الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قالت: من ألوم؟؟ ومن أشكو؟؟
بعدما احترقت أيامي الوردية، وذبلت سنابلي واصفرت أوراقي، بعدما وصلت سفينة أيامي إلى الأربعين، وخيوط الشيب لاحت بين شعراتي، وتجاعيد الشيخوخة ارتسمت على وجنتي بشكل مفزع، فصرت أهرب من المرآة والنظر فيها..
فما مآساتي وما قصتي؟
قبل أن أُبحر مع وادي الذكريات المؤلمة وأضع المشرط على الجرح لأسيل دمه ليشم رائحته كل من ساهم في مأساتي، أشكو بثي وحزني إلى ربي فهو ملاذي وملجأي.
وبعد: هذه قصتي ومأساتي لعل زوجي يسمعها وهو خلف القضبان يترنح بعدما ذهب عقله ونحل جسمه وارتعشت أطرافه والتهمته الأمراض، أو لعل والدي ينقذ ما يمكن انقاذه من بقايا ابنته التي صارت شبحاً ترقد مع صغارها في بيت يصلح لكل شيء إلا لسكنى البشر.
فكيف نسجت مأساتي؟!!
كان والدي حريص على تزويجي خوفاً من شبح العنوسة الذي داهم أختي، ومن أجل أن لا تتكرر المأساة في نظره.. ونسي قضاء الله وقدره وأن كل شيء مقدر ومكتوب.. ومع أول طارق وافق والدي كأنما يريد أن يتخلص مني، لم يسأل عنه إلا سؤال سطحياً، واكتفى بثناء أهله عليه الذين ساهموا مع والدي في اغتيالي وقتلي.. فقد أخفوا عني ذلك الشيطان الذي يسكن بين جنبيه متعللين بعدما ناقشتهم حين انفجر البركان وأكلت ناره الأخضر واليابس مثلي وبدؤا يكيلون لي المديح.. ولماذا لم يقولوا لي الحقيقة، تعللوا بحجة أوهى من بيت العنكبوت، قالوا: لعله يصلح بعدما يقترن بزوجة..!
واقترن بزوجة بريئة لم تعلم ما يخفى بين جنبيه من السم الزعاف وألقيت في بحر آسن، فغرقت ولم تجد من ينقذها منه.
بعد الزواج اكتشفت الحقيقة المذهلة، في الشهر الأول من الزواج، ففي ليلة من الليالي عاد من سهرته فشممت رائحة قذرة تنبعث من أنفاسه، فسألته عن هذه الرائحة فقال وهو بين الضحك والهذيان وأطرافه ترتعش، هذه رائحة عطر أيتها المخبولة، وأفزعني بنظرة من عينيه الجاحظتين والحمرة تكسوهما كأنما ألقيتا في تنور، وهو يهذي بكلام لم أفهم منه شيئاً إلا أن فيه ملامح تهديد ووعيد، بعدما ألقى بي بكل قوة على الأرض وراح يضربني في كل مكان، ثم ألقى بنفسه بعدما أعياه التعب كالبعير الهائج بعد أن خارت قواه.
في الصباح استيقظت على هول تلك الليلة فسوّلت لي نفسي أن أخبر والدي ولكن خفت الفضيحة وليتني فعلت، فقد مرّ عليّ هذا الصمت المؤلم أكثر من عشرين سنة أنجبت خلالها أربعة أطفال شبوا على هذه المأساة، كل يوم يرون والدهم على حال غير تلك الحال التي يرون الناس عليها..
دائماً تلح عليّ طفلتي التي بلغت العاشرة من العمر، تقول لي: والدمع يذرف من عينيها كحب لؤلؤ انحدر في جدول ماء أروع ما فيه صفاؤه، لما تبكين يا أمي كل يوم؟ ألن تشبعي من البكاء؟ هل والدي مريض؟ ولم يضربك؟ وأين هو الآن؟ لقد طال سفره هذه المرة، لنا أكثر من سنة لم نره، في كل مرة كان يسافر يغيب عنا ثم يعود.. ثم يسافر مرة أخرى.
يا لهذه الطفلة البريئة تظن أن والدها يسافر، تصدق ما أقوله لها بأنه يسافر بينما هو خلف القضبان رغم أنفه..
وبعد؛ هذه مأساتي باختصار لأني أعرف أن كل شخص يستمع إليّ مشغول بنفسه.
أنا اليوم بقايا زوجة.. بقايا امرأة..!!
أحتضن أطفالي كلما أقبل الليل..
يداهمني الخوف إذا سمعت صوت الرعد أو لمع البرق مخافة أن يداهمنا المطر فيهوي هذا البيت الهزيل علينا..
أرى في عيون أطفالي سؤالاً حاداً يرسم على نظراتهم إلي، من هو المسؤول عنا؟ أين والدنا يا أمي؟ فلا أجيبهم، فيعود صوتهم مرغماً بعدما يصدم بجبال السراب البعيد، يداهمنا الجوع أحياناً..
والبرد يقطع أوصالنا فيفر النوم من عيوننا، وكل هذا يهون لأني أؤمن برب قد تكفل برزق عباده كما يرزق الطير في أوكارها.
فليتك يا زوجي تسمعني..
وليتك يا والدي تسمعني..
وليت المجتمع يسمعني..
بل ليت كل من ساهم في مأساتي يسمعني..
أسمع صوت الذئاب تعوي آخر الليل، وبعضاً من أطراف النهار حول بيتي، تريد أن تنهش عفتي، فأنا أشم رائحتها القذرة، فمن يحميني؟! فالخوف والجوع والوحدة والضعف وصراخ أطفالي سكاكين قد تقتلني..
فمن يجيب؟ ومن يحميني؟
فهل من مجيب؟ هل من مجيب؟
التوقيع... بقايا زوجة