- قال الله تعالى: "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها".
في هذه الآية دلالة واضحة على وجوب الحجاب الكامل، وبيان ذلك من وجوه:
- الوجه الأول: العفو عما ظهر بغير قصد.
إذا حصل الفعل باختيار: أسند إلى الفاعل، وإلا لم يسند..مثال ذلك: فعل "ظهر"..
- إذا كان عن اختيار، قيل: "أظهر"؛ أي فعل ذلك بإرادة وقصد.
- وإذا كان عن غير اختيار، قيل: "ظهر"؛ أي بغير بإرادة من الفاعل.
وفي الآية جاء الفعل "ظهر"، وليس "أظهر"، فالاستثناء إذن في قوله: {إلا ما ظهر منها}، يعود إلى ما يظهر من المرأة، من زينتها، بدون قصد.
ولننظر الآن: ما الزينة التي تظهر منها بغير قصد؟.
يقال هنا: قوله: "ما ظهر منها"، ضابط يندرج تحته كل زينة المرأة: الظاهرة، والباطنة. الوجه والكف، وما دونهما، وما فوقهما، فكل ما ظهر منها بغير قصد، فمعفو عنه، لأن الشارع لا يؤاخذ على العجز والخطأ.
وبيان هذا: أن ما يظهر من المرأة بغير قصد على نوعين:
- الأول: ما لا يمكن إخفاؤه في أصل الأمر: عجزا. وذلك مثل: الجلباب، أو العباءة، أو الرداء. [بمعنى واحد]، ويليه في الظهور: أسفل الثوب تحت الجلباب، وما يبدو منه بسبب ريح، أو إصلاح شأن، وكل هذه الأحوال واقعة على المرأة لا محالة.
- الثاني: ما يمكن إخفاؤه في أصل الأمر، لكنه يظهر في بعض الأحيان: عفوا دون قصد. مثلما إذا سقط الخمار، أو العباءة، أو سقطت المرأة نفسها، فقد يظهر شيء منها: وجهها، أو يدها، أو بدنها.
ففي كلا الحالتين: حالة العجز، وحالة العفو. يصح أن يقال: "ظهر منها" (1). وحينئذ فالآية بينت أنها غير مؤاخذة، لأنها عاجزة، ولأنها لم تتعمد، وبمثل هذا فسر ابن مسعود – رضي الله عنه - الآية، وجمع من التابعين، فذكروا الثياب مثلا على ما يظهر بغير اختيار، قال ابن كثير في تفسيره [6/47]: "{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها"، أي ولا يظهرن شيئا زينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه. وقال ابن مسعود: كالرداء والثوب. يعني ما كان يتعاناه نساء العرب، من المقعنة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثوب، فلا حرج عليها فيه، لأن هذا لا يمكن إخفاؤه. ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه".
وهذا التفسير يطابق معنى الآية، ولا يعارضه بوجه، أما قول من فسر الآية: {ما ظهر منها}، بالوجه واليد، فإن فيه إشكالا: فأصحاب هذا القول، يصرحون بجواز إظهارهما مطلقا، دون قيد، ولو أنهم جعلوا مناط الجواز: حال العفو. لكان موافقا لمعنى الآية، لكنهم قصدوا حال الاختيار والتعمد، وهذا ينافي معنى وتفسير الآية, كما تقرر آنفا.
إذن في الآية قرينة تبين أن المراد: ما ظهر منها بعفو؛ من دون قصد، وتعمد، واختيار. وغير هذا القول يتعارض كليا مع لغة العرب، التي نزل بها القرآن، ومن شروط التفسير ألا يعارض كلام العرب.
- استطراد في بيان موقف الشيخ الألباني رحمه الله من هذا الوجه.
هذا الإحكام في الدلالة: حمل الشيخ الألباني، رحمه الله وأعلى درجته، على ترجيح أن الآية دلت صراحة على وجوب ستر الزينة كلها، وعدم إظهار شيء منها أمام الأجانب، إلا ما ظهر بغير قصد، واستدل بقول ابن مسعود رضي الله عنه في تفسيره: "إلا ما ظهر منها" بالثياب. وقد كان ذلك رأيه، رحمه الله، في أول الأمر.. ثم إنه تراجع عنه، ومال إلى قول من رجع بالاستثناء على الوجه والكف، قال:
" ففي الآية الأولى [آية الزينة] التصريح بوجوب ستر الزينة كلها، وعدم إظهار شيء منها أمام الأجانب، إلا ما ظهر بغير قصد منهن، فلا يؤاخذن عليه إذا بادرن إلى ستره، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره..".
فذكر المنقول من كلامه آنفا، ثم قال: "وهذا المعنى الذي ذكرنا في تفسير: {إلا ما ظهر منها}، هو المتبادر من سياق الآية، وقد اختلفت أقوال السلف في تفسيرها: فمن قائل: إنها الثياب. ومن قائل: إنها الكحل، والخاتم، والسوار، والوجه. وغيرها من الأقوال التي رواها ابن جرير في تفسيره عن بعض الصحابة والتابعين، ثم اختار هو أن المراد بهذا الاستثناء: الوجه والكفان. قال:...".
ومضمون ما ذكره ابن جرير: أن ما ظهر منها هو الوجه واليد. باعتبارهما ليسا بعورة في الصلاة؛ أي أنه قاس عورة النظر على عورة الصلاة. لكن الشيخ تعقبه فقال:
"وهذا الترجيح غير قوي عندي، لأنه غير متبادر من الآية على الأسلوب القرآني، وإنما هو ترجيح بالإلزام الفقهي، وهو غير لازم هنا، لأن للمخالف أن يقول: جواز كشف المرأة عن وجهها في الصلاة، أمر خاص بالصلاة، فلا يجوز أن يقاس عليه الكشف خارج الصلاة، لوضوح الفرق بين الحالتين.
أقول هذا مع عدم مخالفتنا له في جواز كشفها وجهها وكفيها في الصلاة وخارجها، لدليل، بل لأدلة أخرى غير هذه، كما يأتي بيانه، وإنما المناقشة هنا في صحة هذا الدليل بخصوصه، لا في صحة الدعوى، فالحق في معنى هذا الاستثناء، ما أسلفناه أول البحث، وأيدناه بكلام ابن كثير، ويؤيده أيضا ما في تفسير القرطبي: قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية، أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركتها فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن، ونحو ذلك فـ{ما ظهر} على هذا الوجه، مما تؤدي إليه الضرورة في النساء، فهو معفو عنه.
قال القرطبي: قلت: هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين، ظهورهما عادة عبادة، وذلك في الحج والصلاة، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما..".
وبعد أن نقل كلامه بتمامه قال الشيخ: "قلت: وفي هذا التعقيب نظر أيضا، لأنه وإن كان الغالب على الوجه والكفين ظهورهما بحكم العادة، فإنما ذلك بقصد من المكلف، والآية حسب فهمنا، إنما أفادت استثناء ما ظهر منها دون قصد، فكيف يسوغ حينئذ جعله دليلا شاملا، لما ظهر بالقصد؟! فتأمل".
وكما قلت آنفا، فقد كان هذا رأيه في دلالة هذه الآية، في أول الأمر، فلم ير فيها ما يدل على كشف الوجه واليد، وإن كان يرى جواز كشفهما، لكن لأدلة أخرى. وبغض النظر عن إمكان الجمع بين قوليه:
- القول بأن الآية دلت على ستر الزينة كلها، وعدم إظهار شيء منها للأجانب، إلا ما ظهر بغير قصد.
- والقول بجواز كشف الوجه واليد، لكن بأدلة أخرى.
فإن الشيخ مال بعد إلى القول الذي كان رده أولاً، فقال:
"ثم تأملت؛ فبدا لي أن قول هؤلاء العلماء [من فسر الآية بالوجه والكف] هو الصواب، وأن ذلك من دقة نظرهم رحمهم الله، وبيانه: أن السلف اتفقوا على أن قوله تعالى: {إلا ما ظهر منها}، يعود إلى فعل يصدر من المرأة المكلفة، غاية ما في الأمر أنهم اختلفوا، فيما تظهره بقصد منها، فابن مسعود يقول: ثيابها؛ أي جلبابها. وابن عباس ومن معه من الصحابة وغيرهم يقول: هو الوجه والكفان منها.
فمعنى الآية حينئذ: إلا ما ظهر منها عادة بإذن الشارع وأمره".
ثم استدل لهذا الرأي، بأن كشف الوجه والكف هو عادة النساء في عهد النبوة وبعده، فقال:
"فإذا ثبت أن الشرع سمح للمرأة بإظهار شيء من زينتها، سواء كان كفا أو وجها أو غيرهما، فلا يعترض عليه بما كنا ذكرناه من القصد، لأنه مأذون فيه، كإظهار الجلباب تماما، كما بينت آنفا.
فهذا هو توجيه تفسير الصحابة الذين قالوا: إن المراد بالاستثناء في الآية: الوجه والكفان. وجريان عمل كثير من النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده".
قال: "قلت: فابن عباس, ومن معه من الأصحاب، والتابعين، والمفسرين: إنما يشيرون بتفسيرهم لآية: {إلا ما ظهر منها}، إلى هذه العادة، التي كانت معروفة عند نزولها، وأقروا عليها، فلا يجوز إذن معارضة تفسيرهم بتفسير ابن مسعود". [جلباب المرأة المسلمة 39-53]
فهذا كلامه بالتفصيل، ويلاحظ ما يلي:
(1) صريح الآية استثناء ما ظهر بغير قصد، فلا يدخل فيه الوجه والكف، لأنهما يظهران بقصد، وهذا ما أقر به الشيخ في أول كلامه، ودعا للتأمل فيه.
(2) لا يصح صرف هذا المعنى الصريح [استثناء ما ظهر بغير قصد] إلى غيره [استثناء ما ظهر بقصد] إلا بقرينة صحيحة، والقرينة التي استدل بها الشيخ هنا هي: عادة النساء في عهد النبوة. وهذه قرينة غير مسلمة، فللمنازع أن يرد ذلك، بأن عادة النساء لم تكن في الكشف، بل في الستر، ويسوق على ذلك آثارا صريحة، لا ينكرها الخصم، بل يثبت أن الكشف كان عادتهن في أول الأمر، حتى أمرن بالتغطية، كيلا يتشبهن بالإماء، كما في آية الإدناء، وحينئذ فقوله هو الراجح، أو لا أقل من أن يكونا متساويين، وحينئذ، في الحالين، لا تصح القرينة هنا، فإن القرينة لا بد أن تسلم من المعارضة. ثم كيف يكون عادتهن، في عهد النبوة: الكشف. والتغطية مستحبة في أدنى أقوال العلماء..؟!!.. أفكان ذلك الرعيل الأول من المؤمنات مفرطات في هذا الثواب الجزيل، مع ما نقل عنهن من تسابق للخير، يوازي مسابقة الصحابة رضوان الله عليهم؟!.
(3) إذا بطلت القرينة، بقيت الآية على حالها، صريحة في استثناء ما ظهر بغير قصد، ومن ثم تبطل دلالتها على جواز كشف الوجه الكف.
(4) تشبيه الوجه والكف بالجلباب باطل، لأن الوجه والكف يمكن إخفاؤه، والجلباب لا يمكن.
(5) مة نزاع في فهم كلام الصحابة، كابن عباس رضي الله عنهما: ما أراد بالوجه والكف؟. فالآثار عنه تبين أنه أراد جواز إظهارهما للمحارم غير الزوج، وليس الأجانب، وسيأتي تفصيله بعد قليل.
(6) يبطل بذلك قول الشيخ أن معنى الآية: "إلا ما ظهر منها بإذن الشارع وأمره"؛ الوجه والكف، إلا في حالة واحدة، هي: إذا ظهرا بغير قصد.
* * *
الوجه الثاني: الزينة ليست المتزين.
الزينة في كلام العرب هي: ما تتزين به المرأة، مما هو خارج عن أصل خلقتها، كالحلي. وكذلك استعملت الزينة في القرآن للشيء الخارج عن أصل خلقة المتزين، من ذلك قوله تعالى:
- {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد}، أي الثياب.
- {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها}، فالزينة على الأرض، وليس بعض الأرض.
- {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب}، فالكواكب زينة للسماء، وليست منها.
وهكذا، فلفظ الزينة يراد بها ما يزين به الشيء، وليس من أصل خلقته.
وعلى ذلك فتفسير الزينة ببدن المرأة خلاف الظاهر، ولا يحمل عليه إلا بدليل، فقول من قال: إن الزينة التي يجوز للمرأة إظهارها هو: الوجه والكف. خلاف المعنى الظاهر، فإذا فسرت بالثياب استقام في كلام العرب ولغة القرآن. [انظر: أضواء البيان 6/198-199].
ويؤيد هذا ما رواه ابن جرير [التفسير 17/257] بسنده:
- عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - قال: {إلا ما ظهر منها}، قال: الثياب. قال أبو إسحاق: "ألا ترى أنه قال: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}".
فاستدل أبو إسحاق على صحة تفسير الزينة بالثياب بالقرآن، ففسر القرآن بالقرآن، وهذا أعلى درجات التفسير، لأن الله تعالى أعلم بمراده.
فإن قال قائل: قد علمتم أن من الأقوال التي قيلت تفسيرا للزينة في الآية أنها: الكحل والخضاب. وهما من الزينة، لا شك في ذلك، وليسا من أصل الخلقة، فلم لا يكون الاستثناء عائدا إليهما، فيجوز للمرأة حينئذ إظهار الكحل في العين، والخضاب في اليد، وإذا حصل ذلك، لزم منه كشف الوجه واليد.
فالجواب أن يقال: لا يلزم من جواز إظهار الكحل في العين: إظهار الوجه.
ثم لا نسلم لكم أن ابن عباس رضي الله عنهما قصد بذكر الوجه والكف، أو الكحل، والخاتم، والخضاب: إظهارهما للأجانب. فإن هذا هو محل النزاع: ماذا عنى ابن عباس؟، وسيأتي بيان هذه المسألة.
* * *
الوجه الثالث: هو قول طائفة من السلف.
القول بأن الذي يتسامح في ظهوره للأجانب هو الثياب، هو قول طائفة من السلف:
- روى ابن جرير بسنده عن ابن مسعود، قال: "{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، قال: الثياب".
- وروى أيضا بسنده إبراهيم النخعي قال: "{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، قال: الثياب".
- وروى بسنده عن الحسن في قوله: {إلا ما ظهر منها}، قال: الثياب.
- ومثله عن أبي إسحاق السبيعي. [التفسير 17/256-257]
- وقال ابن كثير في تفسيره [6/47]: "{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، أي ولا يظهرن شيئا زينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه. وقال ابن مسعود: كالرداء والثوب. يعني ما كان يتعاناه نساء العرب، من المقعنة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثوب، فلا حرج عليها فيه، لأن هذا لا يمكن إخفاؤه. ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه. وقال بقول ابن مسعود: الحسن، وابن سيرين، وأبو الجوزاء، وإبراهيم النخعي وغيرهم".
فهذه أقوال جمع من السلف، كلها دلالتها صريحة على وجوب تغطية الوجه، فعلى الرغم من أن الآية عمدة عند القائلين بجواز الكشف، إلا أن هؤلاء الأئمة لم يفهموا هذا الفهم بوجه ما.
وبهذه الأوجه يثبت من غير شك: أن دلالة الآية قاطعة، على وجوب الحجاب الكامل على المرأة.
* * *
استطراد: اعتراض، وجواب.
فإن قال قائل: فما تصنعون بالآثار الواردة عن الصحابة، ومن بعدهم من الأئمة في تفسير: {ما ظهر منها}، بالوجه والكف. وهي آثار منها الثابت، ومنها ما دون ذلك، والحجة في الثابت منها.
فالجواب ما يلي:
- (جواز كشف الوجه واليد للمحارم، لا الأجانب).
ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية بالوجه والكف: مفسر بما جاء عنه في الرواية الأخرى، التي رواها ابن جرير فقال:
- "حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنى معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، قال: والزينة الظاهرة: الوجه، وكحل العين، وخضاب الكف، والخاتم. فهذه تظهر في بيتها، لمن دخل من الناس عليها". [التفسير 17/259] (2).
من هم الناس في كلام ابن عباس؟. أهم الأجانب؟..
كلا، فإن تحريم دخول الأجانب على النساء، لا يخفى على أحد، فضلا عنه، وقد قال رسول الله صلى الله وسلم: (إياكم والدخول على النساء)، والآية: {وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب}. إذن فقصده إذن: من دخل عليها من محارمها غير الزوج. فهذه تبدي لهم ما ظهر منها، مما يشق عليها إخفاؤه في بيتها، فعلى هذا يحمل قول ابن عباس، لا على نظر الأجانب إليها.
وهذا يوافق ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن}، فقد روى ابن جرير بسنده إلى ابن عباس في الآية قال: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة" [التفسير 19/181]، فهذا صريح في تغطية الوجه، وقد تقدم.
ومن المعلوم المقرر عقلا: أنه إذا وردت عن الصحابي رواية صريحة في المعنى، وأخرى محتملة للمعنيين، كان حملها على المعنى الصريح هو المتوجب، فكيف إذا كانت هذه الأخرى أقرب إلى معنى الرواية الأولى؟.
* * *
مع يقيننا أن هذا الوجه قاطع للنزاع في معنى كلام ابن عباس رضي الله عنهما، فهو أحرى من فسر لنا كلامه، وقد بين أنه أراد إظهار الوجه والكف للمحارم، لمن دخل منهم البيت، وهو الموافق لقوله في آية الجلباب، إلا أنه تنزلا، وجدلا نقول: هب أن ابن عباس لم يرد عنه ما يفسر كلامه، فهل تفسيره الآية بالوجه والكف ليس له إلا احتمال واحد هو: جواز إظهارهما للأجانب؟.
والجواب: كلا، بل ثمة احتمالات أخر، هي:
أولا: استثناء أم نهي؟.
في الآية نهي واستثناء، فقوله: {ولا يبدين زينتهن} = نهي. وقوله: {إلا ما ظهر منها} = استثناء.
فقول ابن عباس وغيره، إما أن يحمل على: النهي، أو الاستثناء.
فأكثرهم نظر إلى الاستثناء، ولم ينظر إلى النهي، مع أنه محتمل، ففي الاستثناء: المعنى أنهن نهين عن إبداء زينتهن، ومنها الكف والوجه، وربما يكون سبب تخصيصهما حينئذ بالذكر: لأنهما أكثر ظهورا. بالنظر إلى كشفهما في الصلاة والإحرام، وحينئذ يكون تفسير ابن عباس لقوله: {ولا يبدين زينتهن}، لا قوله: {إلا ما ظهر منها}، وهو محتمل. وقد أورد ابن كثير هذا الاحتمال فقال:
- "وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها"، إلى أن قال: "ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه: أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند الجمهور"[التفسير6/47].
فإن احتج المخالف بأن هذا الوجه غير مشهور عند العلماء، قلنا: هو كذلك، لكن ليس هذا موضع الاحتجاج من إيراد هذا الوجه، إنما في وجود احتمال آخر غير المشهور، له ذكر عند العلماء، يوافق المشروع وغير باطل عقلا، ومعلوم أنه إذا تطرق الاحتمال بطل الاستدلال، ومن ثم لا تكون هذه التفسيرات من الصحابة رضوان الله عليهم حجة قاطعة على الكشف، بل محتملة غير ملزمة.
وإذا كان هذا هو حال هذه التفسيرات، فكيف يعارض بها الدلالة المحكمة لآيات: الحجاب، والجلباب، والزينة؟!.
ثانيا: العفو عما ظهر بغير قصد.
تقدم في الوجه الأول: أن الآية تسامحت فيما ظهر من المرأة بغير قصد. ومعلوم أن المرأة قد يظهر منها الوجه والكف بغير اختيارها، وهذا يحصل كثيرا، بخلاف غيرهما، وعلى هذا يمكن حمل كلام ابن عباس وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم على ما ظهر من المرأة بغير قصد، مما هو من زينتها، أو بدنها، كالوجه والكف، والخضاب، ونحو ذلك.
ثالثا: التدرج في الحجاب.
ثمة جواب هنا ورد عن ابن تيمية هو: أن الحجاب هكذا شرع في بداية الأمر، ستر البدن كله، إلا الوجه والكفين، ثم لما نزلت آية الجلباب أمرن بستر الوجه والكف أيضا. قال:
"(فصل في اللباس في الصلاة) وهو أخذ الزينة عند كل مسجد، الذي يسميه الفقهاء: (باب ستر العورة في الصلاة)، فإن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذي يستر في الصلاة، هو الذي يستر عن أعين الناظرين، وهو العورة، وأخذ ما يستر في الصلاة من قوله: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن}، ثم قال: {ولا يبدين زينتهن}؛ يعنى الباطنة: {إلا لبعولتهن}الآية. فقال يجوز لها، في الصلاة، أن تبدى الزينة الظاهرة دون الباطنة، والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين:
- فقال ابن مسعود ومن وافقه هي: الثياب.
- وقال ابن عباس ومن وافقه هي: فى الوجه واليدين؛ مثل الكحل والخاتم.
وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء في النظر إلى المرأة الأجنبية، فقيل: يجوز النظر لغير شهوة إلى وجهها ويديها. وهو مذهب أبى حنيفة والشافعي وقول في مذهب أحمد.
وقيل: لا يجوز. وهو ظاهر مذهب أحمد، فإن كل شيء منها عورة، حتى ظفرها، وهو قول مالك. وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة. وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج، وذوي المحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب، كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها، لأنه يجوز لها إظهاره.
ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}، حجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج زينب بنت جحش، فأرخى الستر ومنع النساء أن ينظرن، ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك، عام خيبر، قالوا: (إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه)، فحجبها.
فلما أمر الله أن لا يسألن إلا من وراء حجاب، وأمر: أزواجه، وبناته، ونساء المؤمنين. أن يدنين عليها من جلابيبهن، والجلباب هو: الملاءة. وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره: الرداء. وتسميه العامة: الإزار. وهو الإزار الكبير الذي يغطى رأسها وسائر بدنها، وقد حكى أبو عبيد(3) وغيره: أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها. ومن جنسه النقاب، فكن النساء ينتقبن، وفى الصحيح: (أن المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين)، فإذا كن مأمورات بالجلباب، لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب، كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، فما بقى يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة.
فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين". [الفتاوى 22/109-111]
رابعا: عورة النظر غير عورة الصلاة.
هذه الآية ليست في عورة النظر، بل عورة الصلاة. وذلك أن العورة عورتان:
- عورة في النظر، وهذه تعم جميع البدن.
- وعورة في الصلاة، وهذه تعم البدن إلا الوجه والكف.
وطائفة من العلماء يقولون بأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفها. ومقصودهم أن ذلك في الصلاة، لأنها مأمورة به في الصلاة، ويدل على هذا أن كلامهم في جواز كشف الوجه يأتي عند الكلام على ستر العورة في الصلاة، وقد نص طائفة من أهل العلم على التفريق بين عورة النظر وعورة الصلاة:
- قال البيضاوي في تفسيره قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن..}: "والمستثنى هو الوجه والكفان، لأنهما ليسا من العورة، والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن بدن الحرة كلها عورة، لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها، إلا لضرورة، كالمعالجة وتحمل الشهادة".
- قال الشهاب في شرحه تفسير البيضاوي [عناية القاضي وكفاية الراضي 6/373، انظر: عودة الحجاب 3/228،231]: "ومذهب الشافعي رحمه الله، كما في الروضة وغيرها، أن جميع بدن المرأة عورة، حتى الوجه والكف مطلقا، وقيل: يحل النظر إلى الوجه والكف، إن لم يخف فتنة، وعلى الأول: هما عورة إلا في الصلاة، فلا تبطل صلاتهما بكشفهما"، قال: "وما ذكره [البيضاوي] من الفرق بين العورة في الصلاة وغيرها، مذهب الشافعي رحمه الله".
- وقال ابن تيمية: "التحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز النظر إليه". وقال: "فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر لا طردا ولا عكسا" [الفتاوى الكبرى 4/409]
- وقال ابن القيم: "العورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة في النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك". [إعلام الموقعين 2/80]
- وقال الأمير الصنعاني في سبل السلام (1/176): "ويباح كشف وجهها، حيث لم يأت دليل بتغطيته، والمراد كشفه عند صلاتها، بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة، وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة".
- وقال عبد القادر الشيباني الحنبلي في نيل المآرب بشرح دليل الطالب 1/39 [عودة الحجاب 3/230]: " والوجه والكفان من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة، باعتبار النظر، كبقية بدنها".
- يقول الشيخ أبو الأعلى المودودي: "الفرق كبير جدا بين الحجاب وسترة العورة، فالعورة ما لا يجوز كشفه حتى للمحارم من الرجال، وأما الحجاب فهو شيء فوق ستر العورة، وهو ما حيل به بين النساء والأجانب من الرجال" [تفسير سورة النور ص158، انظر: عودة الحجاب 3/232].
وليس المقصود استقصاء هذه الأقوال، لكن المقصود بيان أنه لا يصح أن يفهم من مجرد قولهم: والمرأة الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها. أو بقولهم في الآية: {إلا ما ظهر منها}، هو الوجه والكف. أن مذهبهم جواز الكشف أمام الأجانب. إذ قد يكون مقصودهم أن هذا في الصلاة، فلا بد إذن من دليل آخر يدل صراحة على أن مذهبهم جواز كشف الوجه أمام الأجانب.
إذن كل الأدلة تفضي إلى وجوب تغطية الوجه والكف وسائر البدن، وعلى هذا كلام جماهير أهل العلم.
* * *
- لا يعارض القطعي بالظني.
لو فرضنا جدلا أن هذه الآثار تخالف الدلالة القطعية للآية، فالحجة فيما أثبتته الآية، فقول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مقدم على قول كل أحد، وكم من النصوص فسرت بما يعارضها، وكان الواجب طرحها والإعراض عنها.. فلو قدرنا أن هذه الآثار المفسرة للآية بكشف الوجه ثابتة السند والمعنى، فلا ريب أن الحجة فيما قطع بدلالته، وآية الزينة بينة الدلالة على وجوب التغطية، كما أثبتنا، وقد أثبتنا قبل ذلك قطعية دلالة آية الحجاب، وكذا آية الجلباب، على وجوب الحجاب الكامل، فكيف تطرح هذه القطعيات لبعض الأقوال، وبعضها لا تثبت، وبعضها ليست قطعية الدلالة، لها تأويل؟!. كما قد تبين بالبيان السابق.
فإن قيل: هل أنتم أعلم أم ابن عباس ومن وافقه، وقد فسروا: {ما ظهر منها}، بأنه الوجه والكف؟.
فيقال: بل هم أعلم، إنما النزاع في معنى ما ورد عنهم، فقد تبين بالأوجه السابقة: أن توجيه كلامهم نحو جواز كشف الوجه واليد مطلقا، فيه نظر !!، ولا يسلم للمخالف به، والذي حملنا على هذا الرأي:
(1) ما ورد عنهم من قول خلاف ذلك، حيث تقدم قول ابن عباس أنها في الذي يدخل على المرأة بيتها، والمقطوع به أن ابن عباس رضي الله عنهما لم يكن ليجيز لغير محرم دخوله على امرأة أجنبية، فضلا أن يجيز لها كشف وجهها ويديها أمامه، في بيتها، كيف وهو الذي فسر الإدناء، بأن تغطي المرأة وجهها، فلا تبدي إلا عينا واحدة، أفكان يأمرها بالتغطية خارج البيت، ويأذن لها بالكشف داخل البيت؟!.
(2) أن أصل الحجاب مشروع، ونصوصه الدالة عليه عديدة، فهي شعيرة، ومن المحكمات، فليس من السهولة تجاوز هذا الحكم الواضح لأجل آثار، بعضها لا تثبت، وبعضها لها تأويل سائغ، فتكون من المتشابهات التي يجب ردها إلى المحكمات.
(3) أن من الصحابة رضوان الله عليهم، وهو ابن مسعود رضي الله عنه، من صرح في الآية بغير هذا المعنى، فقال هو: الثياب. وتبعه على ذلك جمع من التابعين.
* * *
- القول في قوله تعالى: "وليضربن بخمرهن على جيوبهن".
قال الإمام البخاري: "باب {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}"، ثم ذكر سنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: (يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}، شققن مروطهن، فاختمرن بها). [فتح الباري 8/489]
يرى الشيخ الألباني، رحمه الله وأعلى درجته، أن الخمار عند الإطلاق هو غطاء الرأس فقط، دون الوجه، وقد يستعمل أحيانا في غطاء الوجه، يقول:
- "الخمار غطاء الرأس فقط، دون الوجه" [الرد المفحم ص13].
- "كما أن العمامة عند إطلاقها، لا تعني تغطية وجه الرجل؛ فكذلك الخمار عند إطلاقه، لا يعني تغطية وجه المرأة".[الرد المفحم ص18].
- "وجملة القول: إن الخمار والاعتجار عند الإطلاق؛ إنما يعني: تغطية الرأس، فمن ضم إلى ذلك تغطية الوجه، فهو مكابر معاند، لما تقدم من الأدلة".[الرد المفحم ص25].
- "لا ينافي كون الخمار غطاء الرأس، أن يستعمل أحيانا لتغطية الوجه". [الرد المفحم ص23]
وقد بنى رأيه هذا على أمور ثلاثة هي:
- الأول: نصوص من الكتاب والسنة دلت على أن الخمار: غطاء الرأس.
قال: " وأما مخالفته للسنة فهي كثير؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" وهو حديث صحيح، مخرج في الإرواء (196) برواية جمع؛ منهم ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما.
فهل يقول الشيخ التويجري، بأنه يجب على المرأة البالغة أن تستر وجهها في الصلاة ؟!.
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في المرأة التي نذرت أن تحج حاسرة: (مروها فلتركب، ولتختمر، ولتحج)، وفي رواية: (وتغطي شعرها)، وهو صحيح أيضا، خرجته في الأحاديث الصحيحة (2930).
فهل يجيز للمحرمة أن تضرب بخمارها على وجهها، وهو يعلم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة..)؟!.
ومثل ذلك أحاديث المسح على الخمار في الوضوء". [الرد المفحم 16-17]
- الثاني: أقوال المفسرين والفقهاء في معنى الخمار.
قال رحمه الله : "فمن المفسرين: إمامهم ابن جرير الطبري، والبغوي، والزمخشري، وابن العربي، وابن تيمية، وابن حيان الأندلسي، وغيرهم كثير، وكثير ممن ذكرنا هناك.
ومن المحدثين: ابن حزم، والباجي الأندلسي..".
قال: " ومن الفقهاء: أبو حنيفة، وتلميذه محمد بن الحسن، في الموطأ، وستأتي عبارته في ص (34)، والشافعي القرشي، والعيني". [الرد المفحم 18،21]
- الثالث: كلام أهل اللغة في معنى الخمار.
قال: "ومن ذلك قول العلامة الزبيدي في (شرح القاموس) 3/189، في قول أم سلمة رضي الله عنها: إنها كانت تمسح على الخمار. أخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) 1/22: أرادت بـ(الخمار): العمامة؛ لأن الرجل يغطي بها رأسه؛ كما أن المرأة تغطيه بخمارها.
وكذا في (لسان العرب). وفي المعجم (الوسيط)، تأليف لجنة من العلماء، تحت إشراف (مجمع اللغة العربية)، ما نصه: (الخمار): كل ما ستر. ومنه خمار المرأة، وهو ثوب تغطي به رأسها. ومنه العمامة؛ لأن الرجل يغطي بها رأسه، ويديرها تحت الحنك". [الرد المفحم 17-18]
* * *
كان ذلك رده رحمه الله على من فسر الخمار بغطاء الوجه، في قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}، حيث يرى رحمه الله: أن الآية لا تدل على غطاء الوجه، بل الرأس، لأن معنى الخمار كذلك.
وقد استنكر كل قول يفسر الخمار بغطاء الوجه، ووصف كل ما ورد عن الأئمة بهذا المعنى أنه: إما زلة، أو سبق قلم، أو تفسير مراد. فقال [الرد المفحم ص13]:
"وتشبث في ذلك ببعض الأقوال، التي لا تعدو أن تكون من باب: زلة عالم، أو سبق قلم، أو في أحسن الأحوال: تفسير مراد، وليس تفسير لفظ؛ مما لا ينبغي الاعتماد عليه في محل النزاع والخلاف".
* * *
وتعليقا على ما أورده الشيخ يقال هنا:
- أولا: ليست الآية هي الحجة في وجوب غطاء الوجه.
هذه مسألة مهمة، وهي: أن آية الخمار ليست العمدة في وجوب غطاء الوجه، فدليل الوجوب قد تقدم في الآيات الثلاثة: آية الحجاب، وآية الجلباب، وآية الزينة. ودلالتها محكمة على الوجوب.
وعلى ذلك: فعدم قطعية دلالة هذه الآية على وجوب غطاء الوجه، لا يسقط الحكم أو يلغيه.
ومعلوم أن الآية وردت نهيا عن تشبه النساء المؤمنات بالجاهلية، حيث كانت المرأة تلبس الخمار على رأسها، ثم تسدل من الخلف، فينكشف الصدر والعنق، كما يفعل نساء النبط، فأمرن بالسدل من الأمام، حتى يغطين كل ذلك، وهذا يحتمل:
- أن يغطى معه الوجه، وهو الأقرب، والموافق للأمر في نصوص: الحجاب، والجلباب، والزينة.
- أن يدور حول الوجه، مغطيا الأذن، ثم العنق، ثم الصدر. والمعنى يحتمل هذا الوجه.
ولأجله فإن الآية ليست قاطعة الدلالة في الجهتين. فإذا كان لا يحق لمن يقول بالتغطية الاحتكام إليها، فكذلك من يقول بالكشف، لا يحق له التحكم بمعناها، والقول بأنها تدل على الكشف بالقطع.
بل إذا فسرت بتغطية الوجه، فهو تفسير معتبر، لأنه تفسير في ضوء نصوص الحجاب الأخرى، فتتلاءم، وفي كلام العلماء وأهل اللغة تفسير الخمار بغطاء الوجه.
ولو فسرت بتغطية العنق والصدر وما جاور الوجه، فهذا لا يمنع من وجوب غطاء الوجه، لكن بالنصوص الأخرى، فتكون هذه الآية نصت على تغطية العنق والصدر، وخصت بالذكر لشيوع كشفها في الجاهلية.
- ثانيا: العلماء الذين فسروا الخمار في النصوص الشرعية بغطاء الوجه.
نص بعض العلماء على أن الخمار في المصطلح الشرعي هو: غطاء الوجه. منهم ابن تيمية، والعيني صاحب عمدة القاري، وابن حجر.
- فأما ابن تيمية فقال: " الخمر التي تغطي: الرأس، والوجه، والعنق. والجلابيب التي تسدل من فوق الرؤوس، حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان". [الفتاوى 22/147].
- وأما العيني فقال: " قوله: (نساء المهاجرات)؛ أي النساء المهاجرات، قوله: (مروطهن)، جمع مرط، بكسر الميم، وهو الإزار. قوله: (فاختمرن بها)، أي غطين وجوههن بالمروط التي شققنها". [عمدة القاري 10/92، انظر: عودة الحجاب3/287].
- وأما ابن حجر فقال:"قوله: (فاختمرن)؛ أي غطين وجوههن؛ وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها، وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهو التقنع. قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قدامها، فأمرن بالاستتار، والخمار للمرأة كالعمامة للرجل". [الفتح8/498].. فكلامه هنا صريح في أن الخمار غطاء الرأس والوجه، وله نص آخر صريح، قال فيه: "ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها" [الفتح 10/48، الأشربة، باب: ما جاء أن الخمر ما خامر العقل] يؤكده قوله في التخمير: "وهو التقنع"، فالخمار هو القناع عنده، وقد عرف القناع فقال:
- "قوله: (باب التقنع) بقاف ونون ثقيلة، وهو: تغطية الرأس، وأكثر الوجه، برداء أو غيره" [في الفتح، باب اللباس، باب: التقنع. 10/274]
- وقال: "قوله: (مقنع) بفتح القاف والنون المشددة: وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب" [الفتح 6/25]
إذن الخمار غطاء الرأس والوجه، وهو القناع، والقناع ما يغطي الرأس والوجه، هكذا يقول ابن حجر.
فهل يسوغ بعد هذا أن يقال: إنما ذلك سبق قلم منه، أو خطأ من الناسخ، أو أنه أراد معنى مجازيا..؟!.
هذا ما ذهب إليه الشيخ الألباني، أعلى الله درجته، فقال [الرد المفحم ص19-21]:
"وهنا لا بد لي من الوقفة- وإن طال الكلام أكثر مما رغبت- لبيان موقف للشيخ التويجري، غير مشرف له، في استغلاله لخطأ وقع في شرح الحافظ لحديث عائشة الآتي في الكتاب (78) في نزول آية (الخُمُر) المتقدمة، وبتره من شرح الحافظ نص كلامه المذكور لمخالفته لدعواه! فقال الحافظ في شرح قول عائشة في آخر حديثها
فاختمرن بها) (8/490): ( أي: غطين وجوههن، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها، وترميه من الجانب الأيسر، وهو التقنع. قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قدامها، فأمرن بالاستتار، و (الخمار) …) إلى آخر النص.
فأقول: لقد ردّ الشيخ في كتابه (ص 221) قولي الموافق لأهل العلم –كما علمت- بتفسير الحافظ المذكور: (غطين وجوههن)، وأضرب عن تمام كلامه الصريح في أنه لا يعني ما فهمه الشيخ، لأنه يناقض قوله: (وصفة ذلك …) فإن هذا لو طبَّقه الشيخ في خماره، لوجد وجهه مكشوفاً غير مغطى!. ويؤكد ذلك النص الذي بتره الشيخ عمداً أو تقليداً، وفيه تشبيه الحافظ خمار المرأة بعمامة الرجل، فهل يرى الشيخ أن العمامة أيضاً- كالخمار عنده- تغطي الرأس والوجه جميعاً؟!. وكذلك قوله: (وهو التقنع)، ففي كتب اللغة: (تقنّعت المرأة؛ أي: لبست القناع وهو ما تغطي به المرأة رأسها)، كما في (المعجم الوسيط) وغيره، مثل الحافظ نفسه فقد قال في (الفتح 7/235 و 10/274)
التقنع: تغطية الرأس).
وإنما قلت: أو تقليداً. لأني أربأ بالشيخ أن يتعمد مثل هذا البتر، الذي يغيّر مقصود الكلام، فقد وجدت من سبقه إليه من الفضلاء المعاصرين، ولكنه انتقل إلى رحمة الله وعفوه، فلا أريد مناقشته. عفا الله عنا وعنه. وبناءً على ما سبق فقوله: (وجوههن)، يحتمل أن يكون خطأ من الناسخ، أو سبق قلم من المؤلف، أراد أن يقول: (صدورهن) فسبقه القلم! ويحتمل أن يكون أراد معنىً مجازياً؛ أي: ما يحيط بالوجه. من باب المجاورة، فقد وجدت في (الفتح) نحوه، في موضع آخر منه، تحت حديث البراء رضي الله عنه: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ بالحديد …) الحديث. رواه البخاري وغيره، وهو مخرج في (الصحيحة) (2932) فقال الحافظ (6/ 25): (قوله: مقَنَّع. بفتح القاف والنون المشددة: وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب).
فإنه يعني ما جاور الوجه، وإلا لم يستطع المشي فضلاً عن القتال كما هو ظاهر".
هنا ثمة ملاحظات:
الملاحظة الأولى: جزم الشيخ بأن وصف ابن حجر لطريقة وضع الخمار: يلزم منه كشف الوجه. وهذا لا يسلم له به، فالمرأة إذا وضعت خمارها على رأسها، ثم لفت طرفه الأيمن على وجهها، ثم ألقت الذيل على العاتق الأيسر، كان ذلك غطاء للوجه، وهذا ما عناه ابن حجر، ولذا جعل التخمير تغطية الوجه.
الملاحظة الثانية: استدل الشيخ لرأيه بقول ابن حجر: "وهو التقنع"، وجزم أنه يعني بالتقنع غطاء الرأس فحسب، وساق تعريفا له قال فيه: "التقنع: تغطية الرأس"، لكن فات الشيخ رحمه الله أن ينقل التعريف بتمامه، وفيه ذكر الوجه، وهو كما تقدم، قال ابن حجر: ": "قوله: (باب التقنع) بقاف ونون ثقيلة، وهو: تغطية الرأس، وأكثر الوجه، برداء أو غيره" [في الفتح، باب اللباس، باب: التقنع. 10/274].
الملاحظة الثالثة: أبى الشيخ إلا أن يوجه قول ابن حجر في المقنّع: "وهو كناية عن تغطية الوجه بآلة الحرب". بأنه: "يعني ما جاور الوجه، وإلا لم يستطع المشي".!!.. هكذا قال، لكن كل من عرف قناع الحرب، أدرك أن منه ما يغطي الوجه كاملا، وله فتحات عند العين للرؤية، فلا يدخل إذن هذا التعريف من ابن حجر دائرة المحال، حتى يصح اللجوء إلى المجاز.!!.
إذن، ابن حجر، يرى الخمار هو القناع، ومعناهما: تغطية الوجه والرأس. فإنه يقول:
- "قوله: (فاختمرن بها)؛ أي غطين وجوههن".
- "ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها".
ويفسر الخمار بأنه القناع، ويقول عن القناع:
- "تغطية الرأس، وأكثر الوجه، برداء أو غيره".
- وعن الرجل المقنع: "هو كناية عن تغطية الوجه بآلة الحرب".
وبعد: فهل كل هذا سبق قلم، أو خطأ من الناسخ، أو معنى مجازي ؟!!.
ولنا أن نسأل: هل يستحيل عقلا أن يقول ابن حجر: الخمار غطاء الوجه والرأس؟!.
إن صنيع الشيخ هذا، من الحكم بالخطأ والتأويل بالمجاز، لو كان مع نص شرعي، يرى دينا تأويله، بقصد الجمع بين النصوص ومنع تعارضها، كما هو مذهب أهل السنة في النصوص المتشابهة، لكان سائغا.
لكن الذي لا يسوغ أن يصنع كذلك بنص بشري غير معصوم، فإلزام ابن حجر أنه لا يقصد بالخمار غطاء الوجه، ولا بالقناع، يحمل على التساؤل: ولم لا يكون ابن حجر أراد ما قاله ظاهرا؟.
هل ما قاله يستحيل أن يقول به إنسان أو عالم؟.
لا نظن أنه من المحال أن يقول أحد من الناس: إن الخمار غطاء الوجه. حتى ولو فرض أنه خطأ، فإذا ثبت عدم الاستحالة، فلم لا يترك قوله على ظاهر، ويعقب بالقول بأنه أخطأ، دون اللجوء إلى المجاز ونحوه؟!.
الملاحظة الرابعة: استنكر الشيخ أن تغطي العمامة الوجه مع الرأس. وأن يكون معنى الاعتجار: تغطية الوجه، ولا وجه لاعتراضه رحمه الله وأعلى درجته، فإن العمائم قد تستخدم لتغطية الوجه، والأدلة ما يلي:
(1) قال محمد بن الحسن: "لا يكون الاعتجار إلا مع تنقب، وهو أن يلف بعض العمامة على رأسه، وطرفا
منه يجعله شبه المعجر للنساء، وهو أن يلفه حول وجهه".[ المبسوط 1/31. انظر: عودة الحجاب 3/288]
(2) قال ابن الأثير: "وفي حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار: (جاء وهو معتجر بعمامته، ما يرى وحشي منه إلا عينيه ورجليه)، الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه، ويرد طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه". [النهاية في غريب الحديث والأثر 3/185]، فالعمامة إذن تستعمل في تغطية الرأس وحده، وقد يكون معه الوجه. كالخمار، فلا وجه إذن للمنع من دلالة ذلك على غطاء الوجه. ومع هذا فإن الشيخ قال: "هو صفة كاشفة للاعتجار، وليست لازمة له". [الرد المفحم ص25] فالشيخ لايرى غطاء الوجه لازما للاعتجار، خلافا لابن الأثير.
(3) ما قاله ابن الأثير مؤيد بأشعار العرب، حيث قال الشاعر النميري [المصون في سر الهوى المكنون 40]:
يخبئن أطراف البنان من التقى *** ويخرجن جنح الليل معتجرات
فإذا كن يغطين أطراف أصابعهن تقى، فهذا دليل على أن اعتجارهن كان بتغطية الوجه مع الرأس، فلم يكن ليخبئن الأطراف، ويظهرن الوجه.
(4) ثمة قبيلة معروفة، شعارها تغطية الرجال وجوههم بالعمائم، وهم قبيلة الطوارق، الساكنون في موريتانيا على الحدود، فإنهم يعتجرون العمائم، فيغطون بها وجوههم، فلا يرى منه إلا العين.
فإذا قيل: اعتجرت المرأة. دل ذلك على غطاء رأسها ووجهها، ولا يمُنع من ذلك إلا بقرينة صحيحة، ولاوجه للقول إنها زلة عالم، فتفسير هذه الكلمات بهذا المعنى ليس غريبا، ولا شاذا، ولم يقل أحد إنها كذلك، والشواهد السابقة دليل على صحة هذا المعنى، ولم نر أحدا من علماء اللغة، أو التفسير، أو الحديث، أو الفقه خطأ من قال بذلك، ووصف قوله بأنها زلة، لم نر ذلك إلا من كلام الشيخ رحمه الله تعالى.!!.
* * *
ثالثا: الخمار غطاء الرأس والوجه.
من ينظر في كتب اللغة يجد عامة أهل العربية قد اصطلحوا على تفسير الخمار بالغطاء، وخمار المرأة بغطاء رأسها، ثم إن الشيخ رحمه الله أخذ هذا المعنى اللغوي، وحكمه على نصوص شرعية، وفيه نظر من جهتين:
- الأولى: من جهة الفرق بين المصطلح الشرعي واللغوي.
- والثانية: من جهة حقيقة قول من فسر الخمار بغطاء الرأس.
الجهة الأولى: الخمار بين المصطلح الشرعي واللغوي.
من المعلوم أن ثمة فرقا بين المصطلح الشرعي واللغوي للكلمة الواحدة، وأضرب مثلا:
الإيمان في كلام أهل اللغة هو التصديق. لكنه في اصطلاح الشارع أعم من ذلك، حيث يشمل: التصديق بالقلب، والقول باللسان، والعمل بالجوارح. فإن ورد لفظ الإيمان في نص شرعي، كان هذا معناه، وخطأ المرجئة أنهم قصروا المعنى على الاصطلاح اللغوي، ولم ينظروا في الاصطلاح الشرعي.
ثم إن الإيمان نفسه قد يرد في نص شرعي، ويراد به المعنى اللغوي، أو قريبا منه، وذلك إذا اقترن بالإسلام، فيكون دالا على الباطن، والإسلام على الظاهر.
وبالنظر والتأمل نجد أن للخمار الحكم نفسه، ففي اللغة هو خمار الرأس. لكن جاء الاصطلاح الشرعي فزاد فيه الوجه، والدليل مركب من مقدمات ثلاثة ونتيجة:
- أن غطاء الوجه مشروع، لا يجادل في هذا عالم، إما وجوبا أو استحبابا.
- أن المؤمنات أمرن بالتخمير: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}.
- يصح في الخمار أن يكون غطاء الوجه والرأس معا، وهذا أمر أقر به الشيخ رحمه، حيث قال عنه: "لا يلزم من تغطية الوجه به أحيانا، أن ذلك من لوازمه عادة، كلا". [جلباب المرأة المسلمة ص73]
- والنتيجة: أن الخمار الشرعي: هو غطاء الوجه والرأس، سواء كان وجوبا أو استحبابا.
لكن قد يأتي الخمار في مصطلح شرعي، ويراد به الرأس فحسب، إذا وجدت القرينة، كما في حديث صلاة المرأة بخمار، وغيره من النصوص التي استدل بها الشيخ الألباني، فالقرينة حاكمة، فإنه من المقطوع به أن المرأة إذا صلت أمرت بتغطية رأسها، دون وجهها وكفيها، فهذا قرينة تدل على أن المقصود بالخمار في الأثر هو غطاء الرأس، لكن إذا خلت من القرينة، فالمصطلح الشرعي للخمار هو غطاء الوجه والرأس.
إذن الأمر عكس ما ذهب إليه الشيخ الألباني: فالخمار إذا أطلق في النصوص الشرعية: دل على غطاء الرأس والوجه معا، سواء على جهة الوجوب، أو الاستحباب [على قول من يقول به]، ليس غطاء الرأس فحسب.
الجهة الثانية: حقيقة قول من فسر الخمار بغطاء الرأس.
يلاحظ في كلام العلماء في تفسير الخمار أنهم قالوا: غطاء الرأس. ولم يذكروا الوجه، ولم ينفوه.
أفلا ينم هذا عن عدم ممانعتهم: أن يكون الخمار شاملا الاثنين، وإن اكتفوا بذكر الرأس؟.
قد يقال وما الداعي لهذا الاحتمال؟.
الجواب: أن الوجه من الرأس، ودخوله في المعنى وارد، وإذا أضيف إلى ذلك أمر الشارع بغطاء الوجه، سواء على جهة الوجوب، أو الاستحباب [لمن قال به]، فهذان وجهان يؤيدان دخول الوجه في المعنى، ويكون العلماء ذكروا الرأس، واستغنوا عن الوجه، لأنه يدخل ضمنا فيه، ونضرب ابن حجر مثلا:
تقدم رأيه رحمه الله في الخمار أنه: غطاء الوجه والرأس. بنصوص صريحة، ومع ذلك وجدناه يقول:
"والخمر، بضم الخاء والميم، جمع خمار، بكسر أوله والتخفيف: ما تغطي به المرأة رأسها" [الفتح 10/296، اللباس، باب: الحرير للنساء]
فنحن إزاء هذا بين أمور:
- فأما أن نحكم عليه بالتناقض، ونعرض عن قوله كليا.
- وإما أن نرجح أنه أراد غطاء الرأس، ونبطل قوله الآخر، كما فعل الشيخ رحمه الله تعالى.
- وإما أن نرجح أنه أراد غطاء الوجه والرأس، ونحمل قوله الآخر على الأول.
فأما التناقض فلا وجه له، وذلك لأن التناقض يكون عند تعذر الجمع، وهنا غير متعذر، فالوجه من الرأس، فالاكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر وارد، ولو أنه قال في الأول الرأس، وفي الآخر القدم، لصح التناقض.
وأما ترجيح غطاء الرأس دون الوجه فلا وجه له أيضا: وذلك لأننا أمام نصوص عديدة له، كلها يفسر فيها الخمار بغطاء الوجه والرأس، فلا يمكن تجاهل هذه النصوص، وترجيح أن الخمار غطاء الرأس فحسب.
إذن ليس أمامنا إلا ترجيح أنه أراد بالخمار غطاء الوجه والرأس جميعا، ونحمل قوله الآخر على هذا الأول، ولا نعارضه به، لأمور:
(1) لأنه صريح كلامه، في أكثر من موضع.
(2) لأن الوجه من الرأس، فيصح أن يكون مع تغطية الرأس تغطية الوجه، ولا يمتنع ذلك شرعا ولا عقلا، كما يقر الشيخ نفسه بهذا، لما ذكر أن الخمار قد يكون يغطى به الوجه.
(3) لأنه لو أخذنا بقوله أن الخمار غطاء الوجه والرأس، لم نبطل قوله الآخر، لكن لو أخذنا بظاهر قوله أنه غطاء الرأس، ورجحنا أنه أراد الرأس فحسب. نكون أبطلنا قوله الأول. وإذا أمكن إعمال القولين، من غير مانع عقلي أو شرعي، فهو أولى من إبطال أحدهما، ولا مانع عقلي أو شرعي.
ومما يدل على أن العلماء لا يمانعون من دخول الوجه في معنى الخمار، ولو اقتصروا على ذكر الرأس: أنهم عرفوا النصيف، فقالوا: "والنصيف: الخمار" [لسان العرب14/166]، ومعروف أن النصيف غطاء الوجه، يدل على هذا:
- ما جاء في لسان العرب [14/166]: "قال أبو سعيد: النصيف ثوب تجلل به المرأة فوق ثيابها كلها، سمي نصيفا، لأنه نصف بين الناس وبينها، فحجز أبصارهم عنها". والأبصار لن تحجز إلا بغطاء كامل يدخل فيه الوجه.
- وما جاء في قصة المتجردة زوجة النعمان، فقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه (الأغاني 11/11) "أن النابغة الذبياني كان كبيرا عند النعمان، خاصا به، وكان من ندمائه وأهل أنسه؛ فرأى زوجته المتجردة يوما، وغشيها بالفجاءة، فسقط نصيفها، واستترت بيدها وذراعها، فكادت ذراعها أن تستر وجهها لعبالتها وغلظها".. قال [11/14]: "وقال في قصيدته هذه، يذكر ما نظر إليه من المتجردة، وسترها وجهها بذراعها:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *** فتناولته واتقتنا باليد".
إذن ذكر العلماء غطاء الرأس معنى للخمار، لا ينفي دخول الوجه تبعا، كما أن ذكرهم التصديق معنى للإيمان، لا يلزم منه نفيهم دخول العمل فيه.!، إذ قد يقصدون المعنى اللغوي فحسب، وقد يقصدون التصديق الشامل للقلب، واللسان، والجوارح (4)، فمن أراد نسبة أحد إلى الإرجاء، فعليه أن يأتي بكلا