مقدمة
دعوتنا سفينة محكومة أثناء سيرها بالموج المضطرب والرياح العواصف المتمثلة في الابتلاءات والفتن والشبهات المثارة والشهوات المعروضة، ومحكومة من ناحية أخرى بإدارة الربان وما تُتخذ من قرارات من قبل قادتها الأفاضل، وعليه فهي تتأثر بكل حركة تقع فيها وحولها، فتهتز مرة ذات اليمين وتهتز مرة ذات الشمال، وقد تستقيم على الجادة أحيانًا أو تغيب مؤقتًا أحيانًا أخرى، ولن يكتب لها السلامة والاستواء فوق الموج المضطرب حتى يكون كل شخص فيها على حذر مما يفعل، ويقظة لما يريد، وأن نعلم جميعًا أن لنا أعداء خارج سفينتنا يتربصون بنا الدوائر، ويسعون جادين لتخريبها وإفسادها، وأسهل وسيلة لتحقيق هدفهم أن يجدوا من أصحاب السفينة وربانها من يساعدهم في ذلك ، وهذا ما ظهر جلياً في الأزمة التي افتعلها الإعلام بين فضيلة المرشد العام ومكتب الإرشاد مؤخراً، فكانت هذه الكلمات .
ربانو السفينة
أساتذة الدعوة وقادتنا ومشاعل الهداية في جماعتنا ، لقد تربينا على أيديكم ، وهدانا الله إلى الخير بفضل لمساتكم التربوية واحتضانكم لنا وحسن تربيتكم ، وسارت الجماعة عبر تاريخها الطويل وثبتت رغم المحن والابتلاءات والشبهات والشهوات بفضل الله أولا ثم بقيادتكم الرشيدة لها ، وبصبركم وثباتكم على هذا الطريق ، وإن هذا الطريق بحاجة دائمة إلى حكمة تملى وعقل يفكر ، وأذن تصغي وقلب يبصر، وعالم يدعو وواع يذكر، فاقبلوا منا هذه الكلمات.
تعلمنا منكم
· تعلمنا منكم أنَّ كل حركةٍ يأتيها الأخ تتأثر بها سفينة دعوته سلبًا أم إيجابًا، فتهتز وتترنح أو تثبت وتقوى، لو تذكَّر كل أخ ذلك لما ترك نفسه تغوص فيما قد يغرق سفينة الدعوة، ولو عايش دعوته لانتبه لنواقض العمل الجماعي "شح مطاع، هوى متبع، دنيا مؤثرة، إعجاب كل ذي رأي برأيه" وتخلص منها، ولعمل حسابًا لكل خطوةٍ يخطوها وكل حركةٍ يتحركها؛ حرصًا على نجاته هو ونجاة كل مَن معه على الطريق ونجاة سفينة دعوته.
· تعلمنا منكم أن العواطف الهائجة تتعب صاحبها أيما تعب، وتضنيه وتؤلمه وتؤرقه ، وتعلمنا أن نجنب العواطف جانبا، وأن نجعل العقل متحكما، فالعواطف تتأجج وتعصف المشاعر عند سببين(الفرحة الغامرة والمصيبة الداهمة) ، وفي الحديث: (إني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة، وصوت عند مصيبة) ويقول تعالى: ﴿لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم﴾ ويقول صلى الله عليه وسلم: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى" وعلمتنا الدعوة أن من ملك مشاعره عند الحدث الجاثم وعند الفرح الغامر، استحق مرتبة الثبات ومنزلة الرسوخ، ونال سعادة الراحة، ولذة الانتصار على النفس ولذلك قال الحبيب " وأسألك العدل في الغضب والرضا".
· تعلمنا منكم أن العاطفة حصان جامح متهور قد يُدمِّر الإنسان، ولا بد لهذا الحصان من لجامٍ قوي وفارس متمكن حتى يقدر على الاستفادة من هذه الطاقه الهائلة في حصانه ، وأنه لا مجال للقيادة بالعاطفة وفقط ، قالها المؤسس رحمه الله " أيها الإخوان المسلمين ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول ، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع،واكتشفوا الواقع في أضواء الخيال الزاهية البراقة،ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمُعلقة.ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على ببعض وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد "
· تعلمنا منكم أن العواطف طبيعة وفطرة بشرية، وأنها في الوقت نفسه عامل مؤثر في واقع الحياة الإنسانية سلبًا وإيجابًا، ولكن المسلم لا يقرر إيقاع أفعاله أو الحكم بصوابها وخطئها من منطلق العاطفة، ولا بمقياس ردود الأفعال، بل هو ملتزم بضوابط الشرع وأحكام الدين، وكل أقواله وأفعاله ينبغي أن تنضبط بأمرين أساسيين )الحكم الشرعي المستفاد من النصوص والمقاصد والقواعد الشرعية - مراعاة المصالح والمفاسد عند تنـزيل الأحكام الشرعية على الأحوال والحوادث الآنية والواقعية( وأن كلا الأمرين لا يلغي العاطفة، بل يضبطها، ولا يمنعها بل يوجهها.
· تعلمنا منكم ضرورة الالتزام بعدم الإسراع والاندفاع بدون حكمة وانضباط، فربما يكون ذلك استفزازًا من الأعداء، واستدراجًا من المتربصين"فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُون" وهكذا هي أخلاقياتنا على الطريق، حماسة وحمية، لكن تضبطها مرجعية منهجية، وتعلمنا منكم أن نتجاوز الشكليات ، وربما يكون هناك ما يستفز ويزعج من تسلط الأعداء أو تفلت الأولياء، ولا بد من تأثر لذلك وتغير، ولا بد من صد ومنع، ولا بد من عمل وإصلاح، وذلك مطلب فيه تصديق للإيمان، وإظهار لآثاره، ولكن مراعاة المصالح والمفاسد، واعتبار المآلات والمقاصد، وقبل ذلك التزام التشريعات والأحكام يضبط العاطفة ولا يمنعها، ويحقق الفائدة ولا يضيعها، وكثيرًا ما تكون العاطفة دافعة إلى مراعاة الأمور الصغيرة والوقوف عندها على حساب ما هو أكبر منها، وهذا ما فعله الحبيب صلى الله عليبه وسلم يوم الحديبية حينما تجاوز الشكليات ومسح اسمه من الوثيقة من أجل الهدف الأسمى والأعلى
· وتعلمنا منكم أن اجتماعنا من أجل تحقيق غاية واحدة "الله غايتنا"، ومن أجل تحقيق هدف واحد "الخلافة الإسلامية وأستاذية العالم"، وكلما كانت الغاية واضحةً وخالصةً من كلِّ شائبة، وكلما كانت أهدافنا واضحةً ومحددةً، كان مدار النجاح والفلاح في طريقنا ومنهجنا، وتعلمنا منكم أن دوافعنا للعمل والحركة هي التعاون على البر والتقوى، لا الأهواء أو الاستجابة لوساوس الشيطان أو الحرص على الزعامات، وأن الارتباط في سفينة الدعوة بالمبادئ لا بالأشخاص، فلا تمحور في دعوتنا حول أشخاصٍ مهما كانوا.
· وتعلمنا منكم أن ركوبنا سفينة الدعوة يستوجب منا الالتزام بشروط وعهود والتزامات السفينة التي لا بد منها لضمان سيرها وتضافر الجهود في الاتجاه الصحيح، وقد حدد لنا إمامنا الشهيد الأركان الأساسية التي يجب أن يلتزم بها كل مَن سلك سبيل الدعوة وركب سفينتها ، وتعلمنا منكم أن الشورى ركيزة العمل التي تستقيم بها سفينة الدعوة ومَن عليها، ولا تنازل عنها أبدًا، وأن مجريات الأمور كلها في هذه السفينة تسير وفق المبدأ القرآني "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ"
· وتعلمنا منكم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة، هو القاعدة العظيمة التي تحفظ لسفينة الدعوة ضرورات حياتها ومكملاتها، وتحفظ ثباتها على المبادئ، وتمنع انحرافها عن الجادة ، قال صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة، قلنا لمن يارسول الله؟ قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم" .
· وتعلمنا منكم أن سفينة الدعوة محفوظة بحفظ الله لها، ومن هذا الحفظ يقيض الله لها مَن يقودها إلى بر الأمان، وهي قيادة تتمتع بالريادة لا القداسة، فلا نرى في دعوتنا أن القيادة ومَن تولوا أمرنا أشخاصٌ لهم قداسة أو لهم عصمة من الوقوع في الخطأ، أو أنهم فوق مستوى المساءلة أو المحاسبة أو تقديم النصح، ولا يوجد في دعوتنا حملة المباخر ممن يضفون مسحةً من القداسة على قياداتهم، ولا يوجد من رجالات دعوتنا وقادتنا من يستطيع احتكار الصواب، فقد قالها المؤسس رحمه الله: "وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم"،
· تعلمنا منكم أن ما يربطنا أسمى رابطة قدسية مهما اختلفنا ، وأن اختلافنا خلاف عقول لا قلوب، مع إحسان الظن والتواضع مع المخالِف والحوار بطرق راقية وأدبٍ جمّ وذوق، ومحاولة عرض وجهة النظر بأسلوب يرضاه الله تعالى ، وهذا ما قاله يونس الصدفي : ما رأيتُ أعقلَ من الشافعي، ناظرتُه يوماً في مسألة، ثم افترقنا ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: "يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في المسألة"
· وتعلمنا منكم الاعتراف بالخطأ إن رأينا الصواب فيما يقول أخونا، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين أقرّ بخطئه ولم يستحِ فإن الله جل وعلا لا يستحي من الحق، فقال عمر "أصابت امرأةٌ وأخطأَ عمر "..
· وتعلمنا منكم التودّد مع من اختلفنا معه حتى لو بقي كلّ منا على موقفه،وهذا علي رضي الله عنه يقول لطلحة بن عبيد الله بعد موته، وكان بينه وبين طلحة خلاف يوم الجمل: "إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك في الذين قال الله عز وجل فيهم "وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ "
· تعلمنا منكم مراعاة الموضوعية، فلا نرفض الحق لأنه جاء على لسان فلان ، يقول الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه " لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله"، وقال بعض الصحابة "اقبل الحق ممن قاله وإن كان بغيضًا، ورُدّ الباطل على من قاله وإن كان حبيبًا ".
· وتعلمنا منكم محاولة التركيز على نقاط الالتقاء أكثر من مواضع الاختلاف، والتودّد مع المخالِف ، يقول الشاعر الإسلامي محمد التهامي "والحب يشفى المعضلات يحلُّها * حلاًّ، به كل النفوس تطيب"،ويا له من حبّ راقٍ ذلك الذي يجمعنا على غير أنساب بيننا،وينتهي في ظلٍّ ظليل عند مليكٍ مقتدر.
· وتعلمنا منكم أن الاحتكام إلى مرجعٍ مُرجِّح، والاستنجاد بمنْ يفهم موازين الشرع وفقه الواقع وبواطن الأمور، فريضة شرعية وضرورة بشرية تسير بها أمور الدعوة وتقضي بها مصالح الناس، ولله در القائل واصفًا نجاح قومه، فقال "نحنُ ألفٌ، وفينا واحدٌ حازم، ونحنُ نشاورهُ ونطيعهُ، فصرنا ألفَ حازم" تلك هي قيادة الدعوة، سمو في قناعة، وإقدام في وعي، واقتحام في ريث، كأنها تملك ما هنالك وبيدهاِ زمام الأمور كلها.
· وتعلمنا منكم أن سفينةَ الدعوة لا يمكن أن تُوحِّد قلوب أصحابها عواطف وأقوال هامشية، بقدر ما تتوحد على قلبِ رجلٍ واحد، تسمع له وتطيع، فيتحقق وصف الحبيب "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم"، وهذا لا يمنع من أن نتحلى مع قيادتنا بما صرَّح به الإمام أحمد "لا نزالُ بخيرٍ ما كان في الناس مَن يُنكر علينا".
· وتعلمنا منكم إن كان لقيادتنا علينا حق السمع والطاعة، فإنَّ لنا عليهم حق النصح والوعظ والإرشاد وحق المشورة، ولكن بآدابِ النصيحة التي تربينا عليها، وتعلمنا منكم أن النصيحة ومراجعة القيادة مما يقوي الجماعة ولا يضعفها، ويمدها بطاقاتٍ من الحيوية والتجدد تزيد في فعاليتها, وينفي عنها الخبث والعجز وكل ما يمثل عبئًا وثقلاً وقيدًا عن التطور والعطاء،
هكذا علمتنا الدعوة
علمتنا الدعوة أنَّ القيادةَ التي تخاف من النقد أو النصيحة غير جديرة بالبقاء أصلاً، وعلمتنا الدعوة بأن نؤدي النصيحة على أكمل وجه وأن نقبلها على أي وجه، وعلمتنا الدعوة أن مَن وعظ أخاه سرًّا فقد نصحه وزانه، ومن وعظ أخاه علانيةً فقد فضحه وشانه، كما قال الشافعي- رحمه الله-، وعلمتنا الدعوة أن تكون النصيحةَ في المجالس المغلقة حتى لا تُسوق وتتحول إلى فتنةٍ قاتلة، والنصيحة الخاطئة لا يصح معها ادعاء الإصلاح ولا تبررها النية الحسنة، ولله در القائل: "إذا طلبت الأجمل فاستر ولا تُخبر وتخلَّق بخلقِ الكرام"، وعلمتنا الدعوة أن ذكر مساوئ الرجل على الملأ عونًا على دمه، كما قال أبو معبد رحمه الله، وعلمتنا الدعوة أن الطعن في أصحاب الفضل والسبق من أكبر أبواب الفتنة، وعلمتنا الدعوة أن من شروط النصيحة أن يُقصد بالنصيحة وجه الله تعالى، وأن تكون برفق ولين، وأن لا يُقصد بها التشهير، وأن تكون سرًّا، وأن يختار لها الوقت المناسب، وألا تكون على سبيل الإلزام.
وعلمتنا الدعوة أننا تحكمنا قيم أصيلة في دعوتنا، مثل الحب في الله، وحسن الظن، والشورى، وتوقير الكبير، والرحمة بالصغير، ومعرفة حق القائد والعالم والسابق، وتقدير اللاحق، وحفظ سلامة الصدور، وأن نجتمع على الصواب خير من أن نتفرق على الأصوب، والدفع بالتي هي أحسن، وغيرها، وعلمتنا الدعوة حرية إبداء الرأي، والإدلاء بالدلو، والاستفهام في كثير من المواقف، والاعتراض والرفض في بعضها في سياج من الأدب وحسن الخلق، دون تسفيه أو تعدٍّ، وبذل الجهد في إقناع القيادة برأينا، وحشد الدلائل على ذلك، وهذا بالطبع يحتاج إلى جهدٍ جهيد، وصبر جميل، واستحضار للنيات الصالحة، والتخلص من حظ النفس، والاستعانة بالدعاء، واحتساب الأجر عند الله عز وجل، وعدم نسيان القواعد المرعية والآداب الشرعية التي تحكم كل ذلك، وعلمتنا الدعوة أته لا مجالَ بيننا للصائد في الماء العكر، يقول ابن عباس- رضي الله عنه-: "لا تكَلَّمن فيما لا يعنيك حتى تجد له موضعًا، ولا تُمار سفيهًا ولا حليمًا فإنَّ الحليمَ يغلبك، والسفيه يزدريك"، ويقول الإمام ابن تيمية: "فإن الأمرَ والنهي وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة، ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأمورًا به، بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد، هو بميزان الشريعة"