عروس أبكت الحاضرين
الكاتب : شريفة الغامدي
لم يكن في فكرِها من أمور دنياها شيءٌ سوى ذكر تلك الليلة المنتظرة، وبرغْم كلِّ التهُّيب والقلق الذي يعْتريها إلاَّ أنَّ شوقَها إليها كان طاغيًا على كل شيء، وظاهرًا لكلِّ مَن حولها، فحركاتُها وكلماتها وتعابير وجْهِها الَّذي لم تفارِقْه البسمة منذ تمَّ عقْد قرانِها، كلُّها تفضح ما تُحاول أن تُخفيه سلوى من فرحٍ وشوْقٍ ليوم الزِّفاف، فلقدْ كان قلْبُها الأبيض يتمرَّغ في أنْهار السُّرور الذي غمرَها حتَّى كادت رُوحُها تفيض من نواحيها فرحًا.
تجاوزتْ سلوى الثَّامنة والعشرين من عمرِها وقد تزوَّج كلُّ أتْرابِها، من صديقاتٍ وقريباتٍ وأخوات، كانت تُلازِم كلاًّ منهنَّ وتُساعدها في زفافِها، شاركتْهنَّ جميعًا أفراحَهنَّ بسرورٍ واهتمامٍ غامرَين، حتَّى جاء اليوم الَّذي التفتتْ فيه حولَها ولاحظتْ أنَّه لم يبقَ سواها، ومع أنَّها لَم تكُن قد وصلتْ بعدُ إلى سنٍّ تَخشى فيها فوات القطار، إلاَّ أنَّها كانت ترى أنَّها الوحيدة التي لم يصِل الدَّور إليْها، ومازال القطار لا يَختارها محطَّةً يقِف فيها لتَلِجهُ، فيزفّها إلى حيث فارسُها المرتقب، لطالَما بقِيت ترْقبه يفتح أبوابَه في محطَّات بعيدة عنْها وتلج داخله عروس غيرها.
ولكن ها هي أخيرًا صافرة القطار تُطلق صفيرَها، ويتردَّد صداه في الأرْجاء مُعلنًا أنَّه هنا قرَّر القطار أن يقِف هذه المرَّة، ليأخُذَها إلى حيثُ تتحقَّق أحلامُها، إلى حيثُ تَمنَّت دائمًا أن تكون، هناك إلى منزل الأحلام لتكون الأميرة التي تحوِّل بلمساتِها الكوْن إلى قصر من الورْد.
جرت الأمور بسرعة كبيرة بعد الخِطبة فحُدِّد موعدٌ لعقدِ القِران، وحفلُ الزّفافِ سيكون بعد أقلَّ من أربعة أشهُر.
عقد القران:
اكتفتِ الأُسرة بِحفلٍ عائلي بسيط لعقْد القِران، حضرَه أهلُها وأهلُ خاطبِها فقط.
حضر المأْذون لكتابة العقْد، وسأل سلوى إن كانت تُوافق على أن يكون خالد زوجًا لها؟ أرادت سلوى أن تُجيب ولكنَّ صوتَها انسحب خجلاً إلى قاعِ حلْقِها فلم تستطِع الإجابة، فأعاد المأْذون سؤاله وطلب منها أن تجيب بصوت واضحٍ مسموع، إن كانت توافق على هذا العقد.
أشار إليْها أخوها أن تجيب حتَّى لا يُظنَّ أنَّها قد أُجبرت على الزَّواج، فأجابتْه سلوى بموافقتِها وهرعَتْ إلى أمِّها الَّتي احتوتْها وضمَّتْها إلى صدرها، تلْهج لها بالدُّعاء وتغْرِقها بدموع الفرح.
لم تتوقَّف من حينِها تعليقات أَخيها: أخيرًا لم أعُد وليًّا لك يا سلوى؛ فقد استلم المهمَّة غيري، كان الله له بالعون.
كانت تتوارى خجلةً من تعليقاتِه، فقد كان أخوها بمنزلة الأب منها؛ فهي لم تعرِفْ أباها الَّذي توفِّي وهي في الثَّالثة من عمرِها، وأخوها الأكبر هو مَن قام على رعايتِها والأسرة كاملة بعد أبيه.
