الأخلاق في حياة ودعوة الأنبياء عليهم السلام
أُُمر النبي صلى الله عليه وسلم بمتابعة منهج الأنبياء والمرسلين ,
فقال سبحانه
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)
(الأنعام: من الآية90))
وقد حباهم سبحانه كمال الخَلق والخُلق حتى لا ينصرف الناس عن دعوتهم بزعم دمامة الشكل أو الطبع ،فالأنبياء جميعاً ما يصدرون إلا عن أمر ربهم جل وعلا، وليست الرسالة نابعة من نفوسهم أو نتيجة عوامل اجتماعية تكون في زمانهم بل هي وحي الله إليهم فكل نبي من النبياء يقول ( إن أتبع إلا ما يوحي إليَّ ) ولا يملك النبي أن يغير ولا أن يبدل ولا أن يزيد أو ينقص من وحي الله شيئاً وقد قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) وقال سبحانه
قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ إني أخاف إن عصيت ربى عذاب يومٍ عظيم ) ، والأنبياء عليهم السلام في دعوتهم لا يطلبون أجرهم إلا من الله ، فهذا هود عليه السلام يخاطب قومه فيقول
ويا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجرى إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ) ويقرر النبي صلى الله عليه وسلم نفس الحقيقة فيقول
ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ).
ولم يكن هدفهم عليهم السلام إلا إخلاص الدين لله وأن يصرفوا وجهة البشر من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، قال تعالى
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) وما من نبي إلا وبعث بلسان قومه ليبين لهم , فهم يسيرون مع الفطرة ويخاطبون الناس على قدر عقولهم بلا تكلف ولا تقعر ولا تشدق
وما أنا من المتكلفين ) وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125)
فطريقة الأنبياء واضحة ودعوتهم ظاهرة ، وأقرب الطرق في دعوة الخلق هي طريقة القرآن لا نحتاج معها لمناهج كلامية فلسفية، والأنبياء جميعاً آثروا الباقية على الفانية، وغلب عليهم الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة لأنهم أيقنوا أن ( ما عند الله خيرُ وأبقى ) وأن ( ما عند الله خيرٌ للأبرار ) وقد خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله
ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خيرٌ وأبقى ) والأنبياء هم أكمل البشر خلقاً وأشرفهم نسباً وأعظمهم أمانة , اصطفاهم سبحانه على علم على العالمين فهم أسوة وقدوة البشر أجمعين وأصدق الخلق لهجة، قال تعالى : (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَار . إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّار . وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ . وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ) (صّ:45-48 )
وقال جل وعلا عن نبيه موسى عليه السلام
يا موسى إنى اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) والأنبياء في دعوتهم وتركيزهم على قضية العبودية وقولهم للناس: ( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) كانوا أيضاً يعالجون الآفات والعيوب التي شاعت فى أممهم ويردونهم للأخلاق الفاضلة , فنبي الله شعيب عليه السلام كان يعالج تطفيف المكيال والميزان فى قومه مدين ، ونبي الله لوط عليه السلام قال لقومه
أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون ) وعاب عليهم قطع السبيل وإتيانهم المنكر في ناديهم ... وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه دالة على ذلك كما سنبين فيما بعد بإذن الله.
**الحيطة للتوحيد والتشريع سياج أمان للأخلاق***
**أولاً :الحيطة لجناب التوحيد***
التوحيد طهارة لأنه اعتراف بالحق , والشرك نجاسة ( إنما المشركون نجس ) لأنه جحد للحق حتى وإن تجمل المشرك واغتسل وتطيب في ظاهره فلا تزول عنه نجاسة الباطن، والمعاصي والذنوب كلها قاذورات وفى الحديث : " من أتى شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه كتاب الله" .
فإذا أردنا تكميل معاني الأخلاق حتى تؤتي ثمارها فعلينا بالحيطة لجناب التوحيد وجناب التشريع استنانا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد غرس صلوات الله وسلامه عليه في نفوس أصحابه أصلين عظيمين , الأول : أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً .
الثاني : أن يعبدوه بما شرع وليس بشرع أحدٍ سواه , ولم يسمح صلى الله عليه وسلم لأحدٍ من أصحابه أن يخدش أصلاً من هذين الأصلين , ولذلك لما رأى يوماً بيد عمر بن الخطاب رضى الله عنه ورقة من التوراة , وكان عمر قد أعجبه ما فيها , فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال لعمر : " أهذا وأنا بين أظهركم؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية , والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا أن يتبعني ". [ رواه أحمد وحسنه الألباني] , وفى هذا الحديث بيان عالمية الدعوة , وأنه لا يجوز الاهتداء بغير الكتاب والسنة , فكيف ينصرفون عن هذه الأصول المعصومة والمحفوظة ويهتدون بما شابه التحريف والتغيير والتبديل ؟ ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا يخطب على المنبر ويقول: " من يطع الله ورسوله فقد رشد , ومن يعصهما فقد غوى " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " بئس خطيب القوم أنت ، قل : ومن يعص الله ورسوله فقد غوى " [ رواه أحمد ومسلم] . وقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم تسويته بالله جلَّ وعلا , فالضمير في يعصهما يفيد مساواة المشتركين في الحكم , ومقام الخطبة يحتمل التفصيل والتوضيح والبيان , وأيضاً لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه وقامت أم العلاء تقول : شهادتى عليك أبا السائب أن الله قد أكرمك اعترضها صلى الله عليه وسلم وقال : " وما يدريك أن الله قد أكرمه ؟" فقالت : سبحان الله , ومن يكرم الله إذ لم يكرمه ؟ فرد عليها النبي صلى الله عليه وسلم بما هو أبلغ من ذلك وقال : والله إني لرسول الله ولا أدرى ما يفعل بي غداً " فقالت أم العلاء : والله لا أزكي بعده أحداً " [ رواه أحمد والبخاري].
فالأعمال بالخواتيم والخواتيم مطوية عن العباد وفى هذا رد على اليهود والنصارى الذين قالوا : "نحن أبناء الله وأحباؤه " وقولهم " لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى " فرد عليهم سبحانه بقوله: ( تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) وهو ردٌ أيضا على من زعم ولاية بعض المقبورين , ولم يكتف بذلك بل يذهب يصرف لهم العبادة من دون الله !! ومن صور الحيطة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما شاء الله وشئت، فقال له صلى الله عليه وسلم :" أجعلتنى لله نداً ؟ قل ما شاء الله وحده". [ رواه أحمد وحسنه الألباني]
فالحيطة لاتقتصر على الأفعال بل تتعداها إلى الأقوال , ومن ذلك أن بعض الصحابة لما قالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ( أى شجرة يعلقون بها أسلحتهم ويتبركون بها ) فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة " [رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح] ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن العرافين فقال " ليسوا بشيء " رواه مسلم فالكاهن والعراف إن صدق مرة كذب معها مائة مرة . وقد كثر التحذير منه صلى الله عليه وسلم من اتخاذ القبور مساجد " وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً " فعلى كل الناس أن ينيبوا إلى ربهم وأن يسلموا وجوههم له سبحانه وأن يتركوا الكفريات والشركيات وصرف العبادة لغير الله وأن يوحدوا ربهم ويعلموا أن التوحيد أولاً فإن تقديم الأهم على المهم أمر واجب في العلم والعمل والدعوة إلى الله .
إنَّ ادعاءات التأصيل للأخلاق عند الكفرة والمشركين والفلاسفة والزعم بصلاح أخلاقهم ما هي إلا دعوى عريضة وإلا فكل إناء ينضح بما فيه , وهؤلاء إن انتفعوا بخير عملوه فإنما يكون ذلك في الدنيا , أما في الآخرة فيصدق عليهم قوله تعالى: ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً ) وقوله سبحانه: ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ).
**ثانيا: الحيطة لجناب التشريع***
كل الطرق مسدودة إلا من طريقه صلوات الله وسلامه عليه ، ولا يجوز التأصيل للأخلاق وغيرها أولا ثم يلوى أعناق النصوص الشرعية لتوافق هذه الأصول
لاتقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله ) فالواجب أن نستقي أصولنا ومناهجنا وأخلاقنا من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وألا نسمح لأنفسنا ولا لغيرنا بخدش النصوص الشرعية، ولنا في نبينا أسوة حسنة وقدوة طيبة , والأدلة على ذلك كثيرة , ومنها أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلا يمشي في الحج بين رجلين يسندانه قال: " ما هذا؟" فقالوا : يا رسول الله نذر أن يحج ماشياً : فقال صلى الله عليه وسلم:" إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، مروه فليركب "[ متفق عليه].
ولما رأى أبا إسرائيل يقف فى الشمس ولا يتكلم سأل عنه فقالوا: يا رسول الله نذر أن يقوم ولا يتكلم ويجلس فى الشمس، فقال صلى الله عليه وسلم: " ليتم صومه وليتكلم وليجلس فى الظل " [ رواه البخاري] فالجلوس في الشمس تكلف لا يقرب من الله، والصوم عن الكلام شرع من قبلنا وليس من شرعنا , فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت. ومن أدلة ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم أن عبد الله بن عمرو يصوم النهار ويقوم الليل- مما جعله يفرط في حق امرأته- قال له :" صم صيام أخي داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى " [رواه مسلم] وفى الحديث: " إن لربك عليك حقاً ولزوجك عليك حقاً فأعط كل ذي حقٍ حقه " [رواه البخاري] , فلابد من عدل واعتدال وحرص على الموازنة بين المصالح بلا إفراط ولا تفريط، ومراعاة لمتطلبات الروح والبدن بلا غلو ولا جفو، وشمولية نظرة في توفية الحقوق لأصحابها .
ومن ذلك أيضا لما ذهب ثلاثة إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا بها وكأنهم تقالوها , فقال أحدهم : وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر , أما أنا فأقوم ولا أنام وقال الآخر : أما أنا فأصوم ولا أفطر وقال الثالث أما أنا فلا أتزوج النساء , فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر خبرهم صعد المنبر وجمع الناس ثم قال :" ما بال أقوام يقولون كذا؟ أما إن أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا، أما إني لأصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " [رواه البخاري ومسلم]
فالطريق الموصل إلى الله وإلى جنات النعيم هو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز تخطيه ولا تعديه , بل لا بد من اتباع لا ابتداع فيه ولا اختراع معه , إذ أكمل وأشرف الأحوال هو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته صلى الله عليه وسلم هي طريقته المحمودة التي سلكها هو والصحابة من بعده ـ وهى كل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة يقصد بها التشريع للأمة, وكل من أعرض عن طريقته صلى الله عليه وسلم يقال له:" فمن رغب عن سنتي فليس منى " . وكان صلى الله عليه وسلم دائماً يقول " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " [ رواه البخاري ومسلم] وصح عنه أنه قال: " كل بدعة ضلالة , وكل ضلالة فى النار ".
والبدعة كما عرفها الشاطبي رحمه الله : طريقة فى الدين مخترعة تضاهى الشرعية يقصد بالسلوك عليها مضاهاة التعبد لله تعالى .ا.ه والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية وصاحبها ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا ً ، وكان عمر رضى الله عنه يقول : كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة. وقال ابن مسعود رضى الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ، عليكم بالأمر العتيق.
وعلى هذا النهج الواضح سار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسمحوا لأحد بخدش جناب التوحيد أو التشريع، ومن أمثلة ذلك أن عمر رضى الله عنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول: والله إني لأعلم أنك حجر ما تضر ولا تنفع ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. وأخرج علىٌ رضي الله عنه القُصَّاص من المساجد وهم الذين يروون القصص الخيالية والأكاذيب بزعم تذكير الناس وترقيق قلوبهم. ولما سمع ابن عمر رضى الله عنه رجلا عطس فقال : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله قال له ابن عمر : ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال إذا عطس أحدكم فليحمد الله ولم يقل وليصل على رسوله , ولما دخل ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ مسجد الكوفة فرأى حلقاً وفى وسط كل حلقة كوماً من الحصى ورجل قائم على كل حلقة يقول لهم : سبحوا مائة فيسبحون مائة , احمدوا مائة فيحمدون مائة , كبروا مائة فيكبرون مائة فقال لهم ابن مسعود رضى الله عنه : يا قوم والله لأنتم على ملة هي أهدى من ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مقتحموا باب ضلالة فقالوا والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا بهذا إلا الخير فقال وكم من مريد للخير لم يبلغه رواه الدارمي وصححه الألباني فكل زيادة أو نقص في العبادات أو السلوك يراد به التقرب إلى الله تعالى وإصلاح النفس إنما هو بدعة مرفوضة, حتى لو حسنت وصلحت النوايا طالما لم يوافق العمل شرع الله .