الدنيا جميلة براقة
نبذة :
فها هي الدنيا في كامل زينتها، وأبهى حلتها، وأجمل بهجتها تعرض نفسها لخاطبيها ومشتريها، وحق لها ذلك: لكثرة الغافلين واللاهين والعابثين، وإقبال الخاطبين والمشترين، فكم نشاهد اليوم من تهافت كثير من النّاس على هذه الدنيا الفانية، وزهدهم في الآخرة الباقية
إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، أهل هو أن يعبد، وأهل هو أن يحمد، وأهل هو أن يشكر، فله الحمد كله، وله الشكر كله، وإليه يرجع الأمر كله علانيته وسره، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا إلى الخير محمد بن عبدالله صلوات ربي وسلامه عليه ما أظلم ليل وأشرق النهار، وعلى آله وصحابته الأبرار.. أما بعد:
فيقول الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]، وقال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [ يونس:24].
ولقد مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالسوق والنّاس كنفيه (عن جانبيه) فمر بجدي أسك (صغير الأذن) ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: «أيّكم يحب أن يكون هذا له بدرهم؟». قالوا: ما نحب أنّه لنا بشيء وما نصنع به؟ ثم قال: «أتحبون أنّه لكم؟». قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً، إنّه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال: «فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم» [رواه مسلم].
فها هي الدنيا في كامل زينتها، وأبهى حلتها، وأجمل بهجتها تعرض نفسها لخاطبيها ومشتريها، وحق لها ذلك: لكثرة الغافلين واللاهين والعابثين، وإقبال الخاطبين والمشترين، فكم نشاهد اليوم من تهافت كثير من النّاس على هذه الدنيا الفانية، وزهدهم في الآخرة الباقية، وما ذاك إلاّ لبعدهم عن معرفة الحقيقة، والبعد عن منهج الله تعالى والخوف منه سبحانه.
تهافتوا وتنافسوا وتصارعوا من أجل الدنيا وبهرجتها، واشرأبت نفوسهم حب الدنيا والركون إليها، فتاقت لها قلوبهم، وهويت إليها أفئدتهم، فأصبحت محط أنظارهم على اختلاف أجناسهم وطباعهم، رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فكانت الويلات والنقمات هنا وهناك.
أصبح الكثير من النّاس لا يحب ولا يكره إلاّ من أجل الدنيا، أمّا الله الواحد القهار فلا يوالون ولا يعادون فيه أبداً، وهذا هو الجهل العظيم والخطب الجسيم، نسوا الله فنسيهم وأنساهم أنفسهم، تركوا الآخرة والعمل لها، وركنوا إلى الدنيا وعمارتها، عندما سلّ علي رضي الله عنه سيفه لقتل عدوه بصق ذلك العدو في وجه علي رضي الله عنه فما كان منه إلا أن أعاد سيفه، فلما قيل له في ذلك، قال: "خشيت أن أنتقم لنفسي".
فلله در أولئك الرجال الذين عرفوا لماذا خلقوا، ومن أجل أي شيء وجدوا. فأين ذكور اليوم من رجال الأمس؟ أولئك الرجال الذين رغبوا فيما عند الله والدار الآخرة، تركوا الدنيا في كامل زينتها وأبهى حلتها، وأقبلوا على ربّهم ـ سبحانه ـ راجين مغفرته ورضوانه، تركوا الفاني وأقبلوا على الباقي، أتعلم لماذا؟ لأنّهم عرفوا الحق من الباطل، عرفوا ما ينفعهم وما يضرهم، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]، أولئك الذين اعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله الذين عرفوا الله حق معرفته، فلم يخشوا أحدا إلاّ الله، والله أحق أن يخشى، صدقوا مع الله فصدقهم الله عز وجل، إذا عملوا فلله، وإذا أحبوا فلله، وإذا أبغضوا ففي الله، أعمالهم وأقوالهم خالصة لله دون سواه.
أمّا من ركنوا إلى الدنيا وأحبوا أهلها، وزهدوا في الآخرة وبقائها فأولئك محبتهم وعداؤهم وولاؤهم من أجل الدنيا، وأهلها، ومناصبها، وما يحصلون عليه من كراس، ومراتب، ودرجات، فكانت المفاجآت أن حلت بهم النكبات، ودارت عليهم الدائرات، وجعل الله بأسهم بينهم شديدا، فإذا اجتمعوا أظهروا خلاف ما يبطنون، وإذا تفرّقوا أكل بعضهم بعضا، قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، وما حصل كل ذلك إلاّ لبعدهم عن منهج الله القويم، وانحرافهم عن صراطه المستقيم، فضلوا وغووا وركنوا إلى ما لم يؤمروا به، فاتبعوا الهوى والشهوات، وحصلت بينهم المنافسات على المناصب الكاذبات، فلا إله إلاّ رب الأرض والسموات، كل من أولئك يريد البقاء له وله وحده، وكأنه لم يخلق إلا للبقاء والخلود في هذه الدنيا وعمارتها، والله تعالى يقول في محكم التنزيل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، ويقول تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:34-35]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، هذه هي والله الغاية السامية التي من أجلها خلق الله الخلق، خلقهم من أجل العبادة، عبادته وحده، لا شريك له في ذلك فهو سبحانه المستحق للعبادة دون سواه، فهل عقل ذلك كثير من الناس؟ وكل ما عدا العبادة فهو وسيلة لا غاية، وعجبا لمن بدّل الغاية إلى وسيلة والوسيلة إلى غاية، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.
لقد انعكست المفاهيم، وانتكست الفطر عند أولئك النّاس فاستحقوا قول الله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44]، وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلاّ ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً» [رواه الترمذي وهو حديث حسن]، وقال عليه الصلاة والسلام: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء» [رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح].
فهذه هي حقيقة الدنيا التي يطلبها ويخطب ودها كثير من النّاس كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مبغوضة، ساقطة لا تساوي ولا تعدل عند الله جناح بعوضة، وكم يساوي جناح البعوضة في موازين النّاس؟ أم لعله يسمن أو يغني من جوع؟ فكل ما يبعد عن طاعة الله تعإلى ملعون مبغوض عنده سبحانه. قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]، يحذر المولى عز وجل عباده من الانجراف في مزالق الحياة الغادرة وعدم الإخبات اليها أو الإذعان إليها أو اتخاذها وطناً وسكناً وأنّها غادرة ماكرة ما لجأ إليها أحد أو رجاها من دون الله إلاّ خذلته، وتخلت عنه؛ فهي حقيرة عند الله عز وجل كحقارة الميتة عند النّاس، وإنّما جعلها الله فتنة للعباد؛ ليرى الصابر والشاكر، والمغتنم لأوقاته لما فيه رضا ربّه سبحانه، ممّن عكف عليها وأقام وأناب إليها ومن قضى أيّامه ولياليه من أجلها، فلا يستوي الفريقان عند الله أبداً، قال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:19-22]، الأعمى هو من ضل عن منهج الله تعالى وركن إلى الدنيا واطمأن لأنّه عاش في هذه الدنيا أعمى وفي الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ولذا قال الله عز وجل: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]،وذلك لإعراضه عن ذكر الله تعالى فالأحياء هم المؤمنون والأموات هم الكفار، فالحياة حياة إيمان والموت موت كفر والعياذ بالله، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:124-127]، وأمّا من باع الدنيا واشترى الآخرة فهو البصير المبصر العارف تمام المعرفة لم خلق، وهذا حق معلوم لا ينكره إلاّ جاهل أو فاقد عقل، قال صلى الله عليه وسلم: «أبشروا وأمّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوا، فتهلككم كما أهلكتهم» [متفق عليه]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النّساء» [رواه مسلم]، وهذا تحذير آخر من نبي الرحمة والهدى لأمته من عدم الركون إلى الدنيا أو الاستئناس بها، وعدم الانخراط في سلك اللاهين المحبين لها ولزخرفها وزينتها، والحذر كل الحذر من الانجراف وراء مغريات الحياة الزائفة، وعدم الاهتمام بها أصلا إلاّ لمن ابتغى بها وجه الله تعإلى والدار الآخرة.
ولكن ومع كل هذه التحذيرات من رب الأرض والسموات ومن نبي الهدى والرحمات، لا تجد إلاّ قلوبا ميتة، وعقولا مسلوبة، لشغوف أهلها بحب الدنيا وبهرجتها الزائفة الزائلة، خربوا آخرتهم الباقية وعمّروا دنياهم الفانية، تنافس كثير من النّاس من أجل الدنيا، وتقاطعوا، وتدابروا من أجلها، فضاعت حقوق بعضهم بين بعض، فكم من ضعفاء ومساكين ضاع حقهم من أجل أن يأكله غني مستكف، وكم من صاحب حق ذهب حقه أدراج الرياح من أجل محاباة المسؤول لخصمه، وكم وكم نرى من خصومات وتعديات من أجل الصراع للبقاء على وجه هذه البسيطة التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5]، لقد أصبحت الدنيا، وعمارتها، والعيش فيها، وجمع الأموال، والأولاد، والأزواج، والكسب الحرام هي الشغل الشاغل الذي ملأ قلوب الكثير من النّاس اليوم، بل أصبحت الدنيا هي همهم الأول الذي خلقوا من أجله في اعتقادهم الفاسد الباطل، فانتشرت بينهم أمراض القلوب وأدواءه فها هو الحسد، والحقد والكذب، والبغضاء، وها هي الغيبة، والنميمة، والكراهية، والشحناء، سادت بين أولئك النّاس، بسبب حبهم للدنيا وشهواتها وزينتها وزخرفها، فأصبح العداء والولاء من أجل الدنيا، والحب والبغضاء من أجل الفناء. فلا همّ لأولئك الأشرار إلاّ إزالة هذا عن منصبه ووضع ذاك، ونقل هذا والمجيء بالآخر؛ لأنّ هذا من شيعته، وذاك من عدوه كما يزعم، وهذا قريبه ومن أبناء جلدته، وذاك غريب لايمت له بصلة، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فلا تفاضل بين العباد إلاّ بالتقوى التي هي أساس الإيمان بالله، فلا فرق بين عربي ولا أعجمي إلاّ بالتقوى، ولا أسود على أبيض إلاّ بالتقوى، أمّا من أجل القرابة، والجماعة، والقبيلة فهذه أمور جاهلية أتى الإسلام فقضى عليها، فلا تفاخر بالأنساب والأحساب فالنّاس سواسية عند الله عز وجل، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» [رواه مسلم]، وقال صلى الله عليه وسلم: «اثنتان في النّاس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت» [رواه مسلم]، وإنّي أتساءل أين أولئك الذين يتفاخرون بأنسابهم وأحسابهم؟ وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم قرع نعلي بلال بن رباح في الجنّة، ذلك العبد الحبشي الذي أكرمه الله بالإسلام. فمدار النظر وضابطه عند الله تعالى هي القلوب والأعمال، فإذا صلح القلب صلحت النية وكانت خالصة لله في كل أمورها، وبذلك سيصلح الجسد كله بإذن مولاه سبحانه، أمّا فساد القلب وموته فيتوقف عليه فساد الجسد كله، فلا ينكر منكرا، ولا يعرف إلاّ حب الدنيا وزينتها والصراع من أجلها، وهذا وللأسف الشديد هو ديدن كثير من النّاس اليوم، وكل ذلك من دعوى الجاهلية والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» [متفق عليه].
لقد أنسى النّاس حب الدنيا والتشاغل بها طاعة الله عز وجل الخوف منه، ألاّ يعقل أولئك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا؟ ما أنا إلاّ كراكب، استظل تحت شجرة ثم راح وتركها وتركها؟» [رواه الترمذي، وهو حسن صحيح]، وقال: «ليس الغنى من كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» [متفق عليه]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتؤدنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء، من الشاة القرناء» [رواه مسلم]، وقال: «إنّ الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. [متفق عليه].
وهذه هي النتيجة الحتمية لكل ظالم، ولا مناص عنها ولا مفر منها، والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، وما ربك بظلام للعبيد ـ حاشا وكلا ـ ولكن النّاس أنفسهم يظلمون.
فيا ليت شعري لو أنّ النّاس تركوا الخلق للخالق سبحانه واتقوا الله جل وعلا حق التقوى، ورضي كل منهم بما قسم الله له في هذه الحياة، ولم ينظر بعضهم إلى ما وصل إليه غيره من النعم والخيرات التي امتنّ الله بها على عباده.
ويا ليت شعري لو أنّ النّاس لم ينظروا إلى ما منّ الله به على غيرهم، فيحسدوهم، ويحقدوا عليهم، ويطمعوا بما في أيديهم لعاش النّاس إخوة متحابين متعاونين على البرّ والتقوى، متناهين عن الإثم والعدوان، آمرين بالمعروف، متناهين عن المنكر.
قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46].
وكان الواجب على المؤمن تجاه الدنيا ودناءتها ألاّ ينظر إلى من هو فوقه وأعلى منه منزلة، بل ينظر إلى من هو دونه، حتى لا يزدري نعمة الله عليه فيقع في الإثم والمعصية، أمّا في أمور الدين والآخرة ففي ذلك فليتنافس المتنافسون بلا حقد، ولا حسد، ولا كراهية، ولا تقاطع، ولا تدابر. فلو ترك النّاس بعضهم بعضا بما أنعم الله على كل منهم لساد الحب، والفرح، والإخاء، ولعم الأمن والسلام، والرخاء لأنّ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4]، ولكن لما لم يدخل الإيمان قلوب الكثير منهم استساغوا ذلك الفضل من الله على بعضهم البعض، بل تجرّعوا الغصص والآهات، وطغت عليهم الحضارة المادية الزائفة بكل ما تعنيه الكلمة من معان، فأصبح الصراع والقتال من أجل متاع الدنيا الزائل، فإلى الله المهرب والملتجأ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فلنتق الله عباد الله، ولنعلم أنّنا ما خلقنا وما وجدنا على هذه البسيطة إلاّ لعبادة الواحد الديان الذي له ملك السموات والأرض، وبيده خزائن كل شيء، وعلينا أن نتسابق ونتسارع إلى جنة الخلد وملك لا يبلى، جنة عرضها كعرض السموات والأرض، أعدها الله للمتقين الذين آمنوا بالله ورسله، قال صلى الله عليه وسلم: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إنّ سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن]، فأين المشمرون؟ وأين المشترون؟ وأين المتقون؟.
عن أنس رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللّهم لا عيش إلاّ عيش الآخرة» [متفق عليه]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» [رواه مسلم].، ودونك يا من أحببت الدنيا وزينتها، وركنت إليها، وقاتلت من أجلها، واهتممت بالمناصب والشياخة، والكراسي والرياسة، أقول: دونك هذا الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النّار يوم القيامة، فيصبغ في النّار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا الله يا رب، ويؤتى بأشد النّاس بؤسا في الدنيا من أهل الجنّة، فيصبغ في الجنة، فيقال له: يا بن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا الله ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط» [رواه مسلم].
وأكرر كلمة قلتها سابقاً، أقول عندما جاء الإسلام أسس أسساً، وأقام دعائم قوية ومتينة يعتمد عليها المسلم بعد الله تعالى في دنياه وأخراه؛ حتى تستقيم حياته على وفق ما جاءت به الشريعة الإسلامية الغراء، وبذلك تم هدم كل عادات وتقاليد الجاهلية الجهلاء والظلمة الدهماء، حرّم الإسلام التفاخر بالأنساب، والأحساب، ومنع التمييز العنصري، وهدم العصبية القبليّة ونهى عن التحزب والعصبيات، وبيّن الدين الحنيف أنّ ذلك من نتن الحياة الدنيا، وعفانتها، وخستها، وعندما تحدث الصحابة رضوان الله عليهم في ذلك نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الحزبيات والعنصرية وقال: «دعوها، فإنّها منتنة» وصدق عليه الصلاة والسلام فما تلك الأمور إلاّ دليل لا فيه على سفاهة من يتفاخر بها، أو يعتمد عليها، ويعمل من أجلها، والمصيبة العظمى والطامة الكبرى عندما تجد بعض من يدّعون الصلاح والاستقامة، وأنّهم من أهل الخير والدين والقوامة، وتراهم يسارعون إلى نتن الدنيا وجيفتها من أجل العصبيات والقبليات، ومن أجل الحصول على رقعة ومكانة دنيوية، فيقدّمون هذا ويؤخرون ذاك من أجل عرض من أعراضها، ويحقدون على من يتولى مكانة أو يمكن الله له في الأرض ضاربين بالدين، وأوامره، ونواهيه، عرض الحائط، لا يأخذون من الدين إلاّ ما ينفعهم ويحقق مطالبهم، باعوا دينهم بعرض من الدنيا. فأقول لتلك الفئة من النّاس: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، واقنعوا بما آتاكم الله وارضوا به، وافرحوا واغتبطوا بما تفضل الله به على بعض عباده، واعلموا أنّ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده بعلمه وحكمته سبحانه، وطهروا قلوبكم وألسنتكم من أقذار الدنيا وأوساخها؛ فإنّها منتنة!
فيا بشرى من اشترى الآخرة بالدنيا، ويا حسرة من اشترى الدنيا بالآخرة.
قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].
اللّهم اجعلنا من عبادك المتقين الخائفين الوجلين، اللّهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النّار مصيرنا، اللّهم اجعلنا نخشاك حق خشيتك، اللّهم حبب إلينا الإيمان، وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللّهم حبب المؤمنين إلى قلوبنا، واجعلنا أخوة متحابين فيك يا ذا الجلال والإكرام، اللّهم طهر قلوبنا وألسنتنا من كل فاحشة ورذيلة يا حيّ يا قيّوم، اللّهم تقبل منّا إنّك أنت السميع العليم، وتب علينا إنّك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على النذير البشير والسراج المنير نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين