شرح الحديث الشريف - الشرح المختصر - الدرس ( 053 - 207 ) : الترهيب من الكلام والإمام يخطب .
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2001-06-09
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الأخوة الكرام: لا زلنا في إتحاف المسلم بما في الترغيب والترهيب من صحيح البخاري ومسلم، والموضوع اليوم الترهيب من الكلام والإمام يخطب والترغيب في الإنصات، وقد حدثتكم من قبل أن الاستماع شيء وأن الإنصات شيء آخر، الآية الكريمة:
﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)﴾
(سورة الأعراف)
الاستماع واضح، أنك أصغيت وفهمت فحوى الكلام، وقد أِار القرآن الكريم إلى حقيقة السماع فقال:
﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾
(سورة التحريم)
حقيقة الإصغاء أن ينقلب إلى عمل.
﴿ وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ﴾
لا تعد عند الله مستمعاً إلا إذا انقلب سماعك إلى تطبيق.
﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)﴾
(سورة الأنفال)
أوضح مثل في ذلك: لو قلت لإنسان العقرب على كتفك ولدغته قاتلة، قبل أسبوعين إنسان في بغداد يركب شاحنة في مكان البضاعة وقعت من السماء أفعى لدغته فجعلته ميتاً، صقر يحمل بين فكيه أفعى، تفلتت من فمه ووقعت على رأس إنسان يركب شاحنة في بغداد فلدغته فاماتته فوراً !
بالمناسبة لماذا لدغة الأفعى تميت فوراً ؟ لأن سمّ الأفعى يخفض الضغط إلى الصفر فجأة، وإذا انخفض الضغط إلى الصفر مات الإنسان، الآن أنجح دوار لتخفيض الضغط اسمه كابوتين مأخوذ من سمّ الأفعى بنسب قليلة جداً فلو قلنا لإنسان على كتفك عقرب شائلة ولدغته قاتلة بقي هادئاً وابتسم وقال: أنا شاكر لهذه الملاحظة وأرجو الله أن يمكنني من أن أكافئك على هذه المحافظة، هل سمع ما قلت له ؟ لو أنه فهم ما قلت له لقفز وصرخ ونفض معطفه، فالذي لا يطبق ما يسمع لن يفهم ما يسمع ولم يستوعب ما يسمع، فالله عز وجل يقول:
﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)﴾
﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾
فالاستماع أن تستوعب وأن تطبق، أنت الآن في خطبة الجمعة وألقى الخطيب خطبة فيها أحاديث وآيات، فأنت ربما استوعبت الحديث من أول كلمة، استوعبت واستمعت، لكنك تلهو بسبحة أو تلهو بهمس في أذن صديقك، أنت استمعت ولم تنصت، وشوشت على المستمعين سماعهم فأنت مكلف أن تستوعب وان تطبق وأن تسنح لك من حضر أن يستمع.
﴿ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾
فالحديث: إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت، ماذا أفعل ؟ أشر إليه دون أن تتكلم، يوجد بالتعليم سر الأستاذ الهادئ كل من حوله يصمت، أما يوجد إنسان صوته مرتفع، أحياناً تلوين الصوت يدعو إلى الإنصات، أحياناً الموضوع الذي يحرك المشاعر يدعو إلى الإنصات، أحياناً قصة مؤثرة.
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾
(سورة يوسف)
يدعو للإنصات، فنحن كما أننا نطالب المستمعون أن ينصتوا نطالب الخطيب أن يأتي بجديد.
حدثنا أخ توفي رحمه الله له والد في حمص يحضر في مسجد، هذا الوالد بقي في هذا المسجد سنوات ستة، يلاحظ رجل كلما صعد الخطيب إلى المنبر يذهب ويقف على باب المسجد ينظر إلى الرائح والغائب، فإذا أقيمت الصلاة وقف وصلى وراء الإمام، فهذا المصلّي همّ أن ينصحه قال له: يا رجل أنت مسلم لماذا كلما صعد الخطيب المنبر تقف على باب المسجد تنظر إلى الناس الغائب والرائح ولا تجلس لسماع الخطبة ؟ قال: أنت كم لك في هذا المسجد ؟ قال: ست سنوات، قال: أنا لي في هذا المسجد ثمانية وعشرون عاماً ادخل إلى الحرم وائتني بكلمة واحدة من الخطبة لأتمم لك الخطبة حفظها غيباً ! إذا كان الخطيب لم يجدد ولم يعالج موضوعات حساسة وموضوعات ساخنة وموضوعات فيها حل للأمة موضوعات الساعة، ما وضع يده على جرح الناس، لا ينتبه أحد إليه.
