الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد:
فلقد حرم الله ورسوله
الزنا وبين قبحه وفساده وحذرا العباد من الوقوع فيه، ولشناعته فإن الله تعالى لم ينهى عن الوقوع فيه فحسب، بل نهى عن القرب منه فقال عز من قائل:
وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32].
والزنا يعتبر من أكبر الكبائر بعد الشرك والقتل، وهو رجس وفاحشة مهلكة وجريمة موبقة تنفر منها الطبائع السليمة، وهو فساد لا تقف جرائمه عند حد ولا تنتهي آثاره ونتائجه إلى غاية، وهو ضلال في الدين وفساد في الأخلاق، وانتهاك للحرمات والأعراض وإستهتار بالشرف والمروءة، وداعية للبغضاء والعداوة.
قال أحد العارفين:
الزنا عاره يهدم البيوت الرفيعة ويطاطىء الرؤس العالية، ويسود الوجوه البيض ويخرس الألسنة البليغة، ويهوي بأطول الناس أعناقاً وأسماهم مقاماً وأعرقهم عزاً إلى هاوية من الذل والإزدراء والحقارة ليس لها من قرار.
وهو أقدر أنواع العار على نزع ثوب الجاه مهما إتسع، وهو لُطخة سوداء، إذا لحقت أسرة غمرت كل صحائفها البيض وتركت العيون لا ترى منها إلا سواداً حالكاً، وهو العار الذي يطول عمره طويلاً، فقاتله الله من ذنب وقاتل فاعليه.
وقال آخر:
إن الزاني يحط نفسه من سماء الفضيلة إلى حضيض الرذيلة ويصبح بمكان من غضب الله ومقته، ويكون عند الخلق ممقوتاً، وفي دنياه مهين الجانب عديم الشرف منحط الكرامة ساقط العدالة، تبعد عنه الخاصة من ذوي المروءة والكرامة والشرف مخافة أن يعديهم ويلوثهم بجربه، ولا تقبل روايته ولا تسمع شهادته، ولا يرغب في مجاورته ولا مصادقته.
مفسدة الزنا
إن في الزنا فساد للزاني والزانية، أما فساده للزانية فهي تفسد بهذا العمل حياتها وتخسر شرفها وشرف أهلها وتسيء إلى سمعتها وسمعة أهلها، وتفسد فراش زوجها إن كانت ذات زوج وربما أدخلت عليه أولاداً من الزنا فتغش بهم زوجها وينفق عليهم طوال حياته ويرثونه من بعد موته وينتسبون إليه وهم ليسوا بأولاده إلى غير ذلك مما تفسده المرأة بسبب وقوعها بهذه الفاحشة، وإن كانت المرأة الزانية غير متزوجة فبالإضافة إلى أنها تفسد بهذا العمل حياتها وتخسر شرفها وشرف أهلها وتسيء إلى سمعتها وسمعة أهلها فإنها بهذا العمل المشين قد صرفت أنظار راغبي الزواج عنها ولا يتقدم لخطبتها أحد يعرف حالتها حتى ولو كان مجرماً قد عبث بها وأهدر شرفها وكرامتها لأنه يحتقرها ولا يرضاها زوجة له لما يعرفه عنها من الخيانة فتعيش المرأة بعد جريمة الزنا عيشة ذل وهوان، لا زوج يحصنها ولا عائل يعولها فتصبح محتقرة ذليلة بين أهلها وذويها إضافة أيضاً إلى الجناية على سمعة أخواتها مما يقضي على مستقبلهن ويبعد عنهن راغبي الزواج بسبب جنايتها.
وأما فساده للزاني فإنه بالزنا ينكلب ويتولع منه ويصبح كالكلب المسعور في تعلقه بالنساء وقد يكون سبباً في إبتلاء أحد محارمه بالوقوع بمثل هذه الفاحشة عقوبة من الله له فيُهتك عرضه كما هتك هو أعراض الناس ويفتضح أمره ويسقط من أعين الناس ويقل إحترام الناس له.
أضرار الزنا
إن للزنا أضرار كثيرة فمنها:
1 - ضياع النسل والجناية عليه، فالزاني والزانية لو أدركا ما قد يترتب على جريمتهما التي تنقضي على الفور، لو أدركا ما يترتب عليها من الآثام والزور وغضب الله لهان عليهما أن يفنيا من الوجود ولا يرتكبا تلك الجريمة الشنعاء.
2 - يتسبب الزنا في إختلاط الأنساب وإفساد الأخلاق ويفضي إلى فناء الأمة ويدعو إلى الشقاق والفساد ويسبب إنتشار الأمراض المستعصية التي لم تكن موجودة من قبل كما ورد ذلك عن النبي
في قوله:
{ لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا } [رواه ابن ماجة] وصدق رسول الله
فقد إنتشر في هذا الزمن بسبب كثرة الزنا الأمراض الكثيرة الخطيرة، عقوبة من الله تعالى لأهل هذه الفاحشة.
3 - الزنا يعمي القلب ويطمس نوره، ويحقّر النفس ويقمعها ويسقط كرامة الإنسان عند الله وعند خلقه، ويمحق بركة العمر، ويضعف في القلب تعظيم الله وخشيته.
أدلة تحريم الزنا
قال تعالى:
وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32].
وقال تعالى:
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:69،68].
وقال
:
{ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } [متفق عليه].
وقال
:
{ لا يحل دم إمرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث وذكر منها الثيب الزان } [متفق عليه]. وقال عليه الصلاة والسلام:
{ ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له }.
عقوبة الزنا
عقوبة جماعية: فإنه لا يقتصر ضرر الزنا على الزناة فقط بل يتعدى إلى غيرهم، فينزل غضب الله على قوم كثر فيهم الزنا، ويكثر فيهم الموت أيضاً، فعن ابن عباس أن رسول الله
قال:
{ إذا ظهر الزنا والربا في قوم فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله } [رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد]. لذا فيجب على جميع المسلمين محاربة الزنا والإبتعاد عن أسبابه كالتبرج والسفور والاختلاط والغناء والمجلات الماجنة والأفلام والمسلسلات الهابطة الداعية إلى كل فاحشة ورذيلة.
عقوبة فردية: وهي إقامة الحد على الزاني والزانية إذا كانا محصنين وذلك بقتلهما رجماً بالحجارة حتى يموتا لكي يجدا الألم في جميع أجزاء الجسم كما تلذذا بجسديهما قال
:
{ الولد للفراش والعار للحجر }، وإن كانا غير محصنين جلدا مائة جلدة بأعلى أنواع الجلد ردعاً لهما عن المعاودة للاستمتاع بالحرام، إضافة إلى فضحهما بين الناس والتشهير بهم.
وإذا أفلت الزناة من عقوبة الدنيا ولم يتوبوا فلهم في الآخرة عذاب أليم فقد روى البخاري أن رسول الله
قال:
{ أتاني الليلة آتيان وإنهما إبتعثاني وإنهما قالا لي: إنطلق.. فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته نار، فإذا إقترب إرتفعوا حتى كاد أن يخرجوا فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة فقلت من هؤلاء؟ قالا لي: هؤلاء هم الزناة والزواني }، وجاء في الحديث أيضاً:
{ أن من زنى بإمرأة كان عليه وعليهما في القبر نصف عذاب هذه الأمة }.. وهذا فقط عذاب القبر أما في الآخرة فإن عذابهم شديداً فهم يعذبون بوادي أثاما وهو وادي من أدوية جهنم الكبرى نعوذ بالله منه.
قال تعالى:
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:69،68].
فالزاني يشارك المشرك والقاتل نفس العذاب والعياذ بالله ! فهل يليق بعاقل بعد ذلك أن يعرض نفسه لمثل هذا العذاب من أجل شهوة عابرة تذهب لذتها سريعاً ويبقى عذابها طويلاً؟!
فيا من خان الأعراض وتعدى عليها وابتغى الفساد في الأرض إن الغيرة من شيم الرجال ومن أخلاق النبلاء ومن شعب الإيمان ومن مقتضيات إياك نعبد وإياك نستعين فأين الغيرة ممن يتعدى على أعراض الناس،... كم أفسدت بين إمرأة وزوجها وكم جعلت بنتاً حبيسه الجدران في بيتها بعد أن ذبحت عفتها وضيعت شرفها وشرف أهلها وأساءت إلى سمعتها وسمعة أهلها أينك من الغيرة على محارم الله وأنت تنتهكها؟ وأينك من الغيرة على محارمك فالذي يتعدى على محارم الناس لا يغار على محارمه، لأنهن قد يبتلين بمن يتعدى عليهن عُقوبة لك، وكما قيل: ( كما تدين تدان ).
ثم إني أسالك بالله، هل ترضى الزنا لأمك؟ أو أن يتحدث معها أحد ويداعب مشاعرها؟ فإن كنت ترضاه فأنت والعياذ بالله ديوث، وما أضنك ترضاه، وإن كنت لا ترضاه لأمك فإن الناس كذلك لا يرضونه لأمهاتهم، وإن كنت لا ترضاه لأختك أو إبنتك أو عمتك أو خالتك فالناس كذلك لا يرضونه لأخواتهم وبناتهم أو عماتهم أو خالاتهم؛ فهل عرضك حرام على الناس وأعراض الناس حلال لك أما ترحم أمك أو أخواتك أن يُصبن بمثل ما أصبت من محارم الناس، أما ترحم إبنتك أو زوجتك أن يفعل بها مثل ما فعلت أنت ببنات الناس.
يا قاطعاً سبل الرجال وهاتكاً *** سُبل المودة عشت غير مكرم
من يزني في قوم بألفي درهم *** في أهله يزنى بغير الدرهم
إن الزنا دين إذا إستقرضته *** كان الوفاء من أهل بيتك فاعلم
لو كنت حراً من سلالة ماجد *** ما كنت هتاكاً لحرمة مسلم
وأنت أيتها المرأة يا من هتكت عرضك وعرض زوجك وأهلك بالزنا ومرغتيه في الوحل ونزلت به إلى الحضيض، وأفسدت حياتك وحياة أهلك وأسأت إلى سمعتك وسمعتهم من أجل شهوة عابرة أو عرضاً زائلاً من الدنيا، أما تخافين الله كيف طاوعتك نفسك على فعل هذه الفاحشة النكراء! أين ذهب حياءك؟ أين ذهب عقلك؟ هل فكرت بعذاب الله؟ هل فكرت بعاقبة ذلك في الدنيا والآخرة؟ هل فكرت في الفضيحة في الدنيا قبل الآخرة؟ هل فكرت في موقف أهلك وزوجك وأولادك وفضيحتهم بين الناس لو إنكشف أمرك؟ هل فكرت بالعار الذي سيلحق بهم؟ هل فكرت ماذا سيكون لهم بعد ذلك وكيف سيواجهون الناس وقد سودت وجوههم بجريمتك هذه؟ إن موتك أو قتلك أهون عليهم بكثير من وقوعك بمثل هذه الفاحشة فاتقي الله وتوبي إليه وابتعدي عن هذا العمل المخزي قبل أن يفتضح أمرك أو أن تموتي وأنت مصرة على هذه الفاحشة القبيحة.
وأخيراً..
اعلموا يا من إبتليتم بالزنا رجالاً ونساءً أن الله يراكم، فاحذروا أن تجعلوه أهون الناظرين إليكم وأحقر المطلعين عليكم وتجعلون هذه الشهوة الحيوانية وهذه اللذة الفانية تنسيكم عظمة مولاكم وإطلاعه عليكم، إنكم لا تستطيعون أن تفعلوا هذه الفاحشة القبيحة أمام أي إنسان حتى ولو كان طفلاً صغيراً ولكنكم مع الأسف الشديد ترتكبونها أمام العلي الكبير جبار السموات والأرض، فأين تعظيم الله في قلوبكم؟ أين صدق الإيمان؟ أين الاستجابة للرحمن؟ أما استشعرتم عظمة الجبار؟ أما تخافون غضب القهار؟
وهل نسيتم الموت وسكراته والقبر والسراط وزلته والحساب وشدته هل نسيتم النار وما فيها من العذاب إن أمامكم أهوال عظيمة لا يعلم عظمها إلا الله لا طاقة لكم فيها ولن تتحملوها، فلا تجعلوا هذه الشهوة الفانية تنسيكم كل هذه الأهوال التي أمامكم وتنسيكم عظمة ربكم وتنسيكم مصيركم ومآلكم، ووالله إنكم لأضعف من أن تتحملوا شيئاً من عذاب الله فلا تتمادوا في معصيته، ووالله إن شهوات الدنيا كلها لا تساوي ضمة من ضمات القبر فكيف بما بعده من العذاب، ولا خير والله في شهوة بعدها النار والدمار فتوبوا إلى الله قبل أن لا تستطيعوا أن تتوبوا وقبل أن تندموا في وقت لا ينفع فيه الندم.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضي وجعلنا جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.