فالمعاصي تزيل النعم حتى عن أهل الصلاح
فها هو آدم صلى الله عليه وسلم وزوجه حواء عليها السلام:
كانا في نعيم وكانا في الجنان كما قال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118-119].
وكما قال سبحانه: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 19].
فماذا كان من آدم عليه السلام وزوجه بعد هذا النعيم وبعد هذا الستر الجميل؟!!
{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121].
فماذا كان؟!... أُخرج عليه السلام من الجنة هو وزوجه، نُزع عنهما لباسهما!!
كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف: 27].
وفي الآية الأخرى: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه: 121].
فانظر إلى أثر المعاصي والذنوب، انظر إلى أثر المعصية والعياذ بالله وكيف تبدل الستر عُريًا؟!! وأصبح المستور عريانًا؟!
وها هو يونس صلى الله عليه وسلم:
ذهب مغاضبًا فكان بطن الحوت له سجنًا، وأي سجن؟!! إنه سجن في قاعِ البحار!!!
{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143-144].
فعمومًا، فإن المعاصي والذنوب سبب لزوالِ النعم وحلول النقم وتحوُّل العافية، وجميع السخط، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].
ضعف الإنسان وخطؤه وحتمية وقوعه في الذنوب:
خُلِقَ الإنسان ضعيفا، كما قال سبحانه: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء: 28].
وكذلك خُلِقَ عجولاً، كما قال سبحانه: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} [الإسراء: 11].
وكذلك فأنه خُلق خلقًا لا يتمالك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه. فجعل إبليس يطيف به، ينظر ما هو؟ فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك» [رواه مسلم].
وجُبِل الإنسان على الخطأ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم» [رواه مسلم].
وقدَّرت على ابن آدم الذنوب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، يصدق ذلك الفرج ويكذبه» [رواه البخاري في صحيح الجامع].
وعصى آدم صلى الله عليه وسلم فعصت ذريته، وجحد فجحدت ذريته:
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ففي سنن الترمذي بإسناد صحيح لشواهده من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله آدم، مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب! من هؤلاء؟، قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب! من هذا؟، فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك - يقال له: داود - فقال: رب! كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: أي رب! زده من عمري أربعين سنة، فلما قضي عمر آدم، جاءه ملك الموت، فقال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟!، قال: فجحد آدم، فجحدت ذريته، ونسي آدم، فنسيت ذريته، وخطئ آدم، فخطئت ذريته».
فلم ينج من الذنوب أحدٌ حتى أهل الصلاح:
قال الله -سبحانه وتعالى-: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} [النحل: 61].
وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33-35].
ففيه دليل على أنهم عملوا أعمالاً فيها سوٌء لكن غفرها الله لهم.
فتح باب التوبة للعباد:
فلهذا الذي ذُكر؛
لأن الإنسان خلق ضعيفاً!!
وخلق أيضاً عجولاً!!
وخُلق خَلقًا لا يتمالك!!
لأنه قد قدرت عليه الذنوب وجُبِل على المعاصي.
ولهذا وقبله: رحمةُ الله بعباده، فقد فتح الله أمامهم باب التوبة آناء الليل وأطراف النهار، وجعل للتوبة باباً مفتوحًا لا يُغلق حتى تطلع الشمس من مغربها.
وحث الله -سبحانه وتعالى- العباد على التوبة، وحرضهم عليها ورغَّبهم فيها، بل وأمرهم بها.
قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [الزمر: 53-54].
وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
وقال سبحانه: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6].
وقال سبحانه: {وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 199].
وينادي الله -سبحانه وتعالى- عباده كما في الحديث القدسي:
«يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته. فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته. فاستكسوني أكسكم. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا. فاستغفروني أغفر لكم» [رواه مسلم].
وقال تعالى: {أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10].
ولما قال الشيطان: بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال:
«فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني» [أخرجه الألباني في السلسلة الصحيحية].
وينادي الله -عز وجل- عباده في الثلث الأخير من الليل: «من يستغفرني فأغفر له» [رواه البخاري].
وحث الله عباده على التوبة النصوح:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8].
وحثهم على المسارعة إلى التوبة والرجوع إليه:
فقال سبحانه: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
وبيَّن الله -سبحانه وتعالى- أنه يريد التوبة على عباده: فقال سبحانه: {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27].
وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104].
وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25].