شرح الحديث الشريف - الشرح المختصر - الدرس ( 059 - 207 ) : لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها........
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2001-06-23
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الأخوة الكرام: لا زلنا في إتحاف المسلم بما في الترغيب والترهيب من صحيح البخاري ومسلم، والدرس اليوم حول الترغيب في العمل على الصدقة بالتقوى، والترهيب من التعدي فيها والخيانة واستحباب ترك العمل لمن لا يوثق به.
يحضرني الآن أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى تمرة على سريره فقال:
(( عَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ قَالَ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا ))
(صحيح البخاري)
كان عليه الصلاة والسلام يحاسب نفسه على تمرة ! هذه رواية صحيحة، لكن قرأت رواية أخرى مخالفة: أنه قطع عنه الوحي أسبوعين، فقال: (ورد في الأثر)
(( يا عائشة لعلها ترمة أكلتها من تمر الصدقة ))
فالترغيب في العمل على الصدقة بالتقوى.
حدثني أخ من تجار سوق الهال قال: لي أخ رأيته في المنام يحترق، فقلت له: مالك ؟ فقال: ثمانية آلاف، كان تحت يده ثمانية آلاف صدقة مكلف أن يوزعها صدقة فأنفقها على نفسه على خلاف وصية المتصدق، فهذا الأخ جزاه الله خيراً جاء بالمبلغ وعمرنا غرفة لأخ فقير يسكن بملحق ينام أولاده الشباب مع بناته الشابات في غرفة واحدة، القصة قديمة منذ عشرون سنة، عمرنا له الغرفة بهذا المبلغ ثمانية آلاف.
حادثة ثانية وإن لم يكن من عادتي أن أستخدم المنامات كدليل، لكن لها موعظة: أخ كريم له عمة يحبها حباً جماً، توفاها الله عز وجل أقسم لي بالله خلال ثماني سنوات يراها تشتعل ! ثم في النهاية رآها في حالة طيبة سألها: ما قصتك يا عمتي ؟ قالت له: الحليبات، كان لها أولاد من صلبها وأولاد من زوجها، فإذا أرادت أن تطعم أولادها الحليب ملأت الكأس كله حليباً، أما أولاد زوجها تملأ النصف حليباً والباقي ماء، ظلم، أولادها الكأس بكامله حليب، أما أولاد زوجها نصف حليب ونصف ماء.
﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾
(سورة البقرة)
الذي جاهد مع رسول الله، وقتل في ساحة المعركة شهيداً، جاء النبي ليصلي عليه فقال:
((عَنْ جَابِرٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَأُتِيَ بِمَيْتٍ فَسَأَلَ أَعَلَيْهِ دَيْنٌ قَالُوا نَعَمْ عَلَيْهِ دِينَارَانِ قَالَ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ قَالَ أَبُو قَتَادَةَ هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ ))
(سنن النسائي)
شهيد بذل أثمن ما يملك، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، بذل كل ما يملك روحه، ومع ذلك لن يغفر الله له الدين، لأن حقوق العباد مبنية على المشاححة، بينما حقوق الله مبنية على المسامحة.
إخواننا الكرام: من دون توهم أو سذاجة لو حججت مليون حجة ترجع من ذنوبك كيوم ولدتك أمك فيما بينك وبين الله فقط، أما فيما بينك وبين العباد والله لا تعفى عن حد إلا بحالتين إما أن تؤديه أو أن تسامح، حقوق العباد لا تسقط إلا بإحدى حالتين: بالأداء أو المسامحة، تصوم رمضان تقوم الليل تحج مليون حجة هذا كله لا علاقة له بحقوق العباد، هذا متعلق بحقوق الله عز وجل، ما بينك وبين الله الصلحة بلمحة.
( يا ربي إني تبت إليك، يقول لك: يا عبدي وأنا قد قبلت، )
من هنا استنبط العلماء من قوله تعالى:
﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾
(سورة الأحقاف)
يغفر لكم من، أي يغفر لكم بعضها، يغفر لكم بعضها الذي كان بينكم وبينه أما ما كان بين العباد فلابد من أن تؤدى الديون وأن يسامح صاحب الحق.
والذي اغتصب مزرعة، اضطر لثلاثمائة ألف قرض، وسأل إنسان، طلب ضمانة، قال: عندي مزرعة، قال: اكتبها لي بالطابو، سجلات عقارية، وأنا أقرضك المبلغ، فإذا رددته إلي أعدت لك المزرعة قال: موافق، أقرضه ثلاثمائة ألف والمزرعة مستواها مليون، وسجل المزرعة باسمه، بعد ثلاثة سنوات أصبح المبلغ جاهزاً، قال له تفضل، قال: لا شكراً كل منا حقه معه، من شدة الألم أصابته أزمة قلبية وأوشك على الموت، قبل أن يموت كتب وصية، وكلف ابنه الأكبر، بيته بالمهاجرين وبيت خصمه تقريباً بباب توما، فقال: تمشي بالجنازة من المهاجرين إلى القصاع توقفها أمام الخصم وتدخل أمام الناس كلها على محل الذي اغتصب مني المزرعة وسبب لي أزمة قلبية والذي مت من أجلها وتعطيه هذه الرسالة، ثم تكمل وتدفنوني، فهذا الابن نفّذ وصية والده، مشّى الجنازة من المهاجرين إلى القصاع، أوقفها أمام المحل خرج من الجنازة دخل للمحل وأعطاه الرسالة وأخبره أن هذه الرسالة من المرحوم، كتبها قبل أن يموت، كتب له: أنا ذاهب إلى دار الحق وسأقاضيك هناك، وإن كنت بطلاً لا تلاحقني!
والله سمعت أنه رد إليهم المزرعة.
﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾
(( عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الْخَازِنَ الْمُسْلِمَ الْأَمِينَ الَّذِي يُنْفِذُ وَرُبَّمَا قَالَ يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ فَيُعْطِيهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ ))
(صحيح مسلم)
خازن أمين صندوق أودع عنده مبلغ، ونقل إلى صاحبه بالتمام والكمال، هو عند الله أحد المتصدقين.
سيدنا عمر التقى راعياً معه شياة قال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، قال ليست لي قال: قل لصاحبها ماتت، قال: ليست لي، قال: خذ ثمنها، قال: والله إني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين ولكن أين الله ؟
راعي معاصر أعطوه عشر غنمات ليوصلهم لرجل مع كتاب هذا بالطريق باع واحدة ووضع ثمنها بجيبه، وصل إلى الشخص الآخر قال: هؤلاء من فلان وهذه الرسالة، هذا قرأ فوجد عشر غنمات، عدهم تسعة، قال له: هؤلاء تسعة ومكتوب عشرة، ماذا أتكلم معك ! ؟ تسعة قال تسعة، عشرة قال: عشرة، كاد يجن منه، فأحضر عشرة من جيرانه قال فليمسك كل واحد غنمة، قال: هذا أين غنمته ؟ قال: لماذا لم يأخذ ماذا أفعل له ؟ جننه، هذا المعاصر، فاليوم تجد غصب أموال سلب أموال احتيالات سندات مزورة شيكات بلا رصيد اغتيال شركات، سكن ببيت استملكه، وكل واحد محامي عمل له وكالة عامة امرأة تملك ملايين مملينة كله كتب باسم المحامي بالوكالة، هذا الحاضر، كأن الناس لا يموتوا.
حتى أن أحد كبار العلماء يقول: والله كأنني أرى أن لسان حال المسلمين يقول: وما نحن بمبعوثين، لو اطلعت على ما يجري بقصر العدل من قضايا تقول بالمائة مائة هؤلاء لن يموتوا، لو أنهم سيموتون ما فعلوا هذا، وتجد إنسان وهو في أوج غناه يموت فجأة ويدفن في التراب، أين المال الذي اغتصبه ؟
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً﴾
(سورة آل عمران)
لن يمنعهم مالهم من عقاب الله عز وجل.
لي كلمة: بالعمل التجاري أتحمل من أي موظف مليون غطلة، أما يوجد خطأين إذا ارتكب إحداها لا أبقيه ولا دقيقة الكذب والخيانة.
(( عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))
(مسند الإمام أحمد)
فإذا كذب وخان فليس مؤمناً، يوجد مؤمن عصبي، ومؤمن بالتعبير العامي لبّيس ومؤمن لباسه وسط، ومؤمن ركّيب سيارته توج وجاً، ومؤمن لا بأس ومؤمن مرتب ومؤمن هادئ مؤمن اجتماعي مؤمن انعزالي مؤمن صريف مؤمن يده ماسكة قليلاً كله على العين والرأس
(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))
لذلك عندما سيدنا جعفر سأله النجاشي عن رسول الله قال:( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الرحم ونسيء الجوار حتى بعث الله فينا رجلاً نعرفه أمانته وصدقه وعفافه )
ثلاث كلما إخواننا جمعت بهن الأخلاق كلها، إذا حدثك صادق وإذ عاملك أمين، وإذا استثيرت شهوته عفيف.
يوجد شخص أمين وصادق لكن غير عفيف، إذا خلا بامرأة انتهك حرمات الله، فالمؤمن إذا حدثك صادق وإذا عاملك أمين وإذا استثيرت شهوته عفيف، قدوته سيدنا يوسف:
﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾
(سورة يوسف)
شاب جميل الصورة التي دعته سيدته، وليس في صالحها تفضحه، غير متزوج، امرأة ذات منصب وجمال، العلماء عدوا اثني عشر سبباً يدعوه إلى الزنى، ومع ذلك قال:
﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾
فأبقي بذهنك الصدق والأمانة والعفة، هذه أركان الأخلاق. حتى بعث الله فينا رجلاً نعرفه أمانته وصدقه وعفافه ونسبه فدعانا إلى الله لنعبده ونوحده ونخلع ما كان يعبد آبائنا من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم والكف عن المحارم والدماء.
آخر حديث:
(( عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمْنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ قَالَ وَمَا لَكَ قَالَ سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا قَالَ وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى ))
(صحيح مسلم)
إبرة فقط، فما قولك فيما فوق الإبرة ؟ درسنا اليوم عن الأمانة، أنت معك مبلغ لتنقله إلى فلان أعطيت مبلغ وُكّلت بدفع زكاة مال، دفع صدقة يجب أن تؤديها بالتمام والكمال لأن الله سيحاسب حساباً عسيراً يوم القيامة
والحمد لله رب العالمين