نبـذه عنهـا :
الحديث عن خديجة بنت خويلد، حديث عن سيِّدة مرموقة من سيِّدات المجتمع المكِّي .. نسباً وشرفاً ومالاً وجمالاً ومكانة اجتماعية .. فهي خديجة القرشية ، بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزّى بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشية . تنتسب إلى بطن من بطون قريش الخمسة والعشرين بطناً . وتلتقي مع الرسول صلى الله ليه وسلـم بقصي ، وهي أقرب إلى قصي من النبيّ صلى الله عليه وسلــم بأربعــة رجــال .
واُمّها فاطمة بنت زائدة بن الأصم ، واسمه جندب بن هرم بن رواحة ابن حجـر بن عبد معيص بن عامر بن لؤي .. ولم يتزوّج الرسول صلى الله عليه وسلم امرأة من ذرِّية قصي غيرها إلاّ اُمّ حبيبة ، كما يذكر المؤرِّخون
توفّرت لخديجة كل مزايا التفوّق في المجتمع المكِّي من المال والنّسب ، وحُسن السيرة والسّمعة الطيِّبة ، والجمال ، واحتلّت مكانة اجتماعية مرموقة بمالها ونسـبها ، وسُـمعتها الطيِّبة . وصفها كتاب السـيَر بعبارات تدلّ على مكانتها ، وتفوّق شخصيتها في مجتمعها
وكان خويلد أبو خديجة واحداً من رجالات قريش الذين سجّل التأريخ لهم مآثر في مكّة المكرّمة .. مأثرة الدفاع عن الكعبة يوم هاجمها تبع ، وأراد أن يحمل الحجر الأسود إلى اليمن .. لقد قاد خويلد جماعة من رجالات قريش ، ونازع تبعاً ليصدّه عن أخذ الحجر الأسود ، ونقله من مكانه في الكعبة المكرّمة،فحال الله دون ما أراد تبع،ولم يقدر على ما أراد
:البـــدايـــه والمســــار .:
تتحدّث أندية قريش ومجالسها ورجال المال والتجارة والراغبون في تأجير أنفسهم للعمل والخدمات التجارية .. يتحدّثون عن قُرب الرحلة التجارية إلى الشام وما ستعود به من بضاعة وربح . فقريش يهمّها أمر التجارة وجلب البضـائع .. وخديجة أبرز تاجر في مكّة يطلب الاُجراء والمضاربين .
وكعادتها ، فهي تنوي تسيير قافلة تجارية إلى الشام ، وهي تبحث عن المضاربين والاُجراء الذين تثق بأمانتهم ، وكفاءتهم التجارية ، للتعاقد معهم .
ومحمد صلى الله عليه وسلم شاب من سادات مكّة ، فجدّه عبدالمطّلب زعيم قريش ، وعميد بني هاشم ، وهو يلتقي معها بالنسب القريب ، وهي تعرفه عن قُرب .. وقد ملأ سمعها ما يتحدّث به الناس من صدقه وأمانته ، والثناء على حُسن خلقه ورجحان عقله وكفاءته .. وهي تبحث عن الأمين الذي يحفظ لها مالها ، والكفـوء الذي يحـقِّق لها الربح ، وحَسن الخلق الذي يؤسِّس العلاقة الطيِّبة مع التجّار ورجال المال .
وإذاً لا بدّ من اللقاء بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي ملأ قلب خديجة ثقة وقناعة ، فبعثت إليه اللقاء به للتفاهم والتعاقد معه,استجاب محمد صلى الله عليه وسلم لطلب خديجة ، فالتقى بها ، واستمع إلى عرضها ,لقد كانت الظروف المالية التي يعيشها محمدصلى الله عليه وسلم مع عمِّه أبي طالب ظروفاً صعبة ، فاستجاب للعمل معها مضاربةً وسارت القافله .
لقد عادت القافلة بالربح الوفير ، وبالسمعة الطيِّبة . وقد حدّثها غلامها ـ ميسرة ـ عمّا شاهده من شخصية هذا الرجل العظيم من سلوك وخلق ، وغرائب لا تحصل لغيره من الرجال ,وتسلّمت خديجة المال والربح الذي نما بيد محمد صلى الله عليه وسلم ,تسلمت المال ولم يكن هو نهاية المطلوب ، بل صار السعي للإقتران بمحمد صلى الله عليه وسلم
الخطبــه والزواج :
بدأت مرحلة جديدة في حياة خديجةرضي الله عنها .. مرحلة التفكير الجدِّي بالاقتران بمحمد صلى الله عليه وسلم والبحث عن طريق للوصول إليه ، وعرض الفكرة عليه ، علّه يستجيب فتتحقّق الآمال الكبار التي ولدت في نفس خديجة رضي الله عنها.
فبعثت خديجه رضي الله عنها الى محمد صلى الله عليه وسلم ,وطلبت منه اللقاء , فعرضت عليه موضوع الزواج
إنطلق محمد صلى الله عليه وسلم ، وحدّث أعمامه بعرض خديجة ، وطلبها الزواج منه ، ليتوجّه وفد بني هاشم إلى بيت خديجة رضي الله عنها خاطباً ، وطالباً تزويجها بمحمد صلى الله عليه وسلم .. استجاب أعمامه دونما اعتراض أو مناقشة .
لقد تمّ الزواج ، وطلبت خديجة من محمـد صلى الله عليه وسلم أن ينتقل إلى بيتها ، ليعيش معها في ذلك البيت السعيد ، بين الحبّ والوفاء . فإنّه أعظم بيت بُنيَ على سطح هذه الأرض . لقد جسّدت خديجة خلق المرأة المثالية في علاقتها مع زوجها من الحبّ والوفاء والبذل والعـطاء ، والوقـوف إلى جنبه حين اشتدّت المحنة عليه
الوحــــــــــــــــي :
وهكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يجاور ويتعبّد منتظراً البشارة والكرامة الإلهية .. وهكذا كانت خديجة تشهد بداية الحدث العظيم يجري في بيتها ، وتشهد التحوّل في حـياة زوجها النبيّ عليه الصلاة والسلام، تُشاهد ميله إلى الوحدة وحبّ الانفراد، والانفتاح على عالم الغيب ، والتأمّل في ملكوت السماوات والأرض ، وأ نّه ليبقى على تلك الحال اللـيالي والأيام ، يتعبّد ويتحنّـث ، ويتزوّد من القُرب والتكامل ، ويتهيّأ لاستقبال البشارة وحمل الأمانة .. وإنّ خديجة تقف إلى جانب محمد صلى الله عليه وسلم تعدّ له الطعام ، وتزوِّده بالماء حين يذهب إلى غار حراء ، وتوفِّر له الأجواء العائلية المنسجمة ، وتُعينه على أداء المهمّة .
مهبط الوحي في غار حراء . لقد كانت خديجة المرأة الوحيدة التي تقف إلى جنب محـمد صلى الله عليه وسلم وتشهد أوضاعه والتحوّلات المتواصلة في حياته باتجاه الرسالة ، لقد جاورت معه في حراء في شهر رمضان ، الشهر الذي هبط فيه الوحي ، وسمعت منه قصّة نزوله في لحظاتـه الاُولى ، وحاورته ، واستقبلته ، وهو عليه الصلاة والسلام يستشعر ثقل آثار الوحي على جسده .. وتشهد الحالة الجسدية والنفسية لشخصه الكريم ، فتدثّره وتزمّله ، ويخاطبه الوحي ، ويُسمِّيه : المدّثِّر ، والمزّمِّل في سورتين من أوائل ما نزل من القرآن في بدايات الوحي .
لقد شهدت خديجة هذه المواقف كلّها ، فلم تستقبل ذلك الحدث العظيم بالاستغراب ، أو التعجّب ، أو التشكيك
إســـــــلامهــــا :-وتسـتقبل خديجة خبر الوحي وما جرى لمحمـد صلى الله عليه وسلم في غار حراء بالتصديق . فقد حدّثها صلى الله عليه وسلم بنزول الوحي وتكليم جبريل عليه السلام ونزول الآيات الخمس الاُولى من سورة العلق
( إقرأ باسم ربِّكَ الّذي خَلَق * خَلَقَ الإنسـانَ من عَلَق * إقرأ وربّكَ الأكرم * الّذي علّمَ بالقـلَم * علّمَ الإنسان ما لم يَعْلَم )
وتستجيب خديجة ، وتصدِّق محمداً صلى الله عليه وسلم من غير معارضة ولا تشكيك ولا جدال في الدليل ، فكأنّها تنتظر النبوّة ، كما كان ينتظرها محمد صلى الله عليه وسلم ، وتسلم خديجة ، وتشهد بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم . فكانت أوّل امرأة أسلمَت على وجه الأرض.
تحيــة الســـلام وبشـــرى الخلـــود :
تحيّة السّلام ، تحيّة الرّبّ ، يحملها جبريل عليه السلام .. يُبلِّغها إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، لينقلها إلى خديجة .. لتعرف الأجيال عظمة هذه المرأة ، وليعرف الانسان عظمة المرأة الصالحة في الاسـلام .. إنّ الله سبحانه يُقرِئ خديجة السّلام ، فيُكرِّمها على موقفها العظيم إلى جنب محمد صلى الله عليه وسلم ، ليكافئها على دورها في تلقِّي كلمة الرّحمن، ومؤازرة زوجها الرسول صلى الله عليه وسلم، وفنائها في ذات الاسلام .
في شعـــب الحصـــار :
لقد أحدثت الدعوة إلى الاسلام هزّة عنيفة في المجتمع المكِّي ، بل أحدثت زلزالاً في بناء المجتمع الجاهلي هذا ، فقد أسقطت عقائده الخرافية ، وقيمه البالية ، وها هم الناس يقبلون على هذه الدعوة ، ويتزايد عدد المؤمنـين بها ، فاستخدمت قريش كل الوسائل التي كانت تفكِّر بها لإعاقة مسيرة الدعوة ، وإيقاف مشروع التغيير والاصلاح الفكري والاجتماعي العظيم الذي حمله القرآن إلى البشرية كافّة ..
لقد استعملت وسائل الاشاعة والدعاية المضادّة ، وتشويه شخصية الرسول (ص) ودعوته ، فلم[] تُفلِح ,لقد اتُّخِذَ قرار الحصار لتطويق الدعوة ، والحدِّ من حركة النبيّ محمد صلى الله عيه [وسلم، فتعاهدوا على ذلك ، ودوّنوا قرار الحصار والعهد في صحيفة ، وعلّقوها في جوف الكعبة .. وبدأ الحصار في شهر محرّم الحرام في سنة سبع من البعثة النبوية .
وهكذا دخلت خديجة الشِّعب مع زوجها النبيّ ، لتعيش محنة الحصار وتشاطر المؤمنين قساوة العيش ، والضغوط النفسية ، والمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية، فتنفق كل ما لديها من مال وثروة كبيرة قدّر المؤرِّخون تجارتها في بعض الأعوام بأنّها تعادل تجارة قريش أنفقت خديجة كل ذلك المال حتى أصبحت تعيش تحت وطأة الجوع والضرّ والفاقة,وهكذا تعيش خديجة ثلاث سنوات في شِعب الحصار إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تواسيه بمالها ونفسها ، زوجة وفيّة مُخلصة
إنّ جهاد خديجة ووفاءها وتحمّلها ، لهو درس للمرأة التي تعي قيمتها ودورها في الحياة ، لقد عاشـت خديجة من أجل المبادئ ، وماتت من أجلها .. فكانت مثال المرأة المسـلمة ، وقدوتها في الحياة .. وموقع خديجة في الدعوة وتاريخ الاسلام وحياة النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم توضِّح لنا بجلاء قيمة المرأة في الاسلام ، ودورها في بناء المجتمع ، ومشاركتها الرجل في تحمّل المسؤوليات الكُبرى في الحياة .