" معاتبة النفس وتوبيخها "
قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه : من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته .
وقال أنس رضى الله عنه : سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه دخل حائطًا فسمعته يقول وبيني وبينه جدار : عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك .
وقال البختري بن حارثة : دخلت على عابد فإذا بين يديه نار قد أججها وهو يعاتب نفسه فلم يزل يعاتبها حتى مات .
وكان بعضهم يقول إذا ذكر الصالحون : فأف لي وتف .
واعلم أن أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أمر بتقويمها وتزيكتها وفطامها عن مواردها، وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت، ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن عن تذكيرها. وسبيلك أن تقبل عليها، فتقرر عندها جهلها وغباوتها وتقول : يا نفس، ما أعظم جهلك، تدعين الذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقًا، ِأما تعلمين أنك صائرة إلى الجنة أو النار ؟ فكيف يلهو من لا يدري إلى أيتهما يصير ؟! وربما اختطف في يومه أو في غده ! أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب، وأن الموت يأتي بغتة من غير موعد، ولا يتوقف على سن دون سن، بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة، وإن لم يكن الموت فجأة كان المرض فجأة، ثم يفضي إلى الموت. فمالك لا تستعدين للموت وهو قريب منك ؟! يا نفس، إن كانت جرأتك على معصية الله تعالى لاعتقادك أن الله لا يراك فما أعظم كفرك ! وإن كانت مع علمك باطلاعه عليك، فما أشد رقاعتك، وأقل حياءك ! ألك طاقة على عذابه ؟ جربي ذلك بالقعود ساعة في الحمام، أو قربي أصبعك من النار. يا نفس ! إن كانت المانع لك من الاستقامة حب الشهوات، فاطلبي الشهوات الباقية الصافية عن الكدر، ورب أكلة منعت أكلات .
وما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء ثلاثة أيام ليصح ويتهيأ لشربه طول العمر؟! فما مقضي العقل في قضاء حق الشهوة ؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر ؟ أم يقضي شهوته في الحال ثم يلزمه الألم أبدًا ؟ فجميع عمرك بالإضافة إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر، بل أقل من لحظة بالإضافة إلى عمر الدنيا , وليت شعري! ألم الصبر عن الشهوات أشد وأطول، أم ألم النار في الدركات؟ فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة، كيف يطيق ألم العذاب في الآخرة؟
أشغلك حب الجاه؟ أما بعد ستين سنة أو نحوها، لا تبقين أنت ولا من كان لك عنده جاه , هلا تركت الدنيا لخسة شركائها، وكثرة عنائها، وخوفًا من سرعة فنائها , أتستبدلين بجوار رب العالمين صف النعال في صحبه الحمقى؟ قد ضاع أكثر البضاعة، وقد بقيت من العمر ضُبابه، ولو استدركت ندمت على ما ضاع، فكيف إذا أضفت الأخير إلى الأول؟ اعملي في أيام قصار لأيام طوال، وأعدي الجواب للسؤال , اخرجي من الدنيا خروج الأحرار قبل أن يكون خروج اضطرار، إنه من كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر .
تفكري في هذه الموعظة، فإن عدمت تأثيرها، فابك على ما أصبت به، فمستقي الدمع من بحر الرحمة .