اسلام ويب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

من فقه الدعاء يقول سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنا لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة معه". وهذا فهم عميق أصيل ، فليس كل دعاء مجابًا، فمن الناس من يدعو على الآخرين طالبًا إنزال الأذى بهم ؛ لأنهم ينافسونه في تجارة ، أو لأن رزقهم أوسع منه ، وكل دعاء من هذا القبيل ، مردود على صاحبه لأنه باطل وعدوان على الآخرين. والدعاء مخ العبادة ، وقمة الإيمان ، وسرّ المناجاة بين العبد وربه ، والدعاء سهم من سهام الله ، ودعاء السحر سهام القدر، فإذا انطلق من قلوب ناظرة إلى ربها ، راغبة فيما عنده ، لم يكن لها دون عرش الله مكان. جلس عمر بن الخطاب يومًا على كومة من الرمل ، بعد أن أجهده السعي والطواف على الرعية ، والنظر في مصالح المسلمين ، ثم اتجه إلى الله وقال: "اللهم قد كبرت سني ، ووهنت قوتي ، وفشت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون ، واكتب لي الشهادة في سبيلك ، والموت في بلد رسولك". انظر إلى هذا الدعاء ، أي طلب من الدنيا طلبه عمر، وأي شهوة من شهوات الدنيا في هذا الدعاء ، إنها الهمم العالية ، والنفوس الكبيرة ، لا تتعلق أبدًا بشيء من عرض هذه الحياة ، وصعد هذا الدعاء من قلب رجل يسوس الشرق والغرب ، ويخطب وده الجميع ، حتى قال فيه القائل: يا من رأى عمرًا تكسوه بردته ** والزيت أدم له والكوخ مأواه يهتز كسرى على كرسيه فرقًا ** من بأسه وملوك الروم تخشاه ماذا يرجو عمر من الله في دعائه ؟ إنه يشكو إليه ضعف قوته ، وثقل الواجبات والأعباء ، ويدعو ربه أن يحفظه من الفتن ، والتقصير في حق الأمة ، ثم يتطلع إلى منزلة الشهادة في سبيله ، والموت في بلد رسوله ، فما أجمل هذه الغاية ، وما أعظم هذه العاطفة التي تمتلئ حبًا وحنينًا إلى رسول الله - صل الله عليهلم -: (أن يكون مثواه بجواره). يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا ، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة ، مرّ بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظامًا ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا ، فائت نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر). وروى الترمذي بسنده عن النبي - صل الله عليهلم -: أنه قال: ((من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرَّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له)). وأخيرًا .. أرأيت كيف أُلهم عمر الدعاء وكانت الإجابة معه ، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)" (البقرة:186).


 

 علاقة الإنسان بالإنسان...

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة


avatar


نقــاط : 99980
علاقة الإنسان بالإنسان... Oooo14
علاقة الإنسان بالإنسان... User_o10

علاقة الإنسان بالإنسان... Empty
مُساهمةموضوع: علاقة الإنسان بالإنسان...   علاقة الإنسان بالإنسان... Emptyالثلاثاء 3 يناير 2012 - 21:24

{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 19 - 25].

علاقة الإنسان بالإنسان:
بعد استعراض العلاقات الإنسانيَّة أولاً مع الغيب، ثم مع المخلوقات المحيطة به من كلِّ اتجاه فيما تقدَّم من أبواب، وعلى ضوء ما وصلنا إليه من نتائج توضِّح كيف أنه لا يوجد في الدنيا كلِّها شيءٌ خلقه الله لهوًا ولعبًا، وكيف أن الإنسان بقدراته وإمكانياته لم يُخلق عبثًا، كما أكَّد ذلك رب العالمين - نتعرض لأعقد علاقة للإنسان وأكثرها تداولاً وجدلاً؛ لأن علاقة الإنسان بأصوله (الوالدين وإن علوا)، أو بفروعه (الأبناء وإن نزلوا)، أو بذوي أرحامه (الأقارب من الوالدين)، أو حتى بالأباعد، كلُّها علاقات متشابكة متماسكة متسلسلة كحبات المسبحة، إذا انفرط طرف العقد، تساقطت كلُّها واحدة بعد الأخرى.

والمثل الأعلى في علاقة الإنسان ضَرَبَه المجتمع المؤمن، الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى))، فالإنسان هو نقطة الارتكاز في دائرة المجتمع، وهو - أيضًا - المحيط والقطر والمساحة.

وحينما نوجِّه الكلام للإنسان المفرد في أيِّ موقع كان، وفي كلِّ مراحل عمره، يكون الكلام قد انسحب إلى كلِّ المجتمع في آنٍ واحدٍ، وربما يختلف أسلوب الكلام من ظرفٍ لآخر، أو من شخص لآخر حسب الموقف، مع أن المضمون واحدٌ؛ حيث لكلِّ مقامٍ مقالٌ، كما قال أحد الحكماء: "أيها الشيوخ، أكثروا من الحسنات؛ فإن سيئاتكم كثيرة، ويا معشر الشباب، أقِلُّوا من الذنوب؛ فإن حسناتكم قليلة".

ومما لا شكَّ فيه أن التعرُّض لمسألة العلاقات الإنسانية عمومًا، ومع أخيه الإنسان خصوصًا، يجب أن تكون بالحِكْمة والموعظة الحسنة؛ لأن المنافس الذي يدْعو إلى الاتجاه المعاكس، ويريد أن يوقِع بيننا العداوة والبغضاء أبدًا، مع أنه يدعو إلى الضلال، إلاَّ أنَّ أسلوبه معسولٌ مذهب، وطريقة الاستدراج عنده مُحْكَمة إلى حدٍّ بعيد، وأحْرَى بنا أن نكون ألين، والدعوة عمومًا لا تُثْمر إلا في إطارها الخصب: فكر صحيح، بتواضع متكامل، وأسلوب هادئ، كلُّ هذا مشفوعًا بصبرٍ جميل، ولا ننس أبدًا أن أقوى سُبُل الإقناع هو الإيحاء، كما أن قوةَ الشيطان تكمن في الوسوسة، وكلاهما صوت حقيقي (الإيحاء - الوسوسة)، وعلى العكس نجد أن أعلى الأصوات أنكرها، قال - تعالى - في وصايا لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].

ويجب أن نقف على أرضيَّة فكريَّة صلبة؛ لمداولة هذه العلاقة الشائكة المعقَّدة، مع الوضع في الاعتبار ما ورد عن السلف الصالح أنهم قالوا: "مَن ألَّف كتابًا استُهدف"، ونحن في غنًى عن فتح أبواب العداء على أنفسنا مع أيِّ طَرَفٍ كان، ولكن الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبع.

ولبناء الكلام وتشييده؛ نرسي أولاً القواعد التي نرتكز عليها على أساس التوجيه الإلهي، نذكر منها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر:
1- يقول - تعالى -: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38].
2- يقول - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
3- يقول - تعالى -: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].

ولترتيب الكلام ترتيبًا منطقيًّا؛ نرتِّب الأولويات كما قال - تعالى -: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34، 35].

ولابدَّ أن يكون الابتداء بعلاقة الإنسان بوالديه؛ لأنها الأساس والركيزة، وهي أولى المعاملات، وأصل العلاقات، ومَن ساءت علاقته بوالديه فلا خير يُرجى منه في باقي العلاقات، ومَن عقَّ والديه، فمن باب أولى أن يعق المجتمع، ويعيث في الأرض بالفساد والقطيعة، وعندئذٍ نفتقد الخضر - عليه السلام - ونذكر له تدخُّله في قصة الغلام الذي كان أبواه صالحين، وتفاصيل القصة في سورة الكهف.

ثم بعد الوالدين بصفتهما أصل النشأة، نأتي إلى الفروع، وهم الأبناء، ثم الأرحام والأقارب عمومًا، ثم تتوالى تِباعًا بقيَّة السطور عن العلاقات مع الإنسان، والأزواج، والجيران، والأباعد، حسب ما تمَّ تأصيله في الأصول والفروع.

ولتنسيق الكلام وتوثيقه؛ نذكر أن هذه العلاقات يجب أن تكون متوازنة دون إفراط أو تفريط، كما قال سُقْراط عندما سأله تلاميذه عن سبب المشاكل التي بين الناس، قال: "القرب الشديد أو البُعد الشديد، قيل: وما الحلُّ؟ قال: الاعتدال في ملامسة الناس"، وجاء: "أحبب حبيبك هونًا ما؛ ربما يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما"، وصدق الله العظيم إذ وضَّح ذلك من قبل ومن بعد، بقوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].

هذه الوسطيَّة التي تحتِّم علينا الاحتفاظ بصلةٍ ما مع الجميع بصرف النظر عن معتقداتهم، وإن كانت المعتقدات أحيانًا في بعض المسائل تحدِّد مدى القرب المناسب من الغير، سواء كان هذا القرب على هيئة موالاة، أو مودة، أو رفقة وصحبة، أو تلاقٍ موقوت، وربما تعادٍ.

فقد تدفعك الظروف إلى موقف مُعاداة مع شخصٍ ما، أو فكرٍ ما، وفي هذه الحالة يجب عليك أن ترتِّب أوراقك على أساس قوله - تعالى -: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34]، وكما ورد "أبغِض بغيضك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما"، ونُسب هذا الكلام إلى سيدنا علي بن أبي طالب موقوفًا.

ومن الملاحَظ أن كلَّ القوانين التي وضعها البشر تتناوَل تنظيم العلاقات بين الناس في إطار محدودٍ، بحيث تنسق تبادل المنافع مع تحجيم العداوات والخلافات، وتوزيع الحقوق والواجبات في الأمور المتعلِّقة بالمصالح المتبادلة، وتمنع بالتالي تصادم الاتجاهات.

أمَّا كيف تكون المودَّة والتآلف والتراحم بين الناس، فهي أمور لم يتطرَّق إليها القانونيون من قريب أو بعيد، وكأنما تركوا هذه المسائل للوازع الديني أو الضمير الإنساني كما يقولون، مع أن الميول الدينية تختلف من شخصٍ لآخر، كما أن الضمير الإنساني يتشكَّل حسب ظروف كلِّ فئةٍ من البشر، بما يتماشى مع ثقافاتهم ومصالحهم وعاداتهم وأخلاقهم، فما يأباه الضمير في المجتمعات الشرقية، يقبله الضمير في المجتمعات الغربية، والعكس صحيح أحيانًا، والأقليات المسلمة المضطهَدة في الغرب خير دليل على ذلك، وحتى في القليل من القوانين التي حاولت تنظيم شكلٍ من أشكال العلاقات، فشِل القانونيون في وضع الأمور في نصابها، ولعبت الأهواء دورًا بارزًا في تلك النظم.

وتصدَّت الشرائع السماوية لهذه المسائل، إلا أنها اعتراها التبديلُ والتحريف بما يحقق مصالح فئات معيَّنة من القائمين عليها، وانفردت الشريعة الإسلامية بوضع تنظيم دقيق مُحْكم وعادل لكلِّ ما يتعلق بالصلات بين الناس في كلِّ حالات ومناحي الحياة، بما يحفظ للحياة رونقَها وجمالها، وللأحياء أمنَهم وكرامتهم، وما كانت المستجدات التي نراها في الساحة البشرية عمومًا، وفي الأوساط الإسلامية خصوصًا، إلا عندما تخلَّى الناس - جلُّهم - عن الفطرة القويمة {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].

لأن الشريعة الإسلامية لم تُغفل صغيرةً ولا كبيرةً في العلاقات مع الغير، حتى وإن كان هذا الغير من الذين لم يبلغوا الحُلُم، فكيف بعد أن يبلغ الأطفال الحُلُم، وكيف إذا شبُّوا وترعرعوا، وفي ذلك كانت الوصية العربية التي تقول: "لاعب ولدك سبعًا (أي: سبع سنوات)، وأدِّبه سبعًا، وصاحبه سبعًا، ثم اترك له الحبل على الغارب"[1] ، أما إذا اختلَّت المسألة من بدايتها، فإن النتيجة خاسرة، ولا يستقيم الظلُّ والعود أعوج.

أولاً: بين الأصول والفروع (الآباء والأبناء):

بناءً على ما تقدَّم، وإذا جاز لنا أن نساهم في تنظيم علاقات الإنسان بمن حوله من البشر، فأول ما نتعرَّض له هو التنظيم الإلهي لعلاقة الإنسان بوالديه، حيث إن نسبة هذه العلاقة في المعاملات كالصلاة في العبادات؛ لأن في العلاقة بالوالدين أمر الله - سبحانه - أن تكون إحسانًا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].

وقد بيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الإحسان في العبادات: ((أن تعبدَ الله كأنك تراه))، وأنقى صورة لهذه العبادة تكون في الصلاة.

وكما أنَّ الصلاة هي عماد الدين، فإن العلاقة بالوالدين هي عماد الخُلُق الفاضل، وهي الأساس الذي ترتكز عليه كلُّ العلاقات الإنسانية مع الخَلْق، وبالتالي فهي البوابة الرئيسة التي تدخل منها إلى بقية المداخل.

وكما أنَّ الصلاة لا تسقط فرضيتها عن الإنسان في أيِّ حال من الأحوال؛ مريضًا كان أو مسافرًا، فكذلك علاقة الإنسان بوالديه يَجب أن تكون موصولةً، بصرف النظر عن ظروف الحياة التي تحيط بالأبناء والآباء، وبصرف النظر عن معتقدات الأطراف كلِّها، وبصرف النظر عن مكان حياة الأبناء أو الآباء، ولا تنتهي أهمية هذه العلاقة الوطيدة حتى بعد موت أحد الأطراف، فإن عمل ابن آدمَ ينقطع عن الدنيا إلاَّ من ثلاث: أولهم: ((ولدٌ صالح يدعو له)).

والعلاقة التي لا تنتهي بموت الإنسان لهي أجدر العلاقات التي يجب على الإنسان أن يحافظ عليها، ويبذل من أجلها كلَّ شيءٍ، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما، ولم يدخلاه الجنة)).

والله - سبحانه وتعالى - وهو عليم بما في الصدور، نظَّم لنا هذه العلاقة ابتداءً من مرحلة ما قبل الميلاد، وأنت ما زلت نطفة في صلب والدك، فحدَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يختار الرجل زوجته؛ حتى لا يأتي لأولاده بعد ذلك بأمٍّ غير صالحة، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((تُنكَح المرأة لأربع: لمالها، لشرفها، لجمالها، لدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك))[2]

ويقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((خير النساء مَن إذا نظرتَ إليها سرَّتْك، وإذا أمرتَها أطاعتْك، وإذا أقسمتَ عليها أبرتْك، وإذا غبتَ عنها حفظتْك في نفسها ومالك)).

ولبناء مجتمع قوامه الآباء والأبناء؛ لا بدَّ من وضع اللبنة الأولى (التزاوج) على أساس متين؛ حتى لا يتصدَّع البُنيان الأسري عند أول هزَّة تعترض مشوار الحياة الزوجية.

فالعلاقة الزوجية يجب أن تكون علاقة متكافئة بين الزوجين في الحقوق والواجبات، مع تسليم قيادة السفينة الزوجية للرجل؛ بصفته رب الأسرة المؤهَّل لهذا الدور من كلِّ النواحي، والمرشَّح من قِبل الله - سبحانه - لهذه المسؤولية؛ لأن الأسرة هي المجتمع الصغير، ولا بدَّ من راعٍ يقودها، وإلا دبَّتِ الفوضى، وتاهت المسؤولية، وتشرَّد الأبناء تباعًا، وبذلك يتفكَّك المجتمع الصغير، وبالتالي يتحوَّل المجتمع الكبير إلى غابةٍ يتصارع فيها الأقوياء، ويضيع فيها الضعفاء؛ ولذلك كانت وصية الرسول الكريم في خطبة الوداع شاملة، قال فيها: ((أيها الناس، اتقوا الله في النساء)).

ذلك لأن العلاقات الزوجية تعدُّ من أخطر العلاقات البشرية؛ لأنها إن حسنتْ، أنجبت للمجتمع حَمَلَة المشاعل الفكرية، وحُماة الحقِّ والعدل، وصُنَّاع الحضارة، وإن ساءت، أفرختْ عناكبَ تسري كالنار لتفسدَ كلَّ شيءٍ أتتْ عليه.

يجب ألاَّ ننسى أن كلََّّ المشاكل التي يعاني منها المجتمع من بعض المارقين على النظم، أساسُها شباب لم ينشؤوا في بيئة طبيعيَّة، فكلُّ المدمنين تقريبًا نشؤوا في بيئاتٍ مفكَّكة.

والأخطرُ أن بعض المجتمعات تتبنَّى رعاية اللقطاء دون البحث عن ذويهم، وسيكبر هؤلاء وهم فاقدو الانتماء إلى الأسرة أو المجتمع الصغير، وأيضًا سيفقدون الانتماء إلى مجتمعهم الكبير، وأتوقَّع أن يعيثوا في الأرض فسادًا.

ولذلك يجب أن ينظر المجتمع إلى العلاقات الأسرية على أنها علاقات مقدسة بين الزوجين، ويتعامل معها على هذا الأساس، فلا يدسُّ المجتمع أنفَه في الأسرار الخاصة، ولا يشرع لتنظيم هذه الأمور على أنها تجارة وشراكة، وحتى إذا كان هناك خلاف بين الزوجين، فعلى المجتمع أن يتحرَّك لاحتواء هذا الخلاف، منطلقًا من خلال قوله - تعالى -: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35].

وعمومًا الخطأ متوقَّع من كلِّ بني آدمَ، فإن حدث ما يعكِّر صفو الحياة الزوجية، فلا بدَّ من علاج هذا الأمر أيضًا حسب وحي الله - سبحانه وتعالى -: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34].

هكذا، وبنفس الترتيب الإلهي، دون قلب الآيات، وبهدف محدد دون افتراءٍ أو إذلال، هذا إن كان سبب الخلاف هي (الزوجة).

أما إذا كان الرجل هو سبب المشكلة، فالوصية الإلهيَّة واضحة: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].

على أن تكون وصايا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع دائمًا نصب أعيننا، فإذا كان للرجل نصيب في طاعة الله - خصوصًا عند اختيار الزوجة كما حدَّدها الرسول الكريم - وتزوَّج،لم يتركه الرسول إلا وقد وصَّاه بتجنُّب الشيطان من بداية الطريق، وحينما يضاجع زوجته يقول: ((بسم الله، اللهم جنِّبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا))[3]

فتوضع البذرة الأولى للمولود بسم الله، داعيًا الله أن يحفظ الجميع من خبث الشيطان الرجيم، وأن يجنِّب الزارع والزرع والحرث مزالقَ الشيطان.

وتتوالى الأيام، والجنين ينتقل في بطن أمِّه من مرحلة إلى مرحلة بعناية الله وقدرته، وينمو شيئًا فشيئًا لا ترعاه إلا عينُ الله التي لا تنام، ويخرج إلى الحياة بعد ذلك واهنًا ضعيفًا لا يملك سنًّا يقطع، ولا رجلاً تحمله، ولا عقلاً يفكِّر، ولا شيئًا على الإطلاق، والله - سبحانه وتعالى - يضع الرأفة والرحمة في قلوب الوالدين، كما يثبِّت الحبَّ في أعماقهما، فيقومان برعايته، ويهتمان بشؤونه، ويشب على ذلك وهو في كلِّ أمرٍ من أموره في حاجة إلى الوالدين.

والبداية الصحيحة التي يجب أن يتَّبعها الوالدان لإرساء القواعد المتينة التي ستكون عليها علاقتهما بولدهما، هو اتباع سُنَّة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وتنفيذ وصاياه، مثل الأذان في أُذُن الطفل؛ ليكون اسمُ الله هو أولَ ما طرق أذنَ الوليد، ثم بعد ذلك اختيار الاسم المناسب؛ حتى لا تكون المسألة كما ورد عن سيدنا عمر - رضي الله عنه وأرضاه - أنه قال لرجلٍ بينه وبين ولده عقوق: "لقد عققتَه قبل أن يعقك"؛ لأنه لم يلتزم بوصايا الرسول الكريم في اختيار الاسم المناسب، وعليه أيضًا إذا أمكن أن يتقدَّم بالعقيقة فيطعم الأحباب؛ ابتهاجًا بنعمة الله، وشكرًا وحمدًا للرزَّاق، وحيث إنه - وكما قال سبحانه وتعالى -: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، معنى ذلك أن الوالدين ينتظران من الابن أن يزيِّنهما في الحياة الدنيا.

وحيث يقول - سبحانه وتعالى - في موضعٍ آخر من مُحكم التنزيل: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15]، معنى ذلك أن الوالدين يخشون من الابن أن يكون فتنة لهما، ومن اليوم الأول الذي يُرزقان فيه بالابن، فهما يتأرجحان بين الأمل والرجاء في أن يكون الابن عند حُسن الظن، وأن يُنْبِتَه اللهُ نباتًا حسنًا، وتمرُّ الأيام ويأتي الدور على الابن ليكون إمَّا نعمة، وإمَّا نقمة، فإن مدَّ الله في عُمْر الابن وشبَّ وترعرع، وأصبح له من الأمر شيء، يأتي الدور عليه، ويصبح الولد في موقع المسؤولية، وعليه رعاية والديه، كما ربَّياه صغيرًا، وعليه ألاَّ يظن أنه أدَّى ما عليه بمجرد أن قام ببعض الإنفاق؛ لأن المسألة أعظم من ذلك، وخيرُ ما ورد في هذا الصدد قصةُ الرجل الذي قال: "إن أمي امرأة مقعدة، أقضي لها كلَّ شؤونها وحاجاتها داخل وخارج البيت، وطلبتْ مني أن تحجَّ بيت الله الحرام، فحملتُها على كتفي وطفت بها حول الكعبة، وسعيت بها بين الصفا والمروة، وأدَّيتُ لها كلَّ مناسك الحج محمولةً على عنقي، وأريد أن أعرف هل أديت لها بعضًا من حقوقها؟ قيل له: لا، ولا بزفْرة من زفراتها حين وضعتْك".

أما إذا لم يكتبِ الله لذلك الوليد الواصل أن يمتدَّ به العمر، وقضى نحبَه في طفولته، فإن على الوالدَين الصبرَ؛ ليكون لهم حسنُ الجزاء، وبذلك يتضح أن الصبر من الباقيات الصالحات التي هي خيرٌ عند الله ثوابًا وأملاً ومردًّا.

فقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جزاء الصابرين أن الأولاد الذين يموتون قبل أن يبلغوا الحُلم يشفعون لوالديهم حينما يأمر الله - سبحانه وتعالى - ملائكته بأن يأخذوا هؤلاء الشفع إلى الجنة بدون حساب، فيقفون على باب الجنة، ويسألون الملائكة: أين آباؤنا وأمهاتنا؟ فيُقال لهم: إن لهم أعمالاً في الدنيا يحاسَبون عليها، فيسأل الأولاد:، أوَلَم يصبروا على فقدنا؟ لا ندخل الجنة إلا مع آبائنا وأمهاتنا، فيقول الله - سبحانه -: ألحقوا بهم مَن صبر مِن آبائهم وأمهاتهم.

فإذا كان الابن الذي يموت قبل أن يبلغ الحُلم يشفع لوالديه الصالحين الصابرين؛ ليدخلهما الجنة بإذن الله، فمِن الأجدر أن يجتهد الابن الذي يبقى على قيد الحياة يجتهد في معاونة والديه؛ لأنه رأى بعينيه كيف قاسى الوالدان لتربيته وتنشئته، فعليه أن يعين والديه ويعين نفسه للدخول إلى رحمة الله الواسعة، وإلا كان الذي مات صغيرًا أفضل للوالدين من الذي بَقِي ولم يوفِّهما حقَّهما دنيا ودِينًا وأخرى.

