مع الطُّفَيْلِ.. أصلِحْ نفسك وادع غيرك!
- جاء في أمثلة العرب: "أصْلِحْ نفسَك يَصْلُحْ لك الناس" [مجمع الأمثال2/450]
- وقال أرسطاطاليس:
"أصلح نفسك لنفسك، يكن الناس تبعاً لك" [مختار الحكم 193].
-وقال أفلاطون:
" من بدأ بنفسه أدرك سياسة الناس".
وقال أيضًا:" أصلحوا أنفسكم تصلح لكم آخرتكم". [لباب الآداب19]
***
إلى جانب التنكيل والإيذاء استخدم مشركو مكة الوسائل الإعلامية، لمحاولة صد الناس عن النبي – صلى الله عليه وسلم -.
واشتدت الحملة الإعلامية على الإسلام.
وكانت تبلغ هذه الحملة ذروتها أيام الحج، حيث يأتي الأشراف والنوابغ من كل حدب وصوب.
وقد نظَّمتْ قريشٌ ما يشبه "لجنة إعلامية"، تترصد القادمين إلى مكة، فترسل إليهم من يُحذرهم من الدعوة الإسلامية، وقد قعدوا بكل صراط يصدون عن سبيل الله، فلا يكاد الغريب تطأ قدماه أرض مكة فلا يصل إلى الكعبة إلا وقد مر بعملية غسل دماغي من قِبل هؤلاء الإعلاميين، وقد قاموا بصب الشبهات والترهات والخرافات في عقله صبًا ..
وكأن الله أراد أن يشق إعلامهم الكاذب، بأن يضم لدعوته شخصية إعلامية عربية بارزة، وشاعر أريب لبيب من رواد "ملتقى عكاظ الأدبي"، فكان ذلك اليوم الأسود على رءوس المشركين يوم أسلم الطفيل بن عمرو سيد دوس وشاعر العرب.
***
الدعوة الإسلامية في مواجهة التشويش:
وتبدأ القصة، يوم قدم الطفيل بن عمرو إلى مكة، فمشى إليه رجال من قريش، يتلقفونه بنفث سمومهم الفكرية في عقل الطفيل، و"تحصينه" من الدعوة الإسلامية.
فقالوا له:
"يَا طُفَيْلُ, إنّك قَدِمْتَ بِلادَنَا, وَهَذَا الرّجُلُ الّذِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَدْ أَعْضَلَ بِنَا, وَقَدْ فَرّقَ جَمَاعَتَنَا, وَشَتّتْ أَمْرَنَا, وَإِنّمَا قَوْلُهُ كَالسّحْرِ يُفَرّقُ بَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَبَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَبَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَإِنّا نَخْشَى عَلَيْك وَعَلَى قَوْمِك مَا قَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا, فَلا تُكَلّمَنّهُ، وَلا تَسْمَعَنّ مِنْهُ شَيْئًا "[ابن هشام: 1/382] .
قال الطفيل محدثًا عن حاله معهم:
"فَوَاَللّهِ مَا زَالُوا بِي، حَتّى أَجْمَعْتُ أَنْ لا أَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلا أُكَلّمَهُ، حَتّى حَشَوْتُ فِي أُذُنَيّ - حِينَ غَدَوْتُ إلَى الْمَسْجِدِ – كُرْسُفًا، فَرَقًا مِنْ أَنْ يَبْلُغَنِي شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَنَا لا أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَهُ ". "[ابن هشام: 1/382] .
وهكذا تأثير الإعلام، الذي يفعل الأفاعيل بالعقول، فبمثل هذا الطرح يتحول الحق إلى باطل في نظر الناس، ومن خلال وسائل الإعلام يرى الناس الفيل بحجم النملة، والنملة بحجم الفيل . وإذا أُحسن استخدام وسائل الإعلام؛ فهي كالشمعة في يد العاقل يضيء بها، وإذا أُسيء استخدام وسائل الإعلام فهي كالشمعة – أيضًا – ولكن في يد المجنون يحرق بها .
ومن ثم فإن على الدعوة الإسلامية أن تصبر وأن تثبت، وأن تحسن التصرف في مواجهة الإعلام الـمُضَلِل، وأن تحسن التعامل مع ضحايا هذا الإعلام، فالساذج المَرْقَعان الأخرق الذي ينظر إلى الدعوة الإسلامية على أنها عصابة متطرفة إرهابية .. ينبغي أن نتعامل معه على أنه ضحية من ضحايا وسائل التشويه، فلنحسن التعامل معه، ولنتخلق معه بأحاسن الأخلاق، وأكارم الفعال، لعل الله أن يمسح على قلبه فيزيل وحلة الإعلام المفسد، وينقذه من بين عجاجتي الإعلام الفاسد والوعي الغائب.
***
عجائب القدرة الإلهيه في مواجهة الحملات الإعلامية:
قَالَ الطفيل بن عمرو:
" فَغَدَوْت إلَى الْمَسْجِدِ, فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَائِمٌ يُصَلّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ . فَقُمْت مِنْهُ قَرِيبًا فَأَبَى اللّهُ إلا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ . قَالَ فَسَمِعْتُ كَلامًا حَسَنًا قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي: ثكلتني أُمّي! وَاَللّهِ إنّي لَرَجُلٌ لَبِيبٌ شَاعِرٌ، مَا يَخْفَى عَلَيّ الْحَسَنُ مِنْ الْقَبِيحِ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَسْمَعَ مِنْ هَذَا الرّجُلِ مَا يَقُولُ فَإِنْ كَانَ الّذِي يَأْتِي بَهْ حَسَنًا قَبِلْتُهُ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا تَرَكْتُهُ" [ابن هشام: 1/382، 383] .
وهنا نرى قدر الله، وكيف يفتح الله مغاليق القلوب بيديه، وهي القلوب التي خلقها ويقلبها كيف يشاء، وقد شَعُرَ الرجل بهذه القدرة الربانية تتسل إلى قلبه رويدًا رويدًا تسلل النور في حالك الظلمات، فقال: " فَأَبَى اللّهُ إلّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ".
ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ويرسل أشعة الإسلام إلى قلوب غبَّرتها وسائل التضليل، وإلى نفوس تربت رزحًا من الزمان على مناهج الفساد والإفساد، وإلى أجساد كَبُرتْ و شابت بين ظهراني المضللين والأفاكين .
وكم نرى من شباب قد انغمسوا في حمئة الضلال حتى ظن العدو أن أعدهم معاول هدم في بناء الإسلام، وإذا بيد الله الرحيمة تأخذ بهم وتحملهم حملاً إلى ركب الدعوة ليكونوا عوامل بناء فيها .
وكم نرى وسائل الإعلام الغربية تستهدف بعض بلدان العالم الإسلامية – مثل السعودية – لمحاولة إفساد المرأة المسلمة وتجريدها من أخلاقها وحجابها، ولكن يأبى الله إلا أن يقيض لهذه البقعة رجالاً – اصطنعهم الله لنفسه – فَيَجُبّوا ما صنعه الإعلام الغربي، وينفوا عن البلد الإسلامي ما نفثه الإعلام الصهيوني، وتبقى الصحوة الإسلامية زاحفة كالفيلق الدارع، تنشر نور الله في الوبر والمدر, في البدو والحضر, في البيوت والكهوف، في المسارب والغابات.
***
الله يختار لدعوته:
قال الطفيل:
" فَمَكَثْت حَتّى انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ –صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – إلَى بَيْتِهِ؛ فَاتّبَعْتُهُ حَتّى إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؛ دَخَلْتُ عَلَيْهِ؛ فَقُلْت: يَا مُحَمّدُ إنّ قَوْمَك قَدْ قَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا, لِلّذِي قَالُوا، فَوَاَللّهِ مَا بَرِحُوا يُخَوّفُونَنِي أَمْرَك حَتّى سَدَدْت أُذُنَيّ بِكُرْسُفٍ [أي بقطن] لِئَلا أَسْمَعَ قَوْلَك, ثُمّ أَبَى اللّهُ إلا أَنْ يُسْمِعَنِي قَوْلَك، فَسَمِعْتُهُ قَوْلاً حَسَنًا, فَاعْرِضْ عَلَيّ أَمْرَك ". [ابن هشام: 1/382، 383] .
وهكذا، كما ترى، يدفع الله بهؤلاء إلى باب الداعية، ويقوم الطفيل بنفسه بالذهاب إلى بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ليناقشْ– أمر الدعوة - بطريقة عقلانية موضوعية، على الطريقة المعهودة عند الأدباء العقلاء والشعراء الحصفاء .
أما ترى أن مجهوادت المشركين الإعلامية قد ذهبت أدراج الرياح، وقد تلقف الداعية هذه الثمرة الحلوة سهلة، إنها يد الله أهدتها إلى الداعية المخلص!
إن قارورة الصَّبغ لا تصبغ البحر، ونفخات البشر لا تحرك القمر، ومهما نفخوا في أبواق (إعلامهم) فإن الدائرة عليهم!
وإن نَبْأةَ الحق لابد أن تُسمع!
وإن منهج الله لابد أن يعود، ويسود، ويقود.
***
بداية الهداية:
قال الطفيل:
" فَعَرَضَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- الإسْلام وَتَلا عَلَيّ الْقُرْآنَ، فَلا، وَاَللّهِ! مَا سَمِعْتُ قَوْلاً قَطّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلا أَمْرًا أَعْدَلَ مِنْهُ . " .
إنه حسُ الأديب الهِبرزي المصِقَع، يميز جيدًا بين حلو الكلام ومرة، وبين زين الأدب وشينه، وبين سلامة البيان وركاكته.
لقد استمع إلى القرآن، ثم أنصت إليه، ثم عايشه بقلبه، وفي مجلس واحد، وفي ساعة واحدة، حَكم حكمه البلاغي وكأنما أخذته نشوة الناقد الأدبي، فقال:
" مَا سَمِعْتُ قَوْلاً قَطّ أَحْسَنَ مِنْهُ"
إن جزالة النظم وحلاوة العرض وسمو البيان قد ملكت عليه لُبه، فهام الأديب في حُب القرآن، وتالله! ما رأيتُ أديبًا لبيبًا إلا وله مع القرآن ألفة، وحب لا يضاهيه حب، وإن الأدباء الأتقياء ليتلذذون بالقرآن وكأنما هم العباد المتحنثين في صوامعهم.
وما انتـفاع أخي الدنـيا بناظــرِهِِ.... إذ اســتوت عنده الأنـوار والظــلمُ .
وبعد أن تأمل الطفيلُ نظمَ القرآن وبيانه وبلاغته، نراه أيضًا يتأمل المعاني، فالشعراء على ثلاثة: شعراء ألفاظ، وشعراء معاني، وشعراء ألفاظ ومعاني، ويبدو أن الطفيل أراد أن يجمع بين النظرتين بناظريه، فنظر نظرة في الألفاظ، وقد كانت، ونظر نظرة في المعاني فهذه التي قال فيها:
" وَلا أَمْرًا أَعْدَلَ مِنْهُ . "
فقد شدته تلك التعاليم الإسلامية الرفيعة، ومكارم الأخلاق التي يدعو إليه الإسلام، الأمر الذي غاير الصورة التي وصلته عن الإسلام عندما تلقفه مشركو مكة .
