متألم ياطالب الدنيا ..متألم !
إن كل من طلب الدنيا وسعى لها تعذب وتألم بها, فهم يتعذبون بالحرص على جمعها , وبالتعب الشديد في تحصيلها , ومقاساة أنواع المصاعب والآلام والمشاق في طريق جمعهم للمال والمتاع, فأنت تجد من حصَّلها ربما يحكي ذكرياته فيقول: "لطالما تألمنا وتعبنا وتعذبنا حتى جمعنا المال", ولكنك تراه يظل متألمًا حتى يفارقها !
فلا تجد أتعب ممن الدنيا أكبر همه وهو حريص بجهده وقوته على جمعها , فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة, ومن كانت الدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له)1
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن أبلغ العذاب - لطالب الدنيا - تشتيت الشمل وتفريق القلب وكون الفقر نصب عيني العبد لا يفارقه, ولولا سكرة عشاق الدنيا بحبها لاستغاثوا من هذا العذاب, على أن اكثرهم لا يزال يشكو ويصرخ منه, وفي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: ابن آدم, تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك, وإن لم تتفرغ لعبادتي ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك)
قال رحمه الله : وهذا أيضًا من أنواع العذاب, وهو اشتغال القلب والبدن بتحمل أنكاد الدنيا ومقاساة معاداة أهلها كما قال بعض السلف: "من أحب الدنيا فليوطن نفسه على تحمل المصائب", قال: ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث: هم لازم, وتعب دائم, وحسرة لا تنقضي؛ وذلك أن محبها لا ينال منها شيئًا إلا طمت نفسه إلى ما فوقه, كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واديًا من ذهب لتمنى أن يكون له واديان, ولا يملا عين ابن آدم إلا التراب, ويتوب الله على من تاب) .
وقد ضرب الله سبحانه مثل الحياة الدنيا فقال سبحانه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً}
ذاك مثل الحياة الدنيا, , ماء ينزل فيختلط بنبات الأرض ويتركه هشيمًا تذروه الرياح, آيات تلقي في النفس معنى الفناء وصورته ومثله ومعنى الزوال وقلة الدنيا وهوانها.
فالماء ينزل من السماء فلا يجري ولا يسيل ولكنه يختلط بنبات الأرض, والنبات لا ينمو ولا ينضج ولكنه يصبح هشيمًا تذروه الرياح وتذهب به, وما بين ثلاث جمل قصار ينتهي شريط الحياة, وبعد ذلك تقرر الآيات بميزان العقيدة قيم الحياة التي يتعبدها الناس في الأرض والقيم الباقية التي تستحق الاهتمام.
فالمال والبنون زينة الحياة, والإسلام لا ينهي عن المتاع بالزينة في حدود الطيبات, ولكنه يعطيهما القيمة التي تستحقها الزينة في ميزان الخلود ولا يزيد, إنهما زينة ولكنهما ليسا قيمة, فما يجوز أن يوزن بهما الناس, ولا يجوز أن يقدروا على أساسهما في الحياة, إنما القيمة الحقة للباقيات الصالحات من الأعمال والأقوال والعبادات.
وإذا كان أمل الناس عادة يتعلق بالأموال والبنين, فإن الباقيات الصالحات خير ثوابًا وخير أملاً عندما تتعلق بها القلوب, ويناط بها الرجاء ويرتقب المؤمنون نتاجها وثمارها يوم الجزاء.
أما حاجتنا من الدنيا فينبغي أن يتعلم الإنسان أن ما يحتاجه من الدنيا هو رعاية بدنه بالطعام الذي يكفيه حتى يمارس حياته وعباداته, وكساءً له يستر عورته ويحفظ وقاره ومروءته, ومسكنًا يأوي إليه ويرعى فيه أهله وولده, وأن ذلك إذا عود نفسه التقلل منه والتواضع فيه والقناعة به, اندفعت الهموم عنه وفرغ القلب وسهل عليه ذكر الآخرة واتجهت همته إلى الاستعداد لها.
وإذا تعدى الإنسان بالطعام والكساء والمسكن والمال قدر الحاجة المطلوبة كثرت الأشغال وكلما زادت زادت همومه وتشعبت غمومه في أودية الدنيا فتاه في إحداها وهلك.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (من جعل الهموم همًّا واحدًا همَّ المعاد, كفاه الله هم دنياه, ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك)
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: (يقول ابن آدم: مالي مالي, وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟)
وعن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمنًا في سربه معافى في جسده, عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)
ولقد كان العلماء يأمرون تلاميذهم بالتقلل في الملبس والمطعم والتواضع في السمت والمعيشة.
فعن الثوري عن أبي قيس عن هذيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال: من أراد الآخرة أضر بالدنيا, ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة, يا قوم فأضروا بالفاني للباقي
وعن الأوزاعي عن بلال بن سعد أن أبا الدرداء قال: "أعوذ بالله من تفرقة القلب, قيل: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يجعل لي في كل واد مال"
وكان الحسن يعظ أصحابه يقول: والله لقد صحبنا أقوامًا كانوا يقولون: ليس لنا في الدنيا حاجة, ليس لها خلقنا, فطلبوا الجنة بغدوهم ورواحهم, نعم والله حتى أهراقوا فيها دماءهم فأفلحوا ونجوا, هنيئًا لهم, لا يطوي أحدهم ثوبًا ولا يفترشه, ولا تلقاه إلا صائمًا ذليلاً متبائسًا خائفًا, إذا دخل إلى أهله إن قرب إليه شيء أكله وإلا سكت, لا يسألهم عن شيء ما هذا وما هذا؟
وكان الثوري يعلم تلاميذه ذلك, فعن يحيى بن اليمان قال: سمعت سفيان الثوري يقول: العالم طبيب الدين, والدرهم داء الدين, فإذا جذب الطبيب الداء إلى نفسه فمتى يداوي غيره؟
وعن علي بن المديني قال: دخلت منزل أحمد بن حنبل فما في بيته إلا بما وصف به بيت سويد بن غفلة رضي الله عنه من زهده وتواضعه.
وكان بعض أهل العلم يغضب إذا عرف من تلاميذه كثرة أثوابهم أو بحثهم عن طعام خاص مميز أو أثاث فاخر, ومن الدعاة من كان لا يبقي في بيته إلا ثوبين: ثوبًا يلبسه وثوبًا يغسله, فإن اشترى ثوبًا جديدًا تصدق بثوب من ثوبيه القديمين, فانظر كم في بيوتنا من أثواب؟ وكم من الفقراء في حاجة إلى أثواب؟
ومن الصالحين من جعل سعيه وجهده في عمله ورزقه وكسبه وقفا كله لله سبحانه فكان غناه لدينه وماله لدينه فصارت دنياه صالحة إذ جعلها لربه وصارت آخرته صالحة إذ تزود فيها من دنياه , فأمثال هؤلاء لم يرتموا في أحضان الدنيا ولم يسعوا لها رغبة فيها ولكنهم جعلوا أموالهم زادا لآخرتهم كما جعل الأغنياء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ..
ــــــــــــــــــــــــــ