عندما تختزل الأخوة
أسعد الله أوقاتكم بكلّ خير أيُّها الفضلاء الأكارم، اسمحوا لي يا أحبّة بأن أحدِّثكم حديث القلب، وأكاشفكم بمكنون الفؤاد، وأصارحكم بخلجات الروح.
تموت النّفوس بأوصابها ولم يدر عوّادُها ما بها
وما أنصفت مهجةٌ تشتكي أذاها إلى غير أحبابها
لئن سُئلت: ما هو أعزُّ موجودٍ في هذه الدُّنيا يُشاطرك همومك، ويريحك من عناء الدنيا، ويتحمّل عنك لأواءها؟! لأجبتُ على البديهة بلا تردّد: إنّهم إخوان الصّدق، وأحباب القلب.
كيف لا يكون ذلك والحال هذه؟! أليست علائق الوداد وحبائل المحبّة هي سلوة الدُنيا ولذّتُها وغايةُ مهجتِها؟!.
إن الوفاء يا سادة هو خُلق الكرام، وسجيّة الشّهم الهمام، والأوفياءُ في دنيا البشر أعزُّ من بيض الأنوق.
ورحِم الله الشيرازي إذ يقول في بيتين رائعين ماتِعين له:
سألتُ النّاس عن خلٍّ وفيّ فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسّك إن ظفرت بذيلِ حرٍّ فإنّ الحرَّ في الدُّنيا قليل
يقول الشافعي رحمه الله تعالى تعليقاً على بيتي الشيرازي: ولعلّ الحرّ الذي عناه الشيرازي؛ هو من راعى وداد لحظة ، وانتمى لمن أفادهُ لفظة.
وحول هذا المعنى السّامي يقولُ أبو هاشم الحراني: " من طباع الكريم وسجاياه؛ رعاية اللقاءة الواحدة ، وشكر الكلمة الحسنة الطيبة ، والمكافأة بجزيل الفائدة ".
هذه والله أخلاق العظماء من النّاس، فلا يحفظ الجميل، ولا يرعى حقّ الأخوة ، ولا يصون واجب الوداد إلا كريم النّفس، عالي الهمّة، شريف الطّبع.
إنّ ممّا علق بذهني يا كرام كلمةٌ قد استقرّت على صفحات قلبي لإمام أهل السنّة والجماعة الإمام أحمد رحمه الله حيث قال يُثني على حبيبه وصديقه وأخيه: أتدري مَن الإمامُ؟ الإمام سفيان الثوري، لا يتقدّمه أحد في قلبي.
الله أكبر! لقد عاش أئمتنا الكرام أعلى مشاعر الإخاء والحبّ والوداد وأسماها.
- أيُّها الكرام الفضلاء: أقول: ممّا يتأكّد التنبيه عليه هذا المقام؛ ما لأواصر المحبّة من حقوق، وما يجب لها من فروض، فإنّهُ لا يليق بالأخ مُقابلة خطأ أخيه؛ بوجهٍ مكفهرّ، ونفسٍ منقبضة، ولسانٍ عن جميل المعاني كليل.
فإن أقل ما يتلقى به الأخ أخاه: وجهٌ طلق, وثغرٌ باسم، ولو أساء في حقّه، أو تعدّى عليه بلفظه، ولنصبر على جفوة أحبابنا وتقصيرهم في حقّنا.
إنّ من أصعبِ المواقف أن تُختزل الأخوة فيضيقٌ العطن عند مشهدٍ معيّن لنبدأ بكيل الشتائم والسباب في حقِّ إخوتنا، فالأيّام الخوالي لا تُقابل بالهجر، ومواقف البذل والعطاء والوفاء لا تُجازى ببذيء الألفاظ، وسيئ العبارات فلا يُبرّر لأخٍ خطأُ أخيه في حقّه أن يصِمه بالخيانة وانعدام المروءة وما شاكلها.
كلّ هذا ممّا تأنفهُ شيم الكِرام، وتأباه نفسُ الحُرّ الضرغام، ولا يعيش عليه من النّاس إلا اللئام، فأولئك الطُّغام لا كثّرهم الله.
ولنُدرك هاهُنا ثمّة ملحظٍ يسيرٍ وهو أنّ القلوب إنّما هي مخلوقاتٌ شفّافة، يؤذيها ما يثقُل على اللّسان التّلفظ به، ولسرعان مما تتنافر له، وإذا تنافرت فمن لك بردّها؟!.
إنّ القلوب إذا تنافر وُدّها مثل الزّجاجة كسرُها لا يُشعب
ولكنّني مع ذلك أقول: لنطّرح عنّا ثياب المشاعر المُفرطة في الرهافة ، فتلك ولئن لصيقةً بالبعض منّا، إلا إن حياته ستنقلب كدَراً، فالنّاسُ قد جُبلوا على الزلل، وفي أُذنك أهمِس:
أيها الساهر تغـفو تذكر العهد وتصحو
فإذا ما التام جرحٌ جدَّ بالتّذكار جرحُ
فتعلّم كيف تنسى وتعلّم كيف تمحو
ثمّ إنّي أقول: عاشرِ النّاس عشرةً هادئةً وديعةً، فمهلاً على من تحب، ورويداً بمن تؤاخي عاشرهُ عشرةً إن غبت عنهُ حنّ إليك، وإن قدمت إليه استبقَ النّاس إليك، ولاحظ مودّة أخيك من عينيه، فالوجوهُ أكسيةُ القلوب، والألسنة مغاريفُها.
فانظر من تؤاخي حتى لا تضيق نفسك، وتكره عيشك، وتذكّر وصيّة أبي السّبطين رضي الله عنه إذ يقول مُوصياً بنيه: ( فإن أحببتم الرجل من غير خيرٍ سبق منه إليكم فارجوه, وإذا أبغضتم الرجل من غير سوءٍ سبق منهُ إليكم فاحذروه).
والمؤمُن لا تُخطئ فراستُه في الأعمّ ثم تأمّل من وصفهُ ابن جعفر حيثُ قال: ( عليك بصحبةِ من إذا صحبته زانك, وإن غبت عنه صانك, وإن احتجت إليه مانك - أي قام: بكفايتك وإن رأى من خُلّةً سدّها، أو حسنةً عدّها ).
فهذه شيمةُ أهل الوفاء، وعنوان أهل النّقاء، جعلني الله وإيّاكم منهم.