الحمد لله تعالى على سابغ فضله ومزيد نعمه، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه والتابعين... أما بعد:
أولاً: العين
لقد جاء في سياق قصة يوسف عليه السلام أن يعقوب عليه السلام قال لبنيه لما أرادو دخول مصر في عودتهم إليها:
يَابَنِيَّ لاَ تَدخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادخُلُواْ مِن أَبوَابٍ مُتَفَرّقَةٍ وَمَا أُغنِي عَنكُم مِّنَ اللهِ مِن شَيءٍ إِنِ الحُكمُ إِلاَّ لِلهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَعَلَيهِ فَليَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ [يوسف:67].
نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية عن غير واحد من أئمة السلف، أن يعقوب عليه السلام لما جهز بنيه مع أخيهم بنيامين، أوصاهم ألا يدخلوا كلهم من باب واحد، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، وإنما أراد يعقوب عليه السلام من بنيه ذلك؛ لأنه خشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم، لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة ومنظر وبهاء.
وقال الله جل شأنه في سورة القلم مخاطباً عبده ورسوله محمداً
:
وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزلِقُونَكَ بِأَبصَارِهِم لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إلاَّ ذِكرٌ لِلعَالَمِينَ [القلم:52،51].
ومعنى هذه الآية كما ذكر بعض المفسرين أن المشركين لشدة بغضهم وحسدهم لنبينا محمد
كادوا أن يُنفذُوهُ بأبصارهم، أي: يحسدونه ويصيبونه بالعين لما عزموا علَى ذلك، لولا أن الله حماه ووقاه منهم.
ويقول الله سبحانه:
قُل أَعُوذُ بِرَبِ الفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غّاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثّاتِ فِي العُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق]، فالآية الأخيرة فيها الأمر بالاستعاذة من الحاسد، وهو الذي يبغض نعمة الله على المحسود، ويتمنى زوالها، وهذا عام يشمل إصابة المحسود بالعين، أو بأي بلية أخرى.
فدلّت هذه الآيات على أن العين حق، وهكذا دلت السنة على ذلك أيضاً، وقد شاهد الناس ولا زالوا يشاهدون كثيراً من آثار الإصابة بالعين، وقد يعرفون ذلك وقد لا يعرفونه، والتجارب عند الخاصة والعامة أكثر من أن تُذكر، فللّه كم من قتيل، وكم من معافى عاد مريضاً على فراشه لا يُعلم لمرضه سبب.
ومما ورد عن النبي
في هذا الباب ما رواه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة
أن النبي
قال:
{ العين حق }، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ( أي الإصابة بها شيء ثابت موجود ). وقال الحافظ القرطبي رحمه الله عن ثبوت أثر العين: ( هذا قول علماء الأمة، وقد أنكرته طوائف من المبتدعة، وهم محجوبون بالأحاديث والنصوص الصريحة، الكثيرة الصحيحة، وبما يُشَاهد من ذلك في الوجود، فكم من رجل أدخلته العين القبر، وكم من جمل ظهير أحلته القدر، لكن ذلك بمشيئة الله تعالى، كما قال:
وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِن أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذنِ اللهِ [البقرة:103]، ولا يُلتفت إلى معرض عن الشرع والعقل، يتمسك في إنكار ذلك باستبعاد ليس له أصل ).
وقال الإمام العلاَّمة ابن القيم رحمه الله: ( إن طائفة ممن قل نصيبهم من السمع - أي الوحي - والعقل، أبطلت أمر العين - يريد بذلك بعض المتطيبين والطبائعيين - حيث قالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجاباً، وأكثفهم طباعاً، وأبعدهم معرفة عن الأرواح والنفوس وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها. وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع أمر العين ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه وجهة تأثير العين ).
وقال الحافظ الخطابي رحمه الله موجهاً حقيقة الإصابة بالعين: ( إنها تضر عندما ينظر العائن لدى مقابلته شخصاً آخر، ويكون ذلك بعادة أجراها الله تعالى ). وعقَّب الحافظ ابن حجر على ذلك بقوله: ( إنه كلام سديد ).
واعلم - وقاك الله - أن الإصابة بالعين تنشأ عن أحد سببين:
الأول: شدة العداوة.
الثاني: الإعجاب بالشيء واستحسانه.
ومن أدلة صحة أمر العين وشدة ضررها:
ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله
:
{ العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين } وفي هذا تنبيه وتأكيد على سرعة نفوذ العين، وتأثيرها في إصابة الذوات.
وروى البزار وغيره عن جابر بن عبدالله
قال: قال رسول الله
:
{ أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين } [صححه الألباني وحسنه الحافظ ابن حجر]، وقد يستغرب أو يندهش بعض الناس من ذلك، مع أن الواقع يصدقه، فكم من إنسان بسط الله عليه نعمة المال، فتعلقت نفس أحد من الناس به، فأصابت ماله آفة أو خسارة، أو ذهب جميعه، ومن الناس - وخاصة النساء - من كان على جانب من الحسن والجمال، فتعلقت بها نفس أصابتها بعاهة أو مرض أو نحو ذلك، ولذا كثيراً ما يُسمع أن هؤلاء المرضى طُرِحُوا ولا يَعرِفُ الأطباء داء ولا دواء، وتحاليلهم الطبية تفيد سلامتهم، وقل مثل ذلك عن المراكب من سيارات وغيرها.
هدي النبي
في مجال اتقاء العين وعلاجها:
من ذلك: ردُّها قبل وقوعها، ويكون ذلك بأمور منها: المحافظة على الأدعية والأوراد والأذكار الموظفة في الصباح والمساء، فقد جاء النص فيها، على أن من قالها يحفظه الله ويقيه، وهي كثيرة، ومن أمثلتها: فاتحة الكتاب وآية الكرسي والمعوذتان، ومثل قول: ( أعوذ بكلمات التامات من شر ما خلق )، ونحو ذلك. والناظر في أحوال الناس يجد الإخلال الكبير بذلك، وعدم الالتفات إليه، حتى مع الصبيان والأطفال الصغار يشرع أن يعوَّذوا ويحرَّزوا بالأحراز والأدعية الشرعية، فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس أن النبي
كان يعوذ الحسن والحسين بقوله:
{ أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، ويقول: إن أباكما - إبراهيم - كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق }.
ومن اتقاء العين أن لا تُظهر المحاسن عند من يُخشى منه ذلك، قال الحافظ البغوي في [شرح السنة]: ( روي أن عثمان ابن عفان رأى صبياً مليحاً فقال: دسموا نونته، كي لا تصيبه العين ). ومعنى دسموا: أي سودوا نونته، وهي الثقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير.
ومن اتقاء العين قبل وقوعها أن يدعوا المرء بالبركة إذا رأى ما يعجبه، وذلك بأن يقول: بارك الله لك فيه، أو: اللهم بارك عليه، ونحو ذلك، فإن من حكمة الباري وقدره أن الضرر يندفع حينئذ بإذنه تعالى، يدل على ذلك: ما صح عند مالك وابن ماجة وغيرهما عن أبي أمامة سهل بن حُنيف، قال: مرَّ عامر بن ربيعة بسهل بن حنيف وهو يغتسل، فقال: لم أَرَ كاليوم، ولا جلد مخبأة - يريد بذلك نضارة جلده وصفاء بشرته كالفتاة العروس التي لم ترها العيون، ولم تبرز للشمس فتغيرها - قال: فما لبث أن لبط به - أي صرع وسقط على الأرض - فأُتي به النبي
، فقيل له: أدرك سهلاً صريعاً، قال:
{ من تتهمون به؟ } قالوا: عامر بن ربيعة، قال
:
{ علام يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه، فليدعُ له بالبركة } ثم دعا بماء، فأمر عامراً أن يتوضأ، فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وركبتيه، وداخلة إزاره، وأمر أن يُصب عليه. قال الزهري: ( وأمره أن يكفأ الإناء من خلفه، وفي بعض الروايات: أنه قام ليس به بأس ).
وفي الحديث بيان لعلاج العين، وذلك بأن يؤخذ من العائن الماء الذي غسل به مواضع الوضوء منه وبعض ملابسه الملامسة لجلده، وخاصة مما يلي الورك، ثم يُصبُّ على المعيون من خلفه.
ولذا جاء عند مسلم قوله
:
{ وإذا استغسلتم فاغسلوا } والمعنى إذا طُلب من الشخص ماء وضوئه وغسله بعض ثيابه فليفعل ولا يغضب لذلك.
والواجب على من ظن من نفسه أنه يصيب بالعين، أن يتقي الله ويتجنب ما يفضي به إلى ذلك، بأن يكثر من ذكر الله ويبارك للناس وألا يحسدهم على ما آتاهم الله، فإنه إذا حسدهم فكأنما يعترض على ربه، وذلك خسران مبين، علاوة على ما يكون في قلبه من الوحشة والكآبة والحزن.
ومما تعالج به العين - بعد وقوعها - الرقية الشرعية، التي دل عليها الشرع المطهر، مما جاء في الكتاب والسنة، مثل الفاتحة وآية الكرسي والمعوذتان، وهكذا ما صح عن النبي
، ومن ذلك رقية جبريل للنبي
وهي قوله: ( باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس وعين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك )، ونحو ذلك مما هو مبين في موضعه.
قال العلاَّمة ابن القيم رحمه الله: ( ومن جرَّب هذه الدعوات والعوذ، عرف مقدار منفعتها، وشدة الحاجة إليها، وهي تمنع وصول أثر العائن، وتدفعه بعد وصوله، بحسب قوة إيمان قائلها، وقوة نفسه واستعداده، وقوة توكله وثبات قلبه، فإنها سلاح، والسلاح بضاربه ).
تبيهات:
الأول: الإصابة بالعين قد تكون من الإنس، وقد تكون من الجن، ومما يدل ذلك ما رواه الشيخان، البخاري ومسلم، عن أم سلمة زوج النبي
؛ أنه عليه الصلاة والسلام رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة، أي أنه لاحظ في وجهها تغيراً، فقال
:
{ استرقوا لها، فإن بها النظرة }. قال الحافظ البغوي رحمه الله: ( أراد بالنظرة العين، يقول: بها عين أصابتها من نظر الجن، وقيل: عيون الجن أنفذ من أَسنَّة الرماح ).
ولا شك أن الإنسان إذا تجرد من ملابسه لتغييرها، أو عند قضاء الحاجة ونحو ذلك، فإن ذلك أدعى لإصابته بالعين، ولذا حث النبي
على الاحتراز من نظر الجن، بذكر اسم الله تعالى، يبين ذلك ما رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن النبي
أنه قال:
{ ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدكم الخلاء - وفي رواية: إذا وضع أحدهم ثوبه - أن يقول: بسم الله }.
الثاني: ينبغي الاحتراز لمن كان مهيَّأ للإصابة بالعين، بسبب صحته أو حسنه ونحو ذلك، وألا يعرض للإصابة بالعين، وأعني بذلك مثل ما يقع من بعض النساء إبداء محاسنهن أو محاسن بناتهن بشكل فاضح، وخاصة في المناسبات والأفراح ونحوها، والواقع شاهد بذلك وبكثير من عواقبه المؤلمة. وفي هذا يقول الشاعر:
ما كان أحوج ذا الكمال *** إلى عيب يوقيه من العين
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: رخَّص رسول الله
لآل حزم في رقية الحية، وقال لأسماء بنت عميس:
{ ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة، تصيبهم الحاجة؟ } يعني أن أجسامهم نحيلة ضعيفة، وهم أولاد جعفر بن أبي طالب، فقالت: لا، ولكن العين تسرع إليهم، فقال:
{ ارقيهم }، قالت: فعرضت عليه - أي الرقية - فقال:
{ ارقيهم }.
الثالث: أن بعض الناس إذا طلبوا العلاج بالرقى، لم يتحرَّوا ذلك عند من عُرف بصحة عقيدته، وسلامة مقصده ومنهجه، وكونه من أهل العلم، ولذلك يوجد من الناس من يتوجه إلى السحرة والمشعوذين وذوي المقاصد السيئة، الذين يفسدون أكثر مما يصلحون، حتى أن من أولئك من يأمر بأشياء محرمة أو بدعية أو شركية - نسأل الله السلامة، فالواجب على من طلب العلاج بالرقى أن يحذر ويتبين في أمره.
ومما ينبغي أن يعلم أن الرقية لا تكون شرعية جائزة إلا إذا توفر فيها شروط:
الأول: أن تكون بالقرآن، أو مما جاءت به السنة المطهرة.
الثاني: أن تكون بلسان عربي، معروفاً معناها.
الثالث: أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله الذي جعلها سبباً، مع الحذر من تعليق التمائم أو الحروز المحرمة.
الرابع: وجوب التوكل على الله تعالى وتفويض الأمور إليه، مع فعل الأسباب، والحذر من التوهمات والوساوس التي لا أساس لها، ولنتأمل قول الله تعالى على لسان نبيه يعقوب عليه السلام:
وَمَا أُغنِي عَنكُم مِّن اللهِ مِن شَيءٍ إِنِ الحُكمُ إِلاَّ لِلهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَعَلَيهِ فَليَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ [يوسف:67].
الخامس: ليعلم أن ما تقدمت الإشارة إليه من أمر العين واتقائها وعلاجها، إنما ينتفع به من صدق بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله
، وأما من تشكك في ذلك وتردد فيه فقلَّ أن ينتفع بعلاج.
ثانياً: السحر
قال تعالى:
وَاتَّبَعُواْ مَا تَتلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلكِ سُليمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِمُونَ النَّاسَ السِّحرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَينِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِن أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحنُ فِتنَةٌ فَلاَ تَكفُر فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَينَ المَرءِ وَزَوجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِن أَحَدٍ إِلا بِإِذنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُم وَلاَ يَنفَعُهُم وَلَقَد عَلِمُواْ لَمَنِ اشتَرَاهُ مَالَهُ فِي الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ ولَبِئسَ مَا شَرَواْ بِهِ أَنفُسَهُم لَو كَانُواْ يَعَلَمُونَ [البقرة:102].
أخي الكريم: هذه الآية أصل في تحريم السحر وتبشيعه والتحذير منه، والسحر هو ما يتعاطاه السحرة من العقد والنَّفث والأدوية وغيرها، مما يتلقَّونه من الجن والشياطين ليتوصلوا به إلى مآربهم الخبيثة؛ من المرض والقتل والتفريق بين الزوجين ونحو ذلك. ويدخل في هذا الصرف والعطف، والصرف: هو عمل سحري يصرف الشخص عما يهواه، والعطف: عمل سحري كذلك لكنه يعطف الإنسان عما يهواه إلى محبته بطرق شيطانية.
والسحر له أنواع عدة؛ لكنها ترجع إلى قسمين:
الأول: ما يكون بالعقد والنفث والأدوية الضارة، وهو كسحر لبيد بن الأعصم اليهودي - قبَّحه الله - عندما سحر النبي
.
الثاني: ما يكون بالتخييل والتلبيس والتزوير، كما قال الله تعالى عما صنعه سحرة فرعون:
يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِن سِحرِهم أَنَّهَا تَسعَى [طه:66]، وقال:
سَحَرُواْ أَعيُنَ النَّاسِ وَاستَرهَبُوهُم [الأعراف:116].
ومن المعلوم أن رسول الله
قد سُحر كما تقدم، وهذا ثابت في الصحيحين، فعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي
سحر، ( حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله ). وفي رواية: ( حتى كان أنه يأتي النساء - أي زوجاته - ولا يأتيهن ).
ومن حكمة الله تعالى ولطفه أن ذلك لم يؤثر في تبليغ الرسالة شيئاً فإنه
معصوم، ومن الحكمة في ذلك أن يعلم الناس أنه
بشر يصيبه ما يصيبهم، ولأجل أن يعملوا علاج هذا الداء، فما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء.
أخي الكريم: إن تعلُّم السحر وتعليمه وتعاطيه من كبائر الذنوب وموبقاتها، وقد يؤدي ذلك بصاحبه إلى الكفر والعياذ بالله، لما فيه من الاستعانة بالجن والشياطين والخضوع لهم؛ ولذا جاء تحريم السحر في سائر الشرائع، قال تعالى:
وَلاَ يُفلِحُ السَّاحِرُ حَيثُ أَتَى [طه:69]، وبين الله سبحانه عاقبة الساحر فقال:
وَلَقَد عَلِمُواْ لَمَنِ اشتَرَاهُ مَا لهُ فِي الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ [البقرة:102]، والمعنى: أن من تعاطاه وتعلمه فما له عند الله في الآخرة من حظ ولا نصيب بل له الخسارة الفادحة والخزي الأكبر، ثم قال تعالى:
وَلَو أَنَّهُم آمَنُوا وَاتَّقواْ لَمَثُوبَةٌ مِّن عِندِ اللهِ خَيرٌ لَّو كَانُواْ يَعلَمُونَ [البقرة:103]، فدل على أن السحر ضد الإيمان والتقوى، وبهذا استدل من قال بكفر الساحر ضمن أدلة أخرى.
كما حذر النبي
أيضاً من السحر وتعاطيه أو الرضا به والذهاب إلى من يتعاطونه، وجاء في ذلك عنه التهديد الشديد والوعيد الأكيد، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي
قال:
{ اجتنبوا السبع الموبقات } قالوا: وما هن؟ قال:
{ الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس... } الحديث. وسميت موبقات لأنها مهلكات لمن تلَّبس بهن. وبدأ بالشرك لأنه أعظم الذنوب ثم ذكر السحر بعده لأن الغالب أن السحر يؤدي بصاحبه للشرك والكفر بالله، ولأن السحر أعظم ما يكون في الجناية على بني آدم، فهو يفسد على المسحور أمر دينه ودنياه، حتى يجعله كالبهائم بل أسوأ من ذلك بالنظر إلى ما يلحقه من القلق والضيق الشيء العظيم.
وثبت: عن جندب
أنه قال: ( حدُّ الساحر ضربه بالسيف ).
وفي هذا قصة أوردها الحافظ ابن كثير في تفسيره قال: ( كان عند الوليد بن عقبة ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل، ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله، يحيي الموتى! فرآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان من الغد جاء مشتملاً على سيفه، وذهب الساحر يلعب لِعبة ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر، وقال: إن كان صادقاً فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى:
أَفَتَأتُونَ السِحَر وَأَنتُم تُبصِرُونَ [الأنبياء:3] ) [ورواها البيهقي بسند صحيح].
وثبت في الصحيحين والمسند عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب
قبل موته بسنة: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر.
وصح عن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقُتلت [رواه البيهقي].
قال بعض العلماء: إن الساحر يقتله ولي الأمر ولا يستتيبه، فتوبته لا تمنع قتله، بل توبته بينه وبين الله، ويُقتل لأنه ربما كذب في إظهاره التوبة، فإذا تُرك عظم ضرره على الناس، ولذا متى ثبت سحره وجب قتله حماية للمجتمع من شره وضرره. ولذا جاء الوعيد في الذهاب إلى من عُرف بسحر أو كهانة فقال عليه الصلاة والسلام:
{ من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد }.
أخي الكريم: قد يُبتلى بعض الناس بشيء من الأسقام فيضطر للذهاب إلى من يسمع عنهم أنهم يعالجون بالطب الشعبي أو بالرقى والتعاويذ، فينبغي على من ذهب إلى أولئك أن يتبين حالهم ويتوثَّق من صحة عقيدتهم وسلامة منهجهم وخلوهم من البدع، وهل هم عالمون حقيقة بما يصنعون أم أنهم ممن يتخرصون أو ممن يشعوذون ويدجِّلون، ولذا فقد وُجد عند بعضهم تصرفات تدل على دجلهم وشعوذتهم. ومن ذلك: أن بعضهم يطلب من المريض أن يضع المصحف في النجاسات، وبعضهم يأمر المريض بذبح شاة لا يذكر اسم الله عليها، وبعضهم يطلب شيئاً من ملابس المريض، أو يأمره باعتزال الناس والجلوس في الظلام، وألا يمس الماء، أو يعطيه ما يسمى الحجاب، ويحتوي على مربعات بداخلها حروف وأرقام وطلاسم غير معروفة، وبعضهم يزعم أنه يستطيع أن يوجد المحبة بين الزوجين أو يفرق بينهما، أو يأتي بالعقد ويتمتم بكلام غير مفهوم، وغير ذلك من أساليبهم المريبة التي تدل بمجموعها على أن صاحبها ممن يستعين بالجن والشياطين. ولا شك أنه لا يجوز للمسلم أن يذهب إلى هؤلاء المشعوذين ولا أن يصدقهم أو يتعاطى علاجهم. ومن الناس من يتعرض للسحر فيذهب إلى ساحر آخر ليحل عنه السحر، وهذا أيضاً أمر محرم.
وعلى المسلم أن يتحصَّن بالأوراد الشرعية والأدعية والأذكار النبوية طرفي الليل والنهار ليسلم من شر أولئك الناس، وإذا أصيب بأذى - لا قدر الله - فعليه بالرقى الشرعية من آيات القرآن العظيم والأدعية الواردة في السنة المطهرة، وغير ذلك من الأسباب الشرعية المباحة. ومن ذلك قراءة آيات السحر الواردة في سورة يونس والأعراف وطه، يقرؤها في ماء ثم تُصب على رأس المسحور. ومن الأسباب المباحة أيضاً أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثم توضع في ماء ويقرأ عليها آية الكرسي وسورة الإخلاص والفلق والناس والكافرون، ثم يشرب منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به، فلعل له في ذلك شفاء مما يجد بإذن الله، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري، والعلامة ابن القيم في زاد المعاد، والشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ في فتح المجيد. وهذا من الأسباب الشرعية المباحة.
أخي الكريم: ينبغي على المسلم أن يحذر من أعمال السحرة والمشعوذين، خاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه من يلبس الحق بالباطل، وقد قال الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في مسائل باب السحر من كتاب التوحيد قال: ( وجود هذا - يعني السحر - في المسلمين في عهد عمر، فكيف بعده؟ ).
أجل صدق رحمه الله، فإذا كان السحر موجوداً زمن الخليفة الراشد عمر، بل في عهد رسول الله
، فكيف بما بعده من العصور؟ فهو أكثر انتشاراً بين المسلمين، وكلما بعد الناس عن زمن الرسالة استولت عليهم الضلالة والجهالة، وهذا أمر مشاهد؛ فكم رأينا وسمعنا بمن يعاني الويلات والشدائد بسبب أعمال أولئك المبطلين من السحرة والمشعوذين. طهَّر الله مجتمعات المسلمين من رجسهم.
أسأل الله أن يحفظني وإياكم وسائر المسلمين من كل سوء وبلاء وفتنة، وأن يهدينا سواء السببيل. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.