مرة كنت في الحرم المكي زاده الله شرفاً فكان هناك مدرس ديني جزاه الله خيراً، الموضوع عتق العبيد، اليوم لا يوجد عبيد ! الآن توجد عبودية الأمم، كنا في العصور السابقة مع عبودية الأفراد، الآن في عبودية الأمم، أما عبيد أفراد لا يوجد، ففي الدين موضوعات مهمة جداً لكن في عصر معين تضعف أهميتها لعدم وجودها، نحن لا يوجد عندنا ملك يمين، فملك اليمين بحث عميق طويل جداً يأتي رجل ويسألني ما حكم ملك اليمين ؟ لا يوجد اليوم، فيوجد موضوعات تحتل المرتبة الأولى، وموضوعات غير موجودة الآن، فالعبارة أن الذي يتكلم ينبغي أن يتكلم من منطق واقعي ومن مشكلة حقيقية يعانيها المسلمون، فهو مكلف أن يجدد...
بالمناسبة الذي يحضر دروسه يحترم طلابه.
حدثني أخ مرة قال: والله حضرت خطبة الخطيب فتح ثمانية وعشرون موضوعاً لم يغلقهم، ذكر عنوان موضوع عنوان ثاني عنوان ثالث، استشهد بآية وحديث لا يوجد شيء محدد، يلقي خطبة ارتجالية غير محضرة إطلاقاً، كلما حضرته خاطرة ألقاها، فلذلك مثل هذه الخطب لا تشد الناس إليها، أما إذا كان هناك خطب مبرمجة منظمة فقرات بداية عرض نهاية الفكرة والشاهد والدليل أقوال صحابة والتابعين وأدلة علمية الإنسان يشد إليها.
إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت، ومن حق الأخ على أخيه أن يستمع له، وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه، وهو أعلم به من المصغي.
أيها الأخوة: كان عليه الصلاة والسلام يحسن حسن الاستماع وقد قيل تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به، فمن أعلى درجات الأدب أن تصغي إلى محدثك بل إن أكثر بيوت المسلمين بعد مضي حين على زواج الزوجين ينشأ نفور أو فتور ف العلاقة سببها أن الزوج منصرف عن زوجته لشؤونه، فتوجد نصيحة تقدم للأزواج: أصغي إلى زوجتك عشرين دقيقة في اليوم دون أن تمسك كتاباً أو مجلة أو دون أن تتابع موضوعاً في الكمبيوتر، حينما تصغي إليها عشرين دقيقة تمتن العلاقة بينك وبينها، فكثير من الأشخاص لا يحسنون الإصغاء أبداً، إما أن يتكلم أو يتشاغل بشيء آخر، فالذي يتكلم دون أن يُصغى إليه يتألم أشد الألم.
كان عليه الصلاة والسلام إذا صافح إنسان لا يسحب يده منه إلا أن يبدأ المصافح، وكان يجلس مع العبد وكان يقول(ورد في الأثر):
برئ من الكبر من حمل حاجته بيده وبرئ من النفاق من أكثر ذكر الله وبرئ من الشح من أدى زكاة ماله
والحقيقة الناحية الإيجابية أن مساجد المسلمين ترى أن جمهور الناس في المسجد قد يكون بالآلاف يوم الجمعة، وقد يكون الخطيب أقلهم علماً يجوز، حي فيه علماء ودكاترة ومع ذلك كلهم ينصت، لكن أقلهم علماً بمعنى آخر: لو فرضنا أنت شيخ ومحترم جداً لو أعطيناك تخطيط قلب هل تفهم منه شيئاً ؟ أبداً، فأنت في هذا التخطيط أمّي، وأنت وحيد عصرك وفريد زمانك ومن فلتات الزمان ومع ذلك أنت أمّي في تخطيط القلب، لكن لو جاء إنسان يحمل أعلى شهادة في العالم يحمل بورد مثلاً معه غف آر إس معه أكريجيه هو بالدين أمّي أيضاً ! فالعلم أنواع هناك علم بخلقه وهناك علم بأمره وهناك علم بذاته فعلماء القلوب عرفوا الله قال تعالى:
﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً (59)﴾
(سورة الفرقان)
وعلماء الشريعة عرفوا الشريعة، قال تعالى:
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾
(سورة الأنبياء)
وأما علماء الفلك والطب والفلسفة والهندسة عرفوا خلق الله، فيمكن أن تتعرف إلى خلق الله أو إلى أمر الله أو إلى ذات الله، أمر الله وخلقه يحتاجان إلى مدارسة، كتاب وأستاذ وقراءة وتلخيص وحفظ ومراجعة وأداء امتحان ونيل شهادات وثم التعيين، لكن العلم بالله يحتاج إلى مجاهدة
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾
(سورة العنكبوت)
والحمد لله رب العالمين