الصَّمت
"بيتٌ حصين"، يمنع قاطنَه من رياح التُّهم العاتية، ويُؤويه من سُيول الظُّنون الجارفة، ويظلُّه من شعاع السُّخرية المحرق، ويحضنه دفئًا من برد التَّصنيف القارص.
وللصَّمت ثلاث فوائدَ عظيمة:
أوَّلها: الاستِفادة من حديث المجالس.
وثانيها: البُعْد عن أغْلاط اللِّسان الوخيمة.
وثالثها: حِفْظ الهَيْبة والمكانة للنَّفس الصَّامتة في أنفُس الآخرين.
فالصَّامت بصَمْتِه عند النَّاس كصُندوق مُحكم الإغْلاق، لا يُمكن التعرُّف على ما بداخله حتَّى يفتح فيه نافذة تُخبِر عن خبره، وتصف ما يحويه باطنُه، فإن كان نافعًا انتفعوا به، وإن كان ضارًّا هربوا وابتعدوا عنْه، لكنَّ المقفل يكون من عنده في حذَرٍ وهَيبة منه؛ لأنَّها لا تنفكُّ عنه كلُّ الاحتِمالات، سيِّئها والحسن، فالنَّاس تتعامَل معه بحذرٍ؛ خوفًا من أن يُصِيبَهم منه مكروه، كذلك الصَّامت، فالنَّاس تُجلُّه وتَهابه؛ لأنَّهم لم يتوصَّلوا لباب يعرِّفهم على ما بقلبه، وما يَحبِسه صدره.
فمن أعظمِ الأبواب التي تطل بالنَّاظر على قلب المتحدِّث لتنبئَ عمَّا فيه: اللسان، فإذا صَمَتَ صاحبُه احتار مُجالِسُه؛ لأنَّ النَّاس فُطِرَت على التَّلاؤم مع نفوس الآخِرين، بقدر ما يتوصَّلون إليْه من معلومات عنْهم.
وفي اللسان نبأٌ عن مكنون صاحبِه، كما أنَّ في الهيْئة الظَّاهرة والأعْمال التي يقوم بها كذلِك دلالات؛ لكنَّها ليست كاللِّسان، فالمظاهر العمليَّة والشخصيَّة بمثابة النَّوافذ الصَّغيرة للدَّار، واللِّسان بمنزلة الباب الكبير له؛ ولذلِك فإنَّ المنافقين - وهُم أحْرَص الخَلْقِ على كتْم عيوبِهم وإخْفاء سرائرهم - تفضَحُهم ألسنتُهم
فقد أخبر اللهُ نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ذلك فقال:
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30].
وفي الكلام مضارُّ كثيرةٌ جدًّا:
فهو مسبِّب للزَّلل، ومُجرِّئ للنَّاس، ومبيِّن لمعائب النَّفس، وكثرة الكلام مذمَّة بحدِّ ذاتِها ما لم تكن في خير، وليس فيه إلاَّ فائدةٌ واحدة مقرونةٌ بالخير الأُخْروي، من نصْح وتعليمٍ للنَّاس وتذْكير؛ ولذلك فإنَّ الإسلام زهَّد في كلِّ استِخْدام لِلسان في غير طريق الخير؛ قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((مَن كان يؤمِن بالله واليوْم الآخِر فلْيقُل خيرًا أو ليصْمُت)).