شرح دعاء " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي، وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِب"
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي، وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ))([1]).
قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إنها حق , فادرسوها ثم تعلموها))([2]).
الشرح:
هذا الدعاء المبارك الذي بين يديك يا عبد اللَّه، هو من أجمع الأدعية وأكملها، وأجلّها قدراً وشأناً؛ لتضمّنه سؤال اللَّه تعالى التوفيق إلى القيام بأفضل الأعمال من الصالحات, وسؤاله الوقاية من كل المنكرات والسيئات، والفتن والمحن في الدين والمعاش، والمعاد، فينبغي للعبد الإكثار منه, وفهم مقاصده ومدلولاته، والعمل بمضامينه؛ فإن من [تعلَّمه] وعمل به نال السعادة والهنا في الدنيا، والبرزخ، والآخرة، فمن جلالة هذا الدعاء، وعلو مكانته أن اللَّه تبارك وتعالى أمر حبيبه النبي صلى الله عليه وسلم حينما رآه في المنام، ورؤية الأنبياء حق فقال له: ((يا محمد، إذا صليت فقل: اللَّهم إني أسألك فعل الخيرات، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي، وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ))، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ((إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا وَتَعَلَّمُوهَا))، فأمر صلى الله عليه وسلم بمدارسته وتعلّم معانيه ومقاصده، فدلّ على خصوصية هذا الدعاء على غيره لهذه الأمور كما ترى.
قوله: ((اللَّهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات)) تضمّن هذا السؤال طلب كل خير، وترك كل شرّ؛ فإن الخيرات: تجمع كل ما يحبه اللَّه سبحانه وتعالى ويُقرّب إليه من الأعمال والأقوال، ومن الواجبات والمستحبات. والمنكرات: تشمل كل ما يكرهه اللَّه تعالى، ويباعد عنه من الأقوال والأعمال، فمن تحصَّل له هذا المطلوب، حصل له خير الدنيا والآخرة , وهذا من الجوامع التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يحبّ مثل هذه الأدعية الجامعة، كما في حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك))([3]) .
قوله: ((وحُبَّ المساكين)): حب المساكين يدخل من جملة فعل الخيرات، وإنما أفرده بالذكر، وهو ما يُسمّى بعطف الخاص على العام لشرفه وقوة العناية والاهتمام به، فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم اللَّه أن يجعله منهم، ويرزقه الحشر والوفاة معهم ((اللَّهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين))([4]) .
وحب المساكين هو أصل الحب في اللَّه تعالى؛ لأنه ليس عندهم من الدنيا ما يوجب محبتهم لأجله، فلا يحبون إلا للَّه عز وجل والحب في اللَّه من أوثق عُرى الإيمان، وهو أفضل الإيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم((من أحب للَّه، وأبغض للَّه، وأعطى للَّه، ومنع للَّه، فقد استكمل الإيمان))([5])، وتذوق حلاوة الإيمان, قال النبي صلى الله عليه وسلم((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ))([6])، ووصَّى أمَّنا أمَّ المؤمنين الصدِّيقة بنت الصدِّيق عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فقال لها: ((يا عائشة أحبِّي المساكين، وقرّبيهم، فإن اللَّه يقربك يوم القيامة))([7]) .
قوله: ((وأن تغفر لي، وترحمني))، سأل المغفرة والرحمة لأنهما يجمعان خير الآخرة كله، فبالمغفرة يأمن العبد من العذاب، وكل شرٍّ، وأما الرحمة فهي دخول الجنة، وعلوّ درجاتها، فجميع ما في الجنة من النعيم بالمخلوقات فإنه من رحمته تعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إن اللَّه عز وجل يقول للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي))([8]) أن تستر عليَّ ذنوبي، وتمحوها، وأن ترحمني بتوالي نعمك عليَّ في الدنيا والآخرة، وأن توفقني إلى التوبة وتقبلها مني.
قوله: ((وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون)): وإذا أردت أن توقع بقوم فتنة وعقوبة في الدين، أو عقوبة دنيوية من البلايا والمحن والعذاب، فتوفّني إليك قبل وقوعها، وافتتان الناس بها؛ فإن المقصود من هذا الدعاء العظيم السلامة من الفتن طول الحياة، والنجاة من الشر كله قبل حلوله، ووقوعه، وبأن يتوفّاه اللَّه تعالى سالماً معافىً قبل حلول الفتن، وهذا لا شك من أهم الأدعية لأنه من أعظم المنى أن يحيى المؤمن معافىً سليماً مدة حياته من الفتن والمحن، ثم يقبضه اللَّه تعالى إليه قبل وقوعها؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ((يتعوّذوا باللَّه من الفتن ما ظهر منها وما بطن))([9]).
وفيه جواز الدعاء بالموت خشية الفتنة في الدين، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَاب))([10]).
قوله: ((وأسألك حُبك)) ثم شرع في سؤال أعظم المطالب، وأسمى المراتب، وأغلى الأماني، فقال: ((وأسألك حُبك)): أي أسألك حبّك إيّاي، وهذا أعظم مطلوب أن يكون العبد محبوباً عند اللَّه عز وجل وتضمن سؤاله حبه تعالى، سؤال محبة العبد لربه تعالى، أي وأسألك حبي إياك، فلا يكون شيء أحب إليَّ منك، فدلّ هذا الدعاء العظيم من أجلِّ الأدعية لتضمّنه جوامع الكلم؛ لأنه يجمع كل خير، فإذا كانت محبّة اللَّه تعالى ثابتة في قلب العبد نشأت عنها حركات الجوارح، فكانت بحسب ما يحبه اللَّه تعالى ويرتضيه، فأحب ما يحبه اللَّه تعالى من الأعمال، والأقوال كلها ففعل حينئذ الخيرات كلها، وترك المنكرات كلها، وهذا كمال العبودية للَّه تعالى رب العالمين، ومن طلب محبة اللَّه عز وجل أعطاه اللَّه تعالى فوق ما يريده من الدنيا تبعاً.
فمن رزق هذه المحبة كانت كل أعماله، وأقواله، وأفعاله مسددة على مراد اللَّه تعالى، فيُجعل له الحب والقبول في الأرض، وفي السماء كما في الصحيح([11]) .
قوله: ((وحبّ من يحبُّك))، وأسألك حب من يحبك من الأنبياء والعلماء والصالحين .
قوله: ((وحّب عمل يقرّبني إلى حبك)) أي وأسألك أن توفّقني إلى أحب الأعمال الصالحة التي تقرّبني إلى حبّك، فمن رزق هذه المحابّ فاز في الدنيا و الآخرة.
وفي سؤال هذه المحاب وهي داخلة في صدر الدعاء ((فعل الخيرات)) هو من عطف الخاص على العام لجلالة شرف وقوة الاهتمام بهذه المطالب المهمة من المحاب، وأنها هي أصل فعل الخيرات كلها، ومنتهاها وجماعها إليها .
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفهمها و العمل بمقتضاها، وذلك لعظم شأنها لما حوته من المطالب، والمقاصد الجليلة في الدنيا والآخرة، وأنه ينبغي العناية بفهم الألفاظ، واستحضار المعاني عند السؤال، فإن ذلك أرجى في قبول الدعاء، وأكثر أثراً في النفس، وتذوق حلاوة الإيمان، ولذَّة مناجاة اللَّه تبارك وتعالى.
([1]) أخرجه أحمد بلفظه، 36/ 423، برقم 22109، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة ص، برقم 3235، بنحوه، وحسنه، وقال: سألت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - فقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، وفي آخر الحديث قال صلى الله عليه وسلم ((إنها حقٌّ فادرسوها ثم تعلّموها))، والموطأ، برقم 736، والحاكم، 1/521، والبزار، 2/ 121، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 318.
([2]) هذه الزيادة عند أحمد، والترمذي كما في التخريج السابق، وصححها الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2582.
([3]) أبو داود، كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1482، والطيالسي، 2/ 444، وابن أبي شيبة، 6/ 21، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 278.
([4]) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، برقم 2352، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب مجالسة الفقراء، برقم 4126، والحاكم،
4/ 322، والسنن الكبرى للبيهقي، 7، 12، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 308، وفي صحيح سنن ابن ماجه، برقم 3328.
([5]) أبو داود، كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان، برقم 4683، والترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق، باب حدثنا أبو حفص، برقم 2521 بنحوه، ومسند أحمد،
24/ 383، مصنف عبد الرزاق، 3/ 197، وابن أبي شيبة، 11/ 47، وأبو يعلى، 3/ 60، والطبراني في الكبير، 8/ 134، وحسّنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة،
1 / 657، برقم 380، وصحيح الجامع، برقم 5965.
([6]) البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، برقم 16، ومسلم، واللفظ له، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، برقم 43.
([7]) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، برقم 2352، والبيهقي في السنن الكبرى، 7/ 12، وشعب الإيمان له، 3/ 50، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 3252.
([8]) البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: )وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ(، برقم 4850، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم 2846.
([9]) مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه، برقم 2867.
([10]) أحمد، 39/ 36، برقم 23625، وأبو نعيم في معرفة الصحابة، 5/2525، برقم 6114، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 129، وصحيح الجامع، برقم 139.
([11]) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم 3209، مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبداً حببه إلى عباده، برقم 2637.