فكيف إذا كان الابن عاقًّا يذيق والديه الهوان؟

ولذلك نجد أن الله - سبحانه وتعالى - تدخَّل بعنايته ولطفه لإنقاذ أبوين مؤمنَينِ من الدخول في متاهات مع ابنٍ لهما؛ لِعِلْم الله أنه سيكون من الطاغين، فأرسل الله - سبحانه - من يصحح الوضع لصالح المؤمنين، ويزيح عن طريقهما الإرهاقَ والقلق؛ حتى لا يقول لهما الولد: أفٍّ لكما، حين يستغيثان الله قائلين للولد: {وَيْلَكَ آمِنْ} [الأحقاف: 17].

ويشرح الله - تعالى - هذه القصةَ عن الوالدَين المؤمنين وابنِهما المتوقَّعِ منه العقوقُ، وعن ذلك العبد الصالح الذي آتاه الله من لدنه علمًا، ومعه نبيٌّ رسول يتتلمذ على يديه بأدبٍ جمٍّ مع عجلة في تلقِّي العلم، فماذا فعل موسى - عليه السلام - والخضر؟ {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74].

فالعبد الصالح مُرسَل من قِبَل الله - سبحانه وتعالى - لتصحيح أشياء معيَّنة، بأمرٍ من عند الله وإذن منه، وسيدنا موسى - عليه السلام - يقيِّم الأمور بطبيعته البشرية، وفي حدود علومه المتاحة، ولكنَّ الله بالغ أمره، وفي نهاية المشوار يعرف سيدنا موسى - ونحن من خلاله - الحكمةَ البليغة مِن قَتْل ذلك الغلام: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 80، 81].

هكذا كانت عناية الله ترعى الوالدَين الصالحَينِ حينما جاءهما ابنٌ عاق، أيضًا - عناية الله بالوالدين واسعة إذا صلحا حتى بعد وفاتهما، فيكون لهما الدعاء الصالح من الأبناء الصالحِينَ، وللأبناء منهم البركة، وإذا كانت الآيات توضِّح مدى استفادة الأبناء من الآباء والعكس، فأيضًا هناك حديث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوضِّح الفائدة التي تلحق الآباءَ من أبنائهم الصالحين: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، صدقة جارية، ولد صالح يدعو له)).

ولكن، كيف يستفيد الأبناء من صلاح الوالدين بعد وفاتهما؟ لدينا قصة أخرى تبيِّن هذه المسألة في نفس مشوار العبد الصالح، وبرفقته سيدنا موسى - عليه السلام -: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77].

والمعروف أن ضيافةَ العابرين شرعٌ خالد، ورفض الضيافة دليلٌ على فساد الخُلُق عند أهل هذه القرية المذكورة، وكذلك دليل على عدم أمانتهم في خلافتهم التي خُلقوا من أجلها، كما أنه دليلٌ واضح على عدم رعايتهم لحقوق الغير إذا كانوا ضعافًا أو صغارًا؛ ولذلك نجد أن العبد الصالح يمضي فيما أمره الله - سبحانه - وهو يعلم مسبقًا أنه لن ينال مقابلاً لما يفعله، كما يقول - تعالى -: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَه} [الكهف: 77].

وعند ذلك تتحرك الغَيْرة في قلب النبيِّ المرافق له؛ لما رآه من فساد أخلاق أهل القرية، وفي المقابل حُسن صنيع العبد الصالح، فلم يستطع سيدنا موسى - عليه السلام - السكوت، مع أنه يعلم أن كلامه هذا قد يقطعُ عليه تَكملة الرحلة مع العبد الصالح؛ لأن الاتفاق بينهما في الرحلة ذاتها كان ألاَّ يسأل عن شيءٍ، وقد وافق موسى - عليه السلام - على ذلك، وقال له كما بيَّن - سبحانه وتعالى -: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76].

وكان من الطبيعي من العبد الصالح أن ينفِّذ ما ارتضاه رفيقه من قبل، فأنهى العبد الصالح مرافقة سيدنا موسى له بقوله: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78].

رُوِي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يرحم الله أخي موسى ويغفر له، ولو صبر، لتعلَّمنا الكثير)).

وقد شرع العبد الصالح يشرح لمرافقه كيف يستفيد الأبناء من صلاح الآباء، وكيف أنَّ الله يدافع عن الذين آمنوا في أنفسهم وأولادهم وأموالهم، فبيَّن قيمة ذلك الجدار أنه حارس أمين على كَنزٍ تحته لصالح أيتام، وأهل القرية - كما ترى - يهضمون الحقوق، وأصحاب الكنز ضِعاف، فمَن يحمي لهم كنزهم إلا الله - سبحانه -؟ خصوصًا أنهم ذريَّة صالحة من سلف صالح، قال - تعالى - على لسان ذلك العبد الصالح الذي يشرح الحكمة من أفعاله: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82].

وهذا الصلاح الذي كان يتمتَّع به الأب جديرٌ بأن يحفظ الكنز إلى أن يكبر الأيتام الصغار، ورُوي أن ذلك الأب الصالح المذكور في الآية هو جدُّهم لأبيهم، وتمضي الآيات في سورة الكهف تشرح هذه المسألة بطريقة سلسة تُطَمْئِن قلوبَ الآباء الصالحين نحو أبنائهم {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82].

واستحقَّ الرجل وهو في قبره أن ينام قريرَ العين على أولاده؛ بسبب صلاحه وتقواه، فلقد قام الله برعاية الأولاد؛ تكريمًا للوالد، ورحمةً بالصغار؛ ولذلك يقول - سبحانه وتعالى -: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9].

هذا في الدنيا، أما يوم القيامة فيدرك الجميع السرَّ الأعظم لدعاء الملائكة للصالحين - كما بينها الله سبحانه - يقولون: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر: 8]. اللهم آمين.

