رضينا بالإسلام دينا تعيش الأمة مخاضًا كبيرًا، ولا بد للمخاض من آلام، وتتنوع المشكلات والتحديات والعقبات.
ومع كثرة التضحيات والآلام؛ فإن مما يزيدنا ألمًا بعض الطروحات الفكرية والسياسية المرافقة لهذه المخاضات والتحديات.
ففي الوقت الذي يتحرك فيه عامة الشعوب العربية بمسيراتها ومظاهراتها، ومعظم تحركاتها منطلقة من المساجد، وتؤدي الجموع الغفيرة الصلوات جامعة في الميادين والساحات..
وفي الوقت الذي تنطلق حناجر معظم الثائرين والمطالبين بالتغيير بصيحات: الله أكبر..
وفي الوقت الذي تعلن فيه أنها قدّمت أرواحها في سبيل الله، قائلة: الشهيد حبيب الله..
وفي الوقت الذي يعلنون مقصد ثورتهم بوضوح: هي لله.. هي لله..
وحيث الشعوب في معظمها مسلمة متدينة مؤمنة..
.. في هذا الوقت تخرج علينا الأبواق الإعلامية العلمانية بالتركيز على تحييد الدين، بل وإبعاده من ساحة الصراع، مستغلين أن الشعوب قد رفعت شعار الحرية والكرامة؛ لأنها القضية الأكثر مساسًا وحساسية وألمًا؛ ولأن فقدها سبب كل مأساة.
بل وأكثر من ذلك يأتي من يطالب بالحريات، ثم يحجر على المسلمين أن يطالبوا بالإسلام، وأن يطالبوا بحريتهم في اختيار نظام الإسلام، فيقول صراحة وبكل وضوح: حرية نعم، لكن لا مجال للإسلام السياسي أبدًا.
يأتي ويصرح بوضوح: لا إقصاء لأحد، بل مشاركة من الجميع. لكن نعم لإقصاء الإسلام بعيدًا، بدعوى أن الدين لله والوطن للجميع.
بل ويأتي من يصرح صراحة: لا مجال عندنا لأن نتكلم عن دولة مدنية بمرجعية إسلامية، أي كل القوانين والقيم لا بد أن تكون مستمدة من القوانين الوضعية الأرضية البشرية.
ويزداد الأمر مأساوية عندما تجد من يريد أن يسلخنا عن عروبتنا وإسلامنا معًا؛ لنرضي فئة ما, بل ويصرح بعضهم: المشكلة في الإسلام والإسلاميين، والمشكلة في الشيوخ.
لماذا المشكلة في الشيوخ؟
يقولون: الشيوخ دائمًا يقفون مع السلطان. والشيوخ = السلفية = التخلف...
أمام هذه الطروحات كلها وغيرها، نشعر أننا سندخل في دوامة جديدة مريرة جدًّا جدًّا, وأمام شدةِ الابتلاء الآن وقسوةِ الطغاة وحرصِ الإسلاميين والعلماء على تجاوز المرحلة، يدعو كثيرون إلى السكوت عن قضية الإسلام وحاكمية الإسلام.
ويدعو كثيرون إلى الاكتفاء بالقول: إننا نريد دولة مدنية ديمقراطية ذات أحزاب متعددة، مقابل إصرار آخرين على دولة علمانية لا تمت إلى لغة شعوبنا وتراثهم وثقافتهم وقيمهم بصلة.
ويقدم كثير من الإسلاميين تنازلات في شأن المرأة، والحاكم، والأحزاب، والديمقراطية، والمواطنة... ومع ذلك يقول لهم العلمانيون: لن نرضى عنكم. مصداقًا لقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
ويدعو كثيرون للوقوف إلى جانب الحرية وحسب، على اعتبار أن الحرية والكرامة قاسم مشترك؛ لأنه إذا تحررت الشعوب ستقود نفسها بنفسها إلى الإسلام.
وهنا ستتركز المناقشات بعد توصيف المشكلة بشكل موجز ومحدد في نقاط:
1- إنه أمام هذه الطروحات فإن الخوف كل الخوف أن نخرج من دكتاتورية المستبد الظالم إلى دكتاتورية العلمانية ومعاداة العروبة، والإقصاء لكل ما يمتّ إلى الإسلام والقرآن بصلة.. باسم الديمقراطية نفسها، وباسم الحرية، وباسم القانون، وبتأييد غربي مطلق، وبزخم إعلامي هائل.
ومن هنا فلا بد من رسالة إلى كل العالم.. إلى كل العلمانيين.. إلى كل الليبراليين.. وإلى كل الناس.. إلى كل السوريين:
لن نرضى أن نُحكم بغير الإسلام.. ولن نرضى بغير شريعة الله المطلقة.. ولن نرضى بغير القرآن منهجًا ودستورَ حياة.. ولن نرضى بغير الإسلام مرجعية كاملة تامة.. ولن نقبل أن تُهدر هذه الدماء لأجل أن يستبدل طاغوت بطاغوت: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا} [النساء: 60].
ولن نتنازل عن لغة القرآن وأحكامه التي هي جزء أساسي مكوِّن لهويتنا، لن نتنازل عن ذلك لأجل إرضاء أقلية.
2- لماذا تدعون إلى الحريات، ثم إذا جاء الأمر إلى الإسلام قلتم: لا للإسلام، لا للمرجعية الإسلامية، أليس هذا هو الإقصاء بعينه؟! أليست هذه هي الدكتاتورية؟! أليس من حق المسلمين وحريتهم وحقهم أن يُحكَموا بالنظام الذي ارتضوه؟
3- كل من يدعي الديمقراطية أو الليبرالية أو الحرية أو اليسارية.. كلٌّ له مرجعيته الفكرية، وله عقيدته التي يؤمن بها، وينطلق منها، حتى لو كانت عقيدة المادة فهي عقيدة، فلماذا يحق له أن يستمد قوانينه وقيمه من عقيدته ومرجعيته، ويحجر علينا أن نفعل ذلك؟
4- الأمة معظمها أو أكثريتها مسلمة، وتريد الإسلام، ولغتها لغة القرآن.. فلماذا يتحكم البشر في البشر، ويريد البشر أن يفرض على الأمة منهجًا، ولا يسمح لمنهج رب البشر أن يهدي البشر إلى خيرهم وسعادتهم؟!
5- عندما يقال: دولة مدنية بمرجعية إسلامية، فلا يعني ذلك تسلط الدين أو رجال الدين، فأحكام الإسلام على مراتب: فمنها القطعي، ومنها الاجتهادي، ومنها المسكوت عنه. ومن هنا فإن ميدان الاجتهاد واسع، كما أنه مما تقرر إجماعًا أن لكل إنسان الحق في أن يعتقد ما شاء، ولكل فئة وملة حقهم في قانون خاص في الأحوال الشخصية، ولكل شخص حق التعبد بما يقتنع به، وغير ذلك من القضايا التفصيلية التي تنفي تسلط أحد على أحد.
6- إن الإسلاميين يؤمنون بالإسلام دينًا ربانيًّا متكاملاً، يُنظم شئون الحياة كاملة، للفرد والجماعة والأمة والدولة، في جميع جوانب حياتها، وفيه الإجابة الصحيحة والدقيقة لكل ما يحتاجه البشر، على وجه فيه صلاح العباد والبلاد. ومع ذلك فنحن مطالبون بحسن الفهم وحسن العمل وحسن التطبيق، ومن ثَمَّ فباب الاجتهاد في غير القطعيات واسع، ولا يفرض رأي على رأي، علمًا أن القطعيات -على أهميتها- محدودة.
ومع ذلك فلكل صاحب عقيدة ومذهب خصوصيته وحريته العقدية والعبادية، ولا نفرض هذا الدين على أحد، لكن من واجبنا وحقنا أن ندعو الناس إليه بالحسنى والكلمة الطيبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
مع إيماننا أن لا عصمة لأحد من الناس بعد الأنبياء، وكلٌّ مسئول ومحاسب، مهما كان موقعه، والجميع سواء أمام القانون.
ومع اعتقادنا أن مصدر التشريع والسلطات هو الإسلام؛ لأنه مُنزل من عند الله؛ فإن الأمة هي التي تعبر عن إرادتها باختيارها من ترضاهم ليمثلوها في تطبيق ذلك، وباختيار قادتها وعلمائها في الأمور الاجتهادية والمسكوت عنها، وتتحمل مسئولية الاختيار أمام الله، وأمام شعوبها. وبهذا الاعتبار يصح أن نقول: الأمة مصدر السلطات، وبهذا كله لا تخرج الدولة الإسلامية عن أن تكون دولة مدنية.
وباطل ما يروِّجه البعض بأن الدولة الدينية تقابل الدولة المدنية، إن كان يصح هذا في الدولة الدينية المسيحية المتخلفة في العصور الوسطى، فهذا لا ينطبق على ديننا، ولم يكن يومًا في تاريخ حكومة الإسلام كذلك.
7- لماذا هذه الحرب على الشيوخ والعلماء، ووصفهم تارة بالتخلف، وتارة بالسلفية، وتارة بالنفاق والوقوف مع السلطان، مع أننا نقول:
- الشيوخ منهم من يقف موقفًا فقهيًّا يظن أنه هو الصواب، وهذا اجتهاد له.
- ومنهم من لا يستطيع أن يجهر بالحق؛ لأن السيف مصلت على رقابهم.
- ومنهم من ينظر إلى الموازنات والمفاسد والمصالح، ويحكم حسبما يترجح لديه.
- ومنهم من يصدح بالحق.. ويتحمل في سبيل ذلك.
- ومنهم من ينافق.
إذن هم بين الاجتهاد والرأي والرأي الآخر، وإن دل هذا فإنما يدل على حيويةٍ واجتهادٍ وحريةٍ وتعددية، أليس هذا ما يدعون إليه؟ ألستم ترفضون أن تحكموا بالدين؟ فها هو الدين قد تعددت آراء علمائه.. فلماذا الخوف؟ ولماذا التشهير؟ ولماذا التعميم؟
لماذا الخوف أن الدين سيحكمنا ويستبد ويضطهد؟ ولماذا التعميم أن الكل منافق؟
ثم الأدهى من ذلك؛ فإذا وُجِدَت أصواتٌ مثل القرضاوي تقدم رؤية إسلامية متقدمة متوازنة، قالوا: هذا يوظف الدين، هذا يستغل الدين، هذا يريد أن يتاجر بالدين، فإذا سكت فهو منافق، وإذا تكلم فهو متاجر..
ولجميع الناس من حقوقيين وتجار وباعة وأميين وشبه أميين أن يتكلموا في السياسة، لكن الشيوخ لا يحق لهم أن يتكلموا في السياسة.
ثم هل فقط طائفة الشيوخ من تنافق؟ وأنتم تقولون: لا يجوز للدين أن يتدخل في السياسة، وتريدون أن تكمموا الأفواه..
أليس في الإعلاميين من هم أكثر نفاقًا؟
أليس في السياسيين من هم أكثر كذبًا؟
أليس في الاقتصاديين والفنانين من هو أكثر نفاقًا؟
- منهم من هو كذلك، كما أن فيهم شرفاء صادقين مضحين مخلصين، فلماذا لا نمنع جميع هؤلاء لأن فيهم مَن ينافق، ويمنع العلماء لنفاق بعضهم.
- نعم لا أرضى أن أقارن موقف العالم بهؤلاء، لكن العلمانيين يتناقضون.. لا يريدون للعالم أن يقف مع السلطة، ثم لا يريدون للدين أن يتدخل.. ثم إذا وقف العالم مع الحق فهو متهم، وهو متاجر بالدين.. وإذا حكم العلمانيون ضغطوا على العلماء؛ ليستعملوهم لتبرير سياساتهم وتأييد مواقفهم.
يريدون أن يكون الشيخ "أهبلَ"، همُّه أن يتكلم في دماء الحيض والنفاس، أما دماء الأمة ومقدساتها وأعراضها فحكر عليهم.
والعالِم المسلم الحق أول صفة فيه: أنه السياسي.. شاء من شاء، وأبى من أبى. وستجاهد الأمة دون هذا الأمر، كما قال : "والله لن أدع هذا الأمر حتى يظهره الله أو تنفرد سالفتي".
وإذا كانت الأمة قد قدمت آلاف الشهداء على طريق الحرية، فلم ينته الطريق بعد..
- نعم لن نرضى عن الإسلام بديلاً.. دستورًا ومرجعية وفكرًا وموجهًا..
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45], {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65], {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1].
{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49], {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83].
إنني أدعو جميع علماء الشريعة أن لا يسكتوا في خضم هذه الثورات عن المطالبة بالحق الصريح في تحكيم شرع الله. والحجة التي قد يقابلونك بها: رضا الغرب.. والوحدة الوطنية..
فأما الوحدة الوطنية فأيُّ عقيدة وشريعة حفظت الحقوق وحققت العدالة كالإسلام، ومن قال: إن الإسلام سيقصي أحدًا من أبناء الوطن!
وأما الغرب فنقول: إن كان الغرب يريد أن يدعمنا للحق والحرية، فلا يحق لهم أن يصادروا حرية الشعوب، وليس في الإسلام ما يخيف، وإن لم؛ فمتى أراد الغرب لنا الخير؟ وهل نحن في شر إلا بسبب سياسات كثير منهم فينا وعلينا؟ وهل كانت هذه الحكومات الظالمة المستبدة إلا مرضيًّا عنها عند الغرب؟ وهل كانت إلا علمانية؟ وهل كانت إلا راعية لمصالح الغرب؟
فما أفسدَ حالَنا الإسلامُ، وإنما أفسد حالَنا العلمانيةُ وأهلها.
وإذا كان هناك قواسم مشتركة ومصالح متبادلة بيننا وبين الغرب؛ فلا يجوز أن تكون على حساب ديننا وعقائدنا ومبادئنا وقيمنا.
إن الذي لا يجوز أن نغفل عنه لحظة واحدة، أننا إنما نستنصر بالله لا بأعدائه: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7], {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28], {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} [يونس: 84], {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61، 62].
بقي أن نقول: إن البعض يهاجم هذه الثورات بدعوى أن نرضى بالظلم والاستبداد خير من الفساد والخراب والفتن والفوضى. فنقول: بل يجب أن يقال: إن الظلم والاستبداد هو عين الفساد والفتنة والفوضى والخراب، وأي أثر سلبي يحدث نتيجة هذه الثورات، فإنما هو أثر من آثار هذا الظلم وتراكماته والسكوت الطويل عنه. ومن ثَمَّ إنما يتحمل هؤلاء الظلمة كل الآثار السلبية التي قد تقع.