْيَانَا

ونسأل الله - تعالى - أن يكتبنا من التوابين، وأن يتقبل منا صالح الأعمال، والحمد لله في بدءٍ وفي ختم.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
التوبة على عجل
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» التوبة
» مسائل في التوبة
» التوبة وحقيقتها
» أخطاء في باب التوبة
» التوبة النصوح

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: خطب مقـــرؤه-
انتقل الى: