النصوص الإنجيلية النافية لإلهية عيسـى و المثبتة لعبوديته
القسم الأول:
النصوص المؤكدة لوحدانية الله تعالى الذي في السماوات و أنه رب واحد و إله واحد لا يشاركه في ربوبيته و لا ألوهـيته أحد و لا تجوز العبادة إلا له وحده فقط :
لقد تضافرت على إثبات تلك العقيدة : أي توحيد الذات و توحيد الربوبية و الألوهية، و التي هي أساس جميع الرسالات السماوية، نصوص العهد الجديد و العهد القديم[1] ، و فيما يلي بيان بعض هذه النصوص :
أ ـ من العهد الجديد :
(1) جاء في إنجيل مرقس (12 / 28 ـ 32) أن أحد اليهود الكتبة سأل المسيح فقال:
" أيةُ وصيَّةٍ هي أوّل الكلّ؟ فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد، و تحب الرب إلهك من كل قلبك و من كل نفسك و من كل فكرك و من كل قدرتك، و هذه هي الوصية الأولى. و الثانية مثلها و هي: تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين. فقال له الكاتب: جيدا يا معلم قلت: لأن الـلـه واحـد و ليـس آخـر سواه.."
و مثل هذا أيضا جاء في إنجيل لوقا و إنجيل متى، و فيه قال عيسى عليه السلام بعد بيانه لهاتين الوصيتين: " بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس [2] كلـه و الأنبياء "[3] .
و هذا يؤكد أن توحيد الربوبية و الألوهية أساس الشريعة و أساس دعوة جميع الأنبياء عليهم السلام، و هذا ما صدقه القرآن في قوله عز وجل: { و لقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت } النحل / 36، و قوله سبحانه: { و ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } الأنبياء / 25.
و مما يجدر بالذكر التنبيه إليه أن سيدنا عيسى عليه السلام بين أنه لا وصية أعظم من هاتين الوصيتين، و أنهما أساس الناموس و أساس جميع دعوات الأنبياء، و بناء عليه، فلو كانت ألوهية عيسى عليه السلام و مشاركة الابن لله في ألوهيته، عقيدة حقة و الإيمان بها شرط ضروري للنجاة و الخلاص الأخروي ـ كما نص عليه دستور الإيمان الذي تقرر بمجمع نيقية ـ لبيـَّن عيسى عليه السلام ضرورة الإيمان بذلك و لم يكتمه، خاصة في هذا المقام الذي سئل فيه عن أهم الوصايا، فلما لم يذكر ذلك في هذا المقام، علم أن ألوهية عيسى ليست من وصايا الله عز و جل أصلا.
(2) و جاء في إنجيل يوحنا (17 / 1ـ 3):
" تكلم يسوع بهذا و رفع عينيه نحو السماء و قال: أيها الآب قد أتـت الساعة... و هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإلـه الحقيقي وحدك و يسوع المسيح الذي أرسلته ".
قلت: ففي هذه الآية بين عيسى عليه السلام أن النجاة الأخروية تكمن في الإيمان بأن الآب هو الإلـه الحقيقي وحده، فلفظة وحدك صريحة قاطعة في انفراد الآب بالألوهية، و عدم مشاركة أي أحد آخر ـ و منهم المسيح الابن ـ له فيها. و يؤكد هذه أكثر عطف المسيح، كرسولٍ لله تعالى، فيما يجب معرفته و الإيمان به. و هذا هو عين ما قاله القرآن الكريم و هو وجوب الإيمان بالله وحده لا شريك له، و بأن المسيح رسول الله، على نبينا و عليه الصلاة و السلام.
(3) و جاء في إنجيل متى (4 / 8 ـ10) قصة امتحان الشيطان للمسيح :
" ثم أخذه أيضا إبليس إلى جبل عال جدا و أراه جميع ممالك العالم و مجدها. و قال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت و سجدت لي! حينئذ قال له يسـوع: اذهب يا شيـطان. لأنه مكتوب: للرب إلـهك تسجد و إياه وحده تعبد"[4] .
قلت: فسيدنا المسيح عليه السلام يؤكد على ما هو منصوص في التوراة بأن الرب الإله وحده فقط الذي ينبغي و يصح السجود له و عبادته، و بالتالي فلا تجوز العبادة و لا السجود لأي شيء آخر غيره، سواء كان المسيح الابن أو العذراء الأم أو الصليب أو أي كائن آخر سوى الله تعالى.
ثم إن نفس امتحان الشيطان لعيسى عليه السلام و وسوسته له و محاولته إضلاله لأكبر دليل، في حد ذاته، على بشرية عيسى المحضة و عدم إلـهيته، إذ ما معنى امتحان الشيطان لله خالقه و ربه؟! و متى و كيف يكون الله تعالى في حاجة للامتحان و الاختبار؟!
(4) و في إنجيل متى (19 / 16 ـ 17):
" و إذا واحد تقدم و قال: أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل لتكون لي الحيوة الأبدية؟ فقال (المسيح) له: و لماذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد و هو الله. و لكن إذا أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا "[5] .
قلت: لقد نفى سيدنا عيسى عليه السلام بكل صراحة عن نفسه الصلاح، و لعل المقصود به الصلاح الذاتي المطلق أي القداسة الذاتية المطلقة، و أثبته لله الواحد الأحد فقط. و لا أدل من هذا على نفيه الألوهية عن نفسه، و ليت شعري، إذا كان عليه السلام لم يرض بأن يوصَفَ حتى بالصالح فقط، فكيف يمكن أن يرضى بأن يوصَف بأنه إلـهنا و ربنا؟!
(5) و في إنجيل متى (23 / 8 ـ 10) يقول المسيح عليه السلام لأتباعه:
" و أما أنتم فلا تدعوا سيدي، لأن معلمكم واحد المسيح و أنتم جميعا أخوة، و لا تدعوا لكم أبـاً على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السماوات ".
قلت: المعروف أنه في لغة الإنجيل، كثيرا ما يعبر عن الله بالآب، و هنا كذلك، فقول عيسى عليه السلام " لا تدعوا لكم أبـا على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السماوات " يعنى ليس لكم إله إلا الله وحده الذي في السماوات، و هذا صريح في نفي ألوهية كل أحد ممن هو على الأرض، و يدخل في هذا النفي المسيح كذلك لكونه على الأرض.
و يؤكد ذلك أيضا الاقتصار على وصف المسيح بالسيد و المعلم و عدم وصفه بالإلـه.
هذا و فيما يلي نورد عبارتين للقديس بولس الذي يحتل مكانة عظيمة لدى إخواننا النصارى حيث تعتبر رسائله من إلهام الله تعالى و بالتالي لها منزلة الوحي المعصوم عندهم، لذا ألحقت رسائله الأربعة عشر بالأناجيل و اعتبرت جزءا من كتاب العهد الجديد:
(6) جاء في رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس (الإصحاح الثامن / 4 ـ 6):
"... فمن جهة أكل ما ذبح للأوثان نعلم أن ليس وثن في العالم و أن ليس إله آخر إلا واحدا. لأنه و إن وجد ما يسمى آلـهة سواء كان في السماء أو على الأرض، كما يوجد آلهة كثيرة و أرباب كثيرون. لكن لنا إلـه واحد: الآب الذي منه جميع الأشياء و نحن به. و رب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء و نحن به. ".
قلت: فقوله " ليس إله آخر إلا واحداً " هو نفس الكلمة الطيبة و شعار التوحيد الخالد الذي بعث به جميع الأنبياء: " لا إله إلا الله ". و قوله " و لكن لنا إلـه واحد: الآب الذي منه جميع الأشياء " في غاية الصراحة و الوضوح في إفراد الآب وحده بالإلـهية و أن كل ما سواه ـ بما فيهم المسيح ـ مخلوق منه.
و يزيد هذا الإفراد للآب بالألوهية، تأكيداً، ذكر يسوع المسيح بعده بصفة الرب فقط، و لا شك أنه لا يريد بالرب هنا الألوهية و إلا عاد مناقضا لنفسه إذ يكون قد أثبت لنا إلـهين اثنين بعد أن أكد أنه ليس لنا إلا إله واحد، لذلك لابد أن يكون مراده بالرب معنى غير الله، و هذا المعنى هو السيد المعلم، كما تدل عليه رسائله الأخرى و كما هو مصرح به في إنجيل يوحنا من أن لفظة الرب ـ عندما تطلق على المسيح ـ يقصد بها المعلم، ففي الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا (الآية 38):
" فقالا ربي ! ـ الذي تفسيره: يا معلم! ـ أين تمكث؟ "
و كذلك في إنجيل يوحنا (الإصحاح 20 / آية 16):
" قال لها يسوع: يا مريم! فالتفتت تلك و قالت له ربّوني! الذي تفسيره يا معلم."
(7) و أخيراً في رسالة بولس إلى أهل أفسس (4 / 6):
" ربٌّ واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة. إلـه و آب واحد للكل، الذي على الكل و بالكل و في كلكم ".
ب ـ من العهد القديم :
(1) أول وصية من الوصايا العشر التي أوحاها الله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام و كتبها له في الألواح، كما جاءت في سفر الخروج (20 / 1ـ 4) من التـوراة الحالية:
" أنا الرب إلـهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلـهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالا منحوتا و لا صورة مما في السماء من فوق و ما في الأرض من تحت و ما في الماء من تحت الأرض. و لا تسجد لهن و لا تعبدهن ".
(2) و في سفر الخروج أيضا (23 / 13): " و لا تذكروا اسم آلهة أخرى و لا يسمع من فمك ".
(3) و في سفر التثنية من التوراة (6 / 4 ـ 5 ثم 14 ـ 16) يوحي الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن يقول لبني إسرائيل:
" اسمع يا إسرائيل! الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلـهك من كل قلبك و من كل نفسك و من كل قوتك...
الرب إلـهك تتقي، و إياه تعبد، و باسمه تحلف، لا تسيروا وراء آلهة أخرى من آلهة الأمم التي حولكم، لأن الرب إلـهكم إلـه غيور في وسطكم، لئلا يحمى غضب الرب إلـهكم عليكم فيبيدكم عن وجه الأرض ".
(4) و في سفر التثنية (4 / 39) من التوراة أيضا:
" فاعلم اليوم و ردد في قلبك أن الرب هو الإلـه في السماء من فوق و على الأرض من أسفل، ليس سواه ".
(5) و في سفر أخبار الأيام الأول (17 / 20) قول داود عليه السلام لله عز وجلّ:
" يا رب ليس مثلك، و لا إلـه غيرك، حسب كل ما سمعناه بآذاننا ".
(6) و في سفر نحميا (9 / 5 ـ 7) من العهد القديم:
" قوموا باركوا الرب إلـهكم من الأزل إلى الأبد و ليتبارك اسم جلالك المتعالي على كل بركة و تسبيح. أنت هو الرب وحدك. أنت صنعت السماوات و سماء السماوات و كل جندها و الأرض و كل ما عليها و البحار و كل ما فيها. و أنت تحييها كلها و جند السماء لك يسجد ".
(7) و في زبور داود عليه السلام المسمى بسفر المزامير (16 / 1 ـ 2 ـ 4):
" احفظني يا الله لأنني عليك توكلت. و قلت للرب أنت سيدي. خيري لا شيء غيرك.... تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر، لا أسكب سكائبهم من دم و لا أذكر أسماءهم بشفتي ".
(
و في المزامير لداود عليه السلام أيضا (18 / 30 ـ 31):
" الله طريقه كامل. قول الرب نقي. ترسٌ هو لجميع المحتمين به. لأنه من هو إله غير الرب؟ و من هو صخرة سوى إلـهنا؟؟ ".
(9) و في سفر النبي إشعيا عليه السلام (44 / 6):
" هكذا يقول الرب ملك إسرائيل و فاديه. رب الجنود: أنا الأول و أنا الآخر و لا إلـه غيري ".
(10) و في سفر النبي إشعيا أيضا (45 / 5 ـ 6 ـ 7):
" أنا الرب و ليس آخر. لا إله سواي... لكي يعرفوا من مشرق الشمس و من مغربها أن ليس غيري. أنا الرب و ليس (من رب) آخر. مصور النور و خالق الظلمة و صانع السلام و خالق الشر أنا صانع كل هذه ".
(11) و أيضا في سفر النبي إشعيا عليه السلام (45 / 18 و 21 ـ 22):
" أنا الرب و ليس (من رب) آخر... أليس أنا الرب و لا إله غيري؟ إلـهٌ بارٌّ و مخلِّصٌ ليس سواي. التفتوا إلي و أخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأنني أنا الله و ليس (من إلـه) آخر ".
(12) أما سفر النبي إرميا عليه السلام ، و هو سفر طويل يضم 52 إصحاحا، فمحوره كله يدور حول توحيد الله تعالى و نبذ كل آلهة سواه، و عبادته وحده و تقديم البخور و النذور و الأضاحي له وحده و عدم تقديمها لآلهة مزيفة غيره، و الدعاء باسمه وحده و التوكل عليه وحده و عدم التوكل على غيره، و لا يتسع المجال لذكر كل شواهد ذلك فنكتفي بالإشارة لمواضعها :
إرميا: 1/16، 7/6 و 9، 10/3ـ16، 10/25، 11/10ـ11 و 17، 16/11، 16/19ـ21، 17/5ـ8، 18/5، 25/6،35/15، 44/3ـ8، 44/15ـ28.
(13) و الإصحاح السادس من سفر النبي حزقيال عليه السلام ، يدور كله حول عاقبة بني إسرائيل الذين اتجهوا لعبادة أصنام و آلهة غير الله و ما سيحل بهم من عذاب الله و سخطه و انتقامه.
(14) و في سفر النبي هوشع عليه السلام (13 / 4):
" و أنا الرب إلـهك، من أرض مصر، و إلـها سواي لست تعرف، و لا مخـلِّص غيري ".
(15) و في سفر النبي يوئيل عليه السلام (2/ 27):
" و تعلمون أني أنا في وسط إسرائيل و أني أنا الرب إلـهكم و ليس هناك غيري ".
(16) و في سفر النبي زكريا عليه السلام (14 / 9):
" و يكون الرب ملكا على الأرض كلها. و في ذلك اليوم يكون رب واحد، و اسمه واحد "[6] .
القسم الثاني :
نصوص يبين فيها المسيح بكل وضوح أن الله تعالى إلـهه و معبوده
(1) في إنجيل يوحنا (20 / 17):
" قال لها يسوع: لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي. و لكن اذهبي إلى إخوتي و قولي لهم: إني أصعد إلى أبي و أبيكم و إلهي و إلهكم "
قلت: هذه الآية من أصرح العبارات في نفي عيسى الألوهية عن نفسه. إذ كيف يكون إلـها و هو يعترف و يقر بأن الله تعالى إلـهه؟! و هل الله يكون له إلـه؟؟
و هذا هو ما صدَّقَه القرآن الكريم حين أكد أن عيسى عليه السلام كان يقول:
" و قال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي و ربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و ما للظالمين من أنصار " المائدة / 72.
و مثله أيضا ما قاله تعالى عنه عليه السلام أنه سيقول يوم القيامة:
" ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي و ربكم " المائدة / 117.
(2) و في إنجيل متى (27 / 46)، و إنجيل مرقس (15 / 34):
" و نحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: إيلي إيلي لم شبقتني: أي إلـهي إلـهي لماذا تتركني؟ "
قلت: فههنا كذلك يبين عيسى المسيح عليه السلام أن الله تعالى إلـهه، و يستغيث بإلـهه هذا بتكرار و تضرع، فأين هذا ممن يدعي أن عيسى المسيح نفسه كان هو الله تعالى؟!
(3) و في رسالة القديس بولس إلى أهل أفسس (1 / 3 و 16 ـ 17):
" مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح.....
لا أزال شاكرا لأجلكم ذاكرا إياكم في صلواتي. كي يعطيكم إلهُ ربِّنا يسوعَ المسيحِ، أبو المجد، روح الحكمة و الإعلان في معرفته "
قلت: فوصف بولسُ اللهَ تعالى بأنه أبو المسيح، ثم وصفه بـإلـه المسيح، مما يفيد بكل وضوح أن يسوع المسيح عبدٌ لله و ليس بإله، إذ لو كان المسيح إلـها لما قال بولس أن الله تعالى إلـهه، لأن " الإلـه " أزلي واجب الوجود لا خالق و لا إله له، و هذا من أوضح الواضحات !!
القسم الثالث :
نصوص تبين عبادة المسيح لله عز و جل و إكثاره من الصلاة له تبارك و تعالى
(1) في إنجيل متى (4 / 23 ـ 24) وإنجيل مرقس (6 / 40 ـ 48):
"و بعد ما صفَّ الجموع، صعَد (أي المسيح) إلى الجبل منفرداً ليصلي. و لما صار المساء كان هناك وحده. و في الهزيع الرابع من الليل مضى إليهم يسوع ماشيا على البحر!".
قلت: من هذا النص يتبين أمران:
أولاً: أن سيدنا المسيح عليه السلام كان يحبِّذ الصلاة منفردا مما يفيد أن هذه الصلاة كانت فعلا لرغبته بعبادة الله تعالى، لا لمجرد تعليم التلاميذ.
ثانياً: أنه عليه السلام كان يقضي أحيانا أكثر النهار و أكثر الليل في الصلاة، كما يفيده قوله: " و لما صار المساء "، و قوله: " و في الهزيع الرابع من الليل " الذي يفيد أنه إلى ذلك الوقت كان لا يزال منفردا لوحده مستيقظا مشغولا بالصلاة و المناجاة و العبادة.
و النصوص الأخرى التالية تؤكد ذلك الموضوع :
(2) في إنجيل مرقس (1 / 35):
" و في الصباح الباكر جدا قام و خرج و مضى إلى موضع خلاء. و كان يصلي هناك ".
(3) و في إنجيل لوقا (5 / 16):
" و أما هو (أي عيسى) فكان يعتزل في البراري و يصلي ".
(4) و في إنجيل لوقا (6 / 12) أيضا:
" و بعد هذا الكلام بنحو ثمانية أيام أخذ بطرس و يوحنا و يعقوب و صعد على جبل ليصلي. و فيما هو يصلي صارت هيئة وجهه متغيرة و لباسه مبيضا لامعا ".
(6) و في إنجيل لوقا أيضا (9 / 18):
" و فيما هو يصلي على انفراد، كان التلاميذ معه ".
(7) و في إنجيل لوقا كذلك (11 / 1):
" و إذا كان يصلي في موضع، فلما فرغ قال واحد من تلاميذه: يا رب! علمنا أن نصلي كما علم يوحنا أيضا تلاميذه ".
(
و في إنجيل متى (26 / 36):
" حينئذ جاء معهم يسوع إلى ضيعة يقال لها جثـسيماني فقال للتلاميذ: اجلسوا ههنا حتى أمضي و أصلي هناك ".
(9) و في إنجيل متى أيضا (26/ 39 ـ 44):
" ثم تقدم قليلا و خرَّ على وجهه (أي سجد)[7] و كان يصلي قائلا: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر هذه الكأس. و لكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت. ثم جاء إلى التلاميذ فوجدهم نياما. فقال لبطرس: أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟ اسهروا و صلوا لئلا تدخلوا في تجربة، أما الروح فنشيط و أما الجسد فضعيف. فمضى ثانية و صلى.... ثم جاء فوجدهم أيضا نياما... فتركهم و صلى ثالثة "[8] .
قلت: من تلك النصوص يظهر مدى اهتمام عيسى بالصلاة لله عز وجلَّ، و أن الصلاة كانت عبادة محببة له و مفزع يلجأ إليه عند الملمات، و أنه كان في الغالب يصعد للهضاب ليصلي لوحده منفردا، يقضي بذلك أحيانا أكثر الليل و أكثر النهار أيضا.
و نسأل القارىء المنصف: هل الله تعالى يصلي؟؟ و إن صلَّى فلمن يصلي؟ ألنفسه؟! و هل هذا يمكن أن يقول به مجنونٌ فضلا عن عاقل؟! إذن أليست تلك النصوص دلائل بينة و قاطعة على نفي إلـهية عيسى و تأكيد عبوديته لله الواحد القهار؟؟
القسم الرابع :
نص يبين المسيح فيه أن الله تعالى أعظم منه و نصٌّ لبولس يؤكد فيه أن الابن خاضع لله مثل جميع المخــلوقات
(1) في إنجيل يوحنا (14 / 28) يقول السيد المسيح عليه السلام لتلاميذه :
" سمعتم أني قلت لكم أنا أذهب ثم آتي إليكم. لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني أمضي إلى الآب، لأن أبي أعظم منّي "
قلت: الجملة الأخيرة صريحة في نفي عيسى عليه السلام الألوهية عن نفسه، لأنه لو كان إلـها ـ كما يدعون ـ لكان كاملا مطلقا، و الكامل المطلق لا يوجد من هو أعظم منه، في حين أن المسيح عليه السلام يثبت أن الآب (أي الله تعالى) أعظم منه. و هذا النص أيضا يبين خطأ دستور الإيمان الذي أقره مجمع نيقية و الذي نص على التساوي بين الآب و الابن. سبحان الله! رسول الله عيسى المسيح عليه السلام ينفي التساوي بينه و بين الله و يبين أن الله تعالى أعظم منه، و آباء مجمع نيقية يصرون على تساويهما، فأيهما نصدق؟؟
(2) و في رسالة بولس الأول إلى أهل كورنثوس (15 / 28):
" و متى أُخْضِعَ له (أي لله) الكـل، فحينئذ الابن نفسه أيضا سيخضع للذي أخضع له الكل، لكي يكون الله الكـل في الكـل. "
قلت: ففي هذا النص يبين بولس أن المسيح سيخضع في النهاية لله، و هذا بحد ذاته من أوضح الأدلة على عدم إلـهية المسيح لأن الإلـه لا يخضع لأحد، كما أن في قوله: " سيخضع للذي أخضعَ له الكل "، دلالة أخرى على عدم إلـهية المسيح لأن مفاد هذه الجملة أن الله تعالى هو الذي كان قد أخضع للمسيح كل شيء، مما يعني أن المسيح لم يكن يستطع، بذاته و مستقلا عن الله، أن يسخر و يخضع الأشياء. فهل مثل هذا يكون إلـها؟!!
القسم الخامس:
نصوص يؤكد فيها المسيح محدودية علمه
(1) في إنجيل مرقس (13 / 32) يقول المسيح عن يوم القيامة :
" و أما ذلك اليوم و تلك الساعة فلا يعلم بهما أحد و لا الملائكة الذين في السماء و لا الابن، إلا الآب ".
(2) و في إنجيل متى (24 / 36)، قول عيسى أيضا :
" و أما ذلك اليوم و تلك الساعة فلا يعلم بهما أحد و لا ملائكة السماوات[9] ، إلا أبي وحده ".
قلت: هذا النص من أوضح الأدلة على نفي إلـهية المسيح عليه السلام ، لأن المسيح حصر علم قيام الساعة بأبيه الله تعالى وحده فقط، و نفي هذا العلم عن نفسه و عن سائر عباد الله الآخرين من الملائكة و غيرهم، و سوى بين نفسه و بين سائر المخلوقات في انتفاء العلم بالساعة، و هذا ما صدقه القرآن الكريم أيضا حين أكد انحصار علم الساعة بالله تعالى وحده كما جاء في قوله تعالى مثلا: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي..} الأعراف / 187. و هذا من أوضح الأدلة على بشرية عيسى عليه السلام المحضة، لأنه لو كان إلـها لكان علمه محيطا بكل شيء و مساويا لعلم الآب في كل شيء.
هذا و لما لم يكن العلم من صفات الجسد، فلا يجري فيه عذر أساقفة النصارى المشهور بأنه " نفى العلم باعتبار جسميته و ناسوته "! لأن العلم ليس من صفات الجسد بل من صفات الروح. فظهر من ذلك بشريته المحضة عدم وجود أي طبيعة إلـهية في المسيح عليه السلام إذ لو وجدت لما جهل هذه الأمور.
(3) في إنجيل متى (21 / 18 ـ 19) و إنجيل مرقس (11 / 11 ـ 4) :
" فدخل يسوع أورشليم... و في الغد لما خرجوا من بيت عنيا جاع. فنظر شجرة تين من بعيد عليها ورق و جاء لعله يجد فيها شيئا فلما جاء إليها لم يجد شيئا إلا ورقا. لأنه لم يكن وقت التين. فأجاب يسوع و قال لها: لا يأكل أحد منك ثمرا بعد إلى الأبد! ".
هذا النص يبين أن سيدنا عيسى عليه السلام لما رأى الشجرة من بعد، لم يدر و لم يعلم أنها في الواقع غير مثمرة، بل توقع لأول وهلة أن تكون مثمرة، لذلك ذهب باتجاهها، لكن لما اقترب منها ظهر له أنها غير مثمرة فعند ذلك غضب عليها و لعنها!.
و في هذا عدة دلائل واضحة على نفي إلـهية عيسى عليه السلام :
فأولاً: عدم علمه منذ البداية بخلو الشجرة من الثمر يؤكد بشريته المحضة لأن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء.
وثانياً: كونه جاع تأكيد آخر أنه بشر محض يحتاج للغذاء للإبقاء على حياته، فإن قالوا بأنه جاع بحسب ناسوته، قلنا أفلم يكن لاهوته قادرا على إمداد ذلك الناسوت (أي الجسد)؟! خاصة أنكم تدعون أن اللاهوت طبيعة دائمة له و حاضرة لا تنفك عنه!!
وثالثاً: أنه لما وجد الشجرة غير مثمرة لعنها و بقي جائعا! و لو كان إلـها لكان عوضا عن أن يلعنها و يبقى جائعا، يأمرها أمرا تكوينيا أن تخرج ثمرها على الفور، لأن الله لا يعجزه شيء بل يقول للشيء كن فيكون، فكيف يُصْرَفون عن هذه الدلائل الواضحات و الآيات البينات! وهل بعد الحق إلا الضلال ؟
القسم السادس :
نصوص تفيد ابتداء بعثة المسيح بنـزول الملائكة و روح القدس عليه عند اعتماده عن يد النبي يحيى (يوحنا) المعمدان عليه السلام
(1) جاء في إنجيل متى (3 / 13 ـ 17):
" حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن، إلى يوحنا ليعتمد منه، و لكن يوحنا منعه قائلاً: أنا محتاج أن أعتمد منك و أنت تأتي إلي؟ (15) فأجاب يسوع و قال له اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل برٍّ، حينئذ سمح له. (16) فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، و إذا السماوات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلا مثل حمامة و آتيا عليه (17) و صوت من السماوات قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت ".
و أقول: من البديهي أنه لو كان المسيح عليه السلام هو الله تعالى نفسه الذي تجسد و نزل لعـالم الدنيا ـ كما يدعون ـ لكـانت رســالته مبـتـدئة منذ ولادتـه، و لكان روح القدس ملازما له باعتباره جزء اللاهوت الذي لا يتجزأ ـ كما يدعون ـ، و لما احتاج إلى من ينزل عليه بالوحي أو الرسالة، و لما كان هناك أي معنى أصلا لابتداء بعثته بهبوط روح القدس عليه و ابتداء هبوط الملائكة صاعدين نازلين بالوحي و الرسائل عندما بلغ الثلاثين من العمر و اعتمد على يد يوحنا النبي عليه السلام ! فهذا النص و النصوص التالية التي تبين كيفية بدء البعثة النبوية للمسيح، لأكبر و أوضح دليل ـ عند ذوي التجرد و الإنصاف ـ على بشرية المسيح المحضة و عدم إلهيته و أنه ليس الله المتجسد بل عبدٌ رسولٌ و نبيٌّ مبعوثٌ برسالة من الله كسائر الأنبياء و الرسل و حسب.
(2) و لقد استشهد متى في إنجيله، ببشارة كانت قد وردت في سفر إشعيا من العهد القديم فاعتبرها بشارة عن المسيح، و هي تشير أيضا لنزول روح الله (أي جبريل) على المبشَّر به، ليعلن الحق للأمم:
" (14) فلما خرج الفريسـيون تشاوروا عليه لكي يهلكوه. (15) فعلم يسوع و انصرف من هناك. و تبعه جموع كثيرة فشفاهم جميعا. (16) و أوصاهم ألا يظهروه.(17) لكي يتم ما قيل بأشعيا النبي القائل: هو ذا فتاي [ و بالترجمة الجديدة: هو ذا عبدي ] الذي اخترته، حبيبي الذي سُـرَّت به نفسي. أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحق.." متى: 12 / 14 ـ17.
و الشاهد قوله: أضع روحي عليه، أي أنزل جبريل، روح الله، عليه بالوحي، فيخبر الأمم بالحق .
(3) و إلى هذا الشروع بالعمل الرسالي أشار يوحنا في إنجيله فقال :
" من الآن ترون السماء مفتوحة و ملائكة الله يصعدون و ينزلون على ابن الإنسان " يوحنا: 1/51.
(4) هذا و قد نقل يوحنا الإنجيلي أيضا عن النبي يحيى (يوحنا) المعمدان أنه قال لليهود لما تباحثوا معه عن ذاك (أي المسيح) الذي بدأ يعمد الناس، فقال النبي يحيى عليه السلام لهم: " إذاً فرحي قد كمُلَ. ينبغي أن ذلك يزيد و أنا أنقص " يوحنا: 3 / 29 ـ 3. مبينا بدء رسالة المسيح و تواتر وحي الله تعالى إليه.
(5) و لننظر ما ذكره لوقا عن بدء بعثة المسيح بنزول روح القدس عليه:
" و لما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا و إذ كان يصلي انفتحت السماء و نزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة و كان صوت من السماء قائلا: أنت ابني الحبيب بك سررت. و كان يسوع عند بدء رسالته في نحو الثلاثين من عمره... و رجع يسوع من الأردن و هو ممتلئ من الروح القدس " لوقا: 3 / 21 ـ 23، ثم 4/.
و نسأل أصحاب التثليث: أليس هذا النص أوضح دليل على نفي إلـهية المسيح و نفي التثليث، فأولاً: لو كان المسيح إلـها متجسدا لما احتاج لروح القدس ليهبط عليه بالرسالة! و ثانياً: لو كان التثليث حقا لكان المسيح متحدا دائما و أزلا مع روح القدس، فما احتاج أن يهبط عليه كحمامة!، و لما قال الله تعالى عند اعتماده و ابتداء بعثته هذا ابني الحبيب، لأنه من المفروض أنه كان جزء اللاهوت بزعمهم من البداية و لأن الله لا يمكن أن تنفصل عنه إحدى صفاته.
القسم السابع :
المسيح يُعرِّف نفسه بأنه نبيٌّ و رسولٌ لِلَّه و يؤكد أنه عبدٌ مأمورٌ لا يفعل إلا ما يأمره به الله تعالى و لا يتكلم إلا بما يسمعه من الله تعالى
البديهي أن المسيح عليه السلام لو كان هو الله تعالى نفسه الذي تجسَّد و صار بشرا و جاء لعالم الدنيا بنفسه ـ كما استقر عليه دستور الإيمان المسيحي ـ لما صح أن يطلق عليه لقب نبيّ، لأن " النبيّ " اسم لشخص منفصل عن الله يُـنبىء عن الله تعالى، أي يخبر عنه، بما يسمعه من الله إما بواسطة الكلام المباشر أو الوحي الخفي أو ملكٍ رسول، كذلك لا يصح أن يطلق عليه اسم " رسول " لأن الرسول اسم لشخص منفصل عن الله، يبعثه الله تعالى لأداء مهمة ما، أما الله تعالى لو تجسد فعلا و صار بنفسه إنسانا و نزل لعالم الدنيا ليعلن الدين الجديد بنفسه، فلا يكون عندئذٍ رسولاً، إذ ليس ثمة مرسل ٍ له ، بل في هذه الحالة يكون هو نفسه، و بدون واسطة، قد أخذ على عاتقه مهمة الاتصال بمخاطبيه.
و حاصله أنه لو صح أن المسيح كان الله نفسه متجسدا، لما صح أن يسمى رسولا و لا نبيا. ولكن الحقيقة أن الأناجيل طافحة بالنصوص التي يعرِّفُ المسيح عليه السلام فيها نفسه بأنه " نبيّ " و بأنه " رسول " أرسله الله تعالى للناس، و أن ما يقوله للناس ليس من عند نفسه بل من عند الله الذي أرسله، فتعليمه ليس لنفسه بل للآب الذي أرسله، فهل هناك أصرح من هذا في بيان الغيرية بين عيسى والله تعالى؟، وأنهما اثنان: مُـنبىء ونبي ، و مُرسل و رسـول ؟!
و فيما يلي بعض ما جاء في هذا المجال :
(1) في إنجيل متى (13 / 54 ـ 58):
" و لما جاء إلى وطنه كان يعلمهم في مجمعهم حتى بهتوا و قالوا من أين لهذا هذه الحكمة و القوات؟ أليس هذا ابن النجار؟ أليست أمه تدعى مريم و إخوته يعقوب و يوسي و سمعان و يهوذا؟ أو ليست أخواته جميعهن عندنا؟ فمن أين لهذا هذه كلها؟ فكانوا يعثرون به. و أما يسوع فقال لهم: ليس نبيٌّ بلا كرامة إلا في وطنه و في بيته. و لم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم "
و الشاهد في قوله " ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه " حيث عبر عن نفسه بأنه نبي، و هذه الجملة وردت في الأناجيل الأربعة جميعا[10] .
(2) و في إنجيل متى كذلك (10 / 40 ـ 41) في ذكره لما قاله السيد المسيح عليه السلام للحواريين الاثني عشر حين أرسلهم لدعوة بني إسرائيل و تبشيرهم بالإنجيل:
"من يقبلكم يقبلني و من يقبلني يقبل الذي أرسلني و من يقبل نـبـياً باسم نـبـي فأجر نـبـيٍ يأخذ."
(3) في إنجيل لوقا (10/16) في آخر الخطبة التي قالها السيد المسيح عليه السلام للتلاميذ السبعين الذي أرسلهم اثنين اثنين للوعظ و البشارة بالإنجيل في قرى فلسطين، أنه قال لهم:
" الذي يسمع منكم يسمع مني و الذي يرذلكم يرذلني و الذي يرذلني يرذل الذي أرسلني ".
(4) و في إنجيل لوقا (4 / 42 ـ 43):
" و لما صار النهار خرج و ذهب إلى موضع خلاء و كان الجموع يفتشون عليه فجاءوا إليه و أمسكوه لئلا يذهب عنهم. فقال لهم: إنه ينبغي لي أن أبشِّـر المدن الأخرى أيضا بملكوت الله لأني بهذا أُرْسِـلْتُ ".
(5) و في إنجيل يوحنا (7 / 28 ـ 29):
" فنادى يسوع و هو يعلم في الهيكل قائلا: تعرفونني و تعرفون من أين أنا و من نفسي لم آت بل الذي أرسلني هو حق الذي أنتم لستم تعرفونه. أنا أعرفه لأني منه و هو أرسلني "
(6) و فيه أيضا (8 / 16 ـ 17):
" و إن كنت أدين فدينونتي حق لأني لست وحدي بل أنا و الآب الذي أرسلني. و أيضا في ناموسكم مكتوب أن شهادة رجلين حق. أنا هو الشاهد لنفسي و يشـهد لي الآب الذي أرسلني "
قلت: استشهاد المسيح عليه السلام بحكم التوراة " شهادة رجلين حق " تصريح منه بالغيرية بينه وبين الله تعالى الذي يشهد له، فهما إذن اثنان: مرسِل و رسول، و هذا ينفي بوضوح قضية أن المسيح هو الله نفسه متجسدا.
و الآن إليكم هذه العبارة التي قد تفاجئكم بشدة وضوحها و صراحتها في نفي إلهية عيسى :
(7) ففي إنجيل يوحنا (8 / 40):
" و لكنكم الآن تطلبون أن تقتلونني و أنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله "
أقول: لو لم يكن في الإنجيل سوى هذه الآية لكفى بها دلالة على نفي إلـهية عيسى عليه السلام .
(7) و فيه أيضا (8 / 26 ـ 29):
" لكن الذي أرسلني هو حق و أنا ما سمعته فهذا أقوله للعالم. و لم يفهموا أنه كان يقول لهم عن الآب. فقال لهم يسوع متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو و لست أفعل شيئا من نفسي بل أتكلم بهذا كما علمني أبي و الذي أرسلني هو معي و لم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين أفعل ما يرضيه "
(
و فيه أيضا: (10/36) :
" فالذي قدَّسه الآب و أرسله إلى العالم أتقولون له إنك تجدَّف لأني قلت أني ابن الله؟! "
(9) و فيه أيضا: (20/20) :
" فقال لهم يسوع أيضا سـلام لكم. كما أرسلنـي الآب أرسلـكم أنا "
قلت: ففي العبارة الأخيرة يماثل سيدنا المسيح عليه السلام بين إرسال الآب له و إرساله هو لتلاميذه للدعوة و التبشير، و بالتالي فكما أن تلاميذه و حوارييه ليسوا عيسى بعينه! فبمقتضى التماثل لا يكون عيسى عليه السلام هو الله بعينه، بل يكون رسوله و مبعوثه.
و فيما يلي بعض النصوص التي يبين فيها المسيح عليه السلام أنه لا يتكلم من نفسه بل هو حامل لرسالة من الله مأمور بتبليغها للناس، و أنه لا يعلم إلا ما يوحى إليه:
(1) في إنجيل يوحنا (14/24) :
" الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي. و الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني"
(2) و فيه أيضا: (15/15)
" لكني سميتكم أحبَّاء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي "
(3) و فيه كذلك (12 / 49 ـ 50):
" لأني لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول و بماذا أتكلَّم. و أنا أعلم أن وصيته هي حيوة أبدية فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم "
و أعتقد أن هذه العبارات واضحة للغاية في تأكيد ما قلناه، و نظائر هذا في الأناجيل كثير، لا سيما إنجيل يوحنا، و فيما ذكرناه الكفاية.
كان هذا ما عرَّف به المسيح نفسه، فكيف عرفه تلاميذه و بماذا وصفوه؟ هل جاء على لسان أي أحد منهم و لو مرة واحدة عبارة يصفه بها بأنه الله نفسه متجسدا؟ أم وصفوه،كما علمهم المسيح، بأنه نـبـي و رسول مرسل من الله ؟
لنستمع للأناجيل تعطينا الإجابة الواضحة :
(1) في إنجيل متى (21 / 10 ـ 11) قول المؤمنين بالمسيح عليه السلام لدى استقبالهم له عند دخوله بيت المقدس :
" مبارك الآتي باسم الرب... هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل ".
(2) و في إنجيل لوقا (7 / 12 ـ 16) :
" فلما اقترب (يسوع المسيح) إلى باب المدينة إذا ميت محمول، ابن وحيدٍ لأمّه. و هي أرملة و معها جمع كثير من المدينة. فما رآها الرب تحنّن عليها و قال لها لا تبكي. ثم تقدّم و لمس النعش فوقف الحاملون. فقال: أيها الشاب أقول لك قُـمْ!. فجلس الميت و ابتدأ يتكلم فدفعه إلى أمّه. فأخذ الجميع خوفٌ و مجدوا الله قائلين: قد قام فينا نّبِيٌّ عظيم و افتقد الله شعبه ".
(3) و في إنجيل يوحنا (4/19) : عن المرأة التي دهشت لما أخبرها المسيح، الذي لم يكن يعرفها من قبل، عن أزواجها الخمسة السابقين! أنها قالت:
" يا سـيـّد! أرى أنك نـبـيّ.. ".
(4) و في إنجيل يوحنا (6/14) : أيضا بعد ذكره لمعجزة تكثير أرغفة الشعير الخمسة و السمكتين:
" فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النـبـي الآتي إلى العالم ".
(5) و أخيراً جاء في آخر إنجيل لوقا (24/19) : ضمن روايته للحوار الذي جرى بين المسيح، بعد صلبه (حسب تصورهم)، و اثنين من حوارييه، الذين لم يعرفوه لأنه كان متنكرا و لأنهم كانوا يتصورون أنه قد مات:
" فقال (لهما) (يسوع): و ما هي؟ (أي تلك الأحداث التي جعلتكم مغمومين) قالا: المختصة بيسوع الناصري الذي كان إنسـانا نّـبِـيَّـاً مقتدرا في الفعل و القول أمام الله ".
أجل، هكذا كان إيمان الحواريين بالمسيح: أنه كان إنسانا نبياً. و من الجدير بالذكر أن هذا الحوار جرى في آخر حياة المسيح عليه السلام ، و قبيل رفعه، فلا مجال للقول بأن هذا كان تصورهم القديم في بداية الدعوة لكنهم آمنوا بعد ذلك بألوهيته؟؟
و نحن نسأل كل منصف: من الذي كان يعرف حقيقة المسيح أكثر: هل هم تلاميذه و حواريوه الخلّص و أقرب الناس إليه؟ أم الآباء و الأساقفة اليونان أو الروم الذين أداروا مجمع نيقية أو مجمع أفسس أو مجمع خلقيدونية و الذين تفصلهم عن المسيح ثلاثة أو أربعة قرون؟؟
القسم الثامن :
نصوص تؤكد أن المسيح لم يكن يمتلك بذاته و مستقلا عن الله أي قدرة و قوة، و أن السلطان ـ أي الولاية التكوينية و التشريعية ـ الذي أوتيه إنما دُفع إليه من قبل الله تعالى
من البديهيات التي لا نقاش فيها أن من صفات الله عز و جل الضرورية اللازمة: القدرة الكلية التامة، أي أن الله قادر على جميع الممكنات و أن قدرته نابعة من ذاته و غير مكتسبة، بمعنى أن الله تعالى قادر و فاعل بالذات و بالاستقلال المطلق، فلا يحتاج في قدرته و أفعاله لمساعدة أي قدرة أخرى و لا إلى مدد أي شيء آخر، فهل هكذا كان شأن المسيح عليه السلام ؟
كلا، على الإطلاق. إن الأناجيل الأربعة تنقل عن سيدنا المسيح عليه السلام نفسه تصريحات متكررة يعلن فيها بكل وضوح أنه كان لا يقدر أن يفعل من نفسه شيئا، و لا يفعل إلا ما أقدره الله تعالى عليه و أمره به، و أن ما لديه من سلطان و ما أوتيه من قوة، هو مما منحه الله تعالى و دفعه إليه. و في كل هذا نفي صريح لإلـهية المسيح عليه السلام و تأكيد واضح لعبوديته لله عز و جل و افتقاره إليه. و فيما يلي بعض النصوص في هذا المجال:
(1) جاء في إنجيل لوقا: (5/19) :
" فأجاب يسوع و قال لهم: الحق الحق أقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئا إلا ما ينظر الآب يعمل ".
(2) و فيه أيضا في نفس الإصحاح (5/ 30) :
" أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئا. كما أسمع أدين و دينونتي عادلة لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني ".
(3) و في نفس الإنجيل و الإصحاح أيضا (5 / 36) :
" و أما أنا فلي شهادة أعظم من يوحنَّا. لأن الأعمال التي أعطاني الآب لأعملها، هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لي أن الآب قد أرسلني ".
(4) و في إنجيل يوحنا (4 / 35) :
" الآبُ يحبُّ الابن و قد دفع كل شيء في يده ".
(5) و في إنجيل متى (28 / 18) :
" فتقدَّم يسوع و تمهَّل قائلاً: دُفِعَ إليَّ كل سلطان في السماء و على الأرض ".
(6) و في إنجيل لوقا (10 / 21 ـ 22) :
" و التفت (أي المسيح) إلى تلاميذه و قال: كل شيء قد دُفِـعَ إليَّ من أبي ".
.