سبق أن ذكرتُ أنَّ بعض القراء الشيعة –وفقهم الله للخير- حاول أن يقفز على الحقائق التي صَرَّحَتْ بها النصوص المتوافرة في التراث الشيعي تجاه "الآخر"، مفضلاً الهروب إلى الأمام، ومغمضًا عينه عن تلك الأدبيات التي تشحن النفوس بالبغضاء والفرقة والعداء، ومبصرًا بعينه الأخرى القشة التي عند الآخرين، مفتشًا عن كل ما يتصور أنه مثلبة أو منقصة.
ونحن في سلسلة مقالات "الشيعة والآخر"، لسنا بصدد بيان جناية التراث الشيعي على أهل السنة فحسب، بل نحن هنا ناصحون للشيعة أنفسهم، رحمة بهم، وقياماً بحقهم علينا، ونحن نرى أنَّ هذا التراث ليس آفة على أهل السنة فحسب، بل إن جنايته طالت الشيعة أنفسهم.
إن الشيعي -وفقه الله للخير- لا يمكنه أن يتجاهل أنَّ نار الكراهية امتدت إلى الداخل الشيعي، ولو أحببنا استعراض الأحداث والحوادث للزمنا مجلدات كثيرة. إنَّ هذا التراث الأُحادي هو ما جعل الحوزة العلمية الشيعية في العالم تهاجم بضراوة المجتهد آية الله العظمى "محمد حسين فضل الله" متهمة إياه بالضلال والانحراف، حتى صدرت عشرات الفتاوى بحقه، تضليلاً وتفسيقًا وتبديعًا، وجُمعت في كتابٍ مستقلٍ تحت عنوان: "الحوزة العلمية تدين الانحراف"!
ومن يُنكر ما حصل لحجة الإسلام "محسن كديفر" في إيران، حيث سجن وعذب بسبب آرائه المعتدلة في "ولاية الفقيه". ومن يُنكر –كذلك- ما حصل للمرجع الكبير آية الله العظمى "محمد تقي الشيرازي" في إيران، الذي فرضت عليه سُلطات إيران الإقامة الجبرية ست عشرة سنة، وعُذب ولده وأحرق جسده بالزيت، ثم بعد وفاته نُهب ضريح المرجع الشيعي وأسقط وتم تعريته، ولم يُقبر حيث أوصى، بل قُبر على قارعة الطريق!
ولا يُنكر الشيعي ما حصل للعالم وابن أكبر مرجع للشيعة على الإطلاق، وهو الشيخ "عبدالمجيد الخوئي"، حينما زار العراق، ولاذ بحمى "الصحن الحيدري"، فلم يرحمه الشيعة، بل قطعوه إربًا بالسكاكين والسواطير، أمام القبر المزعوم لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ولم يُرقب في "عبدالمجيد الخوئي"، ولا في قبر الإمام إلاً ولا ذمةً، فهتكت الحرمات، وسفكت الدماء، وقُتل حفيد علي بن أبي طالب –كما يعتقد الشيعة- أمام قبر جده، وقُطعت أوصاله في حماه، وفي أقدس مكان عند الشيعة.
إن الأمثلة المعاصرة للعنف الداخلي الشيعي أكثر من أن تُحصى، ولو قارنت بين مكانة بعض علماء الشيعة في إيران وبين مكانتهم في البلاد السنية لوجدتَ اختلافًا كبيرًا، حيث لن تجد مثل تلك الانتهاك الصارخة التي حصلت لكثيرين منهم في بلد الشيعة الأول إيران.
لا بد للزملاء الشيعة –وفقهم الله للخير- أن يتنبهوا أن تراث التعصب والكراهية لن يولد إلا المزيد من التعصب والحدية، وقد انتقل هذا السُعار إلى داخل الفرقة نفسها، ووصل إلى درجاتٍ خطيرةٍ من التعصب والبعد عن الأدب الإنساني!
وليعلموا أن ذلك الأمر ليس مجرد وليد الساعة، فكما هو معلوم، فإن الشيعة الاثناعشرية قد انقسمت إلى فرق وطوائف كثيرة، من أبرزها: "الإخبارية"، و"الأصولية"، و"الشيخيَّة". وقد جرى بين تلك الطوائف ردود ومنازعات، وتكفير وتشنيع، حتى إن بعضهم أفتى بتحريم الصلاة خلف بعضهم الآخر[1]!
يقول الحجة العلامة السيد "محمد حسن آل الطالقاني" –من علماء النجف وهو عميد أسرة السادة آل الطالقاني- : (أوغل "الإخباريون" في الازدراء "بالأصوليين" إلى درجة عجيبة، حتى أننا سمعنا من مشايخنا والأعلام وأهل الخبرة والاطلاع على أحوال العلماء، أن بعض فضلائهم كان لا يلمس مؤلفات الأصوليين بيده تحاشيًا من نجاستها، وإنما يقبضها من وراء ملابسه)[2].
وتكلم حجة الإسلام "الطالقاني" عن طبيعة الخلاف بينهم، وإلى أي مستوى هبط بين علماء المذهب الشيعي، فقال: (كانت اللهجة قاسية، والأسلوب نابياً، وقد تزعم فريق الإخباريين في تلك الفترة "الميرزا محمد النيشابوري" المعروف بالإخباري، كما تزعم فريق الأصوليين الشيخ "جعفر كاشف الغطاء النجفي")[3].
ثم تحدث آية الله "الطالقاني" عن هذا الخلاف الشيعي الداخلي، الذي وصل في نهايته –كالعادة- للقتل وسفك الدماء البريئة، وهتك الحرمات، ثم سحل الجثث، والعبث بها، كمشهد متكرر منذ زمنٍ بعيد.
يقول حجة الإسلام "الطالقاني": (وقد تطرف الإخباري إلى أبعد حد ووسع شقة الخلاف كثيراً، وتخلى عن الأدب والحشمة والاحترام في مناقشته لعلماء الأصوليين في نقده ورده على السواء، وتطاول على أساطين الدين وعظماء المذهب بالشتم، واستعمل بذيء القول ومرذوله، أدى إلى وقوف العلماء قاطبة في وجهه وإجماعهم على هتكه وتحطيمه، حتى انتهت القصة بمأساة فظيعة، فقد قتل على أيدي العوام مع كبير أولاده بهجوم شنّ على داره في الكاظمية، وسلمت جثته إلى السكان للعبث بها)[4].
وقد كان العالم الإخباري المقتول صريحاً في قوله، يقول عنه الحجة "الطالقاني": (الإخباري تمادى في غيّه وتوسّع في اتهاماته لأساطين العلماء ونسبة الآراء الفاسدة والفتاوى المفتعلة القذرة لهم، كنسبته القول "بجواز اللواط" إلى السيد "محسن الأعرجي"، ونسبته أمثال ذلك إلى الشيخ "أبي القاسم القمي"، والسيد "علي الطباطبائي" وغيرهما)[5].
وكانت سيرة الشيخ الإخباري الجريء مدعاة لغضب شيخ الأصوليين "كاشف الغطاء"، فألف كتابه الشهير: "كاشف الغطاء عن معايب الميرزا محمد الأخباري عدو العلماء"، فقام الشيخ الإخباري ورد على كاشف الغطاء بكتاب سماه: "الصيحة بالحق على من ألحد وتزندق"[6]!
وقدر الله تعالى أن يمرض شيخ الأصوليين الإمام "جعفر كاشف الغطاء النجفي" بمرض كان يُصيب الخنازير ومات به، ففرح بذلك شيخ الإخباريين "الميرزا محمد الأخباري"، وشمت بشيخ الأصوليين، حتى أعتبره أحد أفراد الخنازير، لأنه مات بمرضهم.
يقول الحجة العلامة السيد "الطالقاني": (ولما توفي "كاشف الغطاء" بمرض الخنازير، قال "الإخباري": مات الخنـزير بالخنازير)[7].
وقد اشتعل الخلاف الداخلي بين الشيعة "الإخبارية والأصولية"، وتأججت الأمور، واستفحلت المهاترات، حتى أدت إلى ما لا يخطر ببال.
قال الحجة "الطالقاني": (حتى أدت إلى هتك البعض لحرمة البعض، وانتقاص كل واحد الآخر. وكان كل فريق يرى وجوب قتل الفريق الآخر، وتطورت القضايا إلى أمور شخصية بحته تقريباً، فكان كل من الخصمين يهدف إلى الانتقام من خصمه والتطويح به)[8]!
ثم بعد مدة من الزمن توقف الصراع الثنائي مؤقتاً لوجود عدوٍ مشتركٍ بينهم، وهي فرقة الشيخية -شيخها أحمد الأحسائي، من الأحساء، وهم الذين اهتموا بالمعرفة الروحانية، والعلوم الفلسفيَّة- التي أدى ظهورها إلى اتفاق الإخبارية والأصولية ضد هذا الخصم الجديد!
كان ظهور الشيخ "أحمد الأحسائي"، الذي عُرف –كما يقول أتباعه- بالزهد وحسن المنطق، وبراعة الاستهلال، سببًا في التفاف كثيرٍ من الشيعة حوله، خصوصًا أنه عربي من الأحساء، فغار منه شيوخ الشيعة في إيران والعراق، وحاولوا الكيد له وإسقاطه، فوجدوا في الكذب والافتراء على هذا الخصم الجديد أسهل طريقٍ لإسقاطه ، ومن ثم إصدار فتاوى التكفير ضده، لسحب البساط من تحت قدميه، ونفض الأتباع منه، وإبقائهم تحت نفوذ الشيوخ في إيران والعراق.
يقول العلامة حجة الله السيد "الطالقاني": (كتب "البرغاني الشهيد الثالث" إلى علماء كربلاء بأنه كفر الأحسائي وطلب متابعتهم في ذلك، فاستجابوا وارتفعت الأصوات معلنة كفره وصار الناس في حيرة مما حدث، ثم سادت الخصومة وتوسع الخلاف، وظهر لدى الشيعة مبدأ جديد، وقبرت خلافات الإخباريين والأصوليين، وحلت محلها الشيخية وخصومها)[9].
وتوالت صكوك التكفير من كل من حدب وصوب، فقد كفره: السيد علي الطباطبائي، والسيد مهدي، والشيخ محمد جعفر شريعة مداري، والمولى أغا الدربندري، والمازندراني، والسيد إبراهيم القزويني، والشيخ حسن النجفي، والشيخ محمد حسين الصفهاني.
ويتحدث السيد العلامة "الطالقاني"، عن "أحمد الأحسائي" والآثار السلبية التي خلفها بروزه وشهرته بين علماء الشيعة، حيث لجأ علماء وأكابر الشيعة للحيل والأساليب الملتوية لإسقاطه.
يقول العلامة الحجة "الطالقاني": (تألق نجم الأحسائي، وأخذت رياسته بالتوسع رغم إعراضه عنها، وأوشكت شهرته تغطي العلماء المعاصرين له، فلم يهن ذلك على بعضهم، بل ضاقوا به ذرعًا، وامتلأت صدورهم عليه حقدًا، وصمموا على دكه، غير أن المد الشعبي ومكانته الجماهيرية كانت ترهبهم ، فلزموا جانب الصمت ، إلا أنهم بدأوا يعملون في الخفاء للإطاحة به)[10].
ويواصل السيد العلامة "الطالقاني" شارحًا أساليب علماء الشيعة المتلونة والخفية في إسقاط خصومهم، ويشرح إستراتيجية المعممين في صناعة الفوضى الخلاقة، والزوابع الهدامة، والتي يهدفون منها إلى خنق أعدائهم والتضييق عليهم، حتى وإن كانوا شيعة!
يقول الحجة "الطالقاني": (ضاق القوم ذرعًا بالرجل وفكروا في الخلاص منه طويلاً، حتى اهتدوا إلى ما اهتدى إليه زملاؤهم علماء كربلاء من قبل، ورأوا أن الطريق الوحيد للإطاحة به وتفريق الناس عنه؛ هي إثارة زوبعة حوله، وذلك عمل يحسنونه ويعرفون كيفية التمهيد له والوصول إليه، كل ذلك يجري في الخفاء و"الأحسائي" مسترسل في سيرته وحديثه لا يعرف ما يبيت له القوم ولا يخطر له على بال)[11].
ولا بد من التنبيه هنا، أن أصل الخلاف ومنبعه خوف علماء وأساطين المذهب الشيعي "الأصولي" و"الإخباري" من انتشار المذهب "الشيخي" واستحواذه على عوام الشيعة، ومن ثم استحواذه على الأموال والأخماس والمخصصات والسيولة النقدية التي يتمتعون بها.
وهذا الأمر قديم قِدَم المذهب الشيعي، حيث روى شيخ الطائفة الطوسي عن أبي محمد هارون بن موسى، قال: قال لي أبو علي بن الجنيد، قال لي أبو جعفر محمد بن علي الشلمغانى –الذي كان وكيلاً عن النائب الثالث عن المهدي-: (ما دخلنا مع أبي القاسم الحسين بن روح رضي اللّه عنه في هذا الأمر –يقصد جمع المال باسم وجود المهدي الطفل- إلاّ ونحن نعلم فيما دخلنا فيه، لقد كنّا نتهارش على هذا الأمر كما تتهارش الكلاب على الجيف)[12].
الشاهد، أنَّ علماء الشيعة دخلوا في معركة "تهارش" مع الشيخ "أحمد الأحسائي، وأخذوا يخططون للإطاحة به كما أطاح الشيعة الأقدمون بالوكيل عن أموال المهدي "أبو جعفر الشلمغانى"!
يقول السيد العلامة "الطالقاني": (وكان علماء كربلاء قد صمموا على تكفير كل عالم يرأس ويتزعم ويخافون تقدمه، وقد كفروا عددًا من العلماء ولكنهم لم ينجحوا مما اضطرهم إلى الخجل)[13].
ويتابع العلامة السيد "الطالقاني" فيضيف بُعدًا جديدًا للعداء الذي واجه الشيخ "أحمد الأحسائي" من قبل علماء شيعة العراق، حيث بيَّن أنهم من الفرس، وهم يكرهون العرب ويحتقرونهم، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من العرب!
يقول الحجة السيد "الطالقاني": (تبودلت الآراء وتكررت المشورة بين علماء إيران والعراق، وكان أكثر علماء العراق يومئذ وإلى اليوم من الإيرانيين، فالإيرانيون في الغالب ينظرون إلى العرب نظرة ازدراء واحتقار ويعتقدون بتخلفهم الذهني، فكيف يروق لهم أن يأتي رجل من أطراف الإحساء وأبناء الصحراء، فيتفوق عليهم في بلادهم ويحظى بإقبال ملكهم وشعبهم، ولكن ذلك قد حصل بالرغم منهم، وأجبرهم على الاعتراف بتفوقه وتقدمه)[14]
ويسترسل السيد"الطالقاني" فيقول: (وقد أجمعت الكلمة على الوقيعة بالأحسائي ولكن من يوري الشرارة الأولى؟)[15]
ويتابع العلامة "الطالقاني" ويقول: (وبدأ "البرغاني" يعمل للانتقام من "الأحسائي" والوقعية به، وأخذ يتحين الفرص ويتسقط كلامه، للحصول على مدخل يلج منه، وممسك يتذرع به، وحانت الفرصة "للبرغاني" أن يلعب لعبته ويحقق رغبته فأضاف إلى الآراء بعض الكفريات ونشرها بين العوام، ونسب "الأحسائي" إلى تضليل العوام بآرائه وغلوه في الأئمة وكفره، وانتشرت أخبار تكفير "الأحسائي" في بقية المدن الإيرانية، وواصل "الأحسائي" سفره إلى خراسان، وكلما مر بمدينة وجد الانقسام حوله واضحًا، ففريق يتجاهله ويعرض عنه، وآخر يـبالغ في تعظيمه تعصبًا، وكتب "البرغاني الشهيد الثالث" إلى علماء كربلاء بأنه كفر "الأحسائي" وطلب متابعتهم في ذلك، فاستجابوا وارتفعت الأصوات معلنة كفره، وصار الناس في حيرة مما حدث، ثم سادت الخصومة وتوسع الخلاف، وظهر لدى الشيعة مبدأ جديد)[16]
ثم يُتابع العلامة السيد "الطالقاني" فيسهب في شرح مستوى الخلاف الذي حصل بين علماء الشيعة من جهة وبين الشيخ "أحمد الأحسائي" من جهة أخرى، ويبين إلى أي درجة وصل الانحطاط في الأخلاق، وإلى أي مدى هبطت أدبيات الخلاف.
يقول الحجة "الطالقاني": (وظل خصومه من جانبهم يغذون التفرقة، وينمون دواعي الاختلاف، وكان أن قاموا بعمل أبشع من كل ما عملوا، وتصرف أقبح من سائر ما ارتكبوا)[17]
أخي القارئ الكريم: ماذا يمكنك أن تتوقع ذلك الشيء القبيح الذي فعله هؤلاء العلماء الأجلاء من علماء الشيعة في حق "الأحسائي" كي يسقطوه ؟
لقد قام علماء الشيعة الأفاضل برفع كتاب (شرح الزيارة الجامعة الكبيرة) للشيخ "أحمد الأحسائي" إلى الوالي العثماني في بغداد "داود باشا" وأطلعوه على مواضع منه فيها تعريض وطعن في حقِ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.[18]
يا إلهي! علماء الشيعة تأخذهم الغيرة من أجل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فيقومون يشتكون إلى السلطان السني من الشيخ الشيعي "الأحسائي" الذي تعرض للشيخين!
وفي أثناء أزمة الشيخ "الأحسائي" ضرب الله تعالى كربلاء بزلزال عنيف لم تر مثله من قبل، تساقطت المباني له، وذعر أهلها، وساد الهلع، فظن أتباع "الأحسائي" أنَّ ذلك نصر من الله وخذلان "للأصولية" و"الأخبارية"!
يقول السيد العلامة "الطالقاني": (ولم يردع ذلك -أي الزلزال- القوم ولم يكفوا عن عملهم بل عادوا إلى سابق وضعهم بعد أن هدأت الأوضاع بعض الشيء. وعمد بعضهم إلى تأليف كتاب حشاه بالفضائح والكفر والإفك وقول الزور وأقوال الملاحدة والزنادقة ونسبه إلى الأحسائي، وكان له مجلس عصر كل يوم يقرأ فيه تلك الفضائح على ملأ من الناس فتتعالى الأصوات من أرجاء المكان بلعن الأحسائي والبراءة منه ومن معتقداته، وبوجوب مقاومته والقضاء عليه)[19]
ويشرح السيد "الطالقاني" موقف الشيخ "الأحسائي" المسكين المظلوم، فيقول:
(وأخذ الأحسائي يرد على مؤاخذات خصومه بأسلوب علمي وحجج منطقية ويفسر أقواله المشتبه بها، ونفى عنه التهم والنسب غير الصحيحة، وتبرأ علنا من كل ما يخالف عقائد الشيعة الإمامية وأنه لم يقل ذلك في مجلس أو يسجله في كتاب، ودعا القوم مرارا للاجتماع والمداولة ولكنه لم يعر أذنا صاغية ولم يلتفت إلى طلبه، وتوجد صورة رسالة كتبها الأحسائي إلى تلميذه الشيخ "عبدالوهاب القزويني"، وفيها عرض واف ووصف دقيق لما جرى معه في كربلاء ، ولما وصل إليه القوم من إسفاف وإجحاف وظلم واعتداء كصرف الأموال لشراء الذمم واستئجار الأعوان على التنكيل به، وبث الإشاعات ضده، وبما أنها بقلم الأحسائي نفسه، وهو رجل صدوق لا يتطرق الشك إليه بوجه من الوجوده، ولا يحتمل في حقه الكذب أو الزيادة أو النقصان)[20]
وقام شيوخ الشيعة –أصوليين وإخباريين- بتحريض الوالي العثماني على الشيخ "الأحسائي" بسبب تكلمه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، من أجل قتل الشيخ الأحسائي!!
يقول السيد الحجة "الطالقاني": (ولما بلغ "الأحسائي" خبر ذلك، رأى بقاءه في كربلاء غير صالح، فباع داره وأثاثه وحلي نسائه، وفر بأهله وأبنائه وزوجاته إلى الله قاصدًا بيته الحرام وقبر نبيه، مع ما كان من كبر السن وضعف القوى، ورغم مشقة الطريق وطوله فالخوف كان يدفعه، وقد مرض قبل الوصول إلى المدينة وتوفي وحمل إليها وقبر في البقيع)[21]
فها هو الشيخ يدرك بعد صبر طويلٍ ألا مأمنَ له بين أهل مذهبه وبني جلدته، فقرر أن يبحث عن أمنه وسكينته في أوساط أهل السنة الذين كانوا يوصفون زوراً بأنهم أعداء أهل البيت.
وقد يظن القارئ الكريم أنَّ ما قام به علماء الشيعة –إخباريون وأصوليون- إنما كان تصرفًا فرديًا أو جماعيًا بسبب الغيرة، لكن من يتأمل أدبيات التراث الشيعي يعلم يقينًا أن ذلك إنما مرده إلى وجود منهجٍ راسخٍ وثابت يتوارثه علماء الشيعة كابرًا عن كابرٍ، ذلك المنهج الذي يقوم على إسقاط الخصوم بكل الوسائل الشرعية وغير الشرعية، أخلاقية أو غير أخلاقية.
فعلماء الشيعة يروون عن الإمام "السجاد" أنه يقول: (إذا رأيتم أهل البدع والريب فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبهم، والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم -أي بالكذب والبهتان- كي لا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس)[22].
ويقول الشيخ "الصادق الموسوي" معلقًا على هذه الرواية، حاثًا الشيعة على ممارسة هذه الأساليب غير الأخلاقية تجاه خصومهم أي "الآخر":
(إن الإمام السجاد يجيز كل تصرف بحق أهل البدع من الظالمين، ومستغلي الأمة الإسلامية، من قبيل البراءة منهم وسبهم، وترويج شائعات السوء بحقهم، والوقيعة والمباهتة، كل ذلك حتى لا يطمعوا في الفساد في الإسلام وفي بلاد المسلمين، وحتى يحذرهم الناس لكثرة ما يرون وما يسمعون من كلام السوء عنهم، هكذا يتصرف أئمة الإسلام لإزالة أهل الكفر والظلم والبدع، فليتعلم المسلمون من قادتهم وليسيروا على منهجهم )[23].
وحينما نرجع للوراء، في الزمن المبكر للتشيع، نجد رواية صريحة يعترف فيها أحد أصحاب الأئمة بأن من أبرز سمات الشيعة وأصحاب الأئمة: قذف المخالف والافتراء عليه!
