قد يعجب المرء من صورة المؤمنين الذين قال عنهم رب العالمين في سورة المؤمنون
الذين هم من خشية ربهم مشفقون.والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. والذين هم بربهم لا يشركون. والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) فيقول علام خوفهم وحزنهم وهم يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون؟
وتزداد دهشته إذا تفكّر في حال النبيين عليهم الصلاة والسلام، كما جاء في حديث الشفاعة عند الشيخين أن الناس يوم القيامة (يأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة. فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلاّ خطيئة أبيكم آدم؟ لست بصاحب ذاك).
وفي رواية (لست هُناكُم. اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله. قال فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذاك إنما كنت خليلًا من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى صلى الله عليه وسلم الذي كلّمه الله تكليمًا. فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول: لست بصاحب ذاك، اذهبوا إلى عيسى صلى الله عليه وسلم كلمة الله وروحه. فيقول عيسى صلى الله عليه وسلم: لست بصاحب ذاك. فيأتون محمدًا صلى الله عليه وسلم فيقوم فيُؤذن له).
فهذا الموقف الجليل منهم عليهم السلام في ذلك الموقف العظيم إنما هو شوقٌ دائم إلى مزيد الطاعات، وتوْقٌ دائب إلى الانخلاع من صغائر السيئات، وذلك شأن الولعين بإدراك كمال العبودية، وما أحسنها سجيةً، أن تتوجه النفس دائمًا إلى مراقي السعود، فلا ترضى بطاعة ولا تقنع بمرتبة وفيها طاقة للمزيد، ولهذا كان صدّيق هذه الأمة رضي الله عنه يسأل عن الدخول من جميع أبواب الجنة.
ولم أر في عيوب الناس شيئًا .... كنقص القادرين على التمام
فالتواضع ملاحظة للذنب، وندم على التقصير (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله) وهذا يزداد على حسب علم المرء (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ) (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
فالتواضع اتهام للنفس واجتهاد في علاج عيوبها وكشف كروبها (قد أفلح من زكاها)، إذ إن قبول الأعمال معلق بالتقوى (إنما يتقبل الله من المتقين) ومعلق بالإخلاص (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى).
وفي غيابهما لا يكون لصدقة الكريم ولا لعلم القارئ ولا لقتل الشهيد اعتبار، بل يكون هؤلاء الثلاثة أول من تُسعّر بهم النار، ولهذا كان أيوب السختياني يقول: "والله ما أزعم أن لي عملًا أنا على يقين من أنني قد أخلصت فيه"، قال الذهبي: "والله ولا أنا". ولعل من هذا الباب مقالة سليمان بن مهران الأعمش: "والله ما أرى أن عيني عمشت إلا من فرط ما يبول الشيطان في أذني"، مع أنه كان حريصًا على قيام الليل!
والتواضع مداومة على استحضار الآخرة وميل إلى احتقار متاع الدنيا، وحرص على الفوز بالنجاة كما كان عمر رضي الله عنه يقول: أين تذهب عنكم (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)؟ وقد تعلم ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال له: (أما ترضى يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟)
وهو غلبة الخوف في قلب المؤمن على الرجاء، واليقين بما سيكون يوم (يسأل الصادقين عن صدقهم) و (تبلى السرائر) و (يرفع للغادر لواء) فحينئذٍ (لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) و (قال اخسئوا فيها ولا تكلمون) فهذا عين الفقه في الدين (إنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون).
وقد ترجم البخاري في كتاب الإيمان ترجمة طويلة ما أحسنها وأكملها، قال: "باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لايشعر. وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذَّبًا. وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل. ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن ما أمنه إلا منافق. وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون".
والتواضع ولاء للمسلمين ووفاء بحقوقهم كما قال الله تعالى: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)، (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعْدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا).
وخاطب نوح عليه السلام قومه ردًّا على سفاهتهم (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) بقوله: (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قومًا تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون).
حتى قال عليه السلام: (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرًا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذًا لمن الظالمين)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس) وقال: (كفى بالمرء إثمًا أن يحتقر أخاه المسلم)، ومن هنا جاءت الآداب متشبعة بهذا المعنى، متتبعة أنماط السلوك المختلفة، لا تُغفل ردّ السلام ولا إعانة الرجل على دابته ولا بسمتك في وجه أخيك. وقد كان السلف الصالح أكثر هذه الأمة تواضعًا لأنهم أشد تعاهدًا لهذه الأخلاق؛ حتى وصفهم ربهم بأنهم (أذلة على المؤمنين) و (رحماء بينهم).
والتواضع معرفة الإنسان قدره بين أهل العلم ووزنه إذا قُورن بهم:
لا تعرضنّ بذكرنا مع ذكرهم .... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
وما أحسن موقف سفيان بن عيينة لما قارنوه بمالك فقد قال:
وابن اللبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ .... لم يستطع صولة البُزْل القناعيسِ
والمتأمل في تاريخ الاستكبار يعلم أن التواضع فنّ فاز به السحرة ولم يستطعه الكفرة والفجرة ولله در ابن مالك حين قال في ألفيته:
وقد تزاد (كان) في حشو كـ(ما .... كان أصحّ علم من تقدما)
وقال الشيخ علي القاري: (إنما حصل ترقي علماء زماننا بسبب تدني العلم في أواننا)، وانظر إلى الصديق رضي الله عنه كيف يتأخر عن الإمامة ويقول: "ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال علي رضي الله عنه لولده محمد بن الحنفية: "إنما أبوك رجل من المسلمين".
ومن هذا الباب قال الحافظ أبو الحجاج المزي لابن عبد الهادي حين امتحنه بقلب الأسانيد: "لست أنا، ذاك البخاري"، قال ابن كثير: "فكان قوله هذا أحب إلينا من أن لو ردّ كل سندٍ إلى متنه"، وقال الخطيب البغدادي للذي سأله: "أنت الحافظ الخطيب؟" قال: "أنا أحمد بن علي بن ثابت، انتهى الحفظ إلى الدارقطني"، وذكر التاج السبكي أن والده "التقي السبكي" كان يتهجد في الموضع الذي كان يُلقي فيه الإمام النووي دروسه، والتقي السبكي حينئذٍ شيخ الدار الأشرفية فكان يمرغ خديه على المكان الذي كان يضع النووي عليه قدميه ويقول:
وفي دار الحديث لطيف معنى .... على بسط لها أصبو وآوي
عسى أني أمس بحر وجهي .... مكانًا مسّه قدم النواوي
والتواضع حياء العبد من مولاه وشكره على ما آتاه، وقد أثنى الله على خليله عليه الصلاة والسلام بأنه (أوّاه)، والمؤمن كيّس فطِن يدرك أنه عبد الله، أعماله من خلق الله، ونجاحه بتسديد الله، ولا يتقدم إلا بتوفيق الله
إذا لم يكن عوْن من الله للفتى .... فأول ما يجني عليه اجتهاده
ولهذا كان شعار الصحابة رضي الله عنهم :
والله لولا الله ما اهتدينا .... ولا تصدقنا ولا صلينا
وقد تعلموا ذلك من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمنا عائشة رضي الله عنها لمّا تورمت قدماه من كثرة القيام (أفلا أكون عبدًا شكورًا)، ورحم الله الجنيد؛ فقد ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء قوله: (والشكر أن لا تستعين بنعمة الله على معصيته).
.....................................