إنَّــــــــــه الموت
الحمد لله الذي كتب الموت على كلّ نفس ، وجعلها حقيقة لابدّ منها بلا لبس ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلّف الجنّ والإنس ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله أشرف الخلق ، ومات وقد ذاق سكرات الموت وأحسّ ، صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله وصحبه ما بزغ القمر وأشرقت الشّمس ، أمّا بعد :
الموت حقيقة كتبه الله على كل نفس ، فمات الرسل والأنبياء ، والأتقياء والعلماء والأغنياء والفقراء ، والمؤمنون ماتوا وكذلك والكفار الأشقياء . قال الله الكبير المتعال والذي إليه المرجع والمآل
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( (العنكبوت : 57 ) ، وقال سبحانه : ) كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ( (آل عمران : 185 ) .
إنَّه الموت الذي يكرهه كلُّ مذنب ولابد له منه ، أين الآباء ؟ أين الأمهات ؟ أين الإخوان ؟ أين الأخوات ؟ أين الصالحون ؟ أين الصالحات ؟ من منّا وقف مع نفسه يوماً يُذكرها بالموت وشدته ؟ من منا وقف مع نفسه يوماً يُذكرها بساعة الرحيل ؟ من منا وقف مع نفسه يوماً يُذكرها بساعة النقلة من هذه الدنيا الفانية والمتاع الزائل ؟ إنَّه الموت الذي أَقَضَّ مضاجعَ الأتقياء ، إنَّه الموت الذي فَضَح الدنيا فلم يترك لطامع فيها بقاء ، إنَّه الموت الذي ينتهي إليه كل حي ، ولا يدفعه عن نفسه ولا عن غيره حي .
إنَّه الموت أكبر واعظ ، ومن لم يتعظ بالموت ولا بالقرآن ، فلو تناطحت الجبال بين يديه ما اتعظ . قال الله العظيم الذي لا يموت وهو حيّ دائم عليم ): قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( (الجمعة : 8 ) . روى الترمذي ـ رحمه الله ـ بإسناد حسن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : (( أكثروا ذكر هاذم اللذات )) يعني الموت ، كان عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة ، فلا إله إلا الله .
إنه الموت من أعظم المصائب لكن الغفلة عنه أعظم منه مصيبة ، قال الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ في قول الله ـ عزوجل ـ : ) فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ( (المائدة : 106 ) قال سمّى الله ـ تعالى ـ الموت في هذه الآية مصيبة ، قال علماؤنا :" والموت وإن كان مصيبة عظمى ورزية كبرى فأعظم منه الغفلة عنه ، والإعراض عن ذكره وترك التفكّر فيه وترك العمل له " .
أخي رعاك المولى لقد قطع ذكر الموت قلوب الخائفين ، وجعلهم والهين في حزن وهمّ كأنّهم ماتوا مع الميتين ، كان ابن سيرين ـ رحمه الله ـ إذا ذُكر الموتُ عنده مات كلُّ عضو منه ، وكان الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ إذا ذكر عنده الموت خنقته العبرة ، قال أبو الدرداء : "إذا ذكرت الموتى فعد نفسك كأحدهم .
أخي الموت حقٌّ ولابدّ منه ، فطوبى لمن خُتم له بخير فنزل به الموت وهو على حُسْن نِيَّة وعلى عمل صالح يريد به ربَّ البريّة ، في الحديث الصحيح أن رسول الله قال : (( إذا أراد الله بعبد خيراً عَسَّله ، قيل : وما عسله ؟ قال : يفتح له عملاً صالحاً قبل موته ثم يقبضه عليه )) ، وعند أحمد : بسند صحيح عن أنسقال : قال رسول الله : (( إذا أراد الله بعبد خيراً يستعمله ، قيل كيف يستعمله ؟ قال يوفقه لعمل صالح قبل الموت ثم يقبضه عليه )) . خسارة وأيّ خسارة لمن خُتم له بخاتمة السوء ـ والعياذ بالله ـ كفساد المعتقد وسوء النيّة وسوء الظنّ بالله ـ عـزوجل ـ فاحذر رعاك المولى من الذنوب ، فإنّها تخون صاحبَها عند الموت ولربّما حالتْ دونه ودون النطق بأعظم أسباب النجاة أن ينطق بـ " لا إله إلا الله " ولقد فضح الموت الفجار ، فبانت عيوبهم عند موتهم ، وكان إكرماً للأبرار عندما بدت بشائر الخير على وجوههم ، فإليك بعض أخبارهم نفعنا الله بها وجعلها سبباً في حياة قلوبنا .
ذكر ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ أنّ رجلاً ببغداد يقال له صالح المؤذّن أذّن أربعين سنة ، وكان يُعرف بالصلاح ، فصعد يوماً إلى المنارة ليؤذن ، فرأى بنت رجل نصراني كان بيتُه إلى جانب المسجد فافتتن بها ، فنزل فطرق الباب فقالت : من أنت ؟ فقال : أنا صالح المؤذن ففتحت له ، فلما دخل ضمها إليه ، فقالت : أنتم أصحابُ الأمانات فما هذه الخيانة ؟ فقال : إن وافقتني على ما أريد وإلا قتلتك ، فقالت : لا إلا أن تترك دينك ، فقال: أنا بريء من الإسلام ومما جاء به محمد ، ثم دنا منها فقالت : إنما قلت هذا لتقضي غرضك ثم تعود إلى دينك ، فَكُلْ من لحم الخنزير فأكل ، قالت : فاشرب الخمر فشرب ، فلمّا دبَّ الشراب فيه دنا إليها فدخلت بيتاً وأغلقت الباب وقالت : اصعد على السطح حتى إذا جاء أبي زوّجني منك ، فصعد فسقط فمات فخرجت فلفته في ثوب فجاء أبوها فقصت عليه القصة فأخرجه في الليل فرماه في السكة فظهر حديثه " فرّمي في مزبلة " ولكن لابدّ أن تعلم رعاك ربي أن الله ـ عزوجل ـ لا يظلم النَّاس ، فلربّما كان صالحاً في الظاهر وقد أبطن نيّةً سيئة وانطوى على أمرٍ خبيث ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
أما الصالحون فأكرمهم ربي سبحانه بخاتمة السعداء جعلنا الله منهم ، فهذا عامر بن عبدالله بن الزبير سمع المؤذن وهو يجود بنفسه ، فقال : خذوا بيدي أي إلى المسجد فقيل : إنك عليل ، قال : أسمع داعي الله فلا أجيبه ! فأخذوا بيده فدخل مع الإمام في المغرب فركع ركعة ثم مات .
والصدِيق يموت وهو صديق ، وعمر يطعن وهو واقف بين يدي الله ، وعثمانُ يقتل وهو يقرأ كتاب الله ، وعلي يقتل وهو ذاهب إلى بيت الله لصلاة الفجر رضي الله عنهم ، ولم تزل أخبارهم حتى في هذا الزمن . ففي المدينة امرأة بلغت قرابة الثمانين من عمرها تقبل على تعليم كتاب ربها بعد هذا العمر وكانت تتمنى أن تموت وهي تصلي ، فكانت تخشى أن تموت لوحدها ، تقول لبناتها : أخشى أن أموت ولستن عندي ، فأراد الله عزوجل الذي لا تخفى عليه خافية أن اجتمع عندها أولادها ليلة وكانت في يومها صائمة فقامت لتصلي فلما سجدت توفاها الله .
فلا إله إلا الله ، كيف يكون حالك أيّها الإنسان إذا حملت على الأكتاف وأسرعوا بك إلى لحدك وقبرك فأي الجنازتين أنت ؟ صالحة أم طالحة ؟ في البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال : (( إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت : قدِموني ، وإن كانت غير صالحة ، قالت : ياويلها أين تذهبون بها ؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ، ولو سمعه لصعق )) إنَّها الروح الطيبة التي يجلها ويحترمها حتى ملك الموت ، فيقول لها : " أخرجي أيتها النفس الطيبة ، أو الروح الخبيثة التي ينهرها قائلاً : أخرجي أيتها الروح أو النفس الخبيثة أخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق ، واخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى عذاب الله ـ عزوجل ـ فتخرج كأنتن ريح جيفة .
أخي إنَّه القبر وما أدراك ما القبر؟ فتنته عظيمة ومواقفه رهيبة لا يثبت فيه إلا من ثبّته الله ـ عزوجل ـ فكم من أقدام زلت ! وكم من ألسنة انحرفت عن الحق ! لو أفلت أحد من القبر وضمّته لنجا منها سعد بن معاذ ، ففي الحديث الصحيح : الذي رواه النسائي : أن رسول الله قال عن سعد بن معاذ : (( هو الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهده سبعون ألفاً من الملائكة لقد ضُمّ ضَمّةً ثمّ فُرّجَ عنه )) .
أخي رعاك ربي ووقاك عذاب القبر وفتنته ، من الناس من يُفرش قبره ناراً ، ومنهم من يُضرب بمرْزبّة لو ضُرب بها جبل كان تراباً ، والذي يقوم بضربه أعمى أصمّ ، فلا إله إلا الله كيف يكون حال المضروب ؟ ومنهم من تُسلط عليه أفعى عظيمة كبيرة تلسعه وتنهشه ، ففي صحيح ابن حبان (( يُسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنيناً )) أتدرون ما التنين ؟ سبعون حية لكل حية سبعة رؤوس يلسعونه ويخدشونه إلى يوم القيامة . ألا فالفكاك الفكاك من عذاب القبر وفتنته بالإيمان والعمل الصالح بعد توفيق الله ورحمته ، واحذر الشيطان ، ورفاق السوء ، والنفس الأمارة بالسوء ، فإنهم أعداؤك ، واعلم أنَّ الله أعد للتائبين جنات النعيم . اللهم إنا نسألك توبة قبل الممات ورحمة منك تغنينا بها عن رحمة من سواك . وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .