أمسك عليك لسانك
نبذة :
الزم الصمت، فإنه يكسبك صفو المحبة، ويؤمنك سوء المغبة، ويلبسك ثوب الوقار، ويكفيك مؤمنة الاعتذار...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحسن خلق الإنسان وعدله، وألهمه نور الإيمان فزينه به وجمله، وعلمه البيان فقدمه به وفضله، وأمده بلسان يترجم به عما حواه عقله، والصلاة والسلام على من أرسله ربه وأكرمه، وبالقرآن الكريم أرسله، وعلى آله وأصحابه ما كبر الله عبد وهلله، وبعد:
فاللسان من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة, فهو صغير الحجم عظيم الطاعة والجرم، إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان، وهو رحب الميدان، ليس له مردٌ ولا لمجاله منتهى أو حدٌ، له في الخير مجال رحب، وله في الشر ذيل سحب، فمن أطلق لسانه وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى جرفٍ هارٍ إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكبُ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، ويكفُه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله.
وقد تساهل كثير من الناس في حفظ ألسنتهم، وأطلقوا لها العنان، فمنهم من وظف لسانه في سب الناس وشتمهم، ومنهم من استعمله في الحرام من الغناء والكذب والغيبة والنميمة والمراء والجدال وشهادة الزور، ومنهم من أطال لسانه في إعضاب الله عز وجل، وكم تساهل الناس في الاحتراز من آفاته وغوائله، والحذر من مصائده وحبائله، وكم عُبد غير الله باللسان؟، وكم أُحدثت به البدع؟، وكم تقطعت به الأرحام وتحطمت به أوصال؟، وكم تفرقت به قلوب بل ونُزفت دماء وقُتل أبرياء؟، وكم عُذب به مظلومون؟، وكم طُلقت به نساء بريئات؟، وكم نُهبت به أموال، وكم قُذفت به محصنات؟ وإنا لله وإنا إليه راجعون.
من أجل هذا –أخي الحبيب- رأينا أن نكتب عن اللسان مبينين خطره وفضيلة حفظه وما يعين على حفظه وثمراته، ومحذرين من آفاته ومساوئه.
من صمت نجا
اعلم- أخي الحبيب- أن اللسان خطره عظيم، ولا نجاة من خطره إلا بالصمت، ولهذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم الصمت وحث عليه فقال صلى الله عليه وسلم: «من صمت نجا» [رواه أحمد وصححه الألباني].
وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» [متفق عليه].
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك» [رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني].
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنك لن تزال سالماً ما سكت، فإذا تكلمت كتب لك أو عليك» [رواه الطبراني وصححه الألباني].
وقال أحد الصحابة: "الصمت عبادة من غير عناء، زينة من غير حلي، هيبة من غير سلطان، به تستغني عن الاعتذار، وبه تستر عيوبك".
وقال بعض السلف: "الزم الصمت، فإنه يكسبك صفو المحبة، ويؤمنك سوء المغبة، ويلبسك ثوب الوقار، ويكفيك مؤمنة الاعتذار".
وقال آخر: "اعقل لسانك إلا عن حق توضحه، أو باطل تدحضه، أو حكمة تنشرها، أو نعمة تشكرها".
ومما يدل على فضل الصمت أن الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة.
فأما الذي هو ضرر محض فلابد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر، وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر، فهو فضول، والاشتغال به تضييع زمان وهو عين الخسران، فلا يبقى إلا القسم الرابع وهو ما كان نفعاً محضاً.
يقول الإمام الغزالي: "فإن قلت: فهذا الفضل الكبير للصمت ما سببه؟ فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان... وهي سباقة إلى اللسان لا تثقل عليه، ولها حلاوة في القلب، وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يحب ويكفه عما لا يحب. ففي الخوض خطر، وفي الصمت سلامة، فلذلك عظمت فضيلته.
آفات اللسان
* آفات اللسان كثيرة جداً، وهي منتشرة- للأسف- بين الناس، ومنها:
1- الكلام فيما لا يعنيك: وهذه آفة منتشرة بين الناس, ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذرنا منها بقوله: «من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وقال: «أكثر الناس ذنوباً أكثرهم كلاماً فيما لا يعنيه».
وحد الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلم بكلام لو سكت عنه لم تأثم ولم تستضر به في حال ولا مال، أو تسأل غيرك فيما لا يعنيك, أو تسأل عن مسألة لا حاجة لك إليها. والذي لا يعني هو الفضول كله على اختلاف أنواعه، والذي يعني المرء من الأمور هو ما تعلق بضرورة حياته في معاشه مما يشبعه ويرويه ويستر عورته، ويعف فرجه، ونحو مما يدفع الضرورة دون ما فيه تلذذ وتنعم.
ويلحق بهذه الآفة فضول الكلام, وهو الزيادة فيما يعني على قدر الحاجة، وهو مذمومٌ أيضاً، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه، وأنفق الفضل من ماله» ، فانظر كيف قَلبَ الناس الأمر في ذلك، فأمسكوا فضل المال، وأطلقوا فضل اللسان.
* وسبب هذه الآفة: حرص المرء على معرفة ما لا حاجة به إليه، أو المباسطة بالكلام على سبيل التودد، أو إشغال الأوقات بحكايات لا فائدة فيها.
* وعلاجها: أن يعلم المرء أن الموت بين يديه، وأنه مسئول عن كل كلمة، وأن أنفاسه رأس ماله, وأن لسانه شبكة يقدر أن يقتنص بها الحور العين، وأن يلزم نفسه السكوت عن بعض ما يعنيه حتى يعتاد لسانه ترك ما لا يعنيه.
2- الخوض في الباطل: وهو الكلام في المعاصي كحكاية أحوال النساء ومجالس الخمر ومقامات الفساق، وحكاية البدع والمذاهب الفاسدة، فإن كل ذلك مما لا يحل الخوض فيه، وهو حرام، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث بلال بن الحارث: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة» [رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني].
3- المراء والجدال والخصومة: وهذا كله منهي عنه, وقد قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [سورة البقرة: 204-205], وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة العنكبوت: 46]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم » [رواه البخاري].
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الفجور في الخصومة من علامات النفاق فقال: «أربع من كن فيه كان منافقاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها» ،... ومنها: «إذا خاصم فجر» [متفق عليه].
فيبغى للمسلم أن يحفظ لسانه عن المراء والجدال والخصومة؛ لأن ذلك مما يوغر الصدور، ويهيج الغضب، ويزرع الحقد في النفوس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم بيت في ربض الجنة لم ترك المراء وإن كان محقاً... » [رواه أبو داود وصححه الألباني].
4- الفحش والسبُ واللعن وبذاءة اللسان: وكل هذا مذموم ومنهي عنه, قال صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا بالبذيء» [رواه أحمد وصححه الألباني]. وقال صلى الله عليه وسلم: « سِباب المسلم فسوق, وقتاله كفر » [متفق عليه], وقال: «لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك » [رواه البخاري].
وللأسف فإن هذه الأشياء من الأمور التي انتشرت كثيراً في هذا الزمان خاصة بين الشباب، مع أن المسلم مطالب أن ينزه لسانه من الفُحش، وأن يطهره من البذاءة، وأن يجله من ذكر العورات، وما يُستقبح من الألفاظ والعبارات.
5- التقعر في الكلام وتكلف السجع والفصاحة: وهذا تكلف ممقوت، وتصنع مذموم، ولا باعث عليه إلا الرياء وإظهار الفصاحة والتميز بالبراعة، وكل ذلك مذموم يكرهه الشرع، ويزجر عنه، يقول صلى الله عليه وسلم: «... وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة: الثرثارون, والمتشدقون، والمتفيهقون» . قالوا: قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: «المتكبرون» [رواه الترمذي وحسنه الألباني]. وقال: «إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تخلل الباقرة – أي البقرة- بلسانها » [رواه أحمد وصححه الألباني].
6- السخرية والاستهزاء والتنابز بالألقاب: وهذا محرمٌ؛ لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الحجرات: 11], ولقوله صلى الله عليه وسلم: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم » [رواه مسلم].
والسخرية تعني الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك، ويكون ذلك بالقول والفعل والإشارة والإيماء.
7- الغناء والشعر: والغناء من أكبر الآفات التي ابتلي بها الناس، وهو يحسِن الكلام القبيح ويزينه للناس، فيزداد قبولهم له, واقبالهم عليه، كما أنه يحث الشباب على العشق والغرام وإضاعة العمر فيما يعود بالخسران والهلاك، والأدلة على تحريمه كثيرة منها قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [سورة لقمان: 6] ولهو الحديث هو الغناء كما ذكر ذلك جمع من السلف. وقال صلى الله عليه وسلم: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف... » [رواه البخاري تعليقاً].
وأما الشعر- وهو من الآفات المنتشرة أيضاً- فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، وقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم قبيحه ومدح حسنه, فقال: «لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً يريه خير له من أن يمتلىء شعراً » [متفق عليه] وهذا ينسحب على الشعر القبيح الذي يدعو إلى الزنا والفاحشة، ويحث على القبيح من الأفعال، وفيه ذكر للنساء، أو مدح بما ليس في الممدوح، أو هجاء..الخ.
أما إذا كان الشعر يدعو إلى الأخلاق الطيبة، والعادات الحسنة، فهذا حسن، وهو المقصود في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر لحكمه» [رواه البخاري].
8- الكذب: وهو جماع كل شر، وأصل كل ذم؛ لسوء عواقبه وخبث نتائجه وهو من قبائح الذنوب، وخصلة من خصال النفاق، وقد جاءت آيات الله تعالى محذرة منه حاثة على ضده وهو الصدق، يقول تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [سورة النحل: 105] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة: 119].
وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» [متفق عليه].
9- المزاح: وهو يسقط الهيبة، ويخلُ بالمروءة، ويجرئ السفهاء، وقد قيل: "من كثر مزاحه، زالت هيبته" وهذا ينسحب على كثير المزاح، أما قليلة الذي فيه إيناس للجليس، وإزالة للوحشة، ونفي الملل والسآمة، بشرط ألا يقول المازح إلا حقاً، ولا ينطق إلا صدقاً، فمباح، لحديث أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا؟ قال: «نعم غير أني لا أقول إلا حقاً» [رواه الترمذي وصححه الألباني].
وللأسف فقد كثرت هذه الآفة بين الناس حتى رأينا من يتخذها حرفة، مع أن كثرتها تؤدي إلى الضحك الذي يميت القلوب.
10- الغيبة: وهي خصلة ذميمة لا تصدر إلا عن نفس دنيئة, وهي كما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم: «ذكرك أخاك بما يكره» [رواه مسلم]، وهي محرمة، وكبيرة من الكبائر، وذمها الله بقوله: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [سورة الحجرات: 12]، وهي لا تقتصر على اللسان فحسب، بل قد تكون بالإشارة بالعين أو اليد أو نحو ذلك.
*والأسباب الباعثة عليها كثيرة منها: التشفي من الآخرين، ومجاملة الرفقاء، والحسد، وكثرة الفراغ، والإعجاب بالنفس، والغفلة عن التفكر في عيوبها، وقلة الخوف من الله سبحانه وتعالى.
*وعلاج الغيبة أن يعلم المغتاب أنه متعرض لسخط الله تعالى ومقته، وأن الغيبة مخبطة لحسناته يوم القيامة، فإنها تنقل حسناته إلى من اغتابه، وأن يتدبر المغتاب عيوب نفسه ويشتغل بإصلاحها، وألا يرضى الغيبة لغيره كما لا يرضاها لنفسه، وأن يصرف وقته في طاعة الله وعبادته بدلاً ن أن يصرفه في غيبة الناس، وأن يندم ويتوب ويتأسف على ما فعله، ثم يستحل المغتاب ليخرج من مظلمته.
11- النميمة: وهي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، وهي أيضاً لا تصدر إلا من نفس دنيئة، وفيها إفشاء للأسرار، وهتك للأستار، وتقطيع للأرحام، وإفساد للروابط بين الناس، وقد ذمها الله بقوله: {هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ} [سورة القلم: 11]، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النمام لا يدخل الجنة، وأنه يعذب في قبره، وقال: «ألا أنبئكم ما لعَضه؟ هي النميمة، القالة بين الناس» [رواه مسلم].
وكل من حُملت إليه النميمة يجب عليه ستة أمور: الأول: ألا يصدق النمام؛ لأنه فاسق. والثاني: أن ينهاه عن ذلك، وينصح له، ويقبح له فعله. والثالث: أن يبغضه في الله. والرابع: ألا تظن بأخيك الغائب السوء. والخامس: ألا يحملك ما حُكي لك على التجسس. والسادس: ألا ترضى لنفسك ما نهيت النمام عنه، ولا تحكي نميمته.
12- إفشاء السر: وهي آفة منهي عنها لما فيها من الإيذاء والتهاون بحقوق الآخرين، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة» [رواه أبو داود وحسنه الألباني]، وقال: «المجالس بالأمانة» [رواه أحمد وحسنه الألباني].
فينبغي للمسلم أن يكون حافظاً للسر، معروفاً عند الناس بحفظه، وأن يراعي حرمة المجالس، وأن يحفظ حقوق الآخرين، فلا يفشي سرهم، ولا يحكي أخبارهم؛ لأن ذك ضرب من ضروب الخيانة.
13- شهادة الزور: وهي كبيرة من كبائر الذنوب بل من أكبر الكبائر، يقول صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً: قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئاً فقال: ألا وقول الزور. قال: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» [متفق عليه].
وقد وصف الله عباده المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [سورة الفرقان: 72].
14- القذف: وصاحبه ملعون في الدنيا ولآخرة، وله عذاب عظيم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة النــور: 23] وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «...ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال، وليس بخارج» [رواه أحمد وصححه الألباني].
والقاذف عليه في الدنيا ثمانون جلدة، وتسقط شهادته؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [سورة النــور: 4].
15- اليمين الكاذبة عمداً: فعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه؛ لقي الله وهو عليه غضبان»، ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة آل عمران: 77] ... » [متفق عليه]، وقال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار, وحرم عليه الجنة » فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: «وإن قضيباً من أراك » [رواه مسلم].
16- وهناك آفات أخرى للسان غير ما ذُكِر نذكر منها إجمالاً: البهتان والافتراء، والحلف بغير الله، والتعيير والتوبيخ، والنياحة على الميت, وإخلاف الوعد، والطعن في الأنساب، وغير ذلك كثير.
حفظ اللسان ملاك الخير
* قد عرفتَ –أخي المسلم- كيف يُدخل اللسان صاحبه في النار بما يجر عليه من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية والاستهزاء، إلى غير ذلك من الآفات كما مر بنا, فلا عجب بعد هذا أن يكون حفظ اللسان ملاك الخير كله، وهذا ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل بعد أن ذكر له الإسلام والصلاة والجهاد ثم قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ » قال: بلى يا رسول الله, فأخذ بلسان نفسه ثم قال: «كُف عليك هذا» فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبُ الناس في النار على وجوههم –أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!» [رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني].
فحفظ اللسان إذن هو ملاك الخير كله، وسبيل الفلاح في الدنيا والآخرة.
أمور تعين على حفظ اللسان
*وهناك أمور تعينك –أخي الحبيب- على حفظ لسانك عن الآفات، نذكر منها:
1- التعوذ بالله من شر اللسان, فعن شَكَل بن حميد رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، علِمني تعوذاً أتعوذ به. قال: فأخذ بكفي فقال: «قل: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي, ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر منيي» [رواه أحمد وصححه الألباني].
2- استحضار ثمرات حفظ اللسان في الدنيا والآخرة، فهذا مما يعين على حفظ اللسان عن الآفات، والصبر على جهاده للتخلص منها.
3-استحضار مساوئ عدم حفظ اللسان وأنها محبطة لحسناتك يوم القيامة، ومثقلة لميزان سيئاتك, فهذا مما يشجع على حفظ اللسان من الآفات، ويوقي العزيمة على ذلك.
4- الصلاة، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتكفر السيئات، وآفات اللسان من المنكر، قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد» [رواه أحمد وصححه الألباني].
5- الإكثار من الصمت، ففيه نجاة من الآفات، قال صلى الله عليه وسلم: «من صمت نجا».
6- الدعاء، وهو الملجأ العظيم الذي يلجأ العبد فيه لربه يدعوه ويبتهل إليه أن يحفظ عليه لسانه من الآفات المهلكة.
7- الاشتغال بالطاعات، فهي تملأ الفراغ، وتسد السُبل أمام تلبيس الشيطان للمعاصي وآفات اللسان، وتعوِد المرء ألا يصرف وقته في سواها.
8- مصاحبة من يصونون ألسنتهم ويحفظونها من المعاصي، وعدم الجلوس مع من يطلقون ألسنتهم بالكذب والغيبة والنميمة والسب واللعن والسخرية والاستهزاء.
9- أن تقطع كل الأسباب الباعثة على آفات اللسان كالغضب والحسد والكبر والغرور والمباهاة وتزكية النفس والتعلق بغير الله، وتحاول معالجة نفسك منها، والاشتغال بعيوبك عن عيوب الناس.
ما يُعين على حفظ اللسان عند الغضب
* ولما كان كثير من آفات اللسان تقع عندما يكون الإنسان غاضباً رأينا أن نذكر بعض الأمور التي تعين على حفظ اللسان وقت الغضب، ومنها:
1- السكوت: لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا غضب أحدكم فليسكت» [رواه أحمد وصححه الألباني].
2- أن يجلس الغضبان إن كان قائماً، فإن لم يذهب الغضب فليضطجع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع» [رواه أبو داود وصححه الألباني].
3- أن يقول الغضبان: أعوذ بالله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا غضب الرجل فقال: أعوذ بالله سكن غضبه» [رواه الطبراني وصححه الألباني].
من ثمرات حفظ اللسان
1- الفوز برضوان الله تعالى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن يبلغ ما بلغت، يكتب الله له رضوانه إله يوم يلقاه...».
2- أنه قد ضمن الجنة إذا حفظ فرجه أيضاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة» [رواه البخاري].
3- أنه من أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقربهم منه مجلساً يوم القيامة.
4- أنه من أفضل المسلمين، فقد سئل صلى الله عليه وسلم عن أي المسلمين أفضل؟ فقال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» [متفق عليه].
5- أنه ناج من عذاب الله تعالى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من صمت نجا».
6- أنه من أفضل الجهاد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله عز وجل» [رواه أبو نعيم وصححه الألباني].
7- العلاقة الطيبة مع الناس.
8- راحة النفس من المتاعب والهموم والمشاكل.
9- الفوز بحب الله تعالى وحبِ أهل السماء، ووضع القبول له في الأرض.
نسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا من النفاق، وألسنتنا من الآفات، وأن يصلح أعمالنا، إنه سميع قريب مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.