رسالة إلى قلبي
نبذة :
«إن في الجسد لمضغة إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
أيُّها القلبُ... بل قد أقول: أيُّها العدو؛ مالك تبدَّلَت حالك، وانقلبت موازينك، أصبحت ترى الأشياء على غير العادة وكأنَّ الله قد ختم عليك فلم تَعُد تفرِّق بين الحقِّ والباطل، ولا الخير والشَّرِّ، ولا الهدى والضَّلال، تساوت عندك الأشياء: جيدها ورديئها، حسنها وقبيحها، أبيضها وأسودها.
أيُّها القلب... حياتي أصبحت مرهونةٌ بك، وأعمالي متوقفة عليك، فإن صلحتَ؛ صلحتْ حياتي، وحسنتْ أعمالي، وكنتَ -في هذه الحين- سببًا في نجاتي ونجاتك... ولكن... وآه منك أيُّها؟؟؟ إذا فسدت، فإنَّ حياتي سوف تتحول إلى جحيمٍ، سوف تشتعل النِّيران حتَّى تمزِّق نياطك ، وهنا... أيُّها القلب المسكين؛ تكون سببًا في هلاكي وهلاكك. لا. لا. لا.
أيُّها القلب بل أيُّها العدو، ما أصبحت أشعر بالأمان وأنت معي، حوَّلت حياتي إلى خوفٍ، على ألمٍ، على صراخٍ، على ندمٍ...
لو تمكنت منك -ولو مرَّةً واحدةً- لأخرجتك من بين ضلوعي، ومزَّقتك حتَّى تصبح أشلاءً، لا... لا... لا... لن أمزقك، لن أضيعك، بل سأخرجك وأطهرك، وأعيدك إلى موضعك طاهرًا مطهَّرًا نقيًّا، لا تعرف الشَّرَّ، ولا تعرف الحزن، كيف أصبحت بهذه القسوة، وهذا العنف، ظلمت كلّ من حولك، وأول من ظلمتهم هو أنت، أصبحت أنت المظلوم الأول، والظَّالم الّذي لا ينكسر ولا ينطوي، يسير في الفلاة بلا زادٍ، ولا زواد، راحلته أوشكت أن تنهار، لقد أتعبت الرَّاحلة، لقد قضيت على نفسك بل قضيت على كلِّ شيءٍ جميلٍ، حوَّلته إلى صورةٍ قوامها فقد الإحساس، وألوانها الحسرة والألم، وريشتها الذُّنوب والمعاصي.
والآن قد جاء وقت الحساب، وقت العقاب، وقت المحاورة، وسمَتْ نفسك بالشَّجاعة، وأنت أجبن ما رأيت، ما تستطيع أن تقدم على عمل الخير والبرِّ، تُقْدِّم على كلِّ ما هو شرٌّ وبلاءٌ، وسمَتْ نفسك بالنَّبض والحياة، وحياتك أصبحت معطلة لا حراك فيها، وتوقفت عن العبادة، قطعت صلتك بالله، قطعت الصِّلة بالخالق -عزَّ وجلَّ-، وسمَتْ نفسك بالجمال، وأنت أقبح ما يكون بخصالك وأفعالك، تقول غير الّذي تفعل، وتفعل غير الّذي تقول، وتبدي خلاف ما تظهر، وتظهر خلاف ما تبدي، والخارج يناقض الدَّاخل والدَّاخل يناقض الخارج، وسمت نفسك بالصَّبر، وأنت أجزع ما رأيت، ما استطعت أن تصبر على البلاء، وجزعت على خالقك، وتمردت عليه، بعدت عن قرآنه، وسنَّة نبيِّه -صلّى الله عليه وسلّم- أصبح منهجك في هذه الحياة هو اللامنهج، تسير في الطُّرقات عبثًا وكأنَّك ملكت الدُّنيا ومن فيها، تمشي مختالًا فرحًا مغرورًا ونسيت قول الله -عزَّ وجلَّ-: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا} [الإسراء: 37].
تتجبَّر، تبطش تهدم، تدمر، وكأنَّ الله قد كتب لك هذه الحياة تعيش فيها خالدًا مخلدًا، كلُّ أعمالك محصورةٌ، وكلُّ أنفاسك معدودةٌ، عمرك له بداية أنت تعرفها -أو أظنُّك عرفتها-، وله نهاية ما أظنَّك -ولا أظن أحدًا- يعرفها.
النِّهاية... نعم النِّهاية، حياةٌ وموتٌ وعقابٌ وثوابٌ، وعزَّةٌ وإهانةٌ، وجنَّةٌ ونارٌ.
لماذا تختار العقاب والإهانة والنَّار؟ لماذا فرطت في كلِّ قيمك ومبادئك الّتي كانت قائمةً على الكتاب والسُّنَّة وأصبحت متمسكًا بمبادئ وقيمٍ مجهولة المصدر والهويَّة، قيمتها في استيرادها، لباسك مستورد، فكرك مستورد، أخلاك مستورده قيمك مستوردة،... ما الّذي تنتظر أيُّها القلب؟ هل بقى لديك شيء تتمسك به؟ لماذا تخلَّيت عن دينك وتعاليمك وهويتك ومبادئك؟
أنا أخاف عليك؛ لأنَّك قلبي، قطعةً مني، لا أفارقها ولا تفارقني.
أيُّها القلب الحبيب
تذكر قول الرَّسول -صلّى اله عليه وسلّم-: «ألا وإنَّ في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب» [متفقٌ عليه].
أأدركت قيمتك، وما يترتب عليها من صلاةٍ وفساد بصلاحك يصلح الجسد كلّه وبفسادك يفسد الجسد كلّه، يا لك من عضوٍ مهمٍّ، عضو تتوقف عليه كلّ الأعضاء، تعمل بأمره، وتنتهي بنهيه {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16].
هذه الآية سمعها أحد الصَّالحين -عليه رحمة الله- وكان قد نوى أن يزني بامرأةٍ ولما جنَّ عليه الليل ، ذهب إليها، وكانت قد تهيأت لملاقاته، وعندما خرج في موعده إذا به بقارئ يقرأ قوله -تعالى-: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}. فقال: بلى. يا ربّ أنت آنت. واتخذ موقفًا إيجابيًّا كان سببًا في تغيير حياته تغييرًا جذريًّا، لم يتردد، ولم يسوِّف، لم ينتظر الغد حتَّى يأخذ القرار، القرار جاء في لحظةٍ: بلى آنت يا ربّ، هذا هو القلب المؤمن يعود سريعًا إلى الله حتَّى ولو أذنب، حتَّى ولو سرق، حتَّى ولو زنى المهم أن يعود إلى الله يعود إلى ربِّه، يعود إلى خالقه، يعود إلى بارئه، وفرحة الله بالعبد الآيب التَّائب النَّادم، فرحةً كبيرةً، وهي أشدُّ من فرحة الحصول على الحياة. جاء في الأثر أنَّ رجلا فقد راحلته في الصَّحراء، وعليها زاده وشرابه، ماذا يصنع هذا الرَّجل، ضاع كلُّ شيءٍ، ضاعت الحياة، ماذا ينتظر؟ إنَّه لا ينتظر شيئًا سوى الموت. نعم الموت، وما ظنُّك -أيُّها القلب- بإنسانٍ ينتظر الموت، يتحول نعيم الحياة إلى بؤسٍ، وتتحول أيَّامه وسنواته الّتي كان ينتظرها، يتحول غده الّذي كان يرسم فيه آماله وطموحاته، كلُّ ذلك يتحول إلى لحظاتٍ وثوانٍ، لحظات ينتظر فيه الإنسان النَّهاية ، موته في الفلاة الواسعة، لن يعلم به أحد، سباعٌ مفترسةٌ، ووحوشٌ ضاريةٌ جميعها فرح بذلك الصَّيد الجديد، الكلُّ يستعد لهذه الفريسة، إنَّها ستمزقه أشلاء. لا، بل ليس هناك أشلاء أصلًا ستبقى، سيصير بعد لحظات وكأنَّه ما كان على هذه الدُّنيا وقد ذهب هذا الرَّجل الميت ينظر الموت كلّ يقضي على البقية الباقية الّتي تبقت في نبضاته اليائسة، وفي أنفاسه المكلومة وما هي إلى لحظة ويظهر الفرج، إنَّها راحلتي، إنَّه متاعي، إَّنه زادي، إنَّها حياتي... نعم إنَّ الحياة عادت لي، أشعر بها، نبضات قلبي تتزايد وتضطرب، اللهمَّ لك الشُّكر؛ لأنَّك أعدَّت لي الحياة مرَّةً أخرى (اللهمَّ أنت عبدي وأنا ربُّك) أخطأ من شدَّة الفرح أراد أن يقول: (اللهمَّ أنت ربِّي وأنا عبدك) كلمات شكرٍ بهذا الفرح وهذا العثور على الحياة مرَّةً أخرى، انظر أيُّها القلب إلى هذه الفرحة الغامرة الّتي ملأت قلب هذا الرَّجل ، هل تتَّفق معي أنَّ هذه فرحةٌ كبيرةٌ ما كان ليحصل عليها لولا أن تعمده الله برحمته؟ ففرحة الله بعبده التَّائب الآيب أشد فرحًا من هذا الرَّجل.
أيُّها القلب:
لماذا تصر على العداوة، لماذا تصر على الجفاء؟ لماذا تصر على القطيعة؟!
أيُّها القلب: اجعل خفقاتك تسبيحًا، ونبضاتك تكبيرًا واستغفارًا، حوِّل وجهتك إلى مولاك وبارئك، ابتعد عن وجهه الشَّيطان، إنَّه لا يريد بك إلى شرًّا وحزنًا، وألمًا وغمًّا وكمدًا وهمًّا وحسرةً وندامةً، إنَّ له هدفًا يسعى جاهدًا لتحقيقة، إنَّ الشَّيطان قد أقسم بعزة الله ليغوينك {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]، انظر إلى هذه الحرب الّتي أعلنها عليك عدوك صريحةً، حربٌ لا تحتمل التَّفكير ولا المراجعة.
أيُّها القلب الصَّديق الحبيب
مازال الطَّريق أمامك، وما زال فيك نبض من حياةٍ، ومازال بك شعور وإحساس، فاستغفر ربِّك من حياتك السَّابقة، واستعد لعمل الخيرات في حياتك القادمة، وتذكر مغفرة الله ورحمته، وإحسانه، وفضله، وعفوه وكرمه، وجوده وعطائه، وسخائه، وبادر إلى الأعمال الطَّيِّبة، ولا تنس قول الرَّسول الكريم: «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التَّوابون» [رواه التِّرمذي 2499 وحسَّنه الألباني].
جعلك الله من القلوب الّتي تلين وتخشع بذكر الله، وتعود إلى الحق، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.