بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : (( قَارِبُوا وَسَدِّدوا , واعلمُوا أنه لن ينجو أحدُ منكُم بعمله )) قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : (( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ))
[ رواه مسلم ] .
و " المقاربة " القصدُ الذي لا غُلُوَّ فيه ولا تقصير . و " السَّدادُ " الاستقامةُ والإصابةُ , و " يتغمدني " يُلبِسنِي ويستُرني . قال العلماء : معنى الاستقامة : لُزُومُ طاعة الله تعالى , قالوا : و هي من جوامع الكَلِمِ , و هي نظام الأمور , و بالله التوفيق . ** الشرح ** هذا الحديث يدل على أن الاستقامة على حسب الاستطاعة , و هو قول النبي صل الله عليه وسلم (( قاربوا و سددوا )) أي : قاربوا ما أمرتم به , و احرصوا على أن تقربوا منه بقدر المستطاع . وقوله : (( سددوا )) أي : سددوا على الإصابة , أي : احرِصوا على أن تكون أعمالكم مصيبة للحق بقدر المستطاع , و ذلك لأن الإنسان مهما بلغ من التقوى , فإنه لابُد أن يخطىء , كما جاء في الحديث عن النبي صل الله عليه و سلم أنه قال : (( كل بني آدم خطاء , و خير الخطائين التوابون )) (1) , و قال عليه الصلاة و السلام : (( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم , و لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم )) [ رواه مسلم ] . فالإنسان مأمور أن يقارب و يسدد بقدر ما يستطيع . ثم قال عليه الصلاة و السلام : (( و اعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله )) أي : لن ينجو من النار بعمله . و ذلك لأن العمل لا يبلغ ما يجب لله – عز و جل – من الشكر , و ما يجب له على عباده من الحقوق , و لكن يتغمد الله – سبحانه و تعالى – العبد برحمته فيغفر له . فلما قال : (( لن ينجو أحد منكم بعمله )) قالوا له : ولا أنت ؟! قال : (( ولا أنا )) حتى النبي عليه الصلاة والسلام لن ينجو بعمله (( إلا أن يتغمدني الله برحمه منه )) . فدل ذلك على أن الإنسان مهما بلغ من المرتبة و الولاية , فإنه لن ينجو بعمله , حتى النبي عليه الصلاة و السلام , لو لا أن الله مَنَّ عليهِ بأن غفر له ذنبه ما تقدم منه و ما تأخر , ما أنجاه عمله . فإن قال قائل : هناك نصوص من الكتاب و السنة تدل على أن العمل الصالح ينجي من النار ويدخل الجنة , مثل قوله تعالى : (( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )) [ النحل : آية 97 ] . , فيكف يُجمعُ بين هذا و بين الحديث السابق ؟ الجواب عن ذلك : أن يقال : يُجمع بينهما بأن المنفي دخولُ الإنسان الجنة بالعمل في المقابلة , أما المُثبتُ : فهو أن العمل سبب و ليس عوضاً . فالعمل – لا شك – أنه سبب لدخول الجنة و النجاة من النار , لكنه ليس هو العوض , و ليس وحده الذي يدخل به الإنسان الجنة , و لكن فضلُ الله ورحمته هما السبب في دخول الجنة , و هما اللذان يوصلان الإنسان إلى الجنة و ينجيانه من النار . و في هذا الحديث من الفوائد : أن الإنسان لا يعجب بعمله , مهما عملت من الأعمال الصالحة لا تُعجب بعملك , فعملُكَ قليل بالنسبة لحق الله عليك . و فيه أيضاً من الفوائد : أنه ينبغي على الإنسان أن يكثر من ذكر الله دائماً , و من السُّؤال بأن يتغمَّده الله برحمته , فأكثر من ذلك , و قل دائماً : (( اللهم تغمدني برحمةٍ منك و فضل )) لأن عملك لن يوصلك إلى مرضاة الله , إلا برحمة الله عز وجل . و فيه دليلُ على حِرص الصحابة – رضي الله عنهم – على العلم , و لهذا لما قال : (( لن ينجو أحدُ منكم بعمله )) استفصلوا , هل هذا العمومُ شامل له أم لا ؟ فبيَّن لهم صل الله عليه وسلم أنه شامل له . ومن تدبِّر أحوال الصحابة – رضي الله عنهم – مع النبي صل الله عليه وسلم . وجد أنهم أحرص الناس على العلم , وأنهم لا يتركون شيئاً يحتاجون إليه في أمور دينهم ودُنياهم إلا ابتدروه وسألوه عنه . والله الموفق . (1) أخرجه الترمذي , وابن ماجه , وأحمد في المسند . وقال الترمذي : غريب.وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم : 4515