***
التبليغ من أول يوم:
قال الطفيل:
" فَأَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ شَهَادَةَ الْحَقّ .. وَقُلْتُ: يَا نَبِيّ اللّهِ, إنّي امْرُؤٌ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي, وَأَنَا رَاجِعٌ إلَيْهِمْ وَدَاعِيهمْ إلَى الإسْلامِ، فَادْعُ اللّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي آيَةً تَكُونُ لِي عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِيمَا أَدْعُوهُمْ إلَيْهِ . فَقَالَ: اللّهُمّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً . قَالَ فَخَرَجْت إلَى قَوْمِي, حَتّى إذَا كُنْت بِثَنِيّةٍ تُطْلِعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ، وَقَعَ نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيّ مِثْلُ الْمِصْبَاحِ، فَقُلْت: اللّهُمّ فِي غَيْرِ وَجْهِي, إنّي أَخْشَى, أَنْ يَظُنّوا أَنّهَا مُثْلَةٌ وَقَعَتْ فِي وَجْهِي لِفِرَاقِي دِينَهُمْ .. فَتَحَوّلَ فَوَقَعَ فِي رَأْسِ سَوْطِي .. فَجَعَلَ الْحَاضِرُ يَتَرَاءَوْنَ ذَلِكَ النّورَ فِي سَوْطِي كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلّقِ، وَأَنَا أَهْبِطُ إلَيْهِمْ مِنْ الثّنِيّةِ ،حَتّى جِئْتُهُمْ فَأَصْبَحْتُ فِيهِمْ "[ابن هشام: 1/382، 383]
وهكذا يستشعر المسلمُ مسؤولية التبليغ من أول يوم يدخل فيه عضوًا في الصف الإسلامي، وكأنه أراد أن يرسل جذوة النور التي ألقاها الله في قلبه؛ أشعةً إلى الناس في كل مكان .
أسلَمَ، وبلغ َ. .
أصلحَ نفسه، وأصلح غيره ..
تعلمَ، وعلَّمَ..
هكذا المسلم، يعيش للإسلام، متعلمًا ومعلمًا، صالحًا ومصلحًا، ينهل من الخير وينشره، ويعمل على تأديب نفسه وتزكيتها ويعمل – كذلك - في تأديب غيره وتزكيته.
وإن هذه القصة، لدليل دامغ على من انشغلوا بطلب العلم عن إصلاح المجتمع، فإذا تحدثتَ إلى أحدهم تدعوه إلى المشاركة في الإصلاح وتغيير المنكر في المجتمع؛ لطمك بنص يمتطيه، ليبرر قعوده، وليزين تخاذله. أمَا علموا أن تغيير المنكر فريضة كطلب العلم ؟! أمَا علموا أن الطفيل انتقل فور إسلام إلى قومه يدعوهم ؟ فلم يمكث إلى جوار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – السنين الطوال، يحفظ المتون الطوال، أو تَنَقلَ من حلقة علم إلى حلق علم، ومن مسجد إلى مسجد، ومن شيخ إلى شيخ، وقد تلهى بذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الأهل والمجتمع !
***
البيت المسلم
قال الطفيل:
" فَلَمّا نَزَلْتُ [أي دوسًا] أَتَانِي أَبِي, وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا, فَقُلْت: إلَيْك عَنّي يَا أَبَتِ فَلَسْتُ مِنْك وَلَسْتَ مِنّي، قَالَ: وَلِمَ يَا بُنَيّ ؟ قُلْت: أَسْلَمْتُ وَتَابَعْت دِينَ مُحَمّدٍ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَالَ: أَيْ بُنَيّ فَدِينِي دِينُك ؟
فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ وَطَهّرَ ثِيَابَهُ . ثُمّ جَاءَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَ .
ثُمّ أَتَتْنِي صَاحِبَتِي, فَقُلْت: إلَيْك عَنّي, فَلَسْتُ مِنْك وَلَسْت مِنّي, قَالَتْ لِمَ ؟ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي! قلتُ: قد فَرّقَ بَيْنِي وَبَيْنَك الْإِسْلامُ، وَتَابَعْتُ دِينَ مُحَمّدٍ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ؟ قَالَتْ: فَدِينِي دِينُك .
قُلْت: فَاذْهَبِي إلَى حِمَى ذِي الشّرَى فَتَطَهّرِي مِنْهُ .
وَكَانَ ذُو الشّرَى صَنَمًا لِدَوْسٍ، وَكَانَ الْحِمَى حِمَى حَمَوْهُ لَهُ، بِهِ وَشَلٌ مِنْ مَاءٍ يَهْبِطُ مِنْ جَبَلٍ .
قالت: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي, أَتَخْشَى عَلَى الصّبِيّةِ مِنْ ذِي الشّرَى شَيْئًا ؟
قُلْت: لا, أَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ.
فَذَهَبَتْ فَاغْتَسَلَتْ ثُمّ جَاءَتْ فَعَرَضْت عَلَيْهَا الإسلام فَأَسْلَمَتْ".[ابن هشام: 1/383] .
وهكذا بهذه الصراحة والوضوح بدأ الطفيل في دعوته، فلم يتلون، ولم يتشكل، ولم يمتطي الرُّخَصَ من هنا وهناك، بل أخذ بعزيمة النفس متوكلاً على الله، فإذا به يجهر بين ظهراني أهله بقولة الحق وبمنهج الحق، ليبنِ البيت المسلم الجديد على أنقاض بيت وثني عتيد .
وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
وإن وضيع العزم، ضعيف الحزم، لا مساك له في أمر الدعوة، ولا فلاح له في تقويم بيته، وأسلمة داره.
ألا حبذا قومٌ نداما هم القنا ... يسقونها رياً وساقيهم العزم
***
المجتمع المسلم
قال الطفيل:
" ثُمّ دَعَوْت دَوْسًا إلَى الإسلام، فَأَبْطَئُوا عَلَيّ!ثُمّ جِئْتُ رَسُولَ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بِمَكّةَ فَقُلْت لَهُ: يَا نَبِيّ اللّهِ إنّهُ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى دَوْسٍ الرّنَا، فَادْعُ اللّهَ عَلَيْهِمْ .
فَقَالَ
اللّهُمّ اهْدِ دَوْسًا.. ارْجِعْ إلَى قَوْمِك فَادْعُهُمْ وَارْفُقْ بِهِمْ .) [ابن هشام: 1/383]
فبعد أن أعد الطفيل – ذلك الفرد المسلم – البيت المسلم الجديد، خرج على التو إلى المجتمع لبناء المجتمع المسلم، فقال:
"ثُمّ دَعَوْت دَوْسًا إلَى الإسلام" .
ومثل هذه الأولويات لابد أن تكون واضحة في ذهن المسلم، فلا يليق به أن ينشغل بالمجتمع ويترك بيته دون تربية ودعوة، فلابد أن ينطلق المسلم إلى المجتمع من أرضية قوية هي البيت المسلم، وغالبًا لا نرى ثمرة ولا فقه لهؤلاء الدعاة الذين انشغلوا بدعوة المجتمع وبيوتهم خربة، إذ كيف يبني بيوتًا مسلمة في المجتمع وقد فشل في تقويم بيته، وكيف يستقيم الظل والعود أعوج .
ثم إن الطفيل، كان في احتياج إلى جرعة تربوية في الصبر على المجتمع، إذ غلبه فساد المجتمع، وذكر أن الزنى منتشر بشكل مريع، ولا شك أن الزنى إذا انتشر في قوم فإنما ينشر الموت في البيوت، فضلاً عن الريح الحمراء ( الأمراض الـمُعدية).
كما أن الشباب الغارق في الجنس، وهو شبابٌ في السن، كهلٌ في الجسم، مترضض في الروح، وترى الواحد منهم قد التاث بلوثة الميوعة، والتَجَّ في وحلة الخنوثة، يقطع سَرَاة َنهاره في كل ما يؤجج الشهوة، ويثير الغريزة، وأمثال هؤلاء أشباه أحياء أو أشباه أموات . ولا قوام لأُمة داعرة، ولا مساك لدولة فاجرة!!!
وقد ذهب الطفيل متغيظًا على دعوة الله، يستنزل العقاب على قومه الذين أكلتهم الفواحش، فقال: "يَا نَبِيّ اللّهِ إنّهُ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى دَوْسٍ الزنَا، فَادْعُ اللّهَ عَلَيْهِمْ ". .
فيرسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دعاء ربانيًا، ودرسًا تربويًا.
أما الدعاء ( اللّهُمّ اهْدِ دَوْسًا..)
وأما الدرس: ( ارْجِعْ إلَى قَوْمِك فَادْعُهُمْ، وَارْفُقْ بِهِمْ .).
إنه درس الصبر على المجتمع والرفق بالمجتمع، فالداعية العامل في المجتمع يطير بجانحي الصبر والرفق، ينشر الهداية والنور، ولن ترى فالحًا في مجتمع إلا بصبر ورفق.
***
ثمرة العمل مع المجتمع:
قال الطفيل:
" فَلَمْ أَزَلْ بِأَرْضِ دَوْسٍ أَدْعُوهُمْ إلَى الإسلام، حَتّى هَاجَرَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ, وَمَضَى بَدْرٌ [2هـ] وَأُحُدٌ [3هـ]وَالْخَنْدَقُ [5هـ]، ثُمّ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بِمَنْ أَسْلَمَ مَعِي مِنْ قَوْمِي، وَرَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – بِخَيْبَرِ [7هـ] . حَتّى نَزَلْتُ الْمَدِينَةَ بِسَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ بَيْتًا مِنْ دَوْسٍ, ثُمّ لَحِقْنَا بِرَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِخَيْبَرِ فَأَسْهَمَ لَنَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ"[ابن هشام: 1/383، 384] .
فلما صبر الطفيلُ وترفق، فتح الله له المجتمع، وأراه الله ثمرة عمله وصبره ورفقه، فقدِمَ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد عقد من الزمان بسبعين أو ثمانين عائلة من عائلات " دَوْسٍ " .. أي بمئات الرجال .. جاء بهم مسلمين لينهلوا من النبع العذب الذي ارتشف منهم سيدهُم في الجاهلية والإسلام (الطفيل).
وقد أسهم لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في غنيمة خيبر، فجمع الله لهم غنيمة الإسلام وغنيمة الغنى وغنيمة الصحبة الميمونة. فهنيئًا لكم تلاميذَ الأديب المصلح!
وفي عام فتح مكة [8هـ]، قال الطفيل: "يَا رَسُولَ اللّهِ ابْعَثْنِي إلَى ذِي الْكَفّيْنِ صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ حَتّى أُحْرِقَهُ "، فأذن له، ففعل "[ابن هشام: 1/385] .
وهكذا نجح هذا المسلم في بناء المجتمع المسلم.
ثم توج الله تعالى رحلة الطفيل الجهادية بأن رزقه الشهادة يوم اليمامة ( سنة 12 هـ) . فنعم البداية ونعم النهاية!
***
قد رأيتَ هذه الهِمَّةَ السامقة التي تمتع بها الطفيل بن عمرو– رضي الله عنه -، فهذه – والله – هي التي بلغته هذا المجد الخالد!
فإياك- أخي - وصغائر الهمم، ومجالسة النوّم، وطغام الأحلام، وملاحاة الملول، ومشاركة الكسول، ومصاحبة الخائر العبَيط الذي لا أرب له في دنيا ولا آخرى، وإياك ومنادمة المتشائم اليائس، أو المبّذر أو البخيل، أو أسير الغفلة، أو شاذ النَّحلة، أو فاسد الملة، فكل هؤلاء يقتلون الهمة ويدمرون الأمة .
وإذا أردت الهمة، فخالط أهل النجاح، وأبطال الفلاح، والحق الصَّراح، والمكارم الرَّباح، والأخلاق السماح، والعقول الصحاح، والألسن الفصاح، والصدور الفِساح. ومن شمر في الأمر حطم القيود، وغلب الأسود، وركب البحور، وعبر الجسور. "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ":
إلى كم ذا التخلف والتواني ... وكم هذا التمادي في التمادي؟
وشغل النفس عن طلب المعالي ... يبيع الشعر في سوق الكساد
توصيات عملية:
1ـ اجمعْ دومًا بين الفضيلتين، إصلاح النفس وإصلاح الغير، وليراك اللهُ داعيةً في نفسك، وداعية في بيتك، وداعية في مجتمعك .
2ـ تعهد أسرتك النصح والتعليم؛ وليكن لك معهم جلسة أسبوعية تدارسهم فيها الدين.