شيء رائع يدخل عليك الطمأنينة
عندما ترى أمامك صورة متحركة تجسد معنى العفو والصفح ؛ المحلى بعقد الصدق الذي يؤثر على المعفو عنه نتيجة استيعابه وتحمل ما بدر منه ، بعيداً عن إضمار الانتقام إذا حانت الفرصة .
أنقلك إلى هذه الصورة الحقيقية للقائد العام ، أو إن شئت سمه الملك، أو الرئيس، أو القائد الأعلى، فلك مطلق الحرية أن تضع اللقب الذي يحلو لك ،
حيث إن كل لقب يناسب شخصيته ؛ لأنها تملأ المكان باقتدار وشمولية ؛ فرضت احترامها على أتباعه أولاً ، فأحبوه ثم انقادوا له ، وفرضت تقدير أعدائه الذين تعاملوا معه .
هي صورة عابرة في موقف عابر ، لكنه مؤثر في سياقه ونتائجه .
ومن اجل أن تصلك الصورة على نمطيتها ووضوح فكرتها ؛ عليك أن تستقبلها بكل حيادية ، وبتفكير متجرد عن التأثيرات المغرضة التي تسقط الطرف الآخر بمجرد الاختلاف معه في الرأي .
وهذا حصل مع كثير من أعداء هذا القائد ، حيث أوغلوا في التشويه المتعمد لشخصيته ، فأطلقوا العنان لوسائل إعلامهم لنعته بالأوصاف والألقاب التي تجعل المتلقي يبتعد عن مسار تأثيره وحديثه ، وكلما تحررنا من التأثيرات الخارجية على مسار تفكيرنا سنكون مستقلين في اتخاذ قراراتنا المؤثرة على مسار حياتنا ، أصعب شيء أن تكون أسير فكرة معينة ليست من إنتاج خيالك ، وتجبر على اعتناقها والتصفيق لها .
*****
أصحاب هذا القائد وجنوده وأعوانه ، يجدون متعة عندما يسيرون معه ويرافقونه في جولاته التفقدية لرعيته بشكل مباشر وعفوي ، ودون تعقيد البروتوكولات ، عندما يمشي راجلاً في شوارع العاصمة ، فمن خلال هذه المرافقة يحصلون على المعرفة والوعي الكامل بقضاياهم ، فيقتبسون منه سلوكاً حضارياً يطبقونه في أقوالهم أو أفعالهم .
من الطريف في الأمر ؛ أن الأحداث التي تمر تنقل على الهواء مباشرة بكل صدق وعفوية ، لأن الصورة تنقل كما هي ، وتتم معالجتها في لحظتها ، دون تدخل دوائر الأمن أو الشرطة المرافقة أو البوليس السري ، الذي يستخدم القمع في تغييرها وتبديلها .
القائد العام يسير يوماً في أحد ميادين العاصمة على قدميه ، ومعه ثلة من أعوانه ، يحاورهم في همومهم ، يمازحهم ، يدخل السرور عليهم ـ لا تغفل عن البعد النفسي هنا ، فله تأثير في التفكير السليم – ،
يلقي بالسلام والتحية ، ويردها على من يقابل ، فيشيع في أجواء العاصمة روح المحبة والأخوة والإيثار
ـ كم هو مفقود اليوم في عواصم العالم ـ .؟
بسبب تلك الحواجز المخيفة التي تنصبها دوائر الاستخبارات ؛ لمنع الناس من التنفس أو البوح بالألم .
فجأة ؛ يخرج رجل من وسط الجموع التي تسير في هذا الميدان ، ثم ينطلق كالسهم إلى موكب القائد العام ، وسط ذهول المارة ، لم يوقفه أحد ، ولم يسأله أحد إلى أين أنت ذاهب ، اقترب من الموكب ، دخل بين الجموع المحيطة به بكل عنف وشراسة وتحدٍّ لأبسط قواعد القيم والذوق الرفيع الذي لا بد أن يتحلى به من يملك ذرة عقل ، وهو يصرخ ، فسحوا له المجال ، اقترب من القائد ، وهو على هيجانه وصلفه ، وقف أمامه وجها لوجه ، لم يمهله ، لم يلق بالتحية عليه ، بل هوى بكلتا يديه على تلابيبه وقبض عليها ، ثم جذبها جذبة شديدة بكل عنف وقوة وقسوة ، فأثرت هذه القسوة والشدة على صفحة رقبته ، وهو يردد ـ بدون حياء ، وبكل وقاحة وسوء أدب ناتج عن سوء طبع متأصل ، نتيجة التربية السيئة ـ :
- أعطني من مال الله الذي عندك !
وناداه باسمه المجرد
ماذا لو تم ذلك مع أحد الملوك أو القادة أو حتى بعض ذوي المناصب العادية ؟! ماذا ستكون ردة الفعل ..؟
هذه المشهد حدث بوقت قصير جداً ، وأمام أعوانه الذين كانوا معه ، فما هو التصرف الصحيح في مثل هذه المواقف .؟ أن يقبض عليه ، ويأخذ جزاءه على ما أقدم عليه ، فقد تجاوز كل حدود اللياقة والأدب ، إلى الاعتداء الجسدي ، همَّ أصحابه وأعوانه أن يقبضوا عليه ليعاقبوه ، فما الذي حدث ..؟
صورة قلبت كل المعايير ، وأذهلت كل المراقبين والمتابعين للحدث ، حيث لم يسجل عبر التأريخ أن حدث مثل هذا الحدث لملك ، ومر دون أن تسحقه الآلة التي يحملها الجنود الذين يحيطون به !
حدث أمرٌ لم يكن في الحسبان ، وأذهل علمي التربية ودوائر علم النفس ، وقبله أذهل من كان معه من أعوانه ، الذين همّوا بالقبض عليه ، ولكن القائد العام التفت إليهم وهو مبتسم ابتسامة مشرقة ظهرت على محياه ، توضح مدى طهارة القلب الذي ينبض بين جنبيه ، وصفاء النفس التي تسكنه ، والأدب الرفيع الذي يتحلى به ، والعلو عن شهوة الانتقام ، قائلا لهم ـ ليضرب بذلك أروع صفات العفوـ :
- بانه امر له بالعطاء!
ثم التفت إلى هذا الرجل الذي أربكه هذا التصرف ، ودخل في نوبة ذهول مما رأى ، لم يفق منه إلا على صوت عذب توشحه تلك الابتسامة العذبة ، وهو يأمر أاحد رفاقه بأن يمنحه المال الذي طلب .
أهو في حلم ؟! لا يدري ، لم يصدق ما سمع ، نعم ؛ القائد يأمر له بالمال الذي طلب ، رغم كل ما فعل . ويخلى سبيله ليعود إلى دياره وهو يحمل هذه الصورة التي حُفرت في ذاكرة الزمن ؛ تشهد على نبل وأخلاق هذا القائد وعدله .
بقي أن تعرف من هو هذا القائد ..؟ إنه محمد بن عبد الله ، صلوات ربي وسلامه عليه الى يوم النشور..
كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية . فأدركه أعرابي . فجبذه بردائه جبذة شديدة . نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء . من شدة جبذته . ثم قال : يا محمد ! مر لي من مال الله الذي عندك . فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فضحك . ثم أمر له بعطاء . وفي حديث عكرمة بن عمار من الزيادة : قال : ثم جبذه إليه جبذة . رجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي . وفي حديث همام : فجاذبه حتى انشق البرد . وحتى بقيت حاشيته في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم .