من مشاهد العظمة في الهجرة
لم تكن الهجرةُ حَدَثًا عاديًّا، أو مجرَّدَ انتقالٍ من دارٍ إلى دار، وإنما كانت عملاً مُضْنِيًا في غايةِ المشقَّةِ، وتضحيةً نادرةً بكل شيءٍ في سبيل الله، وإنًّ فيها لمَشَاهدَ يندهشُ لها بصرُ التاريخ وسمعُه، تُفْصِح عن عَزْمة الإيمانِ التي بعثَها محمدٌ صلى الله عليه وسلم في النفوس، فشَرَتْ أنفسَها ابتغاءَ مَرْضَاتِ الله.
لقد سعتْ قريشٌ إلى عرقلةِ هجرة المؤمنين بكل وسيلةٍ، وأثارت المشاكلَ الكثيرةَ أمامَهم، ودبَّرت الحِيَل لمنعهم، عساها تُثْنِيهم عن الهجرةِ، فمرةً تغتصبُ وتحتجز أموالَهم، وتارةً تُمنع منهم زوجاتِهم، وثالثةً تحتال لإعادتهم إلى مكة.
غير أنَّ ذلك كلَّه لم يَفُتَّ في عَضُدِ المؤمنين المهاجرين، ولم يَعُقْهم عن متابعة رحلتِهم المباركةِ، إذْ كانوا على أتمِّ الاستعداد للتخلِّي عن أي شيء في سبيل الله.
رأينا- فيما سبق- مواقفَ علي وأبي بكر رضي الله عنهما، وفيها من قوةِ الإيمان وعُمْقِ اليقينِ ومَضَاءِ العزيمةِ ما لا يكاد يُوجَد إلا في الرجُل بعد الرجل، وعلى قَدْرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ. غيرَ أن هذه المواقفَ الرائعةَ لم تكن هي كلَّ مواقفِ العظمةِ والشموخِ في الهجرةِ المباركة، بل امتلأ هذا الحدَثُ العظيمُ بكثيرٍ من مشاهد العظمةِ والتجرُّدِ والتضحيةِ، التي تُعطِي الأمةُ دروسًا بليغةً في بناءِ المجدِ وتحصيلِ العزة.
وهاك بعضَ هذه المشاهد- كما هي- بلا تزويقٍ ولا ترويقٍ، ولْيُحَاوِلْ كلُّ مسلمٍ أن يستنبطَ الدروسَ ويتلمَّس العِبَر من هذه المشاهد العظيمة.
ا- هجرة صهيب بن سنان:
كان صهيبُ بنُ سِنَانٍ النَّمِري من النِّمِر بن قاسطٍ، أغارتْ عليهم الرومُ، فسُبِي وهو صغير، وأخذ لسانَ أولئك الذين سَبَوْه، ثم تقلَّبَ في الرِّقِّ، حتى ابتاعه عبدُ الله بن جُدْعان، ثم أعتقه، ودخل الإسلام هو وعمار بن ياسر رضي الله عنهما في يومٍ واحدٍ.
وكانت هجرة صهيب رضي الله عنه عملاً تتجلَّى فيه روعةُ الإيمان، وعظمةُ التجرد للّه؛ حيث ضحَّى بكل ما يملك في سبيل الله ورسوله واللحوق بكتيبة التوحيد والإيمان.
فعَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ سَبِخَةً بَيْنَ ظَهْرَانَيْ حَرَّةٍ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ هَجَرَ، أَوْ تَكُونَ يَثْرِبَ".
قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، وَكُنْتُ قَدْ هَمَمْتُ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ، وَصَدَّنِي فَتَيَانٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَعَلْتُ لَيْلَتِي تِلْكَ أَقُومُ لا أَقْعُدُ، فَقَالُوا: قَدْ شَغَلَهُ الله عَنْكُمْ بِبَطْنِهِ- وَلَمْ أَكُنْ شَاكِيًا- فَنَامُوا، فَخَرَجْتُ، فَلَحِقَنِي مِنْهُمْ نَاسٌ بَعْدَمَا سِرْتُ يُرِيدُونَ رَدِّي، فَقُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أُعْطِيَكُمْ أَوَاقًا مِنْ ذَهَبٍ وَسِيَرَا لِي بِمَكَّةَ، وَتُخَلُّونَ سَبِيلِي، وَتَوْثُقُونَ لِي، فَفَعَلُوا، فَتَبِعْتُهُمْ إِلَى مَكَّةَ، فَقُلْتُ: احْفُرُوا تَحْتَ أُسْكُفَّةِ الْبَابِ، فَإِنَّ تَحْتَهَا الأَوَاقِ، فَاذْهَبُوا إِلَى فُلانَةَ بِآيَةِ كَذَا وَكَذَا، فَخُذُوا الْحُلْيَتَيْنِ.
وَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قُبَاءَ قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْهَا، فَلَمَّا رَآنِي، قَالَ: "يَا أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعُ" ثَلاثًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، مَا سَبَقَنِي إِلَيْكَ أَحَدٌ، وَمَا أَخْبَرَكَ إِلا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامْ.
وعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النّهْدِيّ أَنّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنّ صُهَيْبًا حَيْنَ أَرَادَ الْهِجْرَةَ قَالَ لَهُ كُفّارُ قُرَيْشٍ: أَتَيْتنَا صُعْلُوكًا حَقِيرًا، فَكَثُرَ مَالُك عِنْدَنَا، وَبَلَغْت الّذِي بَلَغْت، ثُمّ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ بِمَالِك وَنَفْسِك، وَاَللّهِ لاَ يَكُونُ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُمْ صُهَيْبٌ: أَرَأَيْتُمْ إنْ جَعَلْت لَكُمْ مَالِي أَتُخْلُونَ سَبِيلِي؟ قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: فَإِنّي جَعَلْت لَكُمْ مَالِي. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ("رَبِحَ صُهَيْبٌ، رَبِحَ صُهَيْبٌ".
وعن عكرمة رحمه الله قال: "لمَّا خَرَجَ صُهَيْبٌ مُهَاجِرًا تَبِعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ، فَنَثَلَ كِنَانَتَهُ، فأَخْرَجَ مِنْهَا أَرْبَعِينَ سَهْمًا، فَقَالَ: لا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَضَعَ فِي كُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ سَهْمًا، ثُمَّ أَصِيرُ بَعْدُ إِلَى السَّيْفِ، فَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَجُلٌ، وَقَدْ خَلَّفْتُ بِمَكَّةَ قَيْنَتَيْنِ، فَهُمَا لَكُمْ".
وعن أنس رضي الله عنه نحو حديث عكرمة، وقال: "وَنَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتغَاءَ مَرْضَاتِ الله﴾ (البقرة: من الآية 207)، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعُ". قال: وتلا عليه الآية ، كما روى نحو ذلك عن سعيد بن المسيب رحمه الله.
تلك كانت القصةَ بطرقها المختلفة، ورواياتها المتعددة، وهي روايات يكمل بعضها بعضًا.
لَكَأني بصهيب رضي الله عنه يُقدِّم الدليلَ القاطعَ على فسادِ عقلِ أولئك المادِّيِّين، الذين يزِنون حركاتِ التاريخِ وأحداثَه كلَّها بميزان المادة. فأين هي المادة التي سوف يكسِبُها صهيب رضي الله عنه في هجرته، والتي ضحَّى من أجلها بكل ما يملك؟!
هل تراه ينتظر أن يعطيَه محمدٌ صلى الله عليه وسلم منصبًا يعوِّضه عما فقده؟ أم هل ترى محمدًا صلى الله عليه وسلم يُمنّيه بالعيش الفاخر في جوارِ أهل يثرب؟!
اللهم إنا نُشهِدُك- ولا نزكِّي عليك إلا ما زكَّيْتَ- أنَّ صهيبًا ما فعل ذلك، وما انحاز إلى الفئة المؤمنة إلا ابتغاءَ مرضاتِك، بالغًا ما بلغ الثمنُ، ليضربَ لشباب الإسلام مثلاً في التضحية عزيزَ المنال، عساهم يسيرون على الدرب، ويقتفون الأثر.
2- هجرة آل أبي سلمة:
هذا مشهدٌ آخر يضارع المشهدَ السابقَ عظمةً وجلالاً؛ إنها أسرةٌ مؤمنةٌ باعتْ نفسَها لله، تتكون من أبٍ وأمٍّ وطفلٍ، أصابهم في سبيلِ الهجرة إلى الله ورسوله ما أصابهم، فتحمَّلوا صابرين، وهاجروا مؤمنين، وجاهدوا مُثَابِرين.
