في مواجهة المواقع الإباحية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا شك أن الناظر والمتأمل في حياة المسلمين في هذه الأيام يلحظ ما وصلت إليه الأخلاق من تدني وسفول عند طوائف عديدة من المجتمع المسلم، وهذا وإن كانت له أسبابه العديدة والمتشعبة، لكن السبب الرئيسي لهذه الحالة هو: تأثر المسلمين، أو قل: تبعية أكثر المسلمين للثقافة الغربية التي من أهم مبادئها: الحرية المطلقة التي لا تقف عند أمر ولا نهي، ولا تحترم شرع ولا دين؛ فحرية الفرد عندهم تقف عند حرية الآخرين.
والحقيقة: أن هذه الحرية لها صور كثيرة فجة، ولكن الصورة التي فاقت كل الصور وقاحة هي: "المواقع الإباحية" التي تنتشر على الشبكة العنكبوتية، وهذه المواقع تُعبر تعبيرًا واضحًا عن الثقافة الغربية، وكيف حولت الحضارة الغربية البشر إلى حيوانات يبحثون عن شهواتهم بأدنى وأخس الطرق، بل الحيوانات البهيمية تترفع عما يفعله هذا النوع من البشر أمام "كاميرات التصوير"؛ فالحيوانات التي في الشوارع تتوارى إذا أرادت قضاء شهوتها، وهؤلاء يتلذذون بكشف العورات والسوآت في مخالفة فجة للفطر السوية، والشريعة السماوية!
والوضع حقيقة لا يمكن وصفه بالكلمات، ولكن المشكلة تكمن في تأثير هذه المواقع على حياة المسلمين, فقد دخل "النت" إلى البيوت وأصبح نادرًا ما يخلو منه بيت من البيوت؛ ولذا أصبحت مشاهدة المواقع الإباحية، بل قل: إدمان المواقع الإباحية مشكلة خطيرة تهدد البيوت من الداخل، وتنخر في شباب الأمة، وتشيع الفاحشة في بيوت المسلمين وبين الشباب الصغير والبنات الصغار، وأصبحت الأفلام الإباحية متداولة في أيدي المراهقين، وعلى أجهزة المحمول، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أصابت هذه اللوثة الرجال والنساء المحصنين في صورة فجة من صور الانحراف, وأصبحت البيوت مهددة من الداخل بالانهيار؛ لما لهذه المواقع من تأثيرات سلبية على الحياة الزوجية, وعلى العشرة بالمعروف التي أمر بها الشارع الحكيم.
والقلم لا يستطيع أن يقص القصص التي سمعناها أو حُكيت لنا؛ لما في ذلك من الحرج الشرعي البالغ، ولكن الخلاصة من تلك القصص هي ما ذكرناه من التوصيف: أن هذا المرض أصاب طوائف عديدة من المجتمع المسلم، وهو يَسري في القلب كما يسري الإدمان في البدن، بل حدثني بعض الأطباء: أن المدمن للمواقع الإباحية يظهر منه سلوك المدمن للمواد المخدرة، وأن بعض المعالجين الآن يستعمل أساليب نفسية لعلاج هذا السلوك قريبة أو مشابهة لتلك المستعملة في علاج الإدمان, وهذا يُبين مدى خطورة هذه المواقع على الفرد والمجتمع المسلم.
ولذا وجب على كل غيور أن يسعى في إنكار هذا المنكر، وذلك من خلال:
أولاً: تعميق معنى المراقبة في نفوس العباد جميعًا؛ فالله مطلع علينا، رقيب يرانا في كل أحوالنا: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (الشعراء:218-219)، فلا يمكن أن نغيب عنه أبدًا مهما تَخَفَّينا أو أغلقنا النوافذ والأبواب وتلصصنا في فعل المعصية؛ فهو -جلَّ وعلا- سوف يحاسبنا على ذلك، وهذا المعنى لابد من تعميقه في نفوس الجميع؛ خصوصًا الأجيال القادمة من الشباب والشابات، وهذا المعنى من أهم معاني تهذيب النفس.
أضف إلى ذلك: لابد من بيان خطورة ذنوب الخلوات، وأن العبد بتخفيه من الخلق واجترائه على المعصية في الخلوة قد اقترف جرمًا كبيرًا وجريرة عظيمة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حذَّر من ذلك في حديث ثوبان -رضي الله عنه- المشهور، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا). قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لا نَعْلَمُ. قَالَ: (أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
ثانيًا: بيان خطورة أمر النظرة؛ فالنظرة سهم مسموم من سهام إبليس يصطاد الشيطان بها ضحاياه؛ فيمرض القلب ويضعفه، ويوقد على هذه الصور نار الشهوة حتى تتحرك إرادة القلب بالشهوة، ويتطور الأمر من النظرة المحرمة إلى غيرها من العلاقات الآثمة؛ لتفريغ تلك الشهوة المحرمة، والشيطان يُزين لمن يغويهم أن طريق التداوي من هذه الصور بتكرار النظر حتى تنطفئ تلك النيران الملتهبة في أحشائه، وهذا من جملة المكر الشيطاني الذي يمكره بأتباعه حتى يوقعهم في الزلات؛ وإلا فكيف يتداوى المريض بما يزيد من دائه وتعلقه بالحرام، ويجعله أسيرًا لشهوة أو عبدًا لصورة -نعوذ بالله من الخذلان-؟!
ثالثًا: حسن مراقبة "النت" من خلال حجب المواقع الإباحية، وهذا -بفضل الله- متوفر في مواقع عديدة وبرامج مختلفة، وهذا يُصعِّب الوصول إلى هذه المواقع مع مراقبة الجهاز جيدًا، ووضعه في مكان ظاهر في البيت حتى يتسنى للجميع رؤية ماذا يفعل من يجلس على الجهاز، كما ننصح الآباء أن يراقبوا أولادهم وأن لا يعطوا أولا دهم أجهزة المحمول في سن صغيرة، وإذا اضطروا إلى ذلك فعليهم أن يراقبوا الجهاز بين الحين والآخر، وهذه رقابة واجبة؛ فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وهذا ينطبق على الرجل تجاه امرأته أيضًا، وعلى المرأة مع أولادها؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم:6).
أما المصيبة الكبرى... أن يُبتلى رب البيت برؤية هذه المواقع الإباحية؛ ففي هذه الحالة على الزوجة أن تصبر على زوجها ولا تتعجل بطلب الانفصال، وتحاول أن تساعده على نفسه بنصيحته وتذكيره بالله -تعالى-، وبالمعاني التي ذكرناها آنفًا؛ ولعلها تكون قد قصَّرت في حقه كزوج؛ فعليها أن تراجع نفسها، وقد يكون الأمر يحتاج إلى علاج كما قد بيَّنا، وهو عامل مساعد للخلاص من هذا المرض الخبيث، فتسعى في ذلك ولا تنسى دائمًا أن تدعو الله له بالخلاص من هذه الآفة.
رابعًا: التعاون بين جميع الهيئات من المدارس والجامعات والجمعيات والمساجد وغيرها على التحذير من خطورة المواقع الإباحية من خلال: الخطب والمواعظ، والندوات، والمطويات الدعوية، والشرائط والسيديهات... وكل وسيلة ممكِنة ومستطاعة؛ لعلاج هذا الداء الذي يهدد المجتمع من الداخل، وينخر في أوصاله.
وفي نهاية الأمر: صدق ربنا -عز وجل- إذ يقول: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يؤمنون) (الأعراف:27)؛ فكشف العورات وفضح السوآت هي الطريقة الشيطانية الناجعة التي يستعملها كل من يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وفي المجتمعات الإسلامية، وهذا المكر استمرار لمسلسل لا ينتهي من إغراق الأمة في الشهوات المحرمة؛ فـ"كأس وغانية يعملان في أمة الإسلام ما لا يفعله ألف مدفع".
ولابد حتى نتخلص من هذا المكر أن نعيش حياة العفة بكل معانيها النقية الطاهرة من: غض البصر عن المحرمات، وترك الخلوة المحرمة مع النساء الأجانب، وحفظ الفرج، وغيرها من القيم الإسلامية السامية التي تُعبِّر بصدق عن: التقدم والرقي والحضارة، وترفع الإنسان من مستوى البهائم إلى ما يليق به من التعامل المحترم بين النساء والرجال.
ونحن نحمد الله إذ هدانا إلى أقوم الطرق وأفضل السبل في التعامل بين الرجال والنساء بصورة لا تمتهن من المرأة ولا تجرح حيائها، وتلبي شهوة الطرفين.
فلله الحمد في الأولى والآخرة، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه وسلم.