أرسلت سلوى خطَّها إلى كلّ مَن تذكَّرتْه من رفيقات الدراسة، يحمل دعوتها لهنَّ لحضور زفافِها المرتقَب، حتَّى مَن انقطعت بها أسباب الصِّلة؛ فقد أرادتْ أن يُشاركَها الفرَح كلُّ مَن عرفته.
كان الفرح يملأُ قلوبَهنَّ لأجلِها، وألسنتُهنَّ تلهج بنشوة: "أخيرًا"، وكأنَّه أمرٌ قد يُئس من حدوثه، وحِيل بينها وبين تحقيقِه إلى الأبد.
عزمْنَ جميعًا على الحضور، لم يعتذِرْ أحد، حتَّى من كانت تفصلُها المسافات الطويلة رتَّبتْ أمورها استعدادًا للحضور على الموعد.
كيف لا، وهنَّ لم يعرِفْنَ قطُّ قلبًا في نقاء وصفاءِ قلْبِها، ولا روحًا بشفافية روحِها؟! كانت تَمحو بلمساتِها كلَّ أثر للأحْزان، وتُزيل ببسماتِها كلَّ نقش للآلام.
تحضيرات العرس:
بدأت سلوى بِشِراء ما تحتاج إليْه، وحرصت - حتَّى لا تنسى شيئًا - على تدْوين كلِّ احتِياجاتِها في مفكَّرةٍ، كانت تُعلِّم بها كلَّ ما تنتهي من قضائه من مستلزمات، من ملابس ومفارش وعطور، وكماليات وأدوات للزينة، وكلّ ما يتعلَّق بليلة الزّفاف.
أرْهقها تحديدُ ما تحتاجه؛ فمستلزمات الزّفاف كثيرة، وخشِيتْ ألاّ تتمكَّن من إتمام كلِّ التَّحضيرات على الموعِد المحدَّد؛ لذا استعانتْ بأخواتِها وصديقاتِها لمساعدتِها في التَّجهيزات الكثيرة وكافَّة الإعدادات للزّفاف، واللاتي لم يتأخرْن بدورهنَّ عن تقديم المساعدة والمشورة لها.
ثوب الزفاف:
كانت سلوى تترقَّب أن يحتويَها ذلك الرّداء الأبيض، الَّذي طالما حلمتْ بارتِدائه والتَّباهي به كأميرات الأحلام في قصص الخيال.
أرادتْ ثوب زفافٍ مميَّز ومُلفت، مختلف عن كلّ ما رأته من أثوابٍ من قبل؛ لذا حارت كثيرًا في انتقائه؛ ولكنَّها أخيرًا اختارته، انتقتْه بعناية كبيرة لتبْدُو فاتنة في ليلة العمْر كما تسمِّيها.
دنا موعِد الزِّفاف، وسلوى منهمِكة في إتْمام ما يستلزِمُه من تحضيرات نهائيَّة، والتوتُّر والقلق باديان عليْها كلَّما اقترب الموعِد، بالرَّغْم من انتهائِها من أغلب التَّرتيبات.
حدَّدتْ يومًا للقِيام بتجْربة وقياس ثوْب الفرح وما قامتْ بتفصيله من ملابس للعرس، وإجْراء التَّعديلات الأخيرة عليْها قبل استِلامها، ويومًا آخَر لزيارة المزيِّنة والمختصَّة بالتَّجميل للعناية ببشرتِها وتَحديد ما تودُّ عملَه بشعْرِها ووجهِها من زينةٍ في ليلة الزِّفاف، واتَّفقتْ مع "المُخضِّبة" الَّتي ستخضب يديْها في ليلة الحنَّاء التي تسبق ليلة الزّفاف، واختارتْ من صويحباتِها مَن ترافقها وتساعدها في الاختِيار؛ فسلوى كثيرة التردّد والحيرة، فانتقت معها صديقاتها شكل المنصَّة الَّتي ستجلِس عليْها أعْلى مسرحِ قاعةِ الزّفاف، ونوع الزينة التي ستملأ بها القاعة، وطريقة الزفَّة الَّتي ستزفّ بها، وأصْناف الحلوى التي ستقدَّم للضيوف في الزّفاف، وحتَّى توْزيعات الهدايا التي سيعود بها المدعوون إلى منازِلِهم مذيَّلة باسم سلوى وزوجها.
ورتَّبت مع زوجِها للسَّفر بعد الزِّفاف، فحدَّدا إحدى الدول الآسيويَّة لقضاء عدَّة أسابيع فيها.
أم العروس:
كانت أمّ العروس هي الأكثر قلقًا؛ فقد كانت منشغِلة بتحْضير قائمة المدعوين، والحرْص على وصول بطاقات الدَّعوة إلى كلّ الأهل والمعارف والأصدقاء.
وزيارة قاعة الزّفاف والاتِّفاق مع القائمين عليْها على كلِّ التَّحضيرات، وتَحديد عددِ الضُّيوف والطَّاولات الَّتي تلزم، وكيفيَّة تنظيمها وترْتيبها في القاعة.
والانتهاء من تنسيقِ متعلّقات العروس وأشيائها، وإعدادها لنقْلها إلى منزل زوجها.
ومن جانب آخر حرَصتْ على أن تنصحَ ابنتَها وتعلِّمها وتزوِّدها بما تَحتاج إلى معرفتِه من خبرات حسنة، في كيفية رعاية الأسرة التي هي مقْبلة على بنائِها، فثقَّفتها بما تحتاجُه للتَّعامل مع زوجِها الَّذي قد تختلِف طباعُه وعاداته عن طباعها وعاداتها، وعرَّفتْها بما له من واجبات عليها، وأوصتْها بأن تتحلَّى بالصَّبر وبسعَة الصَّدر على ما قد تواجِهُه في حياتِها الزَّوجيَّة من صعوبات، وبأنَّ التَّفاهُم والتَّحاوُر هما من الطُّرق الأجدى لامتصاص وحلّ المشكلات.
وكانت سلوى تستمِع لوصايا أمّها باهتِمام وحرص؛ فهي النَّاصح الأمين لها.
وجاءت ليلة الحنَّاء:
في صباح ذلك اليوم أصرَّت الأمّ أن تأْكل سلوى سبعَ تمراتٍ على الرِّيق؛ لتقيَها السمَّ والسِّحر، وأن تحصِّن نفسَها بالأذْكار والأدعية والآيات، وغمرتْها بعبق العود ورائحة البخور الثَّمين، وتزيَّنت استعدادًا لاستقبال المهنِّئات اللاتي بدأْنَ بالتَّوافُد منذ الصباح.
امتلأتْ عيناها بالدموع وهي ترقُب ابنتَها الصُّغرى في أجمل حُلّة تستعدُّ للانتِقال إلى منزلها الجديد، ومغادرة منزلٍ عاشتْ فيه سنوات، درجتْ في أرْجائِه وطبعت ضحكاتِها في كلِّ زواياه، لم يكن الأمر هينًا عليْها في كلّ مرَّة كانت تهيّئ فيها إحْدى بنيَّاتها للزفاف.
وفي المساء، كان الجميع قد وصل: القريبات والصديقات والجارات، ولم يبْقَ إلاَّ أن تطلَّ العروس عليهنَّ.
أطلَّت سلوى كالبدر المرتقَب تضيء المكان ببهاء إطلالتها، وقد ارتدت ثوب الديباج الأخضر المعروف، والمطرَّز بخيوط الذَّهب المنسوج، ووضعتْ على رأْسِها هامة[1] من الذَّهب المسلسل ينساب سلاسله بين خصلات شعرها.
وزُفَّت على أصوات "زغاريدِ" وتصفيقِ رفيقاتِها اللاَّتي أحطْنَ بها، يتراقصْن كالفراشات حولها، وأُجلستْ على أريكة تعْلوها نمارق هنديَّة خضراء مُذهبة، وبدأ الاحتِفال بالأهازيج تردِّدُها صويحباتها.
بدأت مراسم الخضاب [2] فأُحضر إناء نحاسي مُلئ بماء الورد، ونُثرت به وريقات الورد؛ لتطيَّب به يدا وقدما العروس قبل أن ترسم عليْها نقوش الحنَّاء، ثمَّ شرعت المخضِّبة بنقْش الحناء على راحتَيْها وقدميها.
كانت سلوى في غاية الحياء؛ ما جعل يديْها لا تكفَّان عن الارتعاش ارتباكًا، فتكرِّر عليْها المزيّنة ألا تتحرَّك وإلاَّ أفسدتِ الحنَّاء لكثرة ما كانت تُحرِّك يديها، وصويْحباتها لا يتوقَّفن عن تعليقاتهنَّ اللاذعة، ويتضاحكْن لاحْمرار وجهها خجلاً.