إذًا، وقد أصبح مما لا جدال فيه أن هذه العلاقة بين الآباء والأبناء تبدأ أولاً قبل وصول الأبناء إلى الحياة، وتستمر باستمرار حياة الطرفين، ولا تنقطع بموت أحد الطرفين، انظروا إلى أهمية هذه العلاقة في الحالة الثانية، وهي استمرار الطرفين في الحياة، فالمفروض أن هذه العلاقة لا تشوبها شائبة طالما كان الطرفان (الآباء والأبناء) صالحين وعلى علاقة تقوى بالله - سبحانه وتعالى - وتكون المشكلة فقط إذا شذَّ أحدُ الطرفين عن الصراط المستقيم، والآياتُ القرآنية والأحاديث النبوية التي تتعرَّض لهذه العلاقة كثيرةٌ جدًّا، والقصص التي رُوِيت في هذا الصدد أكثر من أن تحصى.

والله - سبحانه وتعالى - يضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء.

ثانيا: نماذج من العلاقة المتبادلة بين الآباء والأبناء:

أ- أبو الأنبياء: بين الأبوة والبنوة:

ضرب الله - سبحانه وتعالى - لنا أمثلةً كثيرةً توضِّح لنا كيف تكون العلاقة الصحيحة بين الأبناء والآباء، ولنا في سيدنا إبراهيم - عليه السلام - الأسوةُ الحسنة ابنًا بارًّا يحاول هداية أبية، ويسطِّر لنا أروع الأساليب التي يمكن أن تُتَّبع بين الابن الصالح والأب حتى وإن كان كافرًا، وحتى عندما تعرَّض للتهديد بالرَّجم كان حليمًا بارًّا داعيًا الله لوالده بالهداية، لِمَ لا وقد آتاه الله رشده من قبل وهو - سبحانه - العليم؟

أيضًا لنا فيه الأسوة الحسنة أبًا صالحًا يرزقه الله الولد الصالح في سنِّ الشيخوخة، فيحبُّه بكلِّ قلبه، ويتعرَّض لأصعب اختبار من الله - سبحانه وتعالى.
أيضًا يسطِّر لنا أفضل الأساليب التي يمكن أن تُتَّبع في التعامل مع الذريَّة الصالحة، حتى وهو يواجه أقسى امتحان.

ولنرتِّب الأحداث ترتيبًا زمنيًّا، ونبدأ مع الصدِّيق النبي الابن البار، ينشأ في وسطٍ يعكفون على عبادة الأصنام، فينكرُ ذلك بقلبه مرةً، وبلسانه مرةً، وبيده مرةً أخرى، وقد شقَّ على قلبه أن يجد الناس يعبدون آلهةً دون الله، فاتَّجه إلى أبيه أقرب الناس إليه؛ ليخرجه من ظلمات الجهل والضلال إلى نور المعرفة بالله {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42].

فيبدأ سيدنا إبراهيمُ خطابَه بألين أسلوب ممكن، يقول: (يا أبتِ)، ولا يهاجم أباه ولا آلهته من أول مرةٍ، ولكنه يفنِّدُ له واقعًا ملموسًا دون إهانةٍ، حيث إن الأصنام لا تسمع ولا تبصر، ويصل بإقرار الواقع الملموس إلى تقرير حقيقة ثابتة، هي أن الأصنام لا تغني عن أحدٍ شيئًا، وحتى لا يفلت عقلية الأب الجاهل من سلطان الحجَّة والبرهان إلى العناد؛ يقول له: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43].

فيبرِّر له ما يقول، ويرجو له الهداية إلى الصراط المستقيم، ثم يحدِّد لأبيه المطلوب، ويبيِّن له العدو الحقيقي الذي أوهمهم بما هم فيه {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 44].

ويختار سيدنا إبراهيم اسم (الرحمن) في هذا الموضع بالذات؛ حتى يستلين قلب أبيه، فلم يقل له: إن الشيطان كان للجبار عصيًّا مثلاً؛ حتى لا يحرك داخل أبيه نَعرة الكبرياء الأحمق، ثم يذكِّره أن الدافع من هذه الدعوة هو الخوف عليه بحقِّ البنوَّة، والخوف عليه أيضًا من عذاب الله بسبب موالاة الشيطان، ولا ينسى أن يكرِّر على مسامع أبيه كلمة (يا أبت)؛ لعلَّه يحنُّ ويتصرَّف بدافع الأبوة، فيقول له: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 45].

حنان ما بعده حنان من ابن بارٍّ لأب فاجر، وحتى حينما وجد سيدنا إبراهيم بعد كلِّ هذا الحنان والأدب ردَّ الفعل جافًّا، حين قال له أبوه: لئن لم تنتهِ لأرجمنك، وأمره بالابتعاد عنه قائلاً: واهجرني مليًّا، لم يكن سيدنا إبراهيم الرشيد فظًّا عاقًّا، ولم يفقد الأمل، ولم ييْئَس، ولم يقطع حبال الوصل مع أبيه؛ وإنما {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47].

وفي نفس الوقت لم يضعف أمام هذا التعنت، إنما انصرف عنهم بالتي هي أحسن.

وفي الجانب الآخر من حياة سيدنا إبراهيم، حينما أصبح أبًا بعد أن بلغ من الكِبَر عتيًّا، وبعد أن ظلَّ يناجي ربَّه أن يرزقه ولدًا صالحًا {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وأجابه الله القدير بطلبه ورزقه الولد {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]، لا ينسى الوالدين وقد كان نعم الابن: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41].

اللهم صلِّ وبارك على سيدنا محمد وعلى آله، كما صليت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آله، وصدق الله العظيم إذ يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة: 6].

ب- آباء صدق، وتعسًا للأبناء:

ضرب الله - سبحانه وتعالى - لنا مثالاً آخر لمن يعقُّ الوالدين، وكيف أن العاقَّ والديه لا يفلح ولا يغني عنه صلاح الآباء من الله شيئًا، فترى أن نبوةَ أبٍ، وطول بقائه بين أبنائه، ودعوته لدين الله ليلاً ونهارًا، ومحاولته مع قومه إعلانًا وإسرارًا - كلُّ هذا لم يكن ينفع مع الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، حتى ولو كانوا أبناءهم، وكما قال الشاعر:

وَمُوسَى الَّذِي رَبَّاهُ فِرْعَونُ مُؤْمِنٌ وَمُوسَى الَّذِي رَبَّاهُ جِبْرِيلُ كَافِرُ
فنجد أن سيدنا نوحًا - عليه السلام - وقد مكثَ في قومه حوالي ألف سنةٍ، لم يؤمن معه إلاَّ قليلٌ، وكان الأكثر من الكافرين، وكان ابنه مع الكافرين، وعندما انتهى سيدنا نوح من بناء السفينة بأمر من عند الله - سبحانه - وحمل معه على السفينة من كلٍّ زوجين اثنين، ومن آمن معه وأهلَه، نادى - عليه السلام - على ولده الذي رفض الإيمان معه؛ أملاً منه أن يكون مع الناجين، وبعد أن يرى بعينيه ما يحلُّ بالكافرين، ربما يكون له رأيٌ آخر في عقيدته.

ولكن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فقد كان الابن - بالإضافة إلى كُفْره بدين الله - عاقًّا لوالده، وكما قابل نِعَم الله بالكفر، قابل حنانَ الأب بالجحود، وعمومًا كل إنسان يفعل ما هو أهلٌ له، وكل إناءٍ بما فيه ينضح، فالصالح يفكِّر بصلاحه {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42].

والفاسد يضلُّ؛ لأنه انقاد للشيطان الذي يأمر بالسوء والفحشاء {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43].

ويستمرُّ الأب الصالح في محاولته؛ لينقذ ابنه من براثن الشيطان، وليبعده من نقمة الله وعقابه {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43].

ولكن الله بالغ أمره، وهو أعلم بالظالمين، وقد حكم بالحقِّ، وهو خير الحاكمين، ويا نوح لا تذهب نفسك حسرات عليه؛ لأنه عمل غير صالح {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43].

وانظر عزيزي القارئ كيف كان عاقبة المكذبين؟! وكيف فعل الشيطان بالإنسان حين عشش في رأسه وباض وأفرخ؟ فاحذر مكايد الشيطان، وتعلَّم من أنباء ما قد سبق {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].

وقصة ثانية تدور بين والدين صالحين مؤمنين ولهما ابنٌ عاقٌّ أرهقهما طغيانًا وكفرًا، فقال لوالديه: أفٍّ لكما {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقّ} [الأحقاف: 17].

ورفض هذا الابن الإذعان لنداء الحقِّ، وضلَّ ضلالاً بعيدًا، وأتْبَعه الشيطانُ فكان من الغاوين، وحقَّ عليه القول فكان من الخاسرين، وعرَّض نفسه ليجازى بعذاب الهوى لأنه كان من المستكبرين بغير الحقِّ وكان من الفاسقين {فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف: 17]، فسار على نهج الضالين، وكلُّهم حطب جهنم مع جنود إبليس وجنود فرعون وهكذا يكون مصير الظالمين والمجرمين {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29].

وعلينا أن نتعلَّم من سيرة الأمم التي خلَتْ من قبلنا، ونتجنَّب المهالك التي كانت للطاغين، ونرى كيف كان مصير الظالمين عند ربِّ العالمين، حيث يُكَبْكَبُ في النار كلُّ الغاوين وجنود إبليس أجمعون، وليس لهم شُفعاء عند ربهم ولا صديقٌ حميم.

جـ- خير خلف لخير سلف:

من أحسن القصص التي جاءت في القرآن الكريم قصةُ سيدنا يوسف - عليه السلام - حيث رشحها الله - سبحانه - لتكون على هذه الدرجة من الأهمية؛ حيث قال - سبحانه -: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3].

وقد تناوَل الله - سبحانه - في هذه القصةِ الأبوةَ الحانية، التي قفزتْ في صدر الموضوعات داخل أعماق أبٍ (هو سيدنا يعقوب) له من الأولاد عددٌ لا بأس به، ويبذل قصارى جهده حتى لا يدخل الشيطان بينهم؛ لأنه يعلم أن الشيطان للإنسان عدوٌّ مبين.

ولكن الأمور تسير على غير ما يشتهي، ويتغلغل الشيطان في نفوس أولاده الكبار، والأب يحاول إنقاذ ما يُمكن إنقاذه، خصوصًا أنه لمح في ولده الصغير (يوسف) بشائر طيبة وصلاحًا {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4].

فيبذلُ الأبُ نصائحه من واقع علومه الإلهيَّة، ومن واقع خبرته في الحياة ومن فيها، فيمنع ولده من الإفصاح عن رؤياه حتى لإخوته {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5].

ولم ينتهِ دور الأبِ عند هذا الحدِّ، ولكنه شمل صغيره بعناية ورعاية حرَّكتْ أحقادَ الأبناء الكبار (أخوة يوسف)، كما أنه لا يريد أن يبتعدَ الولد الصغير عن عينيه؛ لأنه لا يأمن كيد الشيطان، وبالتالي رفض فكرة خروجه مع إخوته إلى خارج البلد؛ لأنه لا يريد أن يَحرِمَ نفسَه من الاستمتاع بقرب ولده منه، ويخشى عليه الأخطار {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13].

وعندما نفَّذ أولاده كيدهم، وظنوا أنهم انتهوا من يوسف إلى الأبد، شعر بأبوته الصادقة أن ابنه على قيد الحياة، وأن هناك لقاءً آتيًا بإذن الله، وكلُّ المطلوب هو الصبر {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].

وصدق الرجلُ في ظنِّه، كما صدق من قبل في تقدير الأمور {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 68].

