(( حَتى يُحبَ لأخيه ما يُحبُ لنفسه ))
خالد بن سعود البليهد
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(لا يؤمنُ أحدُكم حَتى يُحبَ لِأخِيهِ مَا يُحْبُ لنفسِهِ)
متفق عليه.
هذا الحديث أصل عظيم في محبة المسلمين والنصح لهم وإيثارهم ومعاملتهم كمعاملة النفس وفيه مسائل:
الأولى: النفي في قوله (لا يؤمن أحدكم) نفي لكمال الإيمان ونهايته والمراد لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان وكماله حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير كما هو مفسر في رواية أحمد (لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير). ونفي الإيمان على مراتب:
1. نفي لأصل الإيمان لانتفاء بعض أركانه كقوله تعالى: ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
2. نفي لكمال الإيمان الواجب لانتفاء بعض واجباته كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) متفق عليه.
3. نفي لكمال الإيمان المستحب لانتفاء بعض مستحباته كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
ولكل مرتبة نظائر في الأدلة الشرعية والسياق والقرائن تدل عليها فإن كان المنفي ركنا حمل النفي على أصل الدين وإن كان المنفي واجبا حمل على كماله الواجب وإن كان المنفي مستحبا حمل على كماله المستحب.
الثانية: اختلف العلماء في توجيه النصوص التي ورد فيها نفي الإيمان عمن فعل محرما أو ترك واجبا كقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)
اختلفوا هل يسمى الفاعل ناقص الإيمان أو يسلب عنه اسم الإيمان ويسمى مسلما روايتان في مذهب الإمام أحمد و هما قولان معروفان عند أهل السنة.
والتحقيق أن مرتكب الكبيرة لا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته ناقص الإيمان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية: (ونقول هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الإيمان).
أما من قال هو مسلم من السلف فليس مراده تكفيره وإنما أخذ بظاهر النصوص التي تنفي عنه وصف الإيمان فمخالفتهم يسيرة في الاسم لا يترتب عليها حكم. ومذهب أهل السنة وسط في هذه المسألة بين المعتزلة والخوارج الذين يسلبون عنه الاسم فيكفرونه والمرجئة الذين يثبتون له الاسم المطلق ويقولون هو مؤمن كامل الإيمان.
الثالثة: دل الحديث على أن من خصال الإيمان المستحبة أن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه فيأتيه بما يحب أن يؤتى به ويمنع عنه ما يحب أن يمنع عنه من الأذى وينصح له ويجتهد في أداء حقوقه واحترامه وتقديره والنظر في مصالحه.
وأعظم ذلك إن رأى نقصا في دين أخيه اجتهد في إصلاحه.
قال بعض السلف: (أهل المحبة لله نظروا بنور الله وعطفوا على أهل معاصي الله مقتوا أعمالهم وعطفوا عليهم ليزيلوهم بالمواعظ عن فعالهم وأشفقوا على أبدانهم من النار).
الرابعة: من تحلى بهذه الخصلة العظيمة كان مستحقا لدخول الجنة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) رواه مسلم. وروي في مسند أحمد عن يزيد القسري قال قال لي رسول الله: (أتحب الجنة قلت نعم قال فأحب لأخيك ما تحب لنفسك).
وذلك أنه لما كان المسلم محسنا لإخوانه في الحياة الدنيا مشفقا عليهم حريصا على نفعهم جازاه الله بالإحسان في الآخرة وأدخله دار كرامته.
الخامسة: إنما يقدر على هذه الخصلة ويقوى عليها من رزق سلامة الصدر وكان قلبه خاليا من الغل والغش والحسد
فمن كان كذلك سره ما سر أخاه وساءه ما ساء أخاه. أما من كان يحمل في قلبه الغل فإنه يمنع من هذا الخير لمنافاته لما في قلبه من السوء.
فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير أو يساويه فيه لأنه يحب أن يمتاز عن الناس بفضائله وينفرد بها عنهم
والإيمان يقتضي خلاف ذلك وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير غير أن ينقص منه شيء.
وقد مدح الله في كتابه من لا يريد العلو في الأرض فقال سبحانه: ( تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
السادسة: محبة الخير للغير لا تنافي أن يكره المرء أن يفوقه أحد في الجمال فلا يذم ولا يأثم من كره ذلك. فقد أخرج أحمد من حديث ابن مسعود قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعنده مالك الرهاوي فأدركته وهو يقول يا رسول الله قد قسم لي من الجمال ما ترى فما أحب أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما أليس ذلك هو من البغي فقال: (لا ليس ذلك بالبغي ولكن البغي من بطر أو قال سفه الحق وغمص الناس).
أما إذا فعل ذلك من باب الكبر والفخر على الناس فهذا مذموم قد نهى عنه الشرع وعليه تحمل آثار السلف وهو مناف لمحبة الخير للمسلمين.
السابعة: إذا رأى المسلم غيره فاق عليه في فضيلة فتمنيه لها لنفسه له حالتان:
1. إن كانت تلك الفضيلة دينية كالعلم والعبادة وغيرها استحب له أن يتمنى ذلك كما تمنى النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه منزلة الشهادة. وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) متفق عليه.
فتمني المرء لما أعطي أخاه من الفضائل لا ينافي محبة الخير والنصح له لأنه من باب التنافس في طاعة الله والمسابقة بالخيرات.
2. إن كانت تلك الفضيلة دنيوية فلا يشرع له تمنيها ولا خير في ذلك كما ذم الله عز وجل قوم قارون بقوله: ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). وقال تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ).
فيكره للعبد تمني ذلك لأن الدنيا ليست مقصودة لذاتها وقد تكون وبالا عليه وقد يحصل مع ذلك نوع من الحسد.
قال بعض السلف: (إذا رأيت من ينافسك في الدنيا فنافسه في الدين).
الثامنة: كان السلف الصالح رحمهم الله يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم وينصحون لهم وهذا يدل على تجردهم عن حظوظ أنفسهم وصدقهم وكمال إخلاصهم وحرصهم على إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وخوفهم من العلو في الأرض.
(كان عطاء بن واسع يبيع حمارا له فقال له رجل أترضاه لي قال لو رضيته لم أبعه).
وقال ابن عباس: (إني لأمر على الآية من كتاب الله فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم).
و(كان عتبة الغلام إذا أراد أن يفطر يقول لبعض إخوانه المطلعين على أعماله أخرج لي ماء أو تمرات أفطر عليها ليكون لك مثل أجري).
وقد قل العمل بهذا الخلق الكريم في الناس اليوم فترى المرء يقصر كثيرا في أداء حقوق إخوانه في الوقت الذي يستقصي حقه ويشح بماله.
وتراه يبخس الناس ويأكل أموالهم في سبيل حصوله على عرض الدنيا بل تراه لا يتورع أبدا عن خداع الناس وغشهم وترك مقتضى النصيحة لهم.
وقد يرى أخاه مشرفا على ضرر أو سالكا للطريق الخطأ في أمر من أمور الدنيا فيبخل عليه بنصيحته ويمنعه التوجيه إلى الصواب والله المستعان.