في هذه الأثناء، شرعت الأمّ تعرض للحضور صندوقَ الذَّهب وما يَحويه من حليٍّ وجواهر، وقلائد وأساوِر وخواتم و ....
انتهت المزيّنة أخيرًا من وضْع الحنَّاء على كفَّي وقدمي سلوى، فتحلّقت صاحباتُها حولها يُمسكنَ بأطراف شالٍ أخْضر مطرَّز بِخيوط الذَّهب، يرفْعنه فوق رأس العروس حينًا ويُرْخِينَه حينًا، وهنَّ يلهجْن بالدُّعاء لها بالتَّوفيق في حياتِها الجديدة ويردِّدن: "الصَّلاة والسلام عليْك يا حبيب الله محمَّد"، ويعقبْنها بالزغاريد والأهازيج:
حنَّاك عجين يا سلوى حنَّاك عجين، لا تستحي من زوجِك، لا تستحين [3].
انتهتْ مراسم ليلة الحنَّاء بعد احتِفال استمرَّ ساعات، تهيَّأت في أعقابِها سلوى لإزالة آثار الحنَّاء الذي جفَّ عن يديْها وأقدامِها، فزُفَّت للمغادرة وأوْراق الورد والياسمين والريحان تتساقَط حوْلَها كقطرات المطر، وصخب الأهازيج والتَّصفيق من حولها.
ما أن سارت سلوى بضْعَ خطوات حتَّى مادت بها الأرْض، وتهاوى جسدُها وخرَّت فجأة وسط صخب الحضور وهلعهم.
سلوى، سلوى .. الكل يصرُخ بين بكاء وعويل، ويحاول أن يتحسَّس نبضَها الَّذي ارتَحل عن عروقِها، ولكنِ انطفأت كلُّ إضاءات الحياة في جسدِها، لم يَحتمل قلبُها الغضُّ كلَّ تلك الفرْحة، فسقطت كورقة الخريف.
اختار السكون قلبُها ليَسكُنَهُ ويُسْكِنه.
ماتت سلوى بسكتةٍ قلبيَّة.
توقَّف قلبُها قبل أن تحتويها تلك الليلة، أو يلفّها الرِّداء الأبيض الذي انتقتْه.
ولكن كان مقدَّرًا لها أن يلفَّها رداء أبيض غير الذي انتقتْه لنفسها، رداء انتقاها دون غيرِها لتُزفَّ به إلى حيثُ اختار الله أن تكون في تلك الليلة، وطُيِّبت بطيبٍ آخر غير الَّذي اختارته، وسُرِّح شعرها على يد مسرحة غير التي اتَّفقت معها، وزُفَّت زَفَّةً أُخرى لم تكن ضمن عروضِ الزفَّات التي شاهدتْها، إلى منزل آخَر غير الذي حُمِلت أشياؤها إليه، رحلت دون حلي أو جواهر أو ثياب، فقط بردائها الأبيض.
رحلت سلوى:
رحلت تاركة كل ما أعدته لحياتِها الجديدة، إلى حياةٍ جديدة أخرى، في مكان آخر.
رحلت تاركة خلفها صمتًا، وهلعًا يملأ القلوب، ودمعًا حارقًا يملأ الأحداق.
تَزَوَّدْ مِنَ التَّقْوَى فَإِنَّكَ لا تَدْرِي إِذَا جَنَّ لَيْلٌ هَلْ تَعِيشُ إِلَى الفَجْرِ
فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ وَكَمْ مِنْ عَلِيلٍ عَاشَ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ
وَكَمْ مِنْ صَبِيٍّ يُرْتَجَى طُولُ عُمْرِهِ وَقَدْ نُسِجَتْ أَكْفَانُهُ وَهْوَ لا يَدْرِي
وَكَمْ مِنْ عَرُوسٍ زَيَّنُوهَا لِزَوْجِهَا وَقَدْ قُبِضَتْ رُوحَاهُمَا لَيْلَةَ القَدْرِ
ــــــــــــــــــــــ
[1] زينة من الذَّهب كالخوذة توضع على الرأس.
[2] الخضاب هو الحناء.
[3] من الأهازيج الشعبية المخصَّصة لهذه الليلة، وغيرها كثير.