وبعد ذلك يتكرَّر نفسُ الحدث مع شقيق يوسف، ولكن دون كيد من الإخوة في هذه المرَّة، ويجد الأبُ نفسه يفقد الابن الثاني قبل أن يعرفَ مصير الابن الأول، وكذلك لم يعد إليه أكبر الأولاد؛ لأنه تسبَّب في غياب يوسف، وتورَّط في غيبة الأخ الأصغر.

ومع ذلك يلتزمُ بالصبر الجميل، راجيًا الله - سبحانه - أن يردَّهم جميعًا إليه؛ لأنه - سبحانه - هو العليم الحكيم، ولسنا بصدد القصة؛ ولكن نلتمسُ مشاعر الأبوة في أبٍ يتعرَّض لأنواع الاختبار؛ لعلَّنا نستفيد من هذه الدروس التي جعلت الرجلَ لا يبتعدُ عن الله لحظةً واحدةً، ولم يفقد الثقة في الله - سبحانه - ولم يتزعزع إيمانُه بالله درجةً واحدةً إلى الخلف، ومع أنه من كثرة الحزن والبكاء فقَدَ بصرَه كما فَقدَ أولاده من قبل، إلا أنه لا يشكو ما أصابه لأحدٍ إلا الله {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86].

كان هذا هو موقف خير سلف نالَ من العلوم الإلهيَّة قِسطًا وافرًا.

وفي الجانب الآخر نجد خيرَ خلفٍ، إنه الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم (يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) - عليهم صلوات الله وسلامه.

بكلِّ الأدب والإجلال يمتثل لأمر والده، ويدفن في أعماقه رؤياه حتى وهو يتعرَّض للإلقاء في البئر، ولو أنه قصَّ على إخوته رؤياه في ذلك الموقف، لحدث شيءٌ آخر خيرًا أو شرًّا، ولكنه الالتزام بالنصيحة.

وكان يوسف - عليه السلام - دائمَ الصلة الروحيَّة بالوالدين جميعًا، فكان يذكُرهم بكلِّ خيرٍ كلما جاءتْه المناسبة، ويفتخر بسلامة عقيدته وعقيدة آبائه من قبله، ويعترف دائمًا بفضل الله عليهم جميعًا {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38].

وفي نهاية المطاف يعرف من الله الأسلوب الذي يعالج به أباه من فقْد البصر، فيرسل إليه قميصه، فكيف لو ذهب هو إليه؟ ولكن ولأسباب سهولة المعيشة يفضِّل - عليه السلام - أن يأتي آل يعقوب إليه هو، فقال لأخوته: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93].

وتمَّ جمع الشَّمل بفضل حنان الأبوة، الذي كان في مقابله برُّ الابن، هذه العلاقة التي لم يتمكَّن الإخوة من قطعها، ولم تؤثِّر فيها السنوات الطوال {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].

وبرُّ الوالدين دائمًا مجال الثناء من الله - سبحانه وتعالى - فلقد كان من مميزات سيدنا عيسى - عليه السلام - أنه كان بارًّا بوالدته، وكذلك سيدنا يحيى {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14].

والإنسان الصالح ينشأ من شبابه في طاعة الله، وهو ينتقل في مراحل العمر، ويتدرَّج في الحياة، من طفولةٍ بريئةٍ لا يحمل من هموم الدنيا شيئًا، وكل ما يريده فمن الوالدين، إلى شباب متحفِّز يرنو إلى ما حوله بطموح متوهج، إلى رجولة يبدأ فيها حمل مسؤولياته ويتدرج {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].

فقد وصل هذا الابن إلى مستوى المسؤولية وتحملها، وعرف عن تجرِبةٍ المشاقَّ التي تحمَّلها والداه من قبل، فيدعو الله بالتوفيق في الشكر، وبالتالي دوام النعم، ويسأل الله أن يوفقه لصالح الأعمال، وكذلك أن يصلح له في ذريته من بعده.

إنه مثال يُحتذى به، وقدوة صالحة يقتدي به من أراد النجاة، ونموذج مثالي في حال صغره وبعد كبره {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16].

اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقاك يا مجيب الدعوات.
{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61].

وماذا بعد؟
وبعد أن ضرب الله لنا من الأمثلة التي تثبِّت القلب، وتقوِّي الإيمان، وشرح لنا كيف كان السلف الصالح، وما أعدَّه - سبحانه - لهم من حسن الثواب، وأيضًا بيَّن لنا جانبًا من أبناء السوء، وما توعَّدهم به - سبحانه - من عقاب أليمٍ - شرع لنا - سبحانه - الأسلوب الأمثل الذي يجب أن نكون عليه، فقال - تعالى -: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].

إذًا هذا الأمر الذي قضى به ربُّ العالمين لم يأتِ لنا فجأةً، وهذا الربط بين عبادة الله والإحسان بالوالدين لم يكن من فراغ، وإذا رجعنا قليلاً إلى الآيات التي سبقتْ هذه الآيةَ نجد أنَّ الله بيَّن لنا الطريق الذي يهدي إلى الصراط المستقيم، وهو السعي المستمر في الاتجاه الصحيح، مع الإيمان بالله، كما حذَّرنا من أن تكون الدنيا همَّنا وسعينا، فإذا رجعنا قليلاً، نجد قوله - تعالى -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18]، أما الإنسان الذي عرف دار البقاء وعمل لها {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19].

والله - سبحانه - يمدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطائه، ولكن ربحَ من كان عطاؤه في دار الخلود، وخاب وخسر من نال العطايا كلَّها في دار الفناء.

وبعد هذا التوضيح كان الأمر الإلهي بعبادة الله وحده والإحسان بالوالدين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
علاقة الإنسان بالإنسان...
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  هل كل أمر مضر بالإنسان يعتبر حراما
» الإسلام علاقة عظيم
» علاقة عن طريق النت
» لا علاقة بولد الزنا بما فعل أبواه
»  ما حقيقة شلل النوم؟ وهل له علاقة بالجن؟

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اسلام ويب :: ۩✖ منتدي الاسلاميات العامه ۩✖ :: مقــــالات اســــلاميه :: مقـالات منـوعه-
انتقل الى: