حركة تحرير المرأة في مصر
البذرة الأولى:
"إن المتتبع لتاريخ ما يسمى بحركة "تحرير المرأة" في مصر يجد أن جذور هذه الحركة تمتد إلى عهد محمد علي باشا والي مصر حينما بعث المبعوثين إلى فرنسا ليتلقوا هناك الخبرات والمهارات الفنية ثم يحملوها معهم إلى مصر، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل رجع المبعوثون من فرنسا حاملين تيارات فكرية مادية دخيلة على دينهم بعد أن بهرتهم رهبانية العلم المادي وتعبدهم سلطان العقل، لقد عاد أولئك المبعوثون يحتلون مراكز الصدارة والتوجيه في مختلف الميادين السياسية والتربوية والفكرية" (1).
- دور الشيخ "رفاعة الطهطاوي" (1801- 1873 م ):
"وكان من أعضاء الجيل الأول لهؤلاء المبعوثين الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" الذي أقام في باريس خمس سنوات "من 1826 – 1831" تقريباً، وكان قد رافق البعثة المصرية كواعظ وإمام لها، وما إن عاد إلى مصر حتى بدأ يبذر البذور الأولى لكثير من الدعوات الدخيلة على البيئة المصرية المسلمة، تلك الدعوات التي حمل جراثيمها معه من فرنسا مثل الدعوة إلى فكرة "الوطنية القومية" بمفهومها المادي المحدود المنابذ للرابطة الإسلامية بين المسلمين مهما تباعدت أوطانهم، وكذا استوحى من واقع الحياة الفرنسية أفكاراً عن المرأة هي أبعد ما تكون عن شرائع الإسلام وآدابه، وقد تجلى ذلك في مواقفه الجريئة من قضايا تعليم الفتاة، وتعدد الزوجات، وتحديد الطلاق، واختلاط الجنسين حيث ادَّعى في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) (2) (ص 305) أن:
"السفور والاختلاط بين الجنسين ليس داعياً إلى الفساد" اهـ، وذلك ليُسوِّغ دعوته إلى الاقتداء بالفرنسيين حتى في إنشاء المسارح والمراقص مدعياً -ما معناه-:
"الرقص على الطريقة الأوربية ليس من الفسق في شيء بل هو أناقة وفتوة"، وأنه لا يخرج عن قوانين الحياء ودعا المرأة إلى التعلم حتى تتمكن من تعاطي الأشغال والأعمال التي يتعاطاها الرجال" (3).
وهكذا كان "رفاعة الطهطاوي" أول من أثار قضية (تحرير المرأة) في مصر في القرن التاسع عشر الميلادي فسنَّ بذلك أسوأ السنن وبذر هذه الأفكار الدخيلة في التربية الإسلامية، ولم يدرك أنه حين ينقل هذه الآراء خاصة ما يتعلق منها بمدلول كلمة "الحرية" إلى المجتمع الإسلامي يمكن أن ينتهي إلى نفس النتيجة التي انتهت إليها أوربة وهي نبذ الدين وتسفيه رجاله والخروج على حدوده، لم يدرك ذلك ولم يلاحظ إلا الجانب البراق الذي يأخذ نظر المحروم من الحرية حين تمارس في مختلف صورها وألوانها وفي أوسع حدودها، فكان كالجائع المحروم الذي بهرته مائدة حافلة بألوان الأطعمة فيها ما يلائمه وما لا يلائمه ولكنه لم ينظر إليها إلا بعين حرمانه ولم يرها إلا صورة من النعيم الذي يتوق إليه ويشتهيه.
"وكانت دعوة جريئة من "رفاعة" لم يجد لها معارضاً خاصة وأن حاكم البلاد قد بارك دعوته وبارك أول كتاب وضعه "رفاعة" وهو (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) يبرز فيه تقدم الغرب ويحسن لمواطنيه الانتفاع بتقدمه وأكثر من هذا فقد قرأ "محمد علي" الكتاب قبل نشره – بناء على تزكية له من الشيخ "حسن العطار" شيخ الأزهر – فأمر بطبعه وأصدر أمره بقراءته في قصوره وتوزيعه على الدواوين والمواظبة على تلاوته والانتفاع به في المدارس المصرية، بل إنه أمر بعد ذلك بترجمته إلى التركية" (4) اهـ.
لقد كان "رفاعة" أول من وضع الأفكار النظرية موضع التنفيذ، وأول من أنتج عملاً فكرياً يمهد لخطة اجتماعية عملية وتجلى ذلك في مؤلفيه (تلخيص الإبريز) و (المرشد الأمين) الذي ألفه بناء على أمر الخديوي "إسماعيل" وذلك عام (1872) قبل افتتاح أول مدرسة للبنات ترعاها الحكومة بعام واحد وقبل موت رفاعة بأعوام قليلة، ولما كان الخديوي "إسماعيل" يقود – في بداية تلك المرحلة – حركة التحديث في كل الميادين السياسية والفكرية والاجتماعية، فقد حاول بعد ذلك أن يقنع أهل الرأي بتأليف كتاب في الحقوق والعقوبات يطبقه في المحاكم بحيث يكون سهل العبارة، مرتب المسائل على نحو ترتيب القوانين الأوربية، ولكن رفض أهل الرأي من مشايخ الأزهر هذه الدعوة، فطلب الخديوي من الشيخ رفاعة إقناعهم بقبول ذلك ولكنه اعتذر عن ذلك على الوجه الذي وصفه الشيخ "رشيد رضا" في كتاب (تاريخ الإمام "محمد عبده") على الوجه التالي:
قال الشيخ "رشيد": "حدثني "علي باشا رفاعة بن رفاعة بك الطهطاوي" قال: "إن "إسماعيل باشا" الخديوي لما ضاق بالمشايخ ذرعاً استحضر والده رفاعة بك وعهد إليه أن يجتهد في إقناع شيخ الأزهر وغيره من كبار الشيوخ بإجابة هذا الطلب وقال له: "إنك منهم، ونشأت معهم، وأنت أقدر على إقناعهم، فأخبرهم أن أوروبا تضطرب إذ هم لم يستجيبوا إلى الحكم بشريعة "نابليون""، فأجابه بقوله: "إنني يا مولاي قد شخت، ولم يطعن أحد في ديني، فلا تعرضني لتكفير مشايخ الأزهر إياي في آخر حياتي، وأقلني من هذا الأمر" فأقاله" (5).
وكان أن انزوى "الطهطاوي" بعيداً عن مكان الصدارة و انتأى بعيداً ليحتل مكانه الشيخ "محمد عبده" الذي كان في ذلك الوقت في شرخ الشباب يحدوه جرأة الشباب وإقدامه وهنا تبدأ مرحلة جديدة من مراحل تحرير المرأة.
مرقص فهمي والقذيفة الأولى:
وفي سنة (1894) أي بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر بحوالي اثنتي عشرة سنة، ظهر أول كتاب في مصر أصدره صليبي حقود من أولياء (كرومر) الملقب باللورد، أظهره محتمياً بالنفوذ البـريـطـانـي الذي أمَّن له الطـريـق نـحـو طـعـن الإسلام وأهـلـه ذلـكـم هو (مرقص فهمي) المحامي وكتابه هو (المرأة في الشرق)، دعا فيه صراحة وللمرة الأولى في تاريخ المرأة المسلمة إلى تحقيق أهداف خمسة محددة وهي:
- أولاً: القضاء على الحجاب الإسلامي.
- ثانياً: إباحة اختلاط المرأة المسلمة بالأجانب عنها.
- ثالثاً: تقييد الطلاق وإيجاب وقوعه أمام القاضي.
- رابعاً: منع الزواج بأكثر من واحدة.
- خامساً: إباحة الزواج بين المسلمات والأقباط.
وقد أحدث الكتاب ضجة عنيفة، ولم يلبث المسلمون حين صدموا به حتى انطلقت في غمرات هذه الضجة قذيفة أخرى تفجرت في الوسط الإسلامي:
"الدوق دراكير" و (المصريون):
فقد صدر كتاب ألفه (الدوق دراكير) (6) باسم (المصريون) حمل فيه على نساء مصر، وهاجم المصريين، وتعدى على الإسلام، ونال من الحجاب الإسلامي وقرار المرأة المسلمة في البيت واقتصار وظيفتها على تربية النشء ورعاية الزوج، وقد هاجم (المثقفين)المصريين بصفة خاصة لسكوتهم وعدم تمردهم على هذه الأوضاع.
"وقد بدأ الاستعمار الإنجليزي إثر هذه الضجة يبحث عن وسيلة لشد أزر"مرقص فهمي" فلجأ إلى الأميرة "نازلي فاضل" (7) ليستعجلها على عمل شيء يساند "مرقص فهمي" من خلال صالونها" (
.
- الجذور (9):
كانت دعوة تحرير المرأة جزءاً من منهج كلي شمل كافة اتجاهات الحياة في المجتمع المصري، وتعود خيوطه إلى مدرسة الشيخ "محمد عبده" تلميذ "جمال الدين الأفغاني" أو إن شئت "المتأفغن" (10)، وقد سارا على الدرب الذي رسمه الطهطاوي وزاد الأفغاني نشاطه المريب وعلاقاته بالمحافل الماسونية وتبنيه لمبادئ الثورة الفرنـسـية "الماسونية" (*).
ومع وجود بعض الجوانب المشرقة في منهاج محمد عبده إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل نشاطه حيث كان له أخطر الأثر في عملية "التغريب" وتقريب الأمة الإسلامية نحو القيم الغربية مما جعل اللورد كرومر يشيد بدعوته وبتلامذته ويعلق عليهم أمله في تغريب المجتمع المصري ويذكر أنهم لذلك يستحقون "أن يعاونوا بكل ما هو مستطاع من عطف الأوربي وتشجيعه" اهـ.
ويكفي للتدليل على خطر هذه المدرسة أن نقرر دور تلاميذها في إفساد الحياة في مصر:
فهذا "لطفي السيد" يحيي التاريخ الفرعوني والنعرة الوطنية الإقليمية ويرعى الدعوة إلى "الحرية" بمفهومها الغربي الدخيل على الأمة الإسلامية.
وهي كلها مبادئ بلغت مداها على يد تلميذ آخر لمحمد عبده هو "سعد زغلول".
وهذا تلميذه "قاسم أمين" يفسد الحياة الاجتماعية في مصر بدعوته إلى "تحرير المرأة" بالمعنى الذي يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
لقد كان يريد "محمد عبده" أن يقيم سداً في وجه التيار العلماني اللاديني ليحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه، ولكن الذي حدث أن هذا السد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليه إلى العالم الإسلامي لتحتل المواقع واحداً تلو الآخر، ثم جاء فريق من تلاميذ "محمد عبده" وأتباعه فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى طريق العلمانية (اللادينية).
رام نفعاً فضر به من غير قصد *** ومـن البـر مـا يـكـون عـقـوقـاً
_____________________________________
(1) انظر "الإسلام والحضارة الغربية" للدكتور "محمد محمد حسين" رحمه الله ص (17 – 18).
(2) "وقد كتب الطهطاوي هذا الكتاب أثناء إقامته في فرنسا وعرضه على أستاذه ( جومار) قبل أن ينشره بعد عودته" اهـ من "السابق" ص (19- 20).
"وقد بين لنا هذا الكتاب – أي "تخليص الإبريز" - أن صاحبه خلق من جديد في الفترة التي قضاها في فرنسا يأنس إلى علمائها ويأنسون إليه، فإذا عاد إلى القاهرة أشرف على حركة الترجمة وعُيِّن رئيساً لتحرير الوقائع المصرية وكتب المقالات وألف الكتب وترجم القوانين وعُيِّن ناظراً لمدرسة الألسن" اهـ من (تطور النهضة النسائية في مصر) لإبراهيم عبده ودرية شفيق ص (53).
(3) "الإسلام والحضارة الغربية" د/ محمد محمد حسين ص (36).
(4) "المؤامرة على المرأة المسلمة" د/ السيد أحمد فرج ص (38).
(5) "تاريخ الإمام محمد عبده" للشيخ محمد رشيد رضا (1/620- 621).
(6) وكان داركير قد زار مصر ثلاث مرات سائحاً عابراً في خريف عام (1893م).
(7) وهي ابنة الأمير "مصطفى فاضل" باشا نجل "إبراهيم" باشا ابن "محمد علي" باشا الكبير، كان والدها مصطفى فاضل يعتبر نفسه أحق بعرش مصر من الخديوي إسماعيل، ومن هنا كانت الأميرة نازلي تعلن الحرب على الخديوي (عباس)" اهـ من جريدة المساء الخميس (4أغسطس 1983م) من مقالة (هل انتحر محرر المرأة بسبب امرأة؟) للصحافي مصطفى أمين.
(
"الحركات النسائية في الشرق" لمحمد فهمي عبد الوهاب ص (13- 14) طبعة دار الاعتصام.
(9) انظر "الإسلام والحضارة الغربية" ص (41 – 100)، و "قاسم أمين" للدكتور "ماهر حسن فهمي" ص (19 - 20).
(10) هناك خلاف منتشر في حقيقة نسب الأفغاني هل هو حقاً أفغاني أم إنه شيعي إيراني انظر (المجلة) العدد 233/3 أغسطس 1984 م/ 7 ذو القعدة 1404 هـ - ص (61 - 63) وانظر أيضاً (الإسلام والحضارة الغربية) ص (61 – 63).
(*) انظر: (دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام) للأستاذ مصطفى فوزي بن عبد اللطيف غزال نشر (دار طيبة) – الرياض وهي دراسة كشفت الكثير من جوانب الغموض في سيرته.
من كتاب (عودة الحجاب) للدكتور محمد إسماعيل المقدم