فعن أبي حمزة أنه سأل الإمام "محمد الباقر": (إن بعض أصحابنا يفترون ويقذفون من خالفهم.. فقال: والله يا أبا حمزة إن الناس كلهم أولاد بغايا ماخلا شيعتنا)[24]
أقول: نرجع لقضية الشيخ "الأحسائي" وشيوخ الشيعة:
فإنه بسبب وشاية علماء الشيعة، هاجم الوالي العثماني كربلاء وضربها بالمدافع، وهدم جانب من صحن الحسين واخترقت الطلقات جدران القبة، وقد اتهم السيد "ضياء الدين الروحاني" الشيخ "الأحسائي" بأنه هو السبب بسبب شتمه للخلفاء الراشدين![25]
توفي الشيخ "الأحسائي" مشردًا وطريدًا على أيدي مشايخ الشيعة، ولكن مأساته لم تنته عند هذا الحد، فقد انتقلت المأساة إلى أهله وأولاده وتلاميذه!
فهذا تلميذه "الرشتي" يتعرض على أيدي "الأصوليين" و"الإخباريين" إلى أبشع أنواع التعامل الحيواني!
يقول السيد العلامة "الطالقاني": (ومن أفظع الأعمال التي قاموا بها تجاه "الرشتي" أنهم أوعزوا إلى بعض أتباعهم بخطف عمته من على رأسه أثناء الصلاة، وهو يؤم الناس في حرم الحسين عليه السلام، وقد تكرر ذلك العمل الشائن مرتين، إحداهما وهو يؤدي صلاة الظهر في إحدى الجمع، وأخرى في صلاة الفجر وهو ساجد، وقد صحب ذلك في الحادثتين تعالي الضحك من قبل الخصوم المتفرقين في أرجاء الحرم وحول ضريح الحسين، دون مراعاة لحرمة المكان وقدسية العبادة، وهو واقف بين يدي ربه، وهموا بقتله)[26]
وورث الشيخ "الرشتي" تركة شيخه المليئة بعداء شيوخ الشيعة، إلا أنَّ شيخًا بارزًا وهو الشيخ "علي بن جعفر كاشف الغطاء" وقف معه موقفًا حاسمًا ونبيلاً في نصرته والدفاع عنه، إلا أنَّ هذا الدفاع –للأسف- لم يستمر طويلاً، إثر خلاف بين "الرشتي" والشيخ "علي بن جعفر كاشف الغطاء" على أموال أيتام طالب بها الشيخ "كاشف الغطاء"، فاعترض "الرشتي" بأن هذه الأموال لصغار قصر، ولا يمكنه التفريط فيها أو هبتها له، فغضب الشيخ "كاشف الغطاء" ورضي بتكفير "الرشتي" وذم الناس له! [27]
وتطاول علماء الشيعة على الشيخ "الأحسائي" وتلامذته، حتى نبشوا قبورهم وسرقوا ما بها، وقتلوا ابنه أحمد وهو يصلي في الصحن، وكان بجواره ابنه الصغير، فقام أحد أصحاب ابن "الأحسائي" بالهروب بالطفل الصغير وإخفائه حتى لا يطاله القتل!
وكان الشيخ "زين العابدين الكرماني الشيخي" إذا مر بمدرسة كاشف الغطاء، ألقى عليه هؤلاء شيئًا من القذارات تحقيرًا له، وفي عام 1314هـ أحرقت بيوت الشيخية، وأحرق "الميرزا محمد علي الهمداني" !
يقول العلامة السيد "الطالقاني": (ووقف السلطان –الإيراني- "مظفر الدين شاه القاجاري" موقف المتفرج فلم يتدخل ولم يضع حدًا للأعمال البربرية، لأن بعض النابهين من خصوم الشيخية اتهمهم عنده بقصد التعرض للعرش) [28]
ثم جرت مقتلة رهيبة بين الطرفين، وامتدت المجازر الفظيعة إلى كل دارسٍ ومدرسٍ للمعرفة الروحيَّة والعلوم الفلسفيَّة في إيران، وأصبح حضور تلك الدروس من أعظم الجرائم، وأكبر الكبائر!
يقول حجة الإسلام السيد "الطالقاني": (ما سجله التاريخ عن تلك المجزرة: أن شاعراً من أهل كاشان اسمه "باقر خرده ئي" كان من تلاميذ "محمود النقطوي" رئيس أحد تلك المكاتب الفلسفية، وقد تذرع بعذر قبيح طلباً للسلامة، ذلك أنه ادعى امتهان اللواط والهيام بغلام أمرد من تلامذة النقطوي، وأنه يتردد إلى المكتب ليحاول الفسق بالغلام لا طلباً للعلم، وقد شفع له بعض علماء خراسان وأيدوا ادعاءه فعفي عنه ونجا من الموت! ومن الخزي أن يسجل التاريخ في حكم "عباس الصفوي" هذه المثلبة، وأن الانحراف الخلقي والشذوذ الجنسي، أهون لديه من طلب المعرفة)[29].
أقول: انظر إلى أين وصل مستوى الخصومة بين شيوخ الشيعة؟!
هتك للأعراض، واتهام باللواط والفواحش، وتصدير لفتاوى التكفير والفسوق، وتشجيع على القتل وسفك الدماء، ثم مطاردة المخالفين في أماكنهم واجتثاثهم وتصفيتهم جسدياً، حتى أصبح فعل اللواط بالغلمان عند بعض علماء الشيعة أهون من حضور دروس المخالفين لهم، ويُحكم ببراءة من يلوط بالغلمان، ويشفع فيه علماء الشيعة!
هذا كله كان يمارس في خصومات داخلية، فكيف سيكون حال أهل السنة في العراق وإيران أو غيرهما حين تتمكن منهم عقول يحكمها ذلك التراث.
المراجع والمصادر:
(1) انظر: تنقيح المقال في أحوال الرجال (2/85)، ومع علماء النجف- محمد جواد مغنية (ص74)، وكتاب الشيخية- الطالقاني (39).
(2) جامع السعادات (ص1)، الشيخية (ص39).
(3) الشيخية (ص 39).
(4) الشيخية (ص40).
(5) الشيخية (ص41).
(6) انظر: روضات الجنات- الخونساري (1/52)، الذريعة إلى تصانيف الشيعة (7/38).
(7) لباب الألقاب في ألقاب الأطياب (ص 87 )، قصص العلماء ( ص 133 )، الشيخية (ص 42).
(
الشيخية (ص 42).
(9) الشيخية (ص100).
(10) الشيخية ( ص 93).
(11) الشيخية (ص 95).
(12) كتاب الغيبة- شيخ الطائفة الطوسي (ص 241).
(13) الشيخية (ص93).
(14) الشيخية (ص 95).
(15) الشيخية (ص 96).
(16) الشيخية (ص 100).
(17) الشيخية (ص 109).
(18) الشيخية (ص 109).
(19) هداية الطالبين (ص 112)، والشيخية (ص 102).
(20) الشيخية (ص 104).
(21) الشيخية (ص 110).
(22) تنبيه الخواطر (ج 2 ص 162)، ووسائل الشيعة (ج 11 ص 508)، ونهج الانتصار (ص 152).
(23) نهج الانتصار (ص 152).
(24) كتاب الكافي- الكليني (ج 8 ص 285)، ووسائل الشيعة- الحر العاملي (ج 6 ص 385 )، وتفسير البرهان- هاشم البحراني (ج 2 ص 87).
(25) الشيخية (ص 110).
(26) الشيخية ( 140).
(27) انظر : الشيخية (ص 145).
(28) الشيخية (ص 335).
(29) انظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة ( 7/265). والشيخية (ص 336).