وهذا ابن إسحاق ينقل لنا القصة على لسان تلك الأم، فيقول:
حَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَدّتِهِ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: لَمّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَدِينَةِ رَحَلَ لِي بَعِيرَهُ، ثُمّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بِي بَعِيرَهُ، فَلَمّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ قَامُوا إلَيْهِ فَقَالُوا: هَذِهِ نَفْسُك غَلَبْتنَا عَلَيْهَا، أَرَأَيْت صَاحِبَتَك هَذِهِ، عَلامَ نَتْرُكُك تَسِيرُ بِهَا فِي الْبِلادِ؟ قَالَتْ: فَنَزَعُوا خِطَامَ الْبَعِيرِ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذُونِي مِنْهُ.
قَالَتْ: وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ، رَهْطُ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالُوا: لا وَاَللّهِ لاَ نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا إذْ نَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا. قَالَتْ: فَتَجَاذَبُوا بُنَيَّ سَلَمَةَ بَيْنَهُمْ حَتّى خَلَعُوا يَدَهُ، وَانْطَلَقَ بِهِ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ، وَحَبَسَنِي بَنُو الْمُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُو سَلَمَةَ إلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَتْ: فَفَرّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي.
قَالَتْ: فَكُنْت أَخْرُجُ كُلَّ غَدَاةٍ فَأَجْلِسُ بِالْأَبْطُحِ، فَمَا أَزَالُ أَبْكِي، حَتَّى أُمْسِي، سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، حَتَّى مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمّي، أَحَدُ بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَرَأَى مَا بِي فَرَحِمَنِي، فَقَالَ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ: أَلا تُخْرِجُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ؟ فَرّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا! قَالَتْ: فَقَالُوا لِي: الْحَقِي بِزَوْجِك إنْ شِئْتِ. قَالَتْ: وَرَدَّ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ إلَيَّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي.
قَالَتْ: فَارْتَحَلْت بَعِيرِي، ثُمّ أَخَذْت ابْنِي فَوَضَعْته فِي حِجْرِي، ثُمّ خَرَجْت أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ. قَالَتْ: وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللّهِ. قَالَتْ: فَقُلْت: أَتَبَلّغُ بِمَنْ لَقِيتُ حَتّى أَقْدَمَ عَلَى زَوْجِي، حَتّى إذَا كُنْت بِالتّنْعِيمِ لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَخَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ، فَقَالَ لِي: إلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيّةَ؟ قَالَتْ: فَقُلْت: أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: أَوَ مَا مَعَك أَحَدٌ؟ قَالَتْ: فَقُلْت: لا وَاَللّهِ إلاَّ اللّهُ وَبُنَيّ هَذَا. قَالَ: وَاَللّهِ مَا لَك مِنْ مَتْرَكٍ.
فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ فَانْطَلَقَ مَعِي يَهْوِي بِي، فَوَ اَللّهِ مَا صَحِبْت رَجُلاً مِنْ الْعَرَبِ قَطّ، أَرَى أَنّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ، كَانَ إذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَنَاخَ بِي، ثُمّ اسْتَأْخَرَ عَنّي، حَتّى إذَا نَزَلْت اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي، فَحَطّ عَنْهُ ثُمّ قَيّدَهُ فِي الشّجَرَةِ، ثُمّ تَنَحّى وَقَالَ: ارْكَبِي. فَإِذَا رَكِبْت وَاسْتَوَيْتُ عَلَى بَعِيرِي أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ، فَقَادَهُ حَتّى يَنْزِلَ بِي. فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِي حَتّى أَقْدَمَنِي الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَى قَرْيَةِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بقُباءٍ قَالَ: زَوْجُك فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ- وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بِهَا نَازِلاً- فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ. ثُمّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى مَكّةَ.
قَالَ: فَكَانَتْ تَقُولُ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ فِي الْإِسْلاَمِ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ آلَ أَبِي سَلَمَةَ، وَمَا رَأَيْت صَاحِبًا قَطّ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَة .
الله أكبر الله أكبر! أرأيتم أثر الإيمان حين تخالط بشاشتُه القلوب؟!
هذه أسرة فُرِّق شملها، وامرأة تبكي شدة مصابها، وطفل خُلعت يده وحُرِم من أبويه، وزوجٌ وأبٌ يُسَجِّلُ أَرْوَعَ صُورِ التضحيةِ والتجرد؛ ليكون أولَّ مهاجرٍ يصل أرضَ الهجرةِ، محتسبين في سبيلِ الله ما يَلْقَوْنَ، مُصمِّمين على المُضيِّ في طريقِ الإيمان، والانحيازِ إلى كتيبة الهدى، فماذا عَسَى أن ينالَ الكفرُ وصناديدُه من أمثال هؤلاء؟!
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)﴾ (ق).
على أنه لا ينبغي أن أغادرَ هذا المشهدَ قبل أن أتوقَّف قليلاً أمام صنيع عثمان بن طلحة رضي الله عنه، فقد كان يومئذٍ كافرًا (وأسلم قبل الفتح)، ومع ذلك تشهدُ له أم سلمة رضي الله عنها بكرم الصُّحْبة، على النحو المذكور في القصة، وذلك شاهدُ صدقٍ على نفاسة معدِن العرب، وكمالِ مُرُوءتِهم، وحمايتِهم للضعيف، "فقد أَبَتْ عليه مروءتُه وخُلُقُه العربيُّ الأصيلُ أن يَدعَ امرأةً شريفةً تسيرُ وحدها في هذه الصحراء الموحشة، وإنْ كانت على غير دينه، وهو يعلم أنها بهجرتها تراغمه وأمثالَه من كفار قريش.
فأين من هذه الأخلاق- يا قومي المسلمين والعرب- أخلاقُ الحضارة في القرن العشرين، من سطوٍ على الحُرِّيَّات، واغتصابٍ للأعراض، بل وعلى قارعة الطريق، وما تطالعُنا به الصحافةُ كلَّ يومٍ من أحداث يَنْدَى لها جبينُ الإنسانية، ومن تَفَنُّنٍ في وسائل الاغتصاب، وانتهاك الأعراض، والسطو على الأموال.
إن هذه القصةَ- ولها مُثُلٌ ونظائرُ- لَتَشْهَدُ أنَّ ما كان للعربِ من رصيدٍ في الفضائل كان أكثرَ من مَثَالبهم ورذائلهم، فمن ثَمَّ اختار الله منهم خاتَمَ أنبيائه ورسله، وكانوا أهلاً لحمل الرسالة، وتبليغها للناس كافة".
3- هجرة ضَمُرَة بن جُندب:
ثالثُ هذه المشاهد يُرِينا ما كان عليه هذا الجيلُ الكريمُ من سرعةٍ في امتثال الأمر، وتنفيذه في النشاطِ والشدة، كائنةً ما كانت ظروفُهم، فلا يلتمسون لأنفسهم المعاذير، ولا يطلبون الرُّخَص.
فقد فرض الله الهجرة على المؤمنين بحيث أنَّ "كل مَن أقام بين ظهرانَيْ المشركين وهو قادرٌ على الهجرة، وليس متمكِّنًا من إقامةِ الدين، فهو ظالمٌ مرتكبٌ حرامًا بالإجماع..." ، لكن الله أعفي من هذا الفرض المستضعفين من الرجال والنساء والولدان المحبوسين بعذرٍ أو مرض ولا حيلةَ لهم، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوًا غَفُورًا﴾ (النساء).
وقد كان ضَمُرَةُ بن جُندب مريضًا ذا عذر، لكنه أراد أن يلحقَ برَكْبِ التوحيد إلى أرض الإيمان، بالغةً ما بلغت المشقة.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا، فَقَالَ لأَهْلِهِ: احْمِلُونِي، فَأَخْرِجُوني مِنْ أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَ الْوَحْيُ: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا (100)﴾ (النساء) (18).
وفي رواية: "كَانَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ضَمُرَةَ، مِنْ بَنِي بَكْرٍ، وَكَانَ مَرِيضًا، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: أَخْرِجُونِي مِنْ مَكَّةَ، فَإِنِّي أَجِدُ الْحَرَّ. فَقَالُوا: أَيْنَ نُخْرِجُكَ؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ.
فَخَرَجُوا بِهِ، فَمَاتَ عَلَى مِيلَيْنِ مِنْ مَكَّةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ".
وفي بعض طرقه: أن الرجلَ كان مصاب البصر، وكان موسرًا، فقال: لئن كان ذهابُ بصري؛ إني لأستطيعُ الحيلة، لي مالٌ ورقيقٌ، احملوني. فحُمِل ودبَّ وهو مريضٌ، فأدركه الموت عند التنعيم.
فهذا الرجلُ قد رأى أنه ما دام له مالٌ يستعينُ به ويُحْمَلُ به إلى المدينة، فقد انتفي عذرُه. وهذا فِقْهٌ أَمْلاَهُ الإيمانُ، وزكَّاه الإخلاصُ واليقين.
4- ذكاءُ أسماءَ بنتِ أبي بكر الصديق رضي الله عنها وشجاعتها:
أسماءُ رضي الله عنها، هي ذلك النجمُ اللامعُ الذي يتوهَّج لمعانًا إذا ذُكرت الهجرةُ، فهي تلك التي صنعتْ زادَ أعظم مهاجرَيْن، وربطتْه بنِطَاقِهَا، فصارتْ مشتهرةً بذات النطاق ، وبذات النطاقين:
فعَنْ أَسْمَاءَ رضي الله عنها: صَنَعْتُ سُفْرَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ حِينَ أَرَادَا الْمَدِينَةَ، فَقُلْتُ لأَبِي: مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبُطُهُ إِلاَّ نِطَاقِي. قَالَ: فَشُقِّيهِ. فَفَعَلْتُ، فَسُمِّيتُ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ .
ولها في الهجرة مواقف أخرى تستبِدُّ بالإعجاب، وتنضح بالذَّكاء، وصدق الإيمان.
وهناك موقفان لها يدلان على غايةِ الشجاعةِ والقوةِ، وكمالِ الذكاءِ والفِطنةِ، وعمقِ اليقينِ والثقة بالله:
(أ) أما الموقف الأول، فيحكيه عنها ابْنُ إسْحَاقَ فيقول:
حُدّثْتُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنّهَا قَالَتْ: لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إلَيْهِمْ فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوك يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: قُلْت: لاَ أَدْرِي وَاَللّهِ أَيْنَ أَبِي. قَالَتْ: فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا، فَلَطَمَ خَدّي لَطْمَةً طُرِحَ مِنْهَا قُرْطِي.قَالَتْ: ثُمّ انْصَرَفُوا.
فَمَكَثْنَا ثَلاَثَ لَيَالٍ، وَمَا نَدْرِي أَيْنَ وَجْهُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ مِنْ أَسْفَلِ مَكّةَ، يَتَغَنّى بِأَبْيَاتٍ مِنْ شَعَرِ غِنَاءِ الْعَرَبِ، وَإِنّ النّاسَ لَيَتْبَعُونَهُ، يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَمَا يَرَوْنَهُ، حَتّى خَرَجَ مِنْ أَعَلَى مَكّةَ وَهُوَ يَقُولُ:
جَزَى الله رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ
رَفِيقَيْنِ حَلّا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلاَ بِالْبَرّ ثُمّ تَرَوّحَا
فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمّدٍ
لِيَهِنْ بني كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ
وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ
قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا: فَلَمّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا حَيْثُ وَجْهُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنّ وَجْهَهُ إلَى الْمَدِينَةِ. وَكَانُوا أَرْبَعَةً: رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رضي الله عنه، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَرْقَطَ دَلِيلُهُمَا.
لك الله يا بنتَ الصديق، وزوجَ الحوارى، وأمَّ الأبطال والعلماء! لكأني أراك تمسحين عن وجهك الكريم أَثَرَ لطمةِ الفاحشِ الخبيثِ، وقلبُك من أعماقِه يفيض سُخريةً من هذا الباطل التافِهِ المتهافِت، وضحكًا على أولئك الصناديد التافهين الفارغين، فقد انتصرتِ عليهم بشجاعتكِ وثباتِكِ وذكائك.
فأَدْبَروا ووُجوهُ الأرضِ تلعنُهم كباطلٍ من جلالِ الحق منهزم
(ب) وأما الموقف الثاني، فيرويه كذلك ابْنُ إسْحَاقَ، فيقول:
حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ، أَنّ أَبَاهُ عَبّادًا حَدّثَهُ، عَنْ جَدّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلّهُ، وَمَعَهُ خَمْسَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتّةُ آلاَفٍ، فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ.
قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدّي أَبُو قُحَافَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَقَالَ: وَاَللّهِ إنّي لا أَرَاهُ إِلاَ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ. قَالَتْ: قُلْت: كَلّا يَا أَبَتِ، إنّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَتْ: فَأَخَذْت أَحْجَارًا، فَوَضَعْتهَا فِي كُوّةٍ فِي الْبَيْتِ الّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثُمّ وَضَعْت عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمّ أَخَذْت بِيَدِهِ فَقُلْت: يَا أَبَتِ ضَعْ يَدَك عَلَى هَذَا الْمَالِ. قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ، إذَا كَانَ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدْ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلاَغٌ لَكُمْ.
وَلاَ وَاَللّهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا، وَلَكِنّي أَرَدْت أَنْ أُسَكّنَ الشّيْخَ بِذَلِكَ.
وبهذه الفِطْنة والحِكْمة سترتْ أسماءُ أباها، وسكَّنَتْ قلبَ جدِّها الشيخِ الضَّريرِ، من غير أن تكذبَ، فإن أباها قد ترك لهم حقًّا هذه الأحجار التي كوّمتها لتُطَمْئِنَ بها نفسَ الشيخ، إلا أنه قد ترك لهم معها إيمانًا بالله لا يتزلزلُ إن تزلزلت الجبالُ، ولا تُحَرِّكُه العواصفُ الهُوْج، ولا يتأثر بقلةٍ أو كثرةٍ في المال، وورَّثهم يقينًا بالله وثقةً في جنابه لا حدَّ لها، وغرس فيهم هِمَّةً تتعلَّق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفاسفها، فضرب بهم للبيتِ المسلمِ مثالاً عزَّ أن يتكرَّر، وقلّ أن يُوجَد نظيره.
لقد ضربتْ أسماءُ رضي الله عنها بهذه المواقف لنساءِ وبناتِ المجاهدين مثالاً هُنَّ في أمسِّ الحاجةِ إلى الاقتداءِ به، والنَّسْج على مِنْوَالِه.
وظلَّتْ أسماءُ مع إخوتها في مكة، لا تشكو ضِيقًا ولا تُظهِرُ حاجةً، حتى بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم زيدَ بنَ حارثة وأبا رافع مولاه إلى مكة، وأعطاهما بعيرَيْن وخمسَمائة درهمٍ، فقَدِمَا عليه بفاطمةَ وأمِّ كُلثوم ابنتيْه، وسودةَ بنتِ زَمْعَةَ زوجِه، وأسامةَ بنِ زيدٍ، وأمِّه بَرَكَةَ المُكَنَّاةِ بأم أيمن، وخرج معهما عبدُ الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، فيهم عائشة وأسماء، فقَدِمُوا المدينةَ، فأَنْزَلَهم في بيت حارثةَ بنِ النُّعْمان .
5- هجرة عمر وقصة عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص:
هذا مشهدٌ آخرُ يبيِّن مدى الجهدِ والحيلةِ التي كانت تبذلُها قريشٌ لفتنة المؤمنين، ومدى حرصِ المؤمنين بعضهم على بعض، وتحذيرِهم بعضَهم بعضًا من حِيَلِ وأَلاَعِيبِ المشركين، ثم مدى حرصِهم على إعادةِ المفتونين من إخوانهم إلى الصفِّ المسلمِ مرةً أخرى.
فقد استغلتْ قريشٌ سطوتَها لمنع هجرةِ هشامِ بنِ العاصِ أخي عمرو بن العاص، وأَوعَزَتْ إلى أهلِه فحبسوه، وفتنوه فافتُتِن، كما استغلتْ قريشٌ سلامةَ فطرةِ عيَّاشِ بنِ أبي ربيعةَ وشدةَ بِرِّه بأمِّه، في استعادته إلى مكة، ثم فتنوه فافتُتِن، ومع ذلك ظلَّ إخوانُهم المسلمون يَأْمَلُون فَيْأهم إليهم، وعودَتهم إلى صفوفهم، حتى أَذِن الله بذلك.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيّ، حَتّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ. فَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، قَالَ: اتّعَدْتُ لَمّا أَرَدْنَا الْهِجْرَةَ إلَى الْمَدِينَةِ، أَنَا وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السّهْمِيّ التّناضِبَ مِنْ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ، فَوْقَ سَرِفٍ ، وَقُلْنَا : أَيّنَا لَمْ يُصْبِحْ عِنْدَهَا فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ. قَالَ: فَأَصْبَحْت أَنَا وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عِنْدَ التّنَاضُبِ، وَحُبِسَ عَنّا هِشَامٌ، وَفُتِنَ فَافْتُتِنَ.
فَلَمّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ نَزَلْنَا فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بقُباءٍ، وَخَرَجَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ إلَى عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ ابْنَ عَمّهِمَا وَأَخَاهُمَا لِأُمّهِمَا، حَتّى قَدِمَا عَلَيْنَا الْمَدِينَةَ، وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكّةَ، فَكَلّمَاهُ وَقَالاَ: إنّ أُمَّكَ قَدْ نَذَرَتْ أَنْ لاَ يَمَسَّ رَأْسَهَا مُشْطٌ حَتّى تَرَاك، وَلاَ تَسْتَظِلّ مِنْ شَمْسٍ حَتّى تَرَاك. فَرَقّ لَهَا، فَقُلْت لَهُ: يَا عَيّاشُ، إنّهُ وَاَللّهِ إنْ يُرِيدَك الْقَوْمُ إلّا لِيَفْتِنُوك عَنْ دِينِك، فَاحْذَرْهُمْ، فَوَاَللّهِ لَوْ قَدْ آذَى أُمَّكَ الْقَمْلُ لاَمْتَشَطَتْ، وَلَوْ قَدْ اشْتَدّ عَلَيْهَا حَرُّ مَكّةَ لاَسْتَظَلّتْ.
قَالَ: فَقَالَ أَبَرُّ قَسَمَ أُمّي، وَلِي هُنَالِكَ مَالٌ فَآخُذُهُ. قَالَ: فَقُلْت: وَاَللّهِ إنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالاً، فَلَك نِصْفُ مَالِي وَلاَ تَذْهَبْ مَعَهُمَا. قَالَ: فَأَبَى عَلَيَّ إلّا أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمَا، فَلَمّا أَبَى إلّا ذَلِكَ قَالَ: قُلْت لَهُ: أَمَّا إذْ قَدْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْت، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ؛ فَإِنّهَا نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ ذَلُولٌ ، فَالْزَمْ ظَهْرَهَا، فَإِنْ رَابَك مِنْ الْقَوْمِ رَيْبٌ فَانْجُ عَلَيْهَا.
فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا، حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطّرِيقِ قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاَللّهِ لَقَدْ اسْتَغْلَظْتُ بَعِيرِي هَذَا، أَفَلاَ تُعْقِبَنِي عَلَى نَاقَتِك هَذِهِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَأَنَاخَ وَأَنَاخَا لِيَتَحَوّلَ عَلَيْهَا، فَلَمّا اسْتَوَوْا بِالْأَرْضِ عَدَوْا عَلَيْهِ فَأَوْثَقَاهُ وَرَبَطَاهُ، ثُمّ دَخَلاَ بِهِ مَكّةَ، وَفَتَنَاهُ فَافْتُتِنَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي بِهِ بَعْضُ آلِ عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَنّهُمَا حَيْنَ دَخَلاَ بِهِ مَكّةَ دَخَلاَ بِهِ نَهَارًا مُوثَقًا، ثُمّ قَالاَ: يَا أَهْلَ مَكّةَ، هَكَذَا فَافْعَلُوا بِسُفَهَائِكُمْ كَمَا فَعَلْنَا بِسَفِيهِنَا هَذَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ قَالَ: فَكُنّا نَقُولُ: مَا اللّهُ بِقَابِلٍ مِمّنْ اُفْتُتِنَ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً وَلاَ تَوْبَةً، قَوْمٌ عَرَفُوا اللّهَ ثُمّ رَجَعُوا إلَى الْكُفْرِ لِبَلاَءٍ أَصَابَهُمْ. قَالَ: وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ.
فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي قَوْلِنَا وَقَوْلِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعًا إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمّ لاَ تُنْصَرُونَ (54) وَاتّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ (55)﴾ (الزمر).
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: فَكَتَبْتهَا بِيَدِي فِي صَحِيفَةٍ، وَبَعَثْت بِهَا إلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِي.
قَالَ: فَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِي: فَلَمّا أَتَتْنِي جَعَلْت أَقْرَؤُهَا بِذِي طُوًى ، أُصَعِّدُ بِهَا فِيهِ وَأُصَوِّبُ، وَلاَ أَفْهَمُهَا، حَتّى قُلْت: اللّهُمّ فَهّمْنِيهَا. قَالَ: فَأَلْقَى اللّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِي أَنّهَا إنّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا، وَفِيمَا كُنّا نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا، وَيُقَالُ فِينَا. قَالَ: فَرَجَعْت إلَى بَعِيرِي، فَجَلَسْت عَلَيْهِ، فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ.
تلك كانت بعضَ مشاهد العظمة في معركة الهجرة المباركة، وهي تؤكد طبيعةَ أولئك الرجالِ والنساءِ الذين ربَّاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بنفسِه، وصنعهم على عينه، فنضَّرَ بهم وجْهَ الدنيا، وبَيَّضَ بهم وجْه الحياة، فلم تكن هجرتُهم إلا طلبًا لما عند الله، ولم يكن خروجُهم إلا ابتغاءَ وجهه، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
عن أبي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: عُدْنَا خَبَّابًا (يعني ابنَ الْأَرَتِّ) فَقَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نُرِيدُ وَجْهَ الله، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى الله، فَمِنَّا مَنْ مَضَى، لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نُغَطِّىَ رَأْسَهُ، وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنْ إِذْخِرٍ. وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهْوَ يَهْدِبُهَا.
أجل، خرجوا يريدون وجهَ الله، لا ينتظرون أجرًا ممن سواه، وشهد لهم بذلك ربُّ العزة جلّ وعلا، فقال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (
﴾ (الحشر).
فهم يبتغُون فضلَ الله، ورضوانَه، ويسعَوْن بهجرتِهم إلى نصرِ الله ورسولِه، مجاهدين لأهوائِهم، معاندين لشياطينِهم، صادقين في أغراضِهم وأهدافِهم، وهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يشرح طرفًا من هذه المجاهدة، ثم يذكر نتيجتها المحتومة.
فعَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلاَمِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ؟ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ. ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ؟ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ. ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ! فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ".
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى الله أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى الله أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ" .
وقد سجَّل هذه المعانيَ الشاعرُ المهاجر أبو أحمد عبدُ بنُ جحشٍ رضي الله عنه، حين هاجر أهلُ بيته أجمعون، رجالاً ونساءً، وغُلِّقت دار بني جحشٍ في مكة، فقال رضي الله عنه: سيرة ابن هشام(ص 472).
لَمّا رَأَتْنِي أُمّ أَحْمَدَ غَادِيًا
بِذِمّةِ مَنْ أَخْشَى بِغَيْبٍ وَأَرْهَبُ
تَقُولُ فَإِمّا كُنْتَ لاَ بُدّ فَاعِلاً
فَيَمّمْ بِنَا الْبُلْدَانَ ولتَنْأَ يَثْرِبُ
فَقُلْت لَهَا : بَلْ يَثْرِبُ الْيَوْمَ وَجْهُنَا
وَمَا يَشإِ الرّحْمَنُ فَالْعَبْدُ يَرْكَبُ
إلَى اللّهِ وَجْهِي وَالرّسُولِ وَمَنْ يُقِمْ
إلَى اللّهِ يَوْمًا وَجْهَهُ لاَ يُخَيّبُ
فَكَمْ قَدْ تَرَكْنَا مِنْ حَمِيمٍ مُنَاصِحٍ
وَنَاصِحَةٍ تَبْكِي بِدَمْعٍ وَتَنْدُبُ
تَرَى أَنّ وِتْرًا نَأْيُنَا عَنْ بِلاَدِنَا
وَنَحْنُ نَرَى أَنّ الرّغَائِبَ نَطْلُبُ
دَعَوْت بَنِي غَنْمٍ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ
وَلِلْحَقّ لَمّا لاَحَ لِلنّاسِ مَلْحَبُ
أَجَابُوا بِحَمْدِ اللّهِ لَمّا دَعَاهُمْ
إلَى الْحَقّ دَاعٍ وَالنّجَاحُ فَأَوْعَبُوا
وَكُنّا وَأَصْحَابًا لَنَا فَارَقُوا الْهُدَى
أَعَانُوا عَلَيْنَا بِالسّلاَحِ وأجْلَبوا
كَفَوْجَيْنِ أَمّا مِنْهُمَا فَمُوَفّقٌ
عَلَى الْحَقّ مَهْدِيّ، وَفَوْجٌ مُعَذّبُ
طَغَوْا وَتَمَنّوْا كِذْبَةً وَأَزَلّهُمْ
عَنْ الْحَقّ إبْلِيسُ فَخَابُوا وَخُيّبُوا
وَرِعْنَا إلَى قَوْلِ النّبِيّ مُحَمّدٍ
فَطَابَ وُلاَةُ الْحَقّ مِنّا وطُيّبوا
نَمُتّ بِأَرْحَامٍ إلَيْهِمْ قَرِيبَةٍ
وَلاَ قُرْبَ بِالْأَرْحَامِ إذْ لاَ نُقَرّبُ
فَأَيّ ابْنِ أُخْتٍ بَعْدَنَا يَأْمَنَنّكُمْ
وَأَيّةُ صِهْرٍ بَعْدَ صِهْرِي تُرْقَبُ
سَتَعْلَمُ يَوْمًا أَيّنَا إذْ تُزَايِلُوا
وَزُيّلَ أَمْرُ النّاسِ لِلْحَقّ أَصْوَبُ
وبهذا الإخلاص وهذه التضحية استحقَّ أولئكم النفرُ الكريمُ الفضيلةَ التي خصَّهم الله بها، والدعاءَ الذي دعا لهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يتقبَّل الله هجرتَهم، وأن يُمضيَ أجرَهم.
ففي الحديث عن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال وهو يعوده من مرضٍ ألمَّ به: "اللهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ..." الحديث.