العمر ولاشك عبارة عن ساعات مجموعة ، منها ساعات تمر بنا من غير أن نشعر بها ، تجري مراكبها تسابق الرياح ، تحمل أشياء نحبها وأخرى ننكرها ..
ومنها ساعات نترقب قدومها بشوق ثائر يعترينا ، وخطى نسرع تجاهها , ننتظر أوان حلولها ضيفا عزيزا يزين بنسماته مجالسنا ، ويعطر بزهره أيامنا ، فتشرق شمس أمل جديد ، يرسم فرحة ويطبع بسمة على ثغر حزين..
ومنها ساعات نهرب منها ، نخشى مواجهتها ، وننرجو أن تنقضي بسرعة ، لأنها تزرع فينا مشاعر الخوف والقلق ، فلا نملك أن نواجهها أونتحداها إلا في حالة ينتصر فيها سلطان إيماننا ، ويقوى وازع رضانا بتصريف أقدارنا خيرها وشرها..
ووسط زحمة هذه الساعات التي تمر وتنقضي ، تولد ساعة فريدة ، غالية نفيسة ، تخرج من رحم الزمن ، تصرخ بنبض الحياة ، تتنفس بانتظام ، تهب هبوب الرياح المرسلة ، تغيث عطش النفوس الظمأى ، وتخمد نار قلوب حيرى ، تهدئ أوجاعها وتضمد جراحها ، فما تلبث أن تطلبها على الدوام..
إنها الساعة الوحيدة من بين كل الساعات ، التي تطوي دروب الزمن ، وتقفز خلف الأسوار ، فتبعث في النفس البشرية إحساسا متميزا ، يصرفه عن الفتور والكسل ، ويصنع منه إنسانا مؤمنا قويا ، يدرك معنى التدين الحقيقي ، فيقبل على الله بفهم وإحساس جديد ، يرفعه عن النقائص ويرغبه في الفضائل ، ويزهده في حب الدنيا والتعلق بزخرفها وديباجها ومحاسنها الزائلة ...
إنها ساعة الفرحة الكبيرة التي تغمر النفس بالنشوة ، وتطبع على ثغرها أجمل بسمة، فيصير للحياة طعم حلو المذاق ولون بهيج كلون باقات الورد ..
إنها ساعة السعادة الحقيقية التي ينشرح لها الصدر ، ويسر الفؤاد ، ويطرب القلب ، ويغرد بصوتعذب على غصن رطيب أجمل نشيد ، يحرك الإحساس فيطلق اللسان سراح الكلمات ، فتطير نحو الأفق ، تحمل على جناحيها خواطر نفس تجيش بمعان صادقة ونبيلة ، تزود المؤمن الحقيقي بزاد يقوي صلبه ، ويسند ظهره ، ويشد أزره ، ويعينه على مواصلة الطريق بعزم وإصرار على بلوغ المرام ، وختم رحلة الحياة بمسك الختام .. إن الساعة التي تدق ويسمع صدى صوتها يتردد هي التي يشعر العبد المؤمن خلالها بأن إيمانه تجدد ، و توبته صدقت ، وعزيمته قويت، ونور يقينه سطع فبهر بآياته نوازع شكه ، فتحرر من كل سلطان إلا سلطان الحق سبحانه ، ومن كل عبودية للأشخاص والأشياء .. إلا عبودية الخضوع والتذلل ، للواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ...
العبودية التي ترفعه ولا تنزله ، تمكن له في الأرض ولا تذله أوتهينه ، تطهره ظاهرا وباطنا ولا تنجسه بالرذائل أوالموبقات ..، تزيده فضلا ولا تنقصه خصيصة ، تشعره بأنه إنسان اكتملت فيه خصائص التكريم والتشريف ، وأنه امتلك حريته بتمام معناها الحقيقي ، الموائم لطبيعة جنسه ، المنسجم مع احتياجاته ومتطلباته ..
إن ساعة الشعور بلذة العبادة وسموها ، لأجمل ساعة يعيشها العبد المؤمن، إنه اختيار حر من بين ساعات الزمن الفانية ، لا تمر إلا وقد خلدت آثار معالمها على النفس ، فتقبل على الله بحب لا مثيل أو شبيه له .
إنها ساعة اتخاذ القرار بارتقاء مدارج السالكين ، الفاتحين لرتاج أبواب الأصفياء والأولياء والصالحين ، المدركين لمعانى الزهد الحقيقي بلا شطحات ولمعانى الولاية الصادقة الخالصة بلا مبتدعات ولا منكرات ..
إنها ساعة الرقي في الإحساس بدورة الحياة وحركة الكائنات ، واتصال روحي لطيف بنسمات إيمانية لها عطر فواح ، وإشراقة نفس وتفتح بصيرة نافذة على آيات كونية باهرة ، وإدراك حواس لمراتب علوية ، وتجرد عن شوائب الزيادات وفضول الكلام والأفعال ، وسمو يسبح بالعبد في فلك النقاء والصفاء ، ويرتقي به نحو مقام الأطهار ، ممن خلعوا عنهم لباس الدنيا وتزينوا للآخرة ، وتخلصوا من أدرانها وأصدائها ، وتخلوا عن شوائبها وأنجاسها ..
إن الساعة التي يتحرر فيها العبد من سجن العبودية لغير الله ويندرج في سلك العبودية الخالصة لله ، يشعر حينها بدورة الزمان ، وبجمال المكان ، فتتفتح بصيرته على نظرة جديدة للكون والكائنات ، فيسعى في الأرض سعي العاملين الراغبين بلوغ الدرجات العلى من الجنة ...
إن ساعة كمثل هذه الساعة لا تعادلها أي ساعة أخرى إحساسا ووجودا وتغييرا ، إنها لحظة الصدق مع النفس ولحظة الصفاء والنقاء الروحي ، وساعة طهارة القلوب والتصورات والمشاعر والصلات والأعراض والبيوت والأسر والمجتمعات والأوطان والحياة ككل
إن الإنسان ليعيش ساعات كثيرة تعد في رصيد عمره بالسنوات ، لكن كم من ساعة عاش فيها إحساسا ربانيا كهذا ، كم من ساعة خفق فيها نبض قلبه هاتفا داعيا راجيا مقبلا على الله بتجرد .. ففاضت دموع عينه وجرت رقراقة ، فحن شعوره ولانت حناياه ، فتجرد من غطرسته وكبره وأنانيته وماديته ..
كم من ساعة خصصها لربه؟ ، وقال لنفسه تعال نؤمن بربنا ساعة ؟ ، تعال نترجم حبنا وخوفنا من الله ساعة ، تعال نعتكف لأجل الله ساعة ، وننسى بعدها كل شيء ولو ساعة ، فقد تكون هي الوحيدة من بين مثيلاتها ، من قبلت فيها كلمة أو ابتسامة أو صدقة أو صلاة أو معروف مهما قل أو عظم ، لأنها امتازت وتفوقت على أقرانها بعلامة النجاح ، علامة الصدق
أما الساعات الأخر التي تمر بنا وهي زهيدة تافهة ، تحمل مراسم وشعائر وعادات وتقاليد سيئة وأقوال وتصرفات هابطة مزرية ، لتسيء للإنسان في دينه و قيمه و أخلاقه وتحرف مفاهيمه وتفقده
إن الساعة التي لا يشعر العبد فيها بالخجل كلما مرت وتذكرها وتفكر فيها ، لعزيزة غالية تصغر عندها التضحيات ، وتخف الجراح وتفتر، وتهدأ الآلام وتتوقف
إن ساعة مهما كان عمرها قليل ، ودورة مؤشرها بطيء ، لتستحق بما تحمله من آمال وأحلام وأهداف عظيمة ومشروعات ضخمة ... أن يعتني بها العبد ويوظف لها كل جوارحه ، لتكسب السبق وتحتل الصدارة ، وترتق سلم المجد ، وتبلغ أفق الكرامة وتحظى بالمنة العلوية ، لأن آثار معالمها على حياة الأفراد والجماعات ظاهرة ، و بصماتها على تاريخهم الإيماني والإنساني خالدة
إن ساعة كهذه حق لها أن نسميها ساعة التفضل والعطاء وساعة الشكر والوفاء .. ومهما أطلقنا عليها من محاسن الأسماء فهي نزر من فيض ، وهي نفسها من تعلمنا الجمال في الإبداع ، والعطاء والإحساس ..
وختاما ما أروعها من ساعة نعيش لنحياها سعداء ونموت وتسجل في صحيفتنا أجورا عظام تبلغنا الجنان