شرح دعاء"اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْفِرْدَوْسَ أَعْلَى الْجَنَّة"
اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْفِرْدَوْسَ أَعْلَى الْجَنَّة))([1]).
المفردات:
الفردوس: الفردوس اسم من أسماء الجنة, وأصله البستان الواسع الذي يجمع كل ما في البساتين, من أصناف الثمر, والمراد هنا مكان الجنة من أفضلها([2]).
الشرح:
هذا الدعاء المبارك فيه أعظم مطلب, وأسمى مقصد, وأجلّ مأمل في الدار الآخرة؛ فإن الرب الحكيم العليم, جعل الجنة جنان عالية, عليَّة مكاناً, ومكانةً, بعضها فوق بعض، على قدر أعمال العباد, حتى تتسابق الهمم على نيل أعلاها, كما قال اللَّه تعالى: "وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ"([3])، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((من آمن باللَّه، وبرسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقاً على اللَّه تعالى أن يدخله الجنة, جاهد في سبيل اللَّه أو جلس في أرضه [أو جلس في بيته] فقالوا:يا رسول اللَّه, أفلا نبشِّرُ الناس؟ قال: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها اللَّه للمجاهدين في سبيل اللَّه, ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض, فإذا سألتم اللَّه فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة, وأعلى الجنة, وفوقه عرش الرحمن, ومنه تفجر أنهار الجنة))([4]).
و في لفظ: ((ألا أخبر الناس؟ فقال: ((ذر الناس يعملون؛ فإن في الجنة مائة درجة, ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض, والفردوس أعلى الجنة, وأوسطها)) ([5]) فقوله صلى الله عليه وسلم ((في الجنة مائة درجة)): ((تعليل لترك البشارة المذكورة))([6]).
قال الطيبي رحمه اللَّه: ((هذا الجواب من أسلوب الحكيم، أي بشرهم بدخولهم الجنة بما ذكر من الأعمال, ولا تكتف بذلك, بل بشرهم بالدرجات, ولا تقتنع بذلك, بل بشرهم بالفردوس الذي هو أعلاها))([7]).
قوله: ((ذر الناس يعملون)): ((أي لا تطمعهم في ترك العمل, والاعتماد على مجرد الرجاء))([8]).
قوله صلى الله عليه وسلم ((أوسط الجنة وأعلى الجنة)): ((المراد بالأوسط هنا الأعدل، والأفضل, كقوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا"([9]), فعلى هذا فعطف الأعلى عليه للتأكيد, وقال الطيبي: المراد بأحدهما العلوّ الحسّي, وبالآخر العلوّ المعنوي, وقال ابن حبان: أي ((الفردوس وسط الجنة في العرض, (وأعلى الجنة) يريد به في الارتفاع))([10]).
قلت: قول الطيبي، وكذلك قول ابن حبان هو الصحيح؛ لأنه كما هو معلوم أن لعطف يفيد المغايرة, والأمر الثاني: ((أن التأسيس مقدم على التأكيد))([11]).
لأن فيه زيادة للمعنى، وهذا هو الأصل.
وقول ابن حجر رحمه اللَّه: أن معنى الأوسط: الأعدل، والأفضل فصحيح، إذا لم يقر معه لفظ يغايره كما هنا, ومما يدل على ذلك, ما جاء عن سمرة بن جندب رضى الله عنه , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا))([12]).
والربوة - بالضم والفتح-: ما ارتفع من الأرض([13])، فغاير بين رفعتها مكاناً، وبين ((أوسطها وأفضلها)) مكانة، أي علوّ شأنها وقدرها.
قال ابن القيم رحمه اللَّه: ((أنزه الموجودات، وأظهرها، وأنورها، وأعلاها ذاتاً وقدراً عرش الرحمن، وكلّما قرب إلى العرش كان أنور، وأزهر، فلذا كان الفردوس أعلى الجنان وأفضلها))([14]) .
ولما كانت الفردوس أعلى الجنان درجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ((والفردوس أعلاها درجة ... ))([15])، فهي كذلك تتفاوت في العلو والرفعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم حارثة، حينما سألت عنه حين أصيب يوم بدر، فقال لها: ((ويحك، أهبلت، أوَجنةٌ واحدةٌ هي؟ إنها جنان في جنة))، وفي رواية: ((إنها جنان كثيرة، وإنه في الفردوس الأعلى))([16])، فلذلك حثّنا صلى الله عليه وسلم أن نسأل أعلاها، فقال: ((فإذا سألتم اللَّه فسلوه الفردوس [الأعلى]))([17]).
ففي بيان النبي صلى الله عليه وسلم في تفصيل لدرجات الجنة، وإن الفردوس هي أعلاها، وحثّه صلى الله عليه وسلم لنا في سؤالها يدل دلالة واضحة على حرصه، وعنايته للخير لأمته في أحسن أسلوب من الترغيب والتشويق، وفي أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجميع بالدعاء بالفردوس، بل بالفردوس الأعلى ((إن درجة المجاهد قد ينالها غير المجاهد، إما بالنية الخالصة، أو بما يوازيه من الأعمال الصالحة))([18]).
فقد بيّن لك يا عبد اللَّه نبي الرحمة محمدصلى الله عليه وسلم منزلة الفردوس عن باقي الجنان، وأرشدك إلى أعظم الأسباب والأبواب إلى نيلها، وهو دعاء اللَّه تبارك وتعالى وسؤاله.
وهو أعظم الأسباب، وأيسر الأبواب، فشدَّ ساعد الجد والعمل من هذه اللحظة، ولا تسوِّف، ولا تتأخر أبداً من الآن في الإلحاح، وطرق الباب آناء الليل وأطراف النهار؛ فإنه سوف يفتح لك الباب [إن شاء اللَّه] .
قال أبو الدرداء رضى الله عنه ((جدوا في الدعاء، فإنه من يُكثر قرع الباب يوشك أن يُفتح له)) ([19]).
وتَذَكَّر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة اللَّه غالية، ألا إن سلعة اللَّه الجنة))([20])؛ فإن هذه السلعة غالية، نفيسة، لاتنال بالأماني، والتسويف، والقعود، وإنما تنال بالهمة، والعزيمة في القول والفعل، فكن كيِّساً، ولا تكن عاجزاً.
وقد رُوي: ((الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ [الأماني]))([21]) .
والكيس هو العاقل([22]) الذي عنده ((القدرة على جودة استنباط ما هو أصلح في بلوغ الخير))([23])، وهذا هو اللبيب الحازم، الذي ينظر في عواقب الأمور، فينظر إلى الدنيا وقد علم أنها دار الفناء، وأن الجنة هي دار القرار، وهذه الدار عالية، وعليَّة، درجات بعضها فوق بعض، كلما علت اتسعت، وعلت في المنزلة والمكانة، وأن الفردوس هي أعلى الجنان، فعند ذلك تعلو همّته، وتصدق عزيمته، فجعل هذه المنزلة العظيمة هي مقصده الأعظم، فشمّر في العمل في لحظته وآنه، فقوله: ((دان نفسه)): ((أي حاسبها، وأذلها، واستبعدها، وقهرها، فجعلها منقادة لأوامر اللَّه تعالى وطاعته، ((وعمل لما بعد الموت)): قبل نزوله؛ لأن الموت عاقبة أمور الدنيا، فالكيس من أبصر العاقبة، ((والعاجز من اتبع نفسه هواها)): أي الذي غلبت عليه نفسه وقهرته، فأعطاها ما تشتهيه .
((وتمنى على اللَّه الأماني)): أي أنه يتمادى بالمعصية، ويتمنى على اللَّه المغفرة، فالتمني مذموم؛ لأنه يُفضي بصاحبه إلى الكسل، بخلاف الرجاء؛ فإنه تعليق القلب بمحبوب يحصل حالاً))([24])، فيجمع ما تتوق نفسه إلى المحبوب بالجد والعمل، مع حسن الظن بربه تعالى.
وختاماً أذكر لك رعاك اللَّه ما جاء في فضل الفردوس من الكتاب والسنة من أوصاف عظيمة، عسى أن تكون لك حافزاً في العمل، والهمّة، والسؤال لربك بالرغبة، والإلحاح، والضراعة.
((الفردوس: ربوة الجنة، وأوسط الجنة، وأعلى الجنة، وأفضلها، وأحسنها، فإنه سر الجنة([25])، وأعلاها (الجنة) درجة، وأن العرش على الفردوس، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة الأربعة))([26])، وإن من دخلها لا يبغي عنها تحولاً، قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا *خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا" ([27]) .
((أي: خالدين في جنات الفردوس، لا يبغون عنها حولاً، أي تحولاً إلى منزل آخر؛ لأنها لا يوجد منزل أحسن منها، يرغب فيها إلى التحول إليه عنها، بل هم خالدون فيها دائماً من غير تحول، ولا انتقال ...))([28]).
جعلني اللَّه وإياك من أهلها ((اللَّهم آمين))، اللَّهم يا خير الرازقين، ارزقنا مرافقة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى الفردوس.
([1]) مأخوذ من قول النبي r: ((... فَإذِا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ؛ فَإِنًّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ)). البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، برقم 2790، ورقم 7423.
([2]) انظر: تفسير ابن جرير، 15/ 430- 437، وانظر: المنتقى من الفردوس لعبد الملك السلمي القرطبي، 83- 100.
([3]) سورة المطففين، الآية: 26.
([4]) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، برقم 2790، وما بين المعقوفين ذكر القاري أنها في بعض نسخ البخاري. انظر: عمدة القاري، 14/ 90.
([5]) الترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة درجات الجنة، برقم 2530، والطبراني في الكبير، 20/ 157، برقم 327، وكشف الأستار، 1/ 19، وبنحوه: أحمد، 14/143، برقم 8419، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1913، وصحيح الجامع، برقم 5741.
([6]) فتح الباري، 6/ 16.
([7]) المرجع السابق، 6 / 16
([8]) فيض القدير، 3 / 561 .
([9]) سورة البقرة, الآية: 143 .
([10]) انظر الفتح، 6 / 17, وصحيح ابن حبان، 7 / 64 برقم 4592.
([11]) انظر هذه القاعدة في: قواعد الترجيح للحربي، 2 / 473 .
([12]) أخرجه أحمد، 21/ 280، برقم 13741، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المؤمنين، برقم 3174، والطبراني في المعجم الكبير، 7/ 213، برقم 6885، وبنحوه البزار، برقم 4649، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2536، وفي صحيح الجامع، برقم 7852.
([13]) النهاية، ص 344 .
([14]) فيض القدير، 4/107 .
([15]) أخرجه أحمد، 37/ 369، برقم 22695، والترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة درجات الجنة، برقم 2531، وابن أبي شيبة، 13/ 138، برقم 35211، والمقدسي في المختارة، 3/ 337، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 922، وصحيح الترمذي، 2531.
([16]) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم 6550 – 6567 .
([17]) البخاري في جزء من حديث، كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء، برقم 7423، وما بين المعقوفين من موارد الظمآن، برقم 2432.
([18]) الفتح، 6/17 .
([19]) المصنف لابن أبي شيبة، برقم 8441، وعبد الرزاق، برقم 19644، وتقدم تخريجه.
([20]) الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق، باب حدثنا محمد بن حاتم المؤدب، برقم 2450، والحاكم، 3/ 408، وصححه، وعبد بن حميد، برقم 460، والبيهقي في الشعب،
2/ 266، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 954، وصحيح الترغيب والترهيب، برقم 3377 .
([21]) أخرجه أحمد، 28/ 350، برقم 17124، والترمذى (4/638 ، رقم 2459، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، برقم 4260، والبيهقي، في الشعب، برقم 10061، والطبراني في الكبير، 7/281، برقم 7141، وفي الصغير له، 2/ 107، برقم 863، والحاكم، 1/ 57، وصححه على شرط البخاري، والطيالسي، 3/ 445، والبزار، 8/417، برقم 3489. وما بين المعقوفين زيادة من مسند الفردوس، برقم 4930،
([22]) النهاية، ص 820 .
([23]) انظر: فيض القدير، 5/67 .
([24]) المصدر السابق .
([25]) السر بالكسر السين وشدة الراء، المراد أفضل موضع فيها، والسر جوف كل شيء ولبه وخالصه (النهاية).
([26]) انظر هذه الروايات الصحيحة في/ البخاري، برقم 2790، و7423، وصحيح الترمذي، برقم 2531، و3174، وصحيح ابن ماجه،4331، وصحيح النسائي، برقم2530، وصحيح الجامع، برقم 592، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم922، و1811، و2003.
([27]) سورة الكهف، الآيتان/ 107- 108.
([28]) أضواء البيان للشنقيطي، 4/150 .