السؤال
حضرات الشيوخ الأفاضل: أكتب إليكم لأجد أجوبة واضحة شافية على تساؤلات لطالما أقلقتني وأحزنتني وأرجو أن يتّسع صدركم وأن تصبروا وتعالجوا جميع نقاط رسالتي الطويلة، دون أن تحيلوني إلى أجوبة سابقة، عسى أن يجعل الله ذلك في ميزان حسناتكم.
اعتبروا رسالتي الطويلة إن شئتم قضية للدراسة والتداول تمس مجتمعاً مسلماً بأسره، وخذوا من الوقت ما تشاؤون للإجابة، ولا مانع لدي من أن يتولّى أكثر من شخص الإجابة على أسئلتي، بل أرحّب بأجوبة عدة أشخاص طالما أنها لا تناقض بعضها بعضاً:
أكتب إليكم من مجتمع عربي مسلم مصابٍ بمرض "عمى الأديان"، من مجتمع يعتمد مبدأ "كل مين على دينو الله يعينو"، من مجتمع "مُتَمْسِح"، عفواً أعني "متسامح"...
أنا رجل مسلم متديّن نشأت في أسرة مسلمة لكنها على درجات متفاوتة من الإيمان. أمي مؤمنة وتقيم الصلاة وتصوم رمضان لكنها لا تسلِّم بكل تعاليم الدين. أما والدي الطبيب فلا يصلي ولا يزكي ولا يصوم، كما أنه يشرب جرعات قليلة من الخمر (في بعض المناسبات الاجتماعية المتباعدة وكلما أراد أن يخفّف من آلامه وهمومه) ثم إنه ليست لديه أي تحفّظات على التعامل مع البنوك الربوية. لكن والدي يتمتع باحترام كل أصدقائه وزملائه لصدقه وبشاشة وجهه وطيب معشره ومساعدته للفقراء من المرضى وحرصه على القيام بواجباته الاجتماعية. وقد كان على الدوام ينتقد عليّ تديّني الذي يراه مبالغاً فيه، حيث كان (قبل زواجي) يحرّضني على الاختلاط بالشابات كلما اجتمعت "شلة" الأصدقاء القدامى، ويعيب علي إطلاقي للحيتي قائلاً إنها لا تليق بي (ولعله على حق، لكني أطلقها طاعةً لديني)، وكان دائماً يحاول "تيسير" الدين علي: فينصحني "بالجمع والقصر" (في غير وقتهما) وبالمسح على الجورب عند الوضوء (مع توفّر الماء). وهو ممّن يجيدون نظم الشعر وقد قال في إحدى أشعاره الأخيرة ما مفاده "إن الإنسان لا ذنب له في اتباع دين آبائه". وفي مصارحة جرت مؤخراً بيننا، قال لي إنه ليس لديه إيمان تامّ بنبوة الرسول عليه الصلاة والسلام لكنه مقتنع أنه "أعظم من وطئ الأرض". وفي نقاشاتنا المختلفة، يركز والدي دائماً على تبني أحاديث الرسول التي "توافق العقل والمنطق"، دون اعتبار لما إذا كان الحديث "غير المنطقي" على زعمه صحيحاً أم لا. فكل ما لا يوافق العقل لديه مرفوض.
والآن وقد تزوجت والحمد لله ورزقني الله تعالى بفضله طفلين جميلين، فإن والدي يريد أن يتدخل في طريقة تربيتي لأبنائي ويقول إن لدى ابني أذناً موسيقية ولو كنّا نعيش في وطننا الأم لألحق ابني بمعهدٍ لتدريس الموسيقى. والمفارقة الكبرى تتمثّل في أن والدي رجل "نصوح" ويحب وعظ الآخرين وتوجيههم، وكلما كان الوضع ملائماً تجده يستشهد بحديث من الأحاديث النبوية!
أما والدتي فهي الأخرى متأثرة ببعض هذه الأفكار، فإذا تلوْتُ عليها بعض الآيات عن مصير من يتبع غير الإسلام، فتجيب بالقول: "الله أعلم"، و"ليس لدينا الحق بالحكم على الناس"، وكأن هذه الآيات سردٌ بلا طائل، والعياذ بالله. ثم إنها من المتابعين بشوق ويومياً لبرنامج الأبراج "كارمن" على قناة المستقبل. وهي مع ذلك ممن لا يقبل حديثاً نبوياً إلا إذا كان "موافقاً للعقل والمنطق".
وأما أختي، فآه على أختي، من أين أبدأ؟ وماذا أقول؟... فَقدَت إيمانها بكل شيء إلا الله (كإله واحد خالقٍ للكون)، وترفض مسلَّمات الدين الإسلامي من احتشام وتعدد الزوجات ونجاسة الكلاب وحرمة الوشم...الخ. وعندما أحاول تحبيب الدين إليها بأي طريقة تصمّ أذنيها وترفض مجالستي.
هذه، أيها الشيوخ الأفاضل، هي أسرتي. والقاسم المشترك بين هؤلاء الثلاثة هو مقولة "الدين المعاملة"...
لكن المسألة لا تتوقف عند هذا الحد، فعائلتي الكبرى تضم أفراداً من كل "الطيف الديني" من بينهم مثلاً نسيب من جيل والدي ترك الدين منذ سن المراهقة وتبنّى "العلمانية" ونذر حياته لصرف الناس عن الدين (أياً كان). ولا يكاد يخلو لقاءٌ معه من محاولة لتوجيه نقدٍ للدين والمتديّنين.
هذه هي الحالة باختصار شديد... وهنا يأتي دور الأسئلة المحيّرة: كيف أتعامل مع كل هؤلاء، وعلى رأسهم والديّ وأختي؟ ما تعريف المرتدّ عن دينه؟ هل هو محصور في من نشأ في عائلة غير مسلمة ثم تعرّف على الإسلام فأسلم ثم تراجع بعد مدة عن إسلامه؟ هل يجوز أن يُقبر نسيبي، الذي لا يجد حرجاً في إعلان عدم إيمانه بأي شيء سوى العقل في مقبرة للمسلمين؟ وهل يُجوز أن يُقبر والدِي أو أختي في مقبرة للمسلمين إن سبقني أحدهما أو كلاهما إلى عالم البرزخ بعد عمر طويل؟ وماذا أفعل إن حضرت ذلك الموقف وأراد الأقرباء دفن هؤلاء جميعاً في مقبرة للمسلمين؟
أسعفوني بأجوبتكم الشافية يا معشر الشيوخ، فأنا بأمسّ الحاجة إليها. وأرجو أن تعم الفائدة جميع القرّاء.
أعتذر للإطالة وجزاكم الله عنا كل خير.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالمرتد هو الذي يأتي بعد تقرر إسلامه بقول أو فعل أو اعتقاد دل الشرع على أنه كفر سواء نشأ في عائلة مسلمة أم لا.
قال خليل بن إسحاق في مختصره: الردة كفر المسلم بصريح أو لفظ يقتضيه أو فعل يتضمنه، كإلقاء مصحف بقذر، وشد زنار، وسحر، وقول بقدم العالم أو بقائه، أو شك في ذلك. انتهى.
و قال الدردير: الردة كفر المسلم المتقرر إسلامه بالنطق بالشهادتين مختارا. اهـ
ومن الكفر التكذيب والشك فيما ثبت في نصوص الوحيين، قال شيخ الاسلام رحمه الله في منهاج السنة: فتكذيب الرسول كفر، وبغضه وسبه وعداوته مع العلم بصدقه في الباطن كفر عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة أهل العلم. اهـ
وفي الفتوى رقم:7150 من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء: الردة هي الكفر بعد الإسلام، وتكون بالقول والفعل والاعتقاد والشك. انتهى.
والشك نقيض اليقين، وهو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه فلا يكون العبد مؤمنا إلا إذا كان موقنا يقينا جازما بمدلول شهادة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. سورة الحجرات15.
وقال صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة. رواه مسلم، فاشترط في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقنا بها قلبه غير شاك فيها، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط، وقد ذكر أهل العلم أن الإنسان قد يطرأ في نفسه نوع شك لكنه مع ذلك يكون في داخله مصدقا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يكفر بذلك، وفي مثل هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل : ولكن ليس كل من دخل عليه شعبة من شعب النفاق والزندقة فقبلها جهلا أو ظلما يكون كافرا منافقا في الباطن بل قد يكون معه من الإيمان بالله ورسوله ما يجزيه الله عليه ولا يظلم ربك أحدا.
هذا وننبه السائل إلى أن تكفير الأعيان ممن ينتسبون للإسلام ليس بالأمر الهين لما يترتب عليه من آثار دنيوية وأخروية، فإن من اعتقد أو قال أو فعل ما هو كفر عند علماء المسلمين فإنه قد وقع في الكفر، لكنه لا يحكم بكفره حتى يستوفي شروط تكفير المعين، وتنتفي عنه موانع تكفير المعين، كما هو مبين في الفتوى رقم: 721.
فإن استوفى الشروط وانتفت عنه الموانع، فإنه يكفر بعينه، ويعامل معاملة الكافر فلا يجوز تزويجه، ولا أكل ذبيحته، ولا يرث ولا يورث، وإن مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين.
واعلم أن الحكم على المرتد لا يكون إلا من قبل القضاء الشرعي، والتنفيذ لعقوبته لا يكون إلا من قبل ولي أمر المسلمين أو نائبه ، ففي حال توفر الشروط وانتفاء الموانع يجب على ولي الأمر أن ينفذ الحكم بالقتل بعد الاستتابة ثلاثة أيام، ومحاولة إقناعه بالرجوع إلى الإسلام بالجدال بالتي هي أحسن وإزالة ما عنده من الشبه, فإن لم يتب قتل، قال العلامة خليل المالكي في المختصر: واستتيب ثلاثة أيام بلا جوع وعطش فإن تاب وإلا قتل.
وذهب بعض أهل العلم إلى تأجيله بدون حد ما رجيت توبته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول: .... وقال الثوري: يؤجل ما رجيت توبته، وكذلك معنى قول النخعي .اهـ
وأما إن لم يتأكد من توفر الشروط وانتفاء الموانع فلا يلزم الجزم بتكفيره لأن من ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، والواجب هو السعي في هدايته وإنابته الى الله فقد كان كثير من السلف الصالح يحذرون من إطلاق كلمة الكفر أو كافر على من ظاهره الإسلام، وقد قال بعضهم: لأن أخطئ في إدخال ألف كافر في الإسلام أحب إلي من أن أخرج مسلما واحدا من الإسلام. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه. رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية: من دعا رجلا بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه. أي رجع عليه.
فتكفير المعين من الصعوبة بمكان نظرا لاحتمال طروء عارض من العوارض المانعة من الحكم بكفره من جهل أو إكراه أو تأويل أو عدم إقامة الحجة أو غير ذلك.
فلا يكفر المسلم إلا إذا توفرت فيه شروط التكفير، وانتفت عنه موانعه، ومن ذلك أن يكون بالغا عاقلا قاصدا مختارا غير معذور بجهل أو تأويل فيما يكون فيه الجهل والتأويل عذرا.
قال ابن تيمية رحمه الله: ليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن يثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك. بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.
وقال أيضا: إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه. اهـ.
وقال أيضا: كان أحمد رحمه الله يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته، لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة…… لكن ما كان يكفر أعيانهم. اهـ.
ثم إنه لا يخفى أنك على علم بمخاطر هذه الأمور، وإنما يتعين البحث عن الحل لمشكلتك، فننصحك بالاستعانة بالله الذي لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض ليعينك على هدى أهلك وليوفر لك جوا يساعدك على الالتزام بالدين وعدم التأثر من انحرافاتهم، فعليك بالالتجاء إليه أوقات الإجابة، واحرص على المزيد من تعلم الشرع والعقيدة الصحيحة وعلى الالتزام بالصلاة في المسجد مع الجماعة، والصبر على الجلوس في المساجد ومصاحبة أهل الخير فيها لعلك تجد من المستقيمين من يمكن أن يساعدك في نصح أهلك، ويتعين عليك نصحهم بلطف والرفق بهم ومحاورتهم بالحسنى وترهيبهم بنصوص الوحي مع سؤال الله هدايتهم وطلب من يمكنه التأثير عليهم من العلماء والوجهاء والأصدقاء أن ينصحوهم، وعليك بالحرص على الإحسان اليهم وخدمتهم ومعاملتهم بالأخلاق الحسنة، فإن دعوة الحال أبلغ من دعوة المقال.
واحرص على الدعاء لهم ووصية من ترجى منهم استجابة الدعاء أن يسألوا الله لهم الهداية، ففي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة، فخرجت مستبشرا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف فسمعت أمي خشف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من شدة الفرح، قال: قلت: يا رسول الله أبشر, قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال خيرا... إلى آخر الحديث.
وأما عن التعامل معهم فإن للوالد على ولده حق البر به والإحسان إليه مهما كانت عقيدة هذا الوالد أو دينه، فقد أوجب الله عز وجل الإحسان إليهما ، لا فرق في ذلك بين كونهما مسلمين أو كافرين، ودليل هذا قوله تعالى : وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا {لقمان:15}.
وما رواه مسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قدمت علي أمي وهي مشركة راغبة أفأصل أمي، قال: نعم، صلي أمك.
وقال الإمام القرطبي رحمه الله: والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفق.... فهذه الآية من أعظم الآيات في هذا الباب، فإن الله تعالى أمر فيها بمصاحبة الوالدين غير المسلمين الداعيين إلى تضييع حق الله تعالى والإشراك به، مصاحبة بالمعروف، فلم يسقط حقهما في حين يجاهدان لإسقاط حقه سبحانه وتعالى. اهـ.
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على وجوب بر الوالدين، بل إن القرآن الكريم قرن برهما في كثير من الآيات بتوحيد الخالق سبحانه، فقال سبحانه: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا {الإسراء:23}، وقال سبحانه: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا
وفي الحديث الصحيح المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك.
ولا يشرع لك طاعتهما في ترك الأوامر الشرعية كالطهارة والصلاة واللحية وتربية الأبناء على الدين فإن الله حرم طاعتهما في معصيته عز وجل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. رواه أحمد والحاكم.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما الطاعة في المعروف.
وبين لهما أن الخضوع والتسليم لحكم الله فرض فلا يشرع رده بالعقل فشأن المؤمن التسليم والانقياد المطلق لألفاظ الوحي وتقبلها واعتقاد حسنها وصلاحيتها، وذلك لأنها جاءت من لدن حكيم خبير، ودليل هذا قول الله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما {النساء:65}.
وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا.{سورة الأحزاب36}
وقال تعالى: ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين* وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون* وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين* أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون * إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون {النور: 47 ـ 51}.
وقد ذم الله تعالى الكارهين لأحكام الدين في عدة آيات وجعل ذلك من علامات الكفر، فقال: كبر على المشركين ما تدعوهم إليه. {الشورى:13}، وقال تعالى: لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون{الزخرف:78}، وفي مثل هذا المقام جاء قول الله عز وجل: ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم.{محمد:28}.
قال العلامة ابن القيم رحمة الله تعالى عليه: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسما مؤكدا بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذاالتحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضا والتسليم وعدم المنازعة، وانتفاء المعارضة والاعتراض.
وأما دفن المسلم المشكوك في ردته في مقابر المسلمين فالظاهر جوازه فقد كان المنافقون يدفنون في مقابر المسلمين وكان عمر رضي الله عنه يتحرى في الموتى حذيفة الذي أودعه رسول الله صلى الله عليه وسلم سر المنافقين فإذا رآه لم يحضر للصلاة ترك الصلاة عليهم ولم يمنع أحدا من الدفن في البقيع بسبب ذلك، فقد روى ابن أبي شيبة عن زيد بن وهب قال: مات رجل من المنافقين فلم يصل عليه حذيفة فقال له عمر أمن القوم هو قال نعم فقال له عمر بالله منهم أنا قال لا ولن أخبر به أحدا بعدك. اهـ.
وأما المرتد المحكوم بثبوت كفره فلا يدفن في مقابر المسلمين، ويجوز لأقاربه المسلمين اتباع جنازته ودفنه، ففي المصنف: أن ابن عمر سئل عن الرجل يتبع أمه النصرانية تموت قال: يتبعها ويمشي أمامها، وروي عن ابن عباس أنه بلغه أن رجلا نصرانيا مات وله ابن مسلم فلم يتبعه، فقال ابن عباس: كان ينبغي له أن يتبعه ويدفنه.
وجاء في المجموع: ويجوز للمسلم اتباع جنازة قريبه الكافر. انتهى.
وقال في موضع آخر: ولا يكره للمسلم اتباع جنازة أقاربه من الكفار، لما روي عن علي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن عمك الضال قد مات، فقال اذهب فواره. اهـ .
واعلم أن الإنسان قد يتأثر بواقع من يساكنهم، وأقل أحواله أن يألف حصول المنكر بحضرته ولا ينكره، ولذا حض أهل العلم على مصاحبة أهل الخير ومخالطتهم ومجالستهم، والبعد عن رفقاء السوء، واستدلوا لذلك بحديث مسلم في من قتل مائة نفس حيث أمره العالم بالانتقال من أرضه إلى أرض بها أناس صالحون ليعبد الله معهم فقال له: انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء. وبحديث أبي داود: الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل. وبحديث أحمد: لا تصاحب إلا مؤمنا.
واعلم أن ترك الصلاة هو أخطر الذنوب بعد الشرك بالله، فالله عز وجل قد توعد الذين يتهاونون بأمر الصلاة بالعذاب الشديد، فقال جل شأنه: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا* إلا من تاب وآمن وعمل صالحا {مريم:59-60}، وقال سبحانه وتعالى: فويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون.{الماعون:4-5}، وهذا في الذين يؤخرونها عن أوقاتها، فكيف بتاركها، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر. رواه النسائي والترمذي وابن ماجه وصححه الترمذي والألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. رواه مسلم في صحيحه، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه بلفظ: بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة. وصححه الترمذي والألباني .
والصلاة هي أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإذا صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر. رواه الترمذي وصححه الألباني، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن ترك الصلاة يحبط أعمال العبد، فعن بريدة رضي الله عنه قال: بكروا بالصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ترك صلاة العصر حبط عمله. رواه البخاري في صحيحه.
فعليك بالتحفظ من جدالهم بغير علم, مع الحرص على هداهم وحضهم على التوبة وتعليمهم ما يجهلون وإنكار المنكر الذي يقترفون، والصبر على ما تلقاه في سبيل دعوتهم، واستخدم في ذلك ما أمكنك من الوسائل المساعدة في هدايتهم كالنصح بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن، وإهداء الرسائل والأشرطة النافعة ، وعليك بالصبر الطويل وعدم اليأس من قبولهم النصح، واعلم أنك تقوم بمهمة شريفة عظيمة وهي وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وليكن لك فيهم أسوة حسنة, فقد تحملوا في سبيل تبليغ دين الله تعالى من أقوامهم الكثير من سب وشتم ونبز بالألقاب واتهام بالسحر والكذب، وبعضهم عليهم السلام وصل الحال بأقوامهم إلى أن قتلوهم، وأما الإعراض عنهم وعدم سماع كلامهم فكثير جدا، كما كان يفعل أصحاب نوح عليه السلام معه، فقد قص الله تعالى لنا بعضا من ذلك، فقال تعالى: قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا* فلم يزدهم دعائي إلا فرارا* وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا* ثم إني دعوتهم جهارا* ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا* فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا {نوح:5-6-7-8-9-10}، إلى آخر الآيات, وقد صبر نوح عليه السلام يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم. متفق عليه.
وقال الله تعالى: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين {يوسف:108}، وقال الله تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين. {النحل:125}، فالحكمة تقتضي تقديم الأوليات والبدء بالأهم فالمهم، ومراعاة أحوال المدعوين، ومستوياتهم وثقافاتهم واهتماماتهم... إلى غير ذلك، والموعظة الحسنة تقتضي خطابهم بالأسلوب الرفيع المشوق، والتركير على شحن الخطاب الدعوي بالآيات البينات والسنن النبوية النيرات، وضرب الأمثال البليغة والقصص المؤثرة، وأما المجادلة بالتي هي أحسن فتقتضي إلانة القول والرفق في الخطاب، وإحساس المخاطب بدافع محبة الخير له العاجل منه والآجل، مع التدعيم بالحجة القاطعة والبراهين الساطعة.
وأولى ما يجب الاعتناء به في علاج هذه الأخطاء التي ذكرت وغيرها من أنواع الانحرافات التركيز على تقوية الإيمان، وإصلاح القلوب، وإتقان الصلاة، والحرص على تقوية صلة النفوس بالله تعالى، والإكثار من الحديث عن الأسباب المعينة على خشية الله تعالى، والرغبة في ما عنده واستشعار مراقبته، والإكثار من الحديث عن الآخرة والقبر والجنة والنار، والترغيب في ذكر الله تعالى، وتعليم الأحكام الشرعية، فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا... وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.
وقال تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. {العنكبوت:45}، وفي الحديث: وآمركم بذكر الله عز وجل كثيرا، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره، فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل. رواه أحمد والترمذي والحاكم، وصححه الألباني.
وقد دل الحديث على أن العلم بأحوال القبور والآخرة يقمع الشهوات والأهواء، وذلك حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي والألباني.